المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العدد - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العدد

‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

هذا الباب قد تولَّى الله سبحانه بيانَه في كتابه أتمَّ بيانٍ وأوضحَه وأجمعَه، بحيث لا تَشِذُّ عنه معتدَّةٌ، فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَد، وهي جملة أنواعها:

النَّوع الأوَّل: عدَّة الحامل بوضع الحمل مطلقًا بائنةً كانت أو رجعيَّةً، مفارقةً في الحياة، أو متوفًّى عنها، فقال:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وهذا فيه عمومٌ من ثلاث جهاتٍ:

أحدها: عموم المُخبَر عنه، وهو أولات الأحمال، فإنَّه يتناول جميعهنَّ.

الثَّاني: عموم الأجل

(1)

، فإنَّه أضافه إليهنَّ، وإضافة اسم الجمع إلى المعرفة يَعُمُّ، فجعل وضْع الحمل جميعَ أجلهنَّ، فلو كان لبعضهنَّ أجلٌ غيره لم يكن جميعَ أجلهنَّ.

الثَّالث: أنَّ المبتدأ والخبر معرفتين

(2)

، أمَّا المبتدأ فظاهرٌ، وأمَّا الخبر ــ وهو قوله:{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ــ ففي تأويل مصدرٍ مضافٍ، أي: أجلُهنَّ وضْعُ حملِهنَّ، والمبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين اقتضى ذلك حصْرَ الثَّاني في الأوَّل، كقوله:{النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

وبهذا احتجَّ جمهور الصِّحابة على أنَّ الحامل المتوفَّى عنها عدَّتُها وضْعُ حملها، ولو وضعتْه والزَّوجُ على المغتَسَل، كما أفتى به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لسُبَيعةَ

(1)

ص، د:«الأصل» ، تحريف.

(2)

كذا في النسخ بالياء والنون.

ص: 211

الأسلميَّة

(1)

، وكان هذا الحكم والفتوى منه مشتقًّا من كتاب اللَّه مطابقًا له.

فصل

النَّوع الثَّاني: عدَّة المطلَّقة الَّتي تحيض، وهي ثلاثة قروءٍ، كما قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

النَّوع الثَّالث: عدَّة الَّتي لا حيضَ لها، وهي نوعان: صغيرةٌ لم تَحِضْ، وكبيرةٌ قد يئستْ من الحيض. فبيَّن سبحانه عدَّةَ النَّوعين بقوله:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، أي: فعدَّتهنَّ كذلك.

النَّوع الرَّابع: المتوفَّى عنها زوجُها، فبيَّن عدَّتها ــ سبحانه ــ بقوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهذا يتناول المدخولَ بها وغيرَها، والصَّغيرةَ والكبيرةَ. ولا تدخل فيه الحامل؛ لأنَّها خرجت بقوله:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، فجعل وضْعَ حملهنَّ جميعَ أجلهنَّ، وحَصَرَه فيه، بخلاف قوله في المتوفَّى عنهنَّ:{يَتَرَبَّصْنَ} ، فإنَّه فعلٌ مطلقٌ لا عمومَ له. وأيضًا فإنَّ قوله:{أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} متأخِّرٌ في النُّزول عن قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} . وأيضًا فإنَّ قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} في غير الحامل بالاتِّفاق، فإنَّها لو تَمادى حملُها فوق ذلك تربَّصَتْه، فعمومها مخصوصٌ اتِّفاقًا، وقوله:{أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} غير مخصوصٍ بالاتِّفاق. هذا لو لم تأتِ السُّنَّة الصَّحيحة بذلك،

(1)

سيأتي تخريجه (ص 215).

ص: 212

ووقعت الحوالةُ على القرآن، فكيف والسُّنَّة الصَّحيحة مُوافِقةٌ

(1)

لذلك مُقرِّرةٌ له.

فهذه أصول العِدَد في كتاب الله مفصَّلةً مبيَّنةً، ولكن اختُلِف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك، وقد دلَّت السُّنَّة بحمد الله على مراد الله منها، ونحن نذكرها ونذكر أولى المعاني وأشْبَهَها بها، ودلالةَ السُّنَّة عليها.

فمن ذلك اختلاف السَّلف في المتوفَّى عنها إذا كانت حاملًا، فقال علي

(2)

وابن عبَّاسٍ

(3)

وجماعةٌ من الصِّحابة: أبعدُ الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهرٍ وعشرًا، وهذا أحد القولين في مذهب مالك اختاره سحنونٌ.

قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه: ابن عبَّاسٍ وعليُّ بن أبي طالبٍ يقولان في المعتدَّة الحامل: أبعد الأجلين. وكان ابن مسعودٍ يقول: من شاء باهلتُه أنَّ سورة النِّساء القُصرى نزلتْ بعدُ

(4)

. وحديث سُبَيعة يقضي بينهم: «إذا وضعتْ فقد حلَّتْ»

(5)

. وابن مسعودٍ يتأوَّل القرآن: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هي في المتوفَّى عنها، والمطلَّقة مثلها إذا وضعتْ فقد حلَّتْ وانقضت عدَّتها، ولا تنقضي عدَّة الحامل إذا أسقطت حتَّى يتبيَّن

(1)

«بذلك

موافقة» ساقطة من م، د.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (17381). وانظر: «التمهيد» (20/ 33).

(3)

أخرجه البخاري (490)، ومسلم (1485).

(4)

هذا لفظ أبي داود (2307)، والنسائي (3522). وهو عند البخاري (5318) ومسلم (1484) بنحوه، وسيأتي لفظهما (ص 215).

(5)

سيأتي تخريجه (ص 215).

ص: 213

خلقه، فإذا بان له يدٌ أو رِجلٌ عتقت به الأمة، وتنقضي به العدَّة، وإذا ولدت ولدًا وفي بطنها آخر لم تنقض العدَّة حتَّى تلد الآخر، ولا تبيت

(1)

عن منزلها الذي أصيب فيه زوجها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا إذا لم تكن حاملًا، والعدَّة من يومِ يموت أو يُطلِّق. هذا كلام أحمد.

وقد تناظر في هذه المسألة ابن عبَّاسٍ وأبو هريرة، فقال أبو هريرة: عدَّتها وضع الحمل، وقال ابن عبَّاسٍ: تعتدُّ أقصى

(2)

الأجلين، فحكَّما أم سلمة، فحكمت لأبي هريرة، واحتجَّت بحديث سُبَيعة

(3)

.

وقد قيل: إنَّ ابن عبَّاسٍ رجع

(4)

.

وقال جمهور الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم والأئمَّة الأربعة: إنَّ عدَّتها وضع الحمل، ولو كان الزَّوج على مُغتَسَله فوضعتْ حلَّتْ.

قال أصحاب الأجلين: هذه قد تناولها عمومان، وقد أمكن دخولها في

(1)

كذا في النسخ. أي: لا تبيت خارجَ منزلها. وفي المطبوع: «ولا تغيب» .

(2)

م، د، ص:«أقصر» ، خطأ.

(3)

أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485).

(4)

أخرج ابن جرير في «تفسيره» (4/ 401)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 452)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 240)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 427) من طرق عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أثرًا في أن عدة المتوفى عنها وهي حامل أن تضع حملها. وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وصحيفته عن ابن عباس في التفسير فيها كلام كثير، وحاصله قبولها ما لم تخالف، وهنا خالفت ما رواه عنه ثقات أصحابه كأبي سلمة بن عبد الرحمن في «الصحيحين» كما تقدم تخريجه.

ص: 214

كليهما، فلا تخرج من عدَّتها بيقينٍ حتَّى تأتي بأقصى الأجلين.

قالوا: ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى، لأنَّ كلَّ آيةٍ منهما عامَّةٌ من وجهٍ خاصَّةٌ من وجهٍ:

قالوا: فإذا أمكن دخول بعض الصُّور في عموم الآيتين، يعني إعمالًا للعموم في مقتضاه، فإذا اعتدَّت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما.

والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة

(1)

أجوبةٍ:

أحدها: أنَّ صريح السُّنَّة يدلُّ على اعتبار الحمل فقط، كما في «الصَّحيحين»

(2)

: أنَّ سُبَيعة الأسلمية توفِّي عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت، فأرادت أن تنكح، فقال لها أبو السنابل: ما أنتِ بناكحةٍ حتَّى تعتدِّي آخرَ الأجلين، فسألت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«كذب أبو السنابل، قد حَلَلْتِ فانكحي مَن شئتِ» .

الثَّاني: أنَّ قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نزلت بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وهذا جواب عبد الله بن مسعودٍ، كما في «صحيح البخاريِّ»

(3)

عنه: أتجعلون عليها التَّغليظ، ولا تجعلون لها الرُّخصة؟ أَشهدُ لَنزلتْ سورة النِّساء القُصرى بعد الطُّولى: {وَأُولَاتُ

(1)

د: «بثلاث» .

(2)

البخاري (5318)، ومسلم (1484).

(3)

برقم (4532).

ص: 215

الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.

وهذا الجواب يحتاج إلى تقريرٍ، فإنَّ ظاهره أنَّ آية الطَّلاق مقدَّمةٌ على آية البقرة لتأخُّرِها عنها، فكانت ناسخةً لها، ولكنَّ النَّسخ عند الصِّحابة والسَّلف أعمُّ منه عند المتأخِّرين، فإنَّهم يريدون به ثلاث

(1)

معانٍ:

أحدها: رفع الحكم الثَّابت بخطابٍ.

الثَّاني: رفع دلالة الظَّاهر، إمَّا بتخصيص وإمَّا بتقييدٍ، وهو أعمُّ ممَّا قبله.

الثَّالث: بيان المراد باللَّفظ الذي بيانه من خارجٍ، وهذا أعمُّ من المعنيين الأوَّلين.

فابن مسعودٍ رضي الله عنه أشار بتأخُّر نزول سورة الطَّلاق إلى أنَّ آية الاعتداد بوضع الحمل ناسخةٌ لآية البقرة إن كان عمومها مرادًا، أو مخصِّصةٌ إن لم يكن عمومها مرادًا، أو مبيِّنةٌ للمراد منها ومقيِّدةٌ لإطلاقها، وعلى التقديرات الثلاث فيتعيَّن تقديمُها على عموم تلك وإطلاقها

(2)

. وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ورسوخه في العلم، وممَّا يبيِّن

(3)

أنَّ أصول الفقه التي هي أصول الفقه

(4)

سجيَّةٌ للقوم، وطبيعةٌ لا يتكلَّفونها، كما أنَّ العربيَّة والمعاني والبيان وتوابعها لهم كذلك، فمن بعدهم إنما يُجهِد نفسه ليتعلَّق بغبارهم وأنَّى له؟!

(1)

كذا في النسخ.

(2)

«وعلى التقديرات

وإطلاقها» ساقطة من المطبوع.

(3)

م: «بيَّن» .

(4)

«التي هي أصول الفقه» من م، ح.

ص: 216

الثَّالث: أنَّه لو لم تأتِ السُّنَّة الصَّريحة باعتبار الحمل، ولم تكن آية الطَّلاق متأخِّرةً، لكان تقديمها هو الواجب، لِما قرَّرناه أوَّلًا من جهات العموم الثَّلاثة فيها، وإطلاق قوله:{يَتَرَبَّصْنَ} ، وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنةً، ولكن لغموضه ودقَّته على كثيرٍ من النَّاس، أحيل في ذلك الحكم على بيان السُّنَّة، وباللَّه التَّوفيق.

فصل

ودلَّ قوله سبحانه: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} على أنَّها إذا كانت حاملًا بتَوْأمينِ لم تنقضِ العدَّة حتَّى تضعهما جميعًا، ودلَّت على أنَّ من عليها الاستبراء، فعدَّتها وضع الحمل أيضًا، ودلَّت على أنَّ العدَّة تنقضي بوضعه على أيِّ صفةٍ كان حيًّا أو ميِّتًا، تامَّ الخِلقة أو ناقصَها، نُفِخ فيه الرُّوح أو لم يُنفَخ.

ودلَّ قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} على الاكتفاء بذلك وإن لم تحض، وهذا قول الجمهور. وقال مالك: إذا كان عادتها أن تحيض في كلِّ سنةٍ مرَّةً، فتوفِّي عنها زوجها، لم تنقض عدَّتها حتَّى تحيض حيضتَها، فتبرأ من عدَّتها. فإن لم تحض انتظرتْ تمامَ تسعة أشهرٍ من يوم وفاة زوجها. وعنه روايةٌ ثانيةٌ كقول الجمهور، أنَّه تعتدُّ أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولا تنتظر حيضها.

فصل

ومن ذلك اختلافهم في الأقراء، هل هي الحيض أو الأطهار؟ فقال أكابر

ص: 217

الصَّحابة: إنَّها الحيض. هذا قول أبي بكر

(1)

، وعمر

(2)

، وعثمان

(3)

، وعلي

(4)

، وابن مسعودٍ

(5)

، وأبي موسى

(6)

، وعبادة بن الصَّامت

(7)

، وأبي الدَّرداء

(8)

، وابن عبَّاسٍ

(9)

، ومعاذ بن جبلٍ

(10)

.

وهو قول أصحاب

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (19230) من طريق عبد الله الكلاعي عن مكحول، وذكر عددًا من الصحابة منهم أبو بكر، ومكحول لم يسمع من أبي بكر، ويرسل كثيرًا عمن لم يلقه من الصحابة.

(2)

أخرجه عبد الرزاق من طرق عن عمر (10985، 10986، 10988 - 10990)، وابن أبي شيبة (19226 - 19228)، وينظر:«السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 415).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (10987)، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9/ 323).

(4)

أخرجه الشافعي في «الأم» (6/ 455) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 417)، وابن أبي شيبة (19070، 19232).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (10987)، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9/ 323)، وروي عن عمر أيضًا كما عند عبد الرزاق (10988 - 10990)، وابن أبي شيبة (19226 - 19228).

(6)

أخرجه عبد الرزاق (10987)، وأخرجه ابن أبي شيبة (19229) من طريق آخر مختصرًا.

(7)

أخرجه عبد الرزاق (11000)، وفي إسناده عمر بن راشد، وهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي شيبة (19230) عن مكحول عن عبادة، ومكحول لم يسمع من عبادة، وتقدم أنه كثير الإرسال عمن لم يلقه من الصحابة.

(8)

أخرجه عبد الرزاق (11002) عن عمر بن راشد عن مكحول، وعمر بن راشد ضعيف كما تقدم، وأخرجه ابن أبي شيبة (19230) من طريق آخر عن مكحول عن أبي الدرداء. وتقدم الكلام في إرسال مكحول.

(9)

أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (4/ 88)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 415) من طريق ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس، وعطاء لم يلق ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء.

(10)

كما في «التمهيد» (15/ 91).

ص: 218

عبد الله بن مسعودٍ كلِّهم: كعلقمة

(1)

، والأسود

(2)

، وإبراهيم

(3)

، وشريح

(4)

، وقول الشَّعبيِّ

(5)

، والحسن

(6)

، وقتادة

(7)

، وقول أصحاب ابن عبَّاسٍ: سعيد بن جبيرٍ

(8)

، وطاوسٍ

(9)

، وهو قول سعيد بن المسيِّب

(10)

، وهو قول أئمَّة الحديث: كإسحاق بن راهويه

(11)

، وأبي عبيد القاسم، والإمام أحمد، فإنَّه رجع إلى القول به، واستقرَّ مذهبه عليه، فليس له مذهبٌ سواه، وكان يقول: إنَّها الأطهار، فقال في رواية الأثرم

(12)

: رأيت الأحاديث عمَّن قال: القروء الحيض تختلف، والأحاديث عمَّن قال: إنَّه أحقُّ بها حتَّى تدخل في الحيضة الثَّالثة أحاديث صحاحٌ قويَّةٌ.

(1)

ذكره عنه معلقًا ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 415).

(2)

أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 91).

(3)

أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 93) وابن أبي شيبة (19068).

(4)

لم أقف عليه.

(5)

ذكره عنه معلقًا ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 415).

(6)

أخرجه وكيع في «مصنفه» ــ كما في «الدر المنثور» (1/ 658) ــ، وعبد الرزاق (10998).

(7)

أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 88) من طريق شيخه إبراهيم بن المثنى، وإبراهيم لم يُوثق، وأخرجه عن قتادة أيضًا (4/ 117) بإسناد صحيح.

(8)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 333).

(9)

أخرجه عبد الرزاق (11001)، وفي إسناده عمرو بن مسلم، وتكلم فيه بعض النقاد من قبل حفظه، وإسناده جيد.

(10)

أخرجه ابن أبي شيبة (19233).

(11)

ز، د:«كإسحاق بن إبراهيم بن راهويه» .

(12)

كما في «التمهيد» (15/ 93، 94) و «المغني» (11/ 200).

ص: 219

وهذا النَّصُّ وحده هو الذي ظَفِرَ به أبو عمر بن عبد البرِّ، فقال

(1)

: رجع أحمد إلى أنَّ الأقراء الأطهار. وليس كما قال، بل كان يقول هذا أوَّلًا، ثمَّ توقَّف فيه، فقال في رواية الأثرم

(2)

أيضًا: قد كنت أقول الأطهار، ثمَّ وقفتُ لقول

(3)

الأكابر. ثمَّ جزم أنَّها الحيض، وصرَّح بالرُّجوع عن الأطهار، فقال في رواية ابن هانئ

(4)

: كنت أقول: إنه الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنَّ الأقراء الحيض. قال القاضي أبو يعلى

(5)

: وهذا هو الصَّحيح عن أحمد، وإليه ذهب أصحابنا، ورجع عن قوله بالأطهار. ثمَّ ذكر نصَّ رجوعه من رواية ابن هانئ كما تقدَّم.

وهو قول أئمَّة أهل الرَّأي كأبي حنيفة وأصحابه.

وقالت طائفةٌ: الأقراء: الأطهار، وهذا قول عائشة أمِّ المؤمنين

(6)

، وزيد بن ثابتٍ

(7)

، وعبد الله بن عمر

(8)

. ويُروى عن الفقهاء

(1)

في «التمهيد» (15/ 93).

(2)

كما في «المغني» (11/ 200). وذكرها ابن عبد البر في «الاستذكار» (18/ 33).

(3)

في المطبوع: «كقول» خلاف النسخ.

(4)

كما في «المغني» (11/ 200).

(5)

كما في «المغني» (11/ 200).

(6)

أخرجه مالك (1684) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 530) ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (7/ 681) ــ وسعيد بن منصور (1/ 334)، وعبد الرزاق (11004) ــ ومن طريقه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 96) ــ.

(7)

أخرجه مالك (1686)، والشافعي في «الأم» (6/ 531)، وعبد الرزاق (11003) ــ ومن طريقه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 96) ــ والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 61).

(8)

أخرجه مالك (1660) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 531) ــ، وعبد الرزاق (11004) ــ ومن طريقه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 96) ــ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 61).

ص: 220

السَّبعة

(1)

، وأبان بن عثمان

(2)

، والزُّهريِّ

(3)

، وعامَّة فقهاء المدينة، وبه قال مالك، والشَّافعيُّ، وأحمد في إحدى الرِّوايتين عنه.

وعلى هذا القول، فمتى طلَّقها في أثناء طهرٍ فهل يُحتَسب ببقيَّته

(4)

قرءًا؟ على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: يُحتَسب به، وهو المشهور.

والثَّاني: لا يُحتسب به، وهو قول الزُّهريِّ

(5)

. كما لا يُحتسب ببقيَّة الحيضة عند من يقول: القرء الحيض، اتِّفاقًا.

والثَّالث: إن كان قد جامعها في ذلك الطُّهر، لم يُحتسب ببقيَّته

(6)

، وإلَّا

(1)

تقدم تخريجه عن ابن المسيب، وأخرجه عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مالكٌ (1685)، وذكره (1687) بلاغًا عن سليمان ابن يسار وسالم والقاسم. وأخرجه ابن أبي شيبة (19224) عن سالم بن عبد الله موصولاً، ورواه عروة عن عائشة كما في «الموطأ» (1684)، وعزاه إليه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 414)، ولم أقف عليه عن خارجة بن زيد.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (19224)، وابن جرير في «تفسيره» (4/ 99).

(3)

أخرجه مالك (1687)، وعبد الرزاق (11003) ــ ومن طريقه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 96) ــ.

(4)

م، د، ص:«بنفسه» ، تحريف.

(5)

أخرجه عبد الرزاق (10968)، وابن أبي شيبة (17551).

(6)

م، ح، د، ص:«بنفسه» .

ص: 221

احتُسِب

(1)

، وهذا قول أبي عبيد. فإذا طعنت في الحيضة الثَّالثة أو الرَّابعة على قول الزُّهريِّ انقضت عدَّتها، وعلى قول الأوَّل لا تنقضي العدَّة حتَّى تنقضي الحيضة الثَّالثة.

وهل يقف انقضاؤها

(2)

على اغتسالها منها؟ على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: لا تنقضي حتَّى تغتسل، وهذا هو المشهور عن أكابر الصَّحابة، قال الإمام أحمد

(3)

: عمر

(4)

وعلي

(5)

وابن مسعودٍ

(6)

يقولون: له رَجْعُها

(7)

قبل أن تغتسل من الحيضة الثَّالثة. انتهى.

وروي ذلك عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعثمان بن عفَّان، وأبي موسى، وعُبادة

(8)

، وأبي الدَّرداء، ومعاذ بن جبلٍ

(9)

، كما في «مصنَّف وكيعٍ»

(10)

(1)

في المطبوع: «احتسبت» .

(2)

في المطبوع: «انقضاء عدتها» خلاف النسخ.

(3)

كما في «الروايتين والوجهين» (2/ 207)، و «المغني» (11/ 204).

(4)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 332، 334)، وابن أبي شيبة (19229).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (10983، 10984)، وسعيد بن منصور (1/ 332)، وابن أبي شيبة (19232).

(6)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 332، 334)، وابن أبي شيبة (19229).

(7)

في النسخ: «رفعها» . وفي المطبوع: «رجعتها» .

(8)

زاد في د: «بن الصامت» .

(9)

تقدم تخريج الآثار عنهم (ص 218).

(10)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 443) وابن حزم في «المحلى» (10/ 259) من طريق وكيع عن عيسى الحناط به. وأخرجه محمد بن الحسن في «الموطأ» (609) من طريق عيسى الحناط به، والحناط متروك الحديث، والشعبي لم يدرك أبا بكر. وضعف الحديثَ ابنُ المديني كما في «الكامل» لابن عدي (6/ 431).

ص: 222

عن عيسى الخيَّاط

(1)

، عن الشَّعبيِّ، عن ثلاثة عشر من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الخيْرِّ فالخيرِّ، منهم: أبو بكر، وعمر، وابن عبَّاسٍ: أنَّه أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثَّالثة.

وفي «مصنَّفه»

(2)

أيضًا عن محمَّد بن راشدٍ، عن مكحول، عن معاذ بن جبلٍ وأبي الدَّرداء مثله.

وفي «مصنَّف عبد الرزاق»

(3)

: عن معمر، عن زيد بن رُفَيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ، قال: أرسل عثمان إلى أبيِّ بن كعبٍ في ذلك، فقال أبيُّ بن كعبٍ: أرى أنَّه أحقُّ بها حتَّى تغتسل من حيضتها الثَّالثة، وتحلُّ لها الصَّلاة، قال: فما أعلَمُ عثمان إلا أخذ بذلك.

وفي «مصنَّفه»

(4)

أيضًا: عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، أنَّ عبادة بن الصَّامت قال: لا تَبِينُ حتَّى تغتسل من الحيضة الثَّالثة، وتحلُّ لها الصَّلاة.

(1)

ويقال له: الحنّاط والخبَّاط، وكان قد عالج الصنائع الثلاثة كما في «التقريب» (ص 770) و «الإكمال» (3/ 275).

(2)

نقله المؤلف عن «المحلى» لابن حزم (10/ 259)، وتقدم الكلام على إرسال مكحول عمن لم يسمعه من الصحابة، وتقدم تخريج أثر أبي الدرادء ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما.

(3)

برقم (10987). وتقدم.

(4)

برقم (11000).

ص: 223

فهؤلاء بضعة عشر من الصَّحابة، وهو قول سعيد بن المسيِّب وسفيان الثَّوريِّ وإسحاق بن راهويه. قال شريك: له الرَّجعة وإن فرَّطتْ في الغسل عشرين سنةً. وهذا إحدى الرِّوايات عن الإمام أحمد.

والثَّاني: أنَّ العدة تنقضي بمجرَّد طهرها من الحيضة الثَّالثة، ولا تقف على الغسل. وهذا قول سعيد بن جبيرٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافعيِّ في قوله القديم حيث كان يقول: الأقراء: الحيض. وهو إحدى الرِّوايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب

(1)

.

والثَّالث: أنَّها في عدَّتها بعد انقطاع الدَّم، ولزوجها رجعتها حتَّى يمضي

(2)

عليها وقت الصَّلاة الَّتي طهرت في وقتها. وهذا قول الثَّوريِّ، والرِّواية الثَّالثة عن أحمد، حكاها أبو بكر عنه. وهو قول أبي حنيفة، لكن إذا انقطع الدَّم لأقلِّ الحيض، وإن انقطع لأكثره انقضت العدَّة عنه

(3)

بمجرَّد انقطاعه.

وأمَّا من قال: إنَّها الأطهار، اختلفوا في موضعين:

أحدهما: هل يُشترط كون الطُّهر مسبوقًا بدمٍ قبله، أو لا يشترط ذلك؟ على قولين لهم، وهما وجهان في مذهب الشَّافعيِّ وأحمد:

أحدهما: يُحتسب؛ لأنَّه طهرٌ بعده حيضٌ، فكان قرءًا، كما لو كان قبله

(1)

كما في «المغني» (11/ 205).

(2)

ص، د:«يحصي» ، تحريف.

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «عنها» . وليست في «المغني» (11/ 204)، وهو المصدر الذي نقل منه المؤلف.

ص: 224

حيضٌ.

والثَّاني: لا يُحتسب، وهو ظاهر نصِّ الشَّافعيِّ في الجديد؛ لأنَّها لا تسمَّى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدَّم.

الموضع الثَّاني: هل تنقضي العدَّة بالطَّعن في الحيضة الثَّالثة [أو لا تنقضي]

(1)

حتَّى تحيض يومًا وليلةً؟ على وجهين لأصحاب أحمد، وهما قولان منصوصان للشَّافعيِّ، ولأصحابه وجهٌ ثالثٌ: إن حاضت للعادة

(2)

، انقضت العدَّة بالطَّعن في الحيضة. وإن حاضت لغير العادة ــ بأن كانت عادتها ترى الدَّم في عاشر الشَّهر، فرأته في أوَّله ــ لم تنقضِ حتَّى يمضي عليها يومٌ وليلةٌ. ثمَّ اختلفوا: هل يكون هذا الدَّم محسوبًا من العدَّة؟ على وجهين، تظهر فائدتهما في رجعتها في وقته.

فهذا تقرير مذاهب النَّاس في الأقراء.

قال من نصَّ

(3)

أنَّها الحيض: الدَّليل عليه وجوهٌ:

أحدها: أنَّ قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إمَّا أن يراد به الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعهما. والثَّالث محالٌ إجماعًا، حتَّى عند من يحمل اللَّفظ المشترك على معنييه. وإذا تعيَّن حمله على أحدهما فالحيض أولى به لوجوهٍ، أحدها: أنَّها لو كانت الأطهار

(1)

«أو لا تنقضي» ليست في النسخ. وهي في المطبوع، وبها يستقيم المعنى.

(2)

م، د:«العادة» .

(3)

ص: «نصر» . د: «نظر» .

ص: 225

فالمعتدَّة بها يكفيها قَرْآنِ ولحظةٌ من الثَّالث، وإطلاق الثَّلاثة على هذا مجازٌ، لنصبِه

(1)

الثَّلاثةَ في العدد المخصوص.

فإن قلتم: بعض الطُّهر المطلَّق فيه عندنا قرءٌ كاملٌ.

قيل: جوابه من ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنَّ هذا مختلفٌ فيه كما تقدَّم، فلم تُجمِع الأمَّة على أنَّ بعض القرء قرءٌ قطُّ، فدعوى هذا تفتقر إلى دليلٍ.

الثَّاني: أنَّ هذه دعوى مذهبيَّةٌ، أوجب حملَ الآية عليها إلزامُ كون الأقراء الأطهار، والدَّعاوى المذهبيَّة لا يُفسَّر بها القرآن وتُحمل عليها اللُّغة، ولا يُعقل في اللُّغة قطُّ أنَّ اللَّحظة من الطُّهر تُسمَّى

(2)

قرءًا كاملًا، ولا اجتمعت الأمَّة على ذلك. فدعواه لا تثبت نقلًا ولا إجماعًا، وإنَّما هو مجرَّد الحمل، ولا ريبَ أنَّ الحمل [شيءٌ]

(3)

، والوضع من آخر، وإنَّما يفيد ثبوت الوضع لغةً أو شرعًا أو عرفًا.

الثَّالث: أنَّ القَرء إمَّا أن يكون اسمًا لمجموع الطُّهر كما يكون اسمًا لمجموع الحيضة، أو لبعضه

(4)

، أو مشتركًا بين الأمرين اشتراكًا لفظيًّا أو اشتراكًا معنويًّا. والأقسام الثَّلاثة باطلةٌ، فتعيَّن الأوَّل.

(1)

في المطبوع: «لنصية» خلاف جميع النسخ.

(2)

م، ح:«تستمر» .

(3)

هنا بياض في م، د. والمثبت من المطبوع.

(4)

«أو لبعضه» ليست في د.

ص: 226

أمَّا بطلان وضعه لبعض الطُّهر، فلأنَّه يلزم أن يكون الطُّهر الواحد عدَّة أقراءٍ، ويكون استعمال لفظ القَرء فيه مجازًا.

وأمَّا بطلان الاشتراك المعنويِّ فمن وجهين:

أحدهما: أنَّه يلزم أن يصدق على الطُّهر الواحد أنَّه عدَّة أقراءٍ حقيقةً.

والثَّاني: أنَّ نظيره ــ وهو الحيض ــ لا يُسمَّى جزؤه قَرءًا اتِّفاقًا، ووضعُ القرء لهما لغةً لا يختلف، وهذا لا خفاء به.

فإن قيل: نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركًا بين كلِّه وجزئه اشتراكًا لفظيًّا، ويُحمَل المشترك على معنييه، فإنَّه أحفظ، وبه تحصل البراءة بيقينٍ.

قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أنَّه لا يصحُّ اشتراكه كما تقدَّم.

الثَّاني: أنَّه لو صحَّ اشتراكه لم يجُزْ حملُه على مجموع معنييه. أمَّا على قول من لا يُجوِّز حملَ المشترك على معنييه، فظاهرٌ. وأمَّا من يُجوِّز حملَه عليهما، فإنَّما

(1)

يُجوِّزونه إذا دلَّ الدَّليل على إرادتهما معًا، فإذا لم يدلَّ الدَّليل وَقفوه حتَّى يقوم الدَّليل على إرادة أحدهما أو إرادتهما. وحكى المتأخِّرون

(2)

عن الشَّافعيِّ والقاضي أبي بكر: أنَّه إذا تجرَّد عن القرائن وجب حملُه على معنييه كالاسم العامِّ؛ لأنَّه أحوط، إذ ليس أحدهما أولى به

(1)

م، ح، ص، د، ز:«فإنهما» .

(2)

انظر تحرير النقل عن الشافعي والقاضي في هذه المسألة في «البحر المحيط» (2/ 134).

ص: 227

من الآخر، ولا سبيل إلى معنًى ثالثٍ، وتعطيلُه غير ممكنٍ، ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة. فإذا جاء وقت العمل، ولم يتبيَّن أنَّ أحدهما هو المقصود بعينه، عُلِم أنَّ الحقيقة غير مرادةٍ، إذ لو أُريدتْ لثَبتتْ

(1)

، فتعيَّن المجاز، وهو مجموع المعنيين. ومن يقول: إنَّ الحمل عليهما بالحقيقة يقول: لمَّا لم يتبيَّن أنَّ المراد أحدهما عُلِم أنَّه أراد كليهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة

(2)

: وفي هذه الحكاية عن الشَّافعيِّ والقاضي نظرٌ. أمَّا القاضي فمن أصله الوقف في صيغ العموم، وأنَّه لا يجوز حملُها على الاستغراق إلا بدليلٍ، فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق من غير دليلٍ؟ وإنَّما الذي ذكره في كتبه إحالة الاشتراك رأسًا، وما يُدَّعى فيه الاشتراك فهو عنده من قبيل المتواطئ. وأمَّا الشَّافعيُّ فمنصبه في العلم أجلُّ من أن يقول مثل هذا، وإنَّما استُنبط هذا من قوله: إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل. وهذا قد يكون قاله لاعتباره

(3)

أنَّ المولى من الأسماء المتواطئة، وأنَّ موضوعه

(4)

القدر المشترك بينهما، فإنَّه من الأسماء المتضايفة، كقوله:«من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»

(5)

،

(1)

في المطبوع: «لبيَّنت» . والمثبت من النسخ.

(2)

لم أجد قوله في المطبوع من كتبه. وقد أشار إليه الزركشي في «البحر المحيط» (2/ 134) وابن حجر الهيتمي في «الفتاوى الفقهية الكبرى» (3/ 307).

(3)

في المطبوع: «لاعتقاده» خلاف النسخ.

(4)

في المطبوع: «موضعه» خلاف النسخ.

(5)

هذا حديث روي عن عدد من الصحابة، أخرجه أحمد (19328)، والترمذي (3713)، وابن ماجه (121)، وأبو يعلى (567)، وابن حبان (6931)، والحاكم (3/ 119)، والضياء المقدسي في «المختارة» (479)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب» ، وكثير من طرقه حسان أو صحاح كما قال الحافظ في «الفتح» (7/ 74)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق «مسند أحمد» (1/ 442)، والشيخ الألباني في «الصحيحة» (1750)، وصنف فيه أبو الحسن ابن عقدة والذهبي جزءًا جمعا فيه طرقه، وضعَّفه بعض الحفاظ كالبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 375)، والحربي كما نقله ابن تيمية في «منهاج السنة» (7/ 319)، وابن حزم في «الفصل» (4/ 116).

ص: 228

ولا يلزم من هذا أن تُحكى عنه قاعدةٌ عامَّةٌ من

(1)

الأسماء الَّتي ليس من معانيها قدرٌ مشتركٌ

(2)

أن تُحمل عند الإطلاق على جميع معانيها.

ثمَّ الذي يدلُّ على فساد هذا القول وجوهٌ:

أحدها: أنَّ استعمال اللَّفظ في معنييه إنَّما هو مجازٌ، إذ وضعه لكلِّ واحدٍ منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة، واللَّفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز، بل يجب حمله على حقيقته.

الثَّاني: أنَّه لو قُدِّر أنَّه موضوعٌ لهما منفردين، ولكلٍّ منهما مجتمعينِ، فإنَّه يكون له حينئذٍ ثلاثة مفاهيم، فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجبٍ ممتنعٌ.

الثَّالث: أنَّه حينئذٍ يستحيل حمله على جميع معانيه، إذ حملُه على هذا وحده، وعلى هذا وحده، وعليهما معًا= مستلزمٌ للجمع بين النَّقيضين، فيستحيل حمله على جميع معانيه، وحمله عليهما معًا حملٌ له

(3)

على

(1)

في المطبوع: «في» خلاف النسخ.

(2)

م، ح:«يشترك» ..

(3)

«له» ليست في د.

ص: 229

بعض مفهوماته، فحمله على جميعها يُبطِل حملَه على جميعها.

الرَّابع: أنَّ هاهنا أمور

(1)

. أحدها: هذه الحقيقة وحدها، والثَّاني: الحقيقة

(2)

الأخرى وحدها، والثَّالث: مجموعهما، والرَّابع: مجازُ هذه وحدها، والخامس: مجازُ الأخرى وحده

(3)

، والسَّادس: مجازهما معًا، والسَّابع: الحقيقة وحدها مع مجازها، والثَّامن: الحقيقة مع مجاز الأخرى، والتَّاسع: الحقيقة الواحدة مع مجازهما، والعاشر: الحقيقة الأخرى مع مجازها، الحادي عشر: مع مجاز الأخرى، الثَّاني عشر: مع مجازهما، فهذه اثنا عشر محملًا على سبيل الحقيقة، وبعضها على سبيل المجاز، فتعيينُ معنًى واحدٍ مجازيٍّ دون سائر المجازات والحقائق ترجيحٌ من غير مرجِّحٍ، وهو ممتنعٌ.

الخامس: أنَّه لو وجب حمله على المعنيين جميعًا لصار من صيغ العموم؛ لأنَّ حكم الاسم العامِّ وجوب حمله على جميع مفرداته عند التَّجرُّد من التَّخصيص، ولو كان كذلك لجاز استثناء أحد المعنيين منه، ولسبق إلى الذِّهن منه عند الإطلاق العمومُ، ولكان المستعمل له في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للاسم العامِّ في بعض معانيه، فيكون متجوِّزًا في خطابه غير متكلِّمٍ بالحقيقة، وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاجٍ إلى دليلٍ، وإنَّما يحتاج إليه من نفى

(4)

المعنى الآخر، ولوجب أن يفهم منه الشُّمول قبل

(1)

كذا في النسخ، والوجه النصب.

(2)

ص، د:«أن الحقيقة» .

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وحدها» .

(4)

م: «من بقاء» .

ص: 230

البحث عن التَّخصيص عند من يقول بذلك في صيغ العموم، ولا ينفي الإجمال عنه، إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ العامَّة، وهذا باطلٌ قطعًا، وأحكام الأسماء مشتركة

(1)

لا تفارق أحكام الأسماء العامَّة، وهذا ممَّا يُعلَم بالاضطرار من اللُّغة، ولكانت الأمَّة قد أجمعت في هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها، إذ لم يَصِرْ أحدٌ منهم إلى حمل القرء على الطُّهر والحيض معًا.

وبهذا يتبيَّن بطلان قولهم: حمله عليهما أحوط، فإنَّه لو قُدِّر حمل الآية على ثلاثةٍ من الحيض والأطهار لكان فيه خروجٌ عن الاحتياط. وإن قيل بحملِه

(2)

على ثلاثةٍ من كلٍّ منهما، فهو خلاف نصِّ القرآن، إذ تصير القروء ستَّةً.

قولهم: إمَّا أن يُحمل على أحدهما بعينه أو عليهما

إلى آخره.

قلنا: مثل هذا لا يجوز أن يَعرى عن دلالةٍ تُبيِّن المراد منه كما في الأسماء المجملة، وإن خفيت الدِّلالة على بعض المجتهدين فلا يلزم أن تكون خفيَّةً عن مجموع الأمَّة. وهذا هو الجواب عن الوجه الثَّالث، فالكلام إذا لم يكن مطلقه يدلُّ على المعنى المراد، فلا بدَّ من بيان المراد.

وإذا تعيَّن أنَّ المراد بالقرء في الآية أحدهما لا كلاهما، فإرادة الحيض أولى لوجوهٍ. منها: ما تقدَّم. الثَّاني: أنَّ استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطُّهر، فإنَّهم يذكرونه تفسيرًا للفظة، ثمَّ يُردِفونه بقولهم: وقيل، أو قال فلانٌ،

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «المشتركة» .

(2)

في المطبوع: «نحمله» .

ص: 231

أو يقال: على الطُّهر، أو وهو أيضًا الطُّهر، فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقرِّ المعلوم المستفيض، وتفسيره بالطُّهر قولٌ قيل. وهاك

(1)

حكاية ألفاظهم:

قال الجوهري

(2)

: القَرء بالفتح: الحيض، والجمع أقراءٌ وقروءٌ. وفي الحديث:«لا صلاة أيَّام أقرائك»

(3)

. والقَرء أيضًا: الطُّهر، وهو من الأضداد.

وقال أبو عبيد: الأقراء الحيض، ثمَّ قال: الأقراء الأطهار. وقال الكسائيُّ والفرَّاء: أقرأت المرأة: إذا حاضت

(4)

.

وقال ابن فارس

(5)

: القروء: أوقاتٌ تكون للطُّهر مرَّةً وللحيض مرَّةً، والواحد قَرْءٌ. ويقال: القَرْء: هو الطُّهر، ثمَّ قال: وقومٌ يذهبون إلى أنَّ القرء الحيض.

فحكى قول من جعله مشتركًا بين أوقات الطُّهر والحيض، وقول من جعله لأوقات الطُّهر، وقول من جعله لأوقات الحيض، وكأنَّه لم يختر واحدًا منهما، بل جعله لأوقاتهما.

قال: وأقرأت المرأةُ إذا خرجتْ من حيضٍ إلى طهرٍ، ومن طهرٍ إلى حيضٍ.

(1)

ص، د، ح:«وقال» .

(2)

في «الصحاح» (قرء).

(3)

سيأتي تخريجه. وكذا في الأصول: «لا صلاة» . وفي «الصحاح» : «دعي الصلاة

».

(4)

انظر: «تهذيب اللغة» (9/ 272، 274)، و «غريب الحديث» (1/ 280، 4/ 335).

(5)

في «مجمل اللغة» (ص 750).

ص: 232

وهذا يدلُّ على أنَّه لا بدَّ من مسمَّى الحيض في حقيقته، يُوضِّحه أنَّ من قال: أوقات الطُّهر تُسمَّى قروءًا، فإنَّما يريد أوقات الطُّهر الَّتي يَحْتَوِشُها

(1)

الدَّم، وإلَّا فالصَّغيرة والآيسة لا يقال لزمن طهرهما أقراءٌ، ولا هما من ذوات الأقراء باتِّفاق أهل اللُّغة.

الدَّليل الثَّاني: أنَّ لفظ القرء [لم يُستعمل]

(2)

في كلام الشَّارع إلا للحيض، ولم يجئ عنه في موضعٍ واحدٍ استعماله للطُّهر، فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشَّارع أولى، بل متعيِّنٌ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة:«دَعِي الصَّلاةَ أيَّام أقرائِك»

(3)

، وهو صلى الله عليه وسلم هو المعبِّر عن الله، وبلغة قومه نزل القرآن، فإذا ورد المشترك في كلامه على أحد معنييه وجبَ حملُه في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الآخر في شيءٍ من كلامه البتَّةَ، ويصير هو لغة القرآن الَّتي خُوطبنا بها، وإن كان له معنًى آخر في كلام غيره، ويصير هذا المعنى الحقيقة الشَّرعيَّة في تخصيص المشترك بأحد معنييه، كما يختصّ المتواطئ بأحد أفراده، بل هذا أولى؛ لأنَّ أغلب أسباب الاشتراك

(1)

أي يحيط بها.

(2)

ما بين المعكوفتين ليس في النسخ، وبه يستقيم الكلام.

(3)

أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126)، وابن ماجه (625) من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، وضعَّفه أبو داود، وأشار الترمذي إلى ضعفه، وقال:«هذا حديث قد تفرد به شريك عن أبي اليقظان» ، وسأل البخاريَّ عن جد عدي فلم يعرفه، وذكر له قول ابن معين أن اسمه دينار، فلم يعبأ به. وأخرجه أحمد (25681) من حديث عائشة؛ والنسائي (361) من حديث زينب بنت جحش، وأصله في البخاري (228)، ومسلم (333)؛ وهذه شواهد يتقوى بها الحديث. وينظر:«إراوء الغليل» (2118)، و «صحيح أبي داود» (2/ 93).

ص: 233

تسمية إحدى القبيلتين الشَّيء باسمٍ، وتسمية الأخرى بذلك الاسم مسمًّى آخر، ثمَّ تشيع الاستعمالات. بل قال المبرِّد وغيره: لا يقع الاشتراك في اللُّغة إلا بهذا الوجه خاصَّةً، والواضع لم يضع لفظًا مشتركًا البتَّةَ. فإذا ثبت استعمال الشَّارع لفظ القروء في الحيض عُلِم أنَّ هذا لغته، فيتعيَّن حمله على ما في كلامه.

ويُوضِّح ذلك ما في سياق الآية من قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، وهذا هو الحيض والحمل

(1)

عند عامَّة المفسِّرين، والمخلوق في الرَّحم إنَّما هو حيض

(2)

الوجوديّ، ولهذا قال السَّلف والخلف: هو الحمل والحيض

(3)

، وقال بعضهم: الحمل

(4)

، وبعضهم: الحيض

(5)

، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنَّه الطُّهر؛ ولهذا لم ينقله من عُنِي بجمع أقوال أهل التَّفسير، كابن الجوزيِّ وغيره

(6)

.

وأيضًا فقد قال سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فجعل كلَّ شهرٍ

(1)

م، ح:«والحل» . ز: «والحبل» .

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «الحيض» .

(3)

منهم ابن عمر، ومجاهد. ينظر:«تفسير ابن جرير» (4/ 107).

(4)

منهم عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل. ينظر:«تفسير ابن جرير» (4/ 520)، و «زاد المسير» (1/ 199).

(5)

منهم عكرمة، وإبراهيم النخعي. ينظر:«تفسير ابن جرير» (4/ 106).

(6)

ينظر: «جامع البيان» لابن جرير (4/ 105)، و «زاد المسير» لابن الجوزي (1/ 198).

ص: 234

بإزاء حيضةٍ، وعلَّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطُّهر من الحيض.

وأيضًا فحديث عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «طلاقُ الأمة تطليقتان، وعدَّتها حيضتانِ» ، رواه أبو داود وابن ماجه والتِّرمذيُّ

(1)

، وقال: غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهرٌ لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث. وفي لفظٍ للدَّارقطنيِّ فيه

(2)

: «طلاق العبد اثنتان» .

وروى ابن ماجه

(3)

من حديث عطيَّة العوفيِّ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة اثنتان، وعدَّتها حيضتان» .

وأيضًا قال ابن ماجه في «سننه»

(4)

: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيعٌ، عن

(1)

أبو داود (2189) وقال: «وهو حديث مجهول» ، وابن ماجه (2080)، والترمذي (1189).

(2)

(5/ 71)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 369)، وأخرجه الدارمي (2340)، والطبراني في «الأوسط» (7/ 26)، والحاكم (2/ 223)، وقال البيهقي (7/ 426):«هذا حديث تفرد به مظاهر بن أسلم، وهو رجل مجهول يعرف بهذا الحديث» ، وضعفه جمع من الحفاظ، منهم البخاري، وأبو عاصم النبيل، والعقيلي، والدارقطني، والمزي. وينظر:«العلل» للدارقطني (3885)، و «السنن الصغرى» للبيهقي (3/ 130)، و «البدر المنير» (8/ 100)، و «تحفة الأشراف» للمزي (12/ 285).

(3)

برقم (2079). وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (13/ 170)، والدارقطني (5/ 68)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 369)، وضعفه الدارقطني بعطية وشبيب. وقد روي موقوفًا على ابن عمر، أخرجه مالك (1640)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (5/ 247)، ومن طريقه الدارقطني (5/ 69)، والصحيح وقفه كما ذكر البيهقي والدارقطني وغيرهما. وينظر:«العلل» للدارقطني (3078).

(4)

برقم (2077). وأخرجه إسحاق في «مسنده» (749)، والطبراني في «الأوسط» (2/ 322)، والدارقطني (4/ 450) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 451) من طرق بلفظ:«أن تعتد عدة الحرة» . وأخرجه أبو يعلى (4921)، والطبراني في «الأوسط» (3/ 26)، والدارقطني (4/ 450)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 451) من طرق عن عائشة بلفظ:«عدة المطلقة» ، وفي إسناده أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف.

ص: 235

سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: أُمِرتْ بريرة أن تعتدَّ ثلاثَ حِيَضٍ.

وفي «المسند»

(1)

عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خيَّر بريرة، فاختارت نفسها، وأمرها أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة.

وقد فُسِّر عدَّة الحرَّة

(2)

بثلاث حِيَضٍ في حديث عائشة.

فإن قيل: فمذهب عائشة أنَّ الأقراء الأطهار؟

قيل: ليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، فأُخِذ بروايته دون رأيه.

وأيضًا ففي حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاسٍ لمَّا اختلعت من زوجها أن تتربَّص حيضةً واحدةً، وتلحق بأهلها. رواه النَّسائيُّ

(3)

.

وفي «سنن أبي داود»

(4)

عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت

(1)

برقم (3405).

(2)

«وقد فسّر عدة الحرة» ساقطة من د، ص.

(3)

برقم (3462).

(4)

برقم (2229). وأخرجه الترمذي (1185)، وقال:«حسن غريب» . ورواه عبد الرزاق مرسلاً كما ذكر أبو داود عقب تخريجه، أخرجه في «المصنف» (11858)، ومن طريقه الدارقطني (4/ 378)، والحاكم (2/ 224)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 450)، والصحيح وصله، وأصل الحديث في البخاري (5273)، وينظر:«صحيح أبي داود» (6/ 428).

ص: 236

من زوجها، فأمرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ بحيضة.

وفي «الترمذي»

(1)

: أنَّ الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أو أُمِرَتْ أن تعتدَّ بحيضة. قال الترمذي: حديث الرُّبيع الصَّحيح أنَّها أُمِرتْ أن تعتدَّ بحيضةٍ.

وأيضًا فالاستبراء هو عدَّة الأمة، وقد ثبت عن أبي سعيد أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاسٍ:«لا تُوطَأ حاملٌ حتَّى تضَعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَمْلٍ حتى تحيضَ حَيضةً» . رواه أحمد

(2)

وأبو داود

(3)

.

فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ استبراء الأمة بالحيضة، وإنَّما هو بالطُّهر الذي قبل

(1)

برقم (1185). وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (763)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 450)، كلهم من طريق الفضل بن موسى عن سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن الربيع به، وخالف الفضلَ وكيعٌ فقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 741)، من طريق وكيع عن سفيان به دون قوله: «على عهد رسول الله

»، وهو أصح، وصحح هذا الوجه الترمذي في «جامعه» (1185)، والدراقطني في «العلل» (4113)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 450)، وقد جاء في «مصنف ابن أبي شيبة» (18778) التصريح بأن الآمر بالاعتداد بحيضة هو عثمان بن عفان، وخالفه في ذلك ابن عمر.

(2)

برقم (11228).

(3)

برقم (2157). وأخرجه الحاكم (2/ 212)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 329).

ص: 237

الحيضة، كذلك قال ابن عبد البرِّ، وقال

(1)

: قولهم: إنَّ استبراء الأمة حيضةٌ بإجماعٍ ليس كما ظنُّوا، بل جائزٌ لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة، واستيقنت أنَّ دمها دم حيضٍ، كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أُدخِلَ عليه في مناظرته إيَّاه.

قلنا: هذا يردُّه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُوطَأ حاملٌ حتَّى تَضَعَ، ولا حائلٌ حتَّى تُستبرأ بحيضةٍ»

(2)

.

وأيضًا فالمقصود الأصليُّ

(3)

من العدَّة إنَّما هو استبراء الرَّحم، وإن كان لها فوائد أخر، ولشرف الحرَّة المنكوحة وخَطَرِها جُعِل العَلَم الدَّالُّ على براءة رحمها ثلاثة أقراءٍ، فلو كان القرء هو الطُّهر لم يحصل بالقرء الأوَّل دلالةٌ، فإنَّه لو جامعها في الطُّهر ثمَّ طلَّقها ثمَّ حاضت= كان ذلك قرءًا محسوبًا من الأقراء عند من يقول: الأقراء الأطهار. ومعلومٌ أنَّ هذا لم يدلَّ على شيءٍ، وإنَّما الذي يدلُّ على البراءة الحيضُ الحاصل بعد الطَّلاق، ولو طلَّقها في طهرٍ لم يصبها فيه، فإنَّا نعلم

(4)

هنا براءة الرَّحم بالحيض الموجود قبل الطَّلاق، والعدَّة لا تكون قبل الطَّلاق؛ لأنَّها حكمه، والحكم لا يسبق سببَه. فإذا كان الطُّهر الموجود بعد الطَّلاق لا دلالة له على البراءة أصلًا، لم يجز إدخاله في العِدَد دالًّا

(5)

على براءة الرَّحم، وكان مثله كمثل شاهدٍ غير مقبولٍ،

(1)

في «التمهيد» (15/ 99).

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

م، ح:«الأصل» .

(4)

في المطبوع: «فإنما يعلم» . والمثبت من النسخ.

(5)

د، ص، ح، ز:«في العدد إلّا» . وفي المطبوع: «في العدد الدالة» . والمثبت من م.

ص: 238

ولا يجوز تعليق الحكم بشهادة شاهدٍ لا شهادة له.

يوضِّحه أنَّ العدَّة في المنكوحات كالاستبراء في المملوكات، وقد ثبت بصريح السُّنَّة أنَّ الاستبراء بالحيض لا بالطُّهر، فكذلك العدَّة، إذ لا فرقَ بينهما إلا بتعدُّد العدَّة، والاكتفاء بالاستبراء بقرء واحدٍ، وهذا لا يوجب اختلافهما في حقيقة القرء، وإنَّما يختلفان في القدر المعتبر منهما.

ولهذا قال الشَّافعيُّ رحمه الله في أصحِّ القولين عنه: إنَّ استبراء الأمة يكون بالحيض، وفرَّق أصحابه بين البابين: بأنَّ العدَّة وجبت قضاءً لحقِّ الزَّوج، فاختصَّت بأزمان حقِّه، وهي أزمان الطُّهر، وبأنَّها تتكرَّر، فيُعْلَم معها البراءة بتوسُّط الحيض، بخلاف الاستبراء فإنَّه لا يتكرَّر، والمقصود منه مجرَّد البراءة، فاكتُفِي فيه بحيضةٍ. وقال في القول الآخر: تُستبرأ بطهرٍ طردًا لأصله في العِدَد، وعلى هذا فهل تحتسب

(1)

ببعض الطُّهر؟ على وجهين لأصحابه، فإن احتسبت به فلا بدَّ من ضَمِّ حيضةٍ كاملةٍ إليه، فإذا طعنتْ في الطُّهر الثَّاني حَلَّت. وإن

(2)

لم تحتسب به فلا بدَّ من ضَمِّ طهرٍ كاملٍ إليه، ولا تحتسب ببعض الطُّهر عنده قرءًا قولًا واحدًا.

والمقصود أنَّ الجمهور على أنَّ عدَّة الاستبراء حيضةٌ لا طهرٌ، وهذا الاستبراء في حقِّ الأمة كالعدَّة في حقِّ الحرَّة، قالوا: بل الاعتداد في حقِّ الحرَّة بالحيض أولى من الأمة من وجهين:

أحدهما: أنَّ الاحتياط في حقِّها ثابتٌ بتكرير القرء، فهو ثلاث

(1)

في جميع النسخ: «فلتحتسب» بدون «فهل» . والمثبت من المطبوع.

(2)

م، د، ز:«ومن» .

ص: 239

استبراءاتٍ، فهكذا ينبغي أن يكون الاعتداد في حقِّها بالحيض الذي هو أحوط من الطُّهر، فإنَّها لا تحتسب ببقيَّة الحيضة قرءًا، وتحتسب ببقيَّة الطُّهر قرءًا.

الثَّاني: أنَّ استبراء الأمة فرعٌ على عدَّة الحرَّة، وهي الثَّابتة بنصِّ القرآن، والاستبراء إنَّما ثبت بالسُّنَّة، فإذا كان قد احتاط له الشَّارع بأن جعله بالحيض فاستبراء الحرَّة أولى، فعدَّة الحرَّة استبراءٌ لها، واستبراء الأمة عدَّةٌ لها.

وأيضًا فالأدلَّة والعلامات والحدود والغايات إنَّما تحصل بالأمور الظَّاهرة المتميِّزة عن غيرها، والطُّهر هو الأمر الأصليُّ

(1)

، ولهذا متى كان مستمرًّا مستصحبًا لم يكن له حكمٌ يفرد به في الشَّريعة، وإنَّما الأمر المتميِّز هو الحيض، فإنَّ المرأة إذا حاضت تغيَّرت أحكامها: من بلوغها، وتحريم العبادات عليها من الصَّلاة والصَّوم والطَّواف واللُّبث في المسجد وغير ذلك من الأحكام. ثمَّ إذا انقطع الدَّم واغتسلت فلم تتغيَّر أحكامها بتجدُّد الطُّهر، لكن لزوال المغيِّر الذي هو الحيض، فإنَّها تعود بعد الطُّهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن

(2)

يجدِّد لها الطُّهر حكمًا، والقرء أمرٌ يغيِّر أحكام المرأة، وهذا التَّغيير إنَّما يحصل بالحيض دون الطُّهر. فهذا الوجه دالٌّ على فساد قول من يحتسب بالطُّهر الذي قبل الحيضة قرءًا فيما إذا طُلِّقت قبل أن تحيض ثمَّ حاضت، فإنَّ من اعتدَّ بهذا الطُّهر قرءًا جعل شيئًا ليس له حكمٌ في الشَّريعة قرءًا من الأقراء، وهذا فاسدٌ.

(1)

م، ح، د، ز:«الأصل» .

(2)

«أن» ليست في د.

ص: 240

فصل

قال من جعل الأقراء الأطهار: الكلام معكم في مقامين:

أحدهما: بيان الدَّليل الدالّ على أنَّها الأطهار.

الثَّاني: في الجواب عن أدلَّتكم.

فأمَّا المقام الأوَّل: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ووجهُ الاستدلال به أنَّ اللَّام هي لام الوقت، أي: فطلِّقوهنَّ في عدَّتهنَّ

(1)

، كما في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، أي: في يوم القيامة، وقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، أي: وقت الدُّلوك. وتقول العرب: جئتُك لثلاثٍ بقين من الشَّهر، أي: في ثلاثٍ بقين منه. وقد فسَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية بهذا التَّفسير، ففي «الصَّحيحين»

(2)

عن ابن عمر: أنَّه لمَّا طلَّق امرأته وهي حائضٌ، أمره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثمَّ يطلِّقها وهي طاهرٌ، قبل أن يمسَّها، ثمَّ قال:«فتلك العدَّة الَّتي أمر الله أن يُطلَّق لها النِّساء» . فبيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ العدَّة الَّتي أمر الله أن يُطلَّق لها النِّساء هي الطُّهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو

(3)

الحيض كان قد طلَّقها قبل العدَّة لا العدَّة

(4)

، وكان ذلك تطويلًا عليها، وهو غير جائزٍ، كما لو طلَّقها في الحيض.

(1)

في المطبوع: «وقت عدتهن» خلاف النسخ.

(2)

البخاري (5251)، ومسلم (1471).

(3)

م، ز:«هي» .

(4)

في المطبوع: «في العدة» . والمثبت من النسخ.

ص: 241

قال الشَّافعيُّ

(1)

: قال الله تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالأقراء عندنا ــ والله أعلم ــ الأطهار، فإن قال قائلٌ: ما دلَّ على أنَّها الأطهار وقال غيركم: الحيض؟ قيل له: دلالتان، إحداهما

(2)

: الكتاب الذي دلَّ عليه السُّنَّة، والأخرى: اللِّسان. فإن قال: وما الكتاب؟ قيل: قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وأخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّه طلَّق امرأته وهي حائضٌ في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مُرْه فليراجِعْها، ثمَّ ليمسِكْها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إن شاء أمسك بعدُ وإن شاء طلَّقَ قبلَ أن يَمسَّ، فتلك العدَّة الَّتي أمر الله أن يُطلَّق لها النِّساء»

(3)

.

أخبرنا مسلم وسعيد بن سالمٍ، عن ابن جريجٍ، عن أبي الزبير: أنَّه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضًا، فقال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا طهُرتْ فلتُطلَّقْ أو تُمسَكْ» ، وتلا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:(إذا طلَّقتم النِّساء فطلِّقوهنَّ لِقُبُلِ ــ أو: في قُبُلِ ــ عدَّتهنَّ)

(4)

. قال الشَّافعيُّ: أنا شككتُ.

فأخبر

(5)

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جلَّ ثناؤه: أنَّ العدَّة الطُّهر دون الحيض،

(1)

في «الأم» (6/ 529 - 531). وبعضها في «معرفة السنن والآثار» (11/ 182 - 184) كما نبَّهتُ عليه في التعليق.

(2)

م، ص، د، ز:«أحدهما» . وفي «الأم» : «أولهما» .

(3)

وأخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) كلاهما من طريق مالك (1683) به.

(4)

وهي قراءة ابن عمر. انظر: «موطأ مالك» (1720) و «مسند أحمد» (5269).

(5)

د، ص:«فاخبار» .

ص: 242

وقرأ: (فطلِّقوهنَّ لِقُبُل عدَّتهنَّ)، وهو أن يطلِّقها طاهرًا؛ لأنَّها حينئذٍ تستقبل عدَّتها، ولو طُلِّقت حائضًا لم تكن مستقبلةً عدَّتها إلا بعد الحيض.

فإن قال: فما اللِّسان؟ قيل: القرء: اسمٌ وُضِع لمعنًى، فلمَّا كان الحيض دمًا يُرخِيه الرَّحِمُ فيخرج، والطُّهر دمًا يحتبس فلا يخرج، وكان معروفًا من لسان العرب أنَّ القرء الحبس. تقول العرب: هو يَقْرِي الماءَ في حوضه وفي سِقائه. وتقول العرب: يَقْرِي الطَّعامَ في شِدْقه، يعني: يحبس الطعام في شدقه. وتقول العرب إذا حبس الرَّجلُ الشَّيء: قَرأه، يعني: خَبَأه

(1)

.

قال الشَّافعيُّ: أخبرنا مالك

(2)

، عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة أنَّها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدَّم من الحيضة الثَّالثة. قال ابن شهابٍ: فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها

(3)

في ذلك ناسٌ فقالوا: إنَّ الله يقول: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، فقالت عائشة: صدقتم، وهل تدري ما الأقراء؟ الأقراء: الأطهار.

أخبرنا مالك

(4)

، عن ابن شهابٍ قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرَّحمن

(1)

«وتقول العرب: إذا

خبأه» ليست في «الأم» . وهذه الزيادة في رواية حرملة، ينظر:«معرفة السنن والآثار» (11/ 180). وفيه وفي المطبوع بعدها: «وقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: تقري في صحافها، أي: تحبس في صحافها» . وليست في النسخ.

(2)

في «الموطأ» (1684)، وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي في «السنن الكبرى» (7/ 681)، وقد تقدم تخريجه (ص 220).

(3)

م، ح، ص:«حاولها» ، تحريف.

(4)

في «الموطأ» (1685).

ص: 243

يقول

(1)

: ما أدركتُ أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا. يريد الذي قالت عائشة.

قال الشَّافعيُّ: وأخبرنا سفيان، عن الزُّهريِّ، عن عمرة، عن عائشة: إذا طعنت المطلَّقة في الدَّم من الحيضة الثَّالثة فقد برئتْ منه.

وأخبرنا مالك

(2)

، عن نافع وزيد بن أسلم، عن سليمان بن يسارٍ أنَّ الأحوص ــ يعني ابن حكيم ــ هلك بالشَّام حين دخلت امرأته في الحيضة الثَّالثة، وقد كان طلَّقها، فكتب معاوية إلى زيد بن ثابتٍ يسأله عن ذلك؟ فكتب إليه زيد: أنَّها إذا دخلت في الدَّم من الحيضة الثَّالثة فقد برئتْ منه وبرئ منها، ولا تَرِثه ولا يَرِثها.

وأخبرنا سفيان، عن الزُّهريِّ، قال: حدَّثني سليمان بن يسارٍ، عن زيد بن ثابتٍ قال: إذا طعنت المرأة في الحيضة الثَّالثة فقد برئت منه

(3)

.

قال: وفي حديث سعيد بن أبي عروبة، عن رجلٍ، عن سليمان بن يسارٍ، أنَّ عثمان بن عفَّان وابن عمر قالا: إذا دخلت في الحيضة الثَّالثة فلا رجعةَ له عليها

(4)

.

(1)

«سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:» من ص، وليست في بقية النسخ.

(2)

في «الموطأ» (1686).

(3)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 333)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 682) من طريق سفيان به.

(4)

هذه الفقرة ليست في «الأم» ، ولم أقف على هذا الأثر من هذا الطريق، وقد أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (11/ 182) من طريق الشافعي عن سفيان عن الزهري عن سليمان بن يسار عن عثمان وابن عمر.

ص: 244

وأخبرنا مالك

(1)

، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا طلَّق الرَّجل امرأته فدخلتْ في الدَّم من الحيضة الثَّالثة فقد برئت منه، ولا تَرِثه ولا يرثها.

أخبرنا مالك

(2)

أنَّه بلغه عن القاسم بن محمَّدٍ، وسالم بن عبد اللَّه، وأبي بكر بن عبد الرَّحمن، وسليمان بن يسارٍ، وابن شهابٍ، أنَّهم كانوا يقولون: إذا دخلت المطلَّقة في الدَّم من الحيضة الثَّالثة فقد بانت منه، ولا ميراثَ بينهما. زاد غير الشَّافعيِّ عن مالك: ولا رجعةَ له عليها. قال مالك: وذلك الأمر الذي أدركتُ عليه أهل العلم ببلدنا.

قال الشَّافعيُّ

(3)

: ولا يَعْدُو

(4)

أن تكون الأقراءُ الأطهارَ ــ كما قالت عائشة، والنِّساءُ بهذا أعلم لأنَّه فيهنَّ لا في الرِّجال ــ أو الحيضَ، فإذا جاءت بثلاث حيضٍ حلَّتْ، ولا نجد في كتاب الله للغسل معنًى، ولستم تقولون بواحدٍ من القولين.

يعني: أنَّ الذين قالوا: إنَّها الحيض قالوا: هو أحقُّ برجعتها حتَّى تغتسل من الحيضة الثَّالثة، كما قاله علي وابن مسعودٍ وأبو موسى، وهو قول عمر بن الخطَّاب أيضًا

(5)

.

(1)

في «الموطأ» (1688)، وقد تقدم تخريجه (ص 220).

(2)

في «الموطأ» (1687)، وقد تقدم تخريجه (ص 221). وانظر:«معرفة السنن والآثار» (11/ 183).

(3)

هذه الفقرة والتي بعدها ليستا في «الأم» . ونقلهما البيهقي في «المعرفة» (11/ 184) بقوله: «قال الشافعي في القديم» .

(4)

أي: لا يتجاوز. وفي المطبوع: «ولا بعد» ، خطأ.

(5)

تقدم تخريج الآثار عنهم.

ص: 245

قال الشَّافعيُّ: فقيل لهم ــ يعني للعراقيِّين ــ: لم تقولوا بقول من احتججتم بقوله ورويتم هذا عنه، ولا بقول أحدٍ من السَّلف علمناه. فإن قال قائلٌ: أين خالفناهم؟ قلنا: قالوا: حتَّى تغتسل وتحلَّ لها الصَّلاة، وقلتم: إن فرَّطتْ في الغسل حتَّى يذهب وقت الصَّلاة حلَّت، وهي لم تغتسل ولم تحلَّ لها الصَّلاة. انتهى كلام الشَّافعيِّ.

قالوا: ويدلُّ على أنَّها الأطهار في اللِّسان قول الأعشى

(1)

:

أفي كلِّ عامٍ أنت جَاشِمُ غَزوةٍ

تَحُلُّ

(2)

لأقصاها عَزِيمَ عَزائِكا

مُورِّثةٍ عِزًّا وفي الحيِّ رِفعةً

لما ضَاعَ فيها من قُروء نِسائِكا

فالقروء في البيت: الأطهار، لأنَّه ضيَّع أطهارهنَّ في غَزاته، وآثرها عليهنَّ.

قالوا: ولأنَّ الطُّهر أسبق إلى الوجود من الحيض، فكان أولى بالاسم. قالوا: فهذا أحد المقامين.

وأمَّا المقام الآخر، وهو الجواب عن أدلَّتكم: فنجيبكم بجوابين مجملٍ ومفصَّلٍ

(3)

.

أمَّا المجمل، فنقول: من أُنزِل عليه القرآن فهو أعلمُ بتفسيره ومرادِ

(1)

«ديوانه» (ص 141)، و «مجاز القرآن» (1/ 74)، و «الكامل» للمبرد (1/ 220)، و «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/ 205)، و «تفسير الطبري» (4/ 512)، وغيرها.

(2)

كذا في النسخ. والرواية: «تَشُدُّ» ، وبها يستقيم المعنى.

(3)

«مجمل ومفصل» ليست في د.

ص: 246

المتكلِّم من كلِّ أحدٍ سواه، وقد فسَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العدَّة الَّتي أمر الله أن يُطلَّق لها النِّساء بالأطهار، فلا التفاتَ بعد ذلك إلى شيءٍ خالفه، بل كلُّ تفسيرٍ يخالف هذا فباطلٌ.

قالوا: وأعلمُ الأمَّة بهذه المسألة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهنَّ بها عائشة؛ لأنَّها فيهنَّ لا في الرِّجال، ولأنَّ الله تعالى جعل قولهنَّ في ذلك مقبولًا في وجود الحيض والحبل؛ لأنَّه لا يُعلَم إلا من جهتهنَّ، فدلَّ على أنَّهنَّ أعلمُ بذلك من الرِّجال، فإذا قالت أمُّ المؤمنين: إنَّ الأقراء الأطهار

فقد قالت حَذَامِ فصَدِّقوها

فإنَّ القولَ ما قالتْ حَذامِ

(1)

قالوا: وأمَّا الجواب المفصَّل، فنفرد كلَّ واحدٍ واحدٍ من أدلَّتكم بجوابٍ خاصٍّ، فهاكم الأجوبة.

أمَّا قولكم: إمَّا أن يُراد بالأقراء في الآية الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعهما

إلى آخره.

فجوابه أن نقول: الأطهار فقط، لما ذكرنا من الدَّلالة.

قولكم: النَّصُّ اقتضى ثلاثةً

إلى آخره.

قلنا: عنه جوابان:

أحدهما: أنَّ بقيَّة الطُّهر عندنا قرءٌ كاملٌ، فما اعتدَّت إلا بثلاثٍ كوامل.

(1)

كانت حَذامِ امرأةً، فقال فيها زوجها لُجَيم بن صعب، وأصبح مثلًا. انظر:«الأمثال» لأبي عبيد (ص 50)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 116)، و «مجمع الأمثال» (1/ 180) وغيرها.

ص: 247

الثَّاني: أنَّ العرب

(1)

تُوقِع اسمَ الجمع على اثنين وبعض الثَّالث، كقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فإنَّها شوَّالٌ، وذو القعدة، وعشرٌ من ذي الحجَّة أو تسعٌ أو ثلاثة عشر. ويقولون: لفلانٍ ثلاثَ عشرة سنةً، إذا دخل في السَّنة الثَّالثة عشر

(2)

. وإذا كان هذا معروفًا في لغتهم، وقد دلَّ الدَّليل عليه، وجب المصير إليه.

وأمَّا قولكم: إنَّ استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطُّهر، فمُقابَلٌ بقول منازعيكم.

قولكم: إنَّ أهل اللُّغة يُصدِّرون كتبهم بأنَّ القرء هي الحيض، فيذكرونه تفسيرًا للّفظ، ثمَّ يُردِفونه بقولهم: وقيل، أو: وقال بعضهم: هو الطُّهر.

قلنا: أهل اللُّغة يحكون أنَّ له مسمَّيينِ في اللُّغة، ويُصرِّحون بأنَّه يقال على هذا وعلى هذا، ومنهم من يجعله في الحيض أظهر، ومنهم من يحكي إطلاقه عليهما من غير ترجيح. فالجوهري رجَّح الحيض. والشَّافعيُّ من أئمَّة اللُّغة، وقد رجَّح أنَّه الطُّهر. وقال أبو عبيد: القرء يصلح للحيض والطهر. وقال الزَّجَّاج

(3)

: أخبرني من أثق به عن يونس أنَّ القرء عنده يصلح للحيض والطهر. وقال أبو عمرو بن العلاء: القرء الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطُّهر. وإذا كانت هذه نصوص أهل اللُّغة، فكيف يحتجُّون بقولهم: إنَّ الأقراء الحيض؟

(1)

في النسخ: «العدة» ، تحريف.

(2)

كذا في النسخ. والجادة تأنيث الجزئين في الصفة.

(3)

في «معاني القرآن» (1/ 304).

ص: 248

قولكم: إنَّ من جعله الطُّهر فإنَّه يريد أوقاتَ الطُّهر الَّتي يَحتوِشُها الدَّم، وإلَّا فالصَّغيرة والآيسة ليستا من ذوات الأقراء. عنه جوابان.

أحدهما: المنع، بل إذا طُلِّقت الصَّغيرة الَّتي لم تحض ثمَّ حاضت، فإنَّها تعتدُّ بالطُّهر الذي طُلِّقت فيه قرءًا على أصحِّ الوجهين عندنا؛ لأنَّه طهرٌ بعده حيضٌ، وكان قرءًا كما لو كان قبله حيضٌ.

الثَّاني: أنَّا وإن سلَّمنا ذلك فإنَّ هذا يدلُّ على أنَّ الطُّهر لا يُسمَّى قرءًا حتَّى يحتوِشَه دمانِ، وكذلك نقول، فالدَّم شرطٌ في تسميته قرءًا، وهذا لا يدلُّ على أنَّ مسمَّاه الحيض.

وهذا كالكأس الذي لا يقال على الإناء إلا بشرط كون الشَّراب فيه، وإلَّا فهو زُجاجةٌ أو قَدَحٌ.

والمائدة الَّتي لا يقال للخِوَان إلا إذا كان عليه طعامٌ، وإلَّا فهو خِوانٌ.

والكُوز الذي لا يقال لمسمَّاه إلا إذا كان ذا عُروةٍ، وإلَّا فهو كوبٌ.

والقلم الذي يشترط في صحَّة إطلاقه على القصبة كونها مَبْرِيَّةً، وبدون البَرْي فهو أُنبوبٌ أو قَصَبةٌ.

والخاتَم شرطُ إطلاقه أن يكون ذا فَصٍّ منه أو من غيره، وإلَّا فهو فَتْخَةٌ.

والفَرْوُ شرط إطلاقه على مسمَّاه الصُّوف، وإلَّا فهو جِلْدٌ.

والرَّيْطَة شرط إطلاقها على مسمَّاها أن تكون قطعةً واحدةً، فإن كانت ملفَّقةً من قطعتين فهي مُلَاءةٌ.

ص: 249

والحُلَّة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين، إزارٌ ورداء، وإلَّا فهو ثوبٌ.

والأَرِيْكَة لا تقال على السَّرير إلا إذا كان عليه حَجَلةٌ، وهي الَّتي تسمَّى بَشَخانه

(1)

وخَرْكاه

(2)

، وإلَّا فهو سريرٌ.

واللَّطِيمة لا تُقال للتجارة

(3)

إلا إذا كان فيها طيبٌ، وإلَّا فهي عِيْرٌ.

والنَّفَق لا يقال إلا لما له مَنْفذٌ، وإلَّا فهو سَرَبٌ.

والعِهْن لا يقال للصُّوف إلا إذا كان مصبوغًا، وإلَّا فهو صُوفٌ.

والخِدْر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة، وإلَّا فهو سِتْرٌ.

والمِحْجَن لا يقال [للعصا إلا إذا كان مَحْنِيَّة الرَّأس، وإلَّا فهي عصًا.

والرَّكيَّة لا تقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها، وإلَّا فهي بئرٌ.

والوَقُود]

(4)

لا يقال للحَطَب إلا إذا كان فيه النَّار، وإلَّا فهو حَطَبٌ.

ولا يقال للتُّراب ثَرًى إلا بشرط نَداوته، وإلَّا فهو تُرابٌ.

ولا يقال للرِّسالة مُغَلْغَلةٌ إلا إذا حُمِلَت من بلدٍ إلى بلدٍ، وإلَّا فهي رسالةٌ.

(1)

هي: كِلّة، وزخارف السرير. انظر:«تكملة المعاجم العربية» (1/ 348).

(2)

خيمة تُصنع من قِطَع من الخشب تركَّب على شكل قبة، ثم يوضع عليها قِطَع من اللباد. انظر المصدر السابق (4/ 73). والكلمتان معرَّبتان من الفارسية.

(3)

في المطبوع: «للجمال» خلاف النسخ.

(4)

ما بين المعكوفتين ليس في النسخ. وبه يستقيم السياق كما في «فقه اللغة» للثعالبي (ص 51). وهو ثابت في المطبوع.

ص: 250

ولا يقال للأرض قَرَاحٌ إلا إذا هُيِّئتْ للزِّراعة، وإلَّا فهي أرض

(1)

.

ولا يقال لهروب العبد إباقٌ إلا إذا كان هروبه من غير خوفٍ ولا جوعٍ ولا جهدٍ، وإلَّا فهو هروبٌ.

والرِّيق لا يقال له رُضَابٌ إلا إذا كان في الفم، فإذا فارقه فهو بُصَاقٌ وبُزَاق

(2)

وبُسَاقٌ.

والشُّجاع لا يقال له كَمِيٌّ إلا إذا كان شاكِيَ السِّلاح، وإلَّا فهو بطلٌ. وفي تسميته بطلًا قولان، أحدهما: لأنَّه يُبطِل شجاعةَ

(3)

قِرْنِه وضرْبَه وطعْنَه، والثَّاني: لأنَّه يَبطُل شجاعة الشُّجعان عنده، فعلى الأوَّل فهو فَعَلٌ بمعنى فاعلٍ، وعلى الثَّاني فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، وهو قياس اللُّغة.

والبعير لا يقال له راويةٌ إلا بشرط حمله للماء.

والطَّبَق لا يسمَّى مِهْدًى إلا بشرط كون

(4)

عليه هديَّةٌ.

والمرأة لا تُسمَّى ظَعِينةً إلا بشرط ركوبها في الهَوْدَج، هذا في الأصل، وإلَّا فقد تُسمَّى المرأة ظعينةً وإن لم تكن

(5)

في هودجٍ، ومنه في الحديث:

(1)

«وإلا فهي أرض» من م، ز. وليست في المطبوع وبقية النسخ. وفي فقه اللغة:«وإلا فهي بَراح» .

(2)

«وبزاق» ليست في المطبوع.

(3)

في المطبوع: «تبطل شجاعته» .

(4)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «إلا أن يكون» .

(5)

«في الهودج

لم تكن» ساقطة من د.

ص: 251

«فمرَّت ظُعُنٌ يَجْرِينَ»

(1)

.

والدَّلو لا يقال لها سَجْلٌ إلا ما دام فيها ماءٌ، ولا يقال لها ذَنُوبٌ إلا إذا امتلأت به.

والسَّرير لا يقال له نَعْشٌ إلا إذا كان عليه ميِّتٌ.

والعَظْم لا يقال له عَرْقٌ إلا إذا اشتمل عليه لحمٌ.

والخَيط لا يسمَّى سِمْطًا إلا إذا كان فيه خَرَزٌ.

ولا يقال للحَبْل قَرَنٌ إلا إذا قُرِنَ فيه اثنان فصاعدًا.

والقوم لا يُسمَّون رُفْقَةً إلا إذا انضمُّوا في مجلسٍ واحدٍ وسيرٍ واحدٍ، فإذا تفرَّقوا زال هذا الاسم، ولم يَزُلْ عنهم اسم الرَّفيق.

والحِجارة لا تُسمَّى رَضْفًا إلا إذا حَمِيَتْ بالشَّمس أو بالنَّار.

والشَّمس لا يقال لها غَزَالةُ إلا عند ارتفاع النَّهار.

والثَّوب لا يُسمَّى مُطْرَفًا إلا إذا كان في طرفيه عَلَمانِ.

والمجلس لا يقال له النَّادي إلا إذا كان أهله فيه.

والمرأة لا يقال لها عَاتِقٌ إلا إذا كانت في بيت أبويها.

ولا يُسمَّى الماء المِلْح أُجاجًا إلا إذا كان مع مُلوحتِه مُرًّا.

ولا يقال للسَّير [إهْطَاعٌ]

(2)

إلا إذا كان معه خوفٌ.

(1)

أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

هنا بياض في النسخ. والمثبت من «فقه اللغة» (ص 53).

ص: 252

ولا يقال للفرس مُحَجَّلٌ إلا إذا كان البياض في قَوائِمه كلِّها أو أكثرِها.

وهذا بابٌ طويلٌ لو تَقصَّيناه

(1)

، فكذلك لا يقال للطُّهر قرءًا

(2)

إلا إذا كان قبله دمٌ وبعده دمٌ، فأين في هذا ما يدلُّ على أنَّه الحيض؟

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّه لم يجئ في كلام الشَّارع إلا للحيض، فنحن نمنع مجيئه في كلام الشَّارع للحيض

(3)

البتَّةَ، فضلًا عن الحصر.

قالوا: إنَّه قال للمستحاضة: «دَعِي الصَّلاةَ أيَّام أقرائِك» ، فقد أجاب الشَّافعيُّ عنه في «كتاب حَرملة» بما فيه شفاءٌ، وهذا لفظه

(4)

:

قال: وزعم إبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة أنَّ الأقراء الحيض، واحتجَّ بحديث سفيان، عن أيوب، عن سليمان بن يسارٍ، عن أم سلمة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في امرأةٍ استُحِيضتْ أن تَدَعَ الصَّلاة أيَّامَ أقرائِها

(5)

.

قال الشَّافعيُّ: وما حدَّث بهذا سفيان قطُّ، إنَّما قال سفيان: عن أيوب، عن سليمان بن يسارٍ، عن أم سلمة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«تَدَعُ الصَّلاةَ عددَ اللَّيالي والأيَّام الَّتي كانت تحيضهنَّ» ، أو قال:«أيَّامَ أقرائِها»

(6)

، الشَّكُّ من

(1)

عقد له بعض علماء اللغة بابًا في كتبهم، انظر:«الصاحبي» لابن فارس (ص 118 - 119)، و «فقه اللغة» للثعالبي (ص 50 - 53)، و «المدهش» لابن الجوزي (ص 48)، و «المزهر» للسيوطي (1/ 449 - 453). واعتمد المؤلف هنا على الثعالبي.

(2)

كذا في النسخ منصوبًا.

(3)

ص، د:«للحيضة» .

(4)

كما في «معرفة السنن والآثار» (11/ 184، 185).

(5)

ينظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 416).

(6)

أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (8/ 148) من طريق الشافعي عن سفيان به. وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 416) من طريق إبراهيم بن بشار عن سفيان عن أيوب بلفظ: «أيام أقرائها وأيام حيضها» من غير شك، ورواية إبراهيم عن سفيان متكلم فيها؛ لأنه كان يغير في الألفاظ كما قال الإمام أحمد، وتابع سفيان على روايته عن أيوب بلفظ:«أيام أقرائها» وهيب، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وإسماعيل بن علية، أخرجه عنهم الدارقطني (1/ 385 ــ 386)، ورواه وهيب عن أيوب مرة بلفظ:«أيام حيضها» كما عند الدارقطني (1/ 385)، واختلف فيه الرواة في التعبير بلفظ الحيض والأقراء، ورجح البيهقي أن الصواب فيه روايته بالشك:«أيام أقرائها أو أيام حيضها» كما رجحه الشافعي.

ص: 253

أيوب، لا ندري

(1)

قال هذا أو هذا، فجعله هو حديثًا على ناحية ما يريد، فليس هذا بصدقٍ.

وقد أخبرناه مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسارٍ، عن أم سلمة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لِتنظُرْ عددَ اللَّيالي والأيَّام الَّتي كانت تحيضُهنَّ من الشَّهر قبل أن يُصِيبها الذي أصابها، ثمَّ لِتَدَعِ الصَّلاة، ثمَّ لِتغتسلْ ولْتُصَلِّ»

(2)

. ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب، وهو يقول بمثل أحد معنَيَيْ أيوب اللَّذين رواهما. انتهى كلامه.

(1)

في النسخ: «يدري» . والمثبت من «معرفة السنن» .

(2)

أخرجه مالك (172) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (1/ 87) ــ، وأبو دواد (274)، والنسائي (208)، (355) من طريق مالك، وأخرجه ابن ماجه (623) من طريق عبيد الله بن عمر كلاهما (مالك وعبيد الله) عن نافع به، وأعله البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 493) بعدم سماع سليمان بن يسار من أم سلمة، والصحيح أنه سمع منها، وقد صرح بالسماع منها كما في «مسند أحمد» (26610).

ص: 254

قالوا: وأمَّا الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، وأنَّه الحيض أو الحبل أو كلاهما، فلا ريبَ أنَّ الحيض داخلٌ في ذلك، ولكن تحريم كتمانه لا يدلُّ على أنَّ القروء المذكورة

(1)

في الآية هي الحيض، فإنَّها إذا كانت الأطهار فإنَّها تنقضي بالطَّعن في الحيضة الرَّابعة أو الثَّالثة، فإذا أرادت كتمان انقضاء العدَّة لأجل النَّفقة أو غيرها قالت: لم أَحِضْ، فتنقضي عدَّتي، وهي كاذبةٌ وقد حاضت وانقضت عدَّتها، وحينئذٍ فتكون دلالة الآية على أنَّ القروء الأطهار أظهر، ونحن نَقْنَع باتِّفاق الدِّلالة بها، وإن أبيتم إلا الاستدلال فهو من جانبنا أظهر، فإنَّ أكثر المفسِّرين قالوا: الحيض والولادة، فإذا كانت العدَّة تنقضي بظهور

(2)

الولادة فهكذا تنقضي بظهور الحيض، تسويةً بينهما في إتيان المرأة على كلِّ واحدٍ منهما.

وأمَّا استدلالكم بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فجعل كلُّ شهرٍ بإزاء حيضةٍ= فليس هذا بصريحٍ في أنَّ القروء هي

(3)

الحيض، بل غاية الآية أنَّه جعل اليأس

(4)

من الحيض شرطًا في الاعتداد بالأشهر، فما دامت حائضًا لا تنتقل إلى عدَّة الآيسات، وذلك أنَّ الأقراء الَّتي هي الأطهار عندنا لا توجد إلا مع

(1)

د، ز:«المذكور» .

(2)

«بظهور» ليست في ص، د.

(3)

ص، د، ز:«هو» .

(4)

ص، د، ز:«البائن» ، تحريف.

ص: 255

الحيض، لا تكون بدونه، فمن أين يلزم أن تكون هي الحيض؟

وأمَّا استدلالكم بحديث عائشة: «طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان»

(1)

فهو حديثٌ لو استدللنا به عليكم لم تقبلوا ذلك منَّا، فإنَّه حديثٌ ضعيفٌ معلولٌ، قال الترمذي: غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعْرَف له في العلم غير هذا الحديث، انتهى.

ومظاهر

(2)

ليس بشيءٍ، مع أنَّه لا يُعرف، وضعَّفه أبو عاصم أيضًا. وقال أبو داود

(3)

: هذا حديثٌ مجهولٌ. وقال الخطّابي

(4)

: أهل الحديث ضعَّفوا هذا الحديث. وقال البيهقي

(5)

: لو كان ثابتًا قلنا به، إلا أنَّا لا نُثبِت حديثًا يرويه من تُجهَل عدالته. وقال الدَّارقطنيُّ

(6)

: الصَّحيح عن القاسم بخلاف هذا، ثمَّ روى عن زيد بن أسلم قال: سئل القاسم عن الأمة كم

(7)

تُطلَّق؟ قال: طلاقها اثنتان، وعدَّتها حيضتان. قال: فقيل له: أبلغكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ فقال: لا.

(1)

تقدم تخريجه (ص 235).

(2)

بعده في المطبوع: «بن أسلم هذا قال فيه أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. وقال يحيى بن معين» . وليست في النسخ.

(3)

في «السنن» (2189).

(4)

في «معالم السنن» (3/ 115).

(5)

في «السنن الكبرى» (7/ 370).

(6)

في «السنن» (5/ 72).

(7)

د: «بم» .

ص: 256

وقال البخاريُّ في «تاريخه»

(1)

: مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة رفعه:«طلاق الأمة تطليقتان، وعدَّتها حيضتان» . قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريجٍ عن مظاهر، ثمَّ لقيتُ مظاهرًا، فحدَّثنا به، وكان أبو عاصم يضعِّف مظاهرًا.

وقال يحيى بن سليمان: ثنا ابن وهب، قال: حدَّثني أسامة بن زيد بن أسلم، أنَّه كان جالسًا عند أبيه، فأتاه رسول الأمير، فقال: إنَّ الأمير يقول لك: كم عدَّة الأمة؟ فقال: عدَّة الأمة حيضتان، وطلاق الحرِّ الأمةَ

(2)

ثلاثٌ، وطلاق العبد الحرَّةَ تطليقتان، وعدَّة الحرَّة ثلاث حيضٍ. ثمَّ قال للرَّسول: أين تذهب؟ قال: أمرني أن أسأل القاسم بن محمَّدٍ وسالم بن عبد اللَّه، قال: فأُقسِم عليك إلا رجعتَ إليَّ فأخبرتَني ما يقولان، فذهب ورجع إلى أبي، فأخبره أنَّهما قالا كما قال، وقالا

(3)

له: قل له: إنَّ هذا ليس في كتاب اللَّه ولا سنَّة رسول الله، ولكن عمل به المسلمون

(4)

.

وقال أبو القاسم بن عساكر في «أطرافه» : [فدلَّ ذلك على أنَّ الحديث المرفوع غير محفوظٍ]

(5)

.

(1)

«التاريخ الأوسط» (2/ 128).

(2)

د، ص:«للأمة» .

(3)

د، ص، ز:«وقال» .

(4)

أخرجه البخاري في «التاريخ الأوسط» (2/ 128) مختصرًا. وذكره المزي في «تحفة الأشراف» (12/ 286).

(5)

هنا بياض في النسخ، والمثبت من «تحفة الأشراف» .

ص: 257

وأمَّا استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعًا: «طلاق الأمة اثنتان، وعدَّتها حيضتان» ، فهو من رواية عطيَّة بن سعدٍ العوفيِّ، وقد ضعَّفه غير واحدٍ من الأئمَّة. قال الدَّارقطنيُّ

(1)

: والصَّحيح عن ابن عمر ما رواه سالم ونافع من قوله، وروى الدَّارقطنيُّ

(2)

أيضًا عن سالم ونافع أنَّ ابن عمر كان يقول: طلاق العبد الحرَّةَ تطليقتان، وعدَّتها ثلاثة قروءٍ، وطلاق الحرِّ الأمةَ تطليقتان، وعدَّتها عدَّة الأمة حيضتان.

قالوا: والثَّابت بلا شكٍّ عن ابن عمر أنَّ الأقراء الأطهار.

قال الشَّافعيُّ: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا طلَّق الرَّجل امرأته، فدخلتْ في الدَّم من الحيضة الثَّالثة، فقد برئتْ منه، ولا تَرِثُه ولا يَرِثها

(3)

.

قالوا: فهذا الحديث مداره على ابن عمر وعائشة، ومذهبهما بلا شكٍّ أنَّ الأقراء الأطهار، فكيف يكون عندهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خلافُ ذلك، ولا يذهبان إليه؟

قالوا: وهذا بعينه هو الجواب عن حديث عائشة الآخر: «أُمِرَتْ بريرة أن تعتدَّ ثلاث حيضٍ» .

قالوا: وقد روي هذا الحديث بثلاثة ألفاظٍ: «أُمِرَتْ أن تعتدَّ»

(4)

،

(1)

«السنن» (5/ 68).

(2)

«السنن» (5/ 69).

(3)

تقدم تخريجه (ص 245).

(4)

الدارقطني (4/ 450) من رواية عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم، وخالفهما حبان بن هلال فقال:«عدة الحرة» ، ورجَّح الدارقطني رواية حبان بن هلال.

ص: 258

و «أُمِرَت أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة»

(1)

، و «أُمِرَت أن تعتدَّ ثلاث حِيَضٍ»

(2)

، فلعلَّ رواية من روى «ثلاث حِيَضٍ» محمولةٌ على المعنى. ومن العجب أن يكون عند عائشة هذا وهي تقول: الأقراء الأطهار، وأعجب منه أن يكون هذا الحديث بهذا السَّند المشهور الذين

(3)

كلُّهم أئمَّةٌ، ولا يُخرِجه أصحاب الصَّحيح، ولا المَسانِد، ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها، ولا الأئمَّة الأربعة. وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطرٌّ إليه، ولا سيَّما بهذا السَّند المعروف الذي هو كالشَّمس شهرةً؟ ولا شكَّ أنَّ بريرة أُمِرَت أن تعتدَّ، وأمَّا إنَّها أُمِرت بثلاث حِيَضٍ، فهذا لو صحَّ لم نَعْدُه إلى غيره، ولبادرنا إليه.

قالوا: وأمَّا استدلالكم بشأن الاستبراء، فلا ريب أنَّ الصَّحيح كونه بحيضةٍ، وهو ظاهر النَّصِّ الصَّحيح، فلا وجهَ للاشتغال بالتَّعلُّل بالقول: .....

(4)

وإنَّها تُستَبرأ بطهرٍ، فإنَّه خلاف ظاهر نصِّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وخلافُ القول الصَّحيح من قولي الشَّافعيِّ، وخلاف قول جمهور الأمَّة، فالوجه العدول إلى الفرق بين البابين، فنقول: الفرق بينهما ما تقدَّم أنَّ العدَّة وجبت قضاءً لحقِّ الزَّوج، فاختصَّت بزمان حقِّه وهو الطُّهر، وبأنَّها تتكرَّر، فيُعلَم

(1)

«مسند إسحاق» (749) والطبراني في «الأوسط» (2/ 322) والدارقطني (4/ 450) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 742)، وتقدم تخريج الحديث (ص 235 - 236).

(2)

ابن ماجه (2077).

(3)

كذا في النسخ.

(4)

هنا بياض في جميع النسخ.

ص: 259

منها البراءة بواسطة الحيض، بخلاف الاستبراء.

قولكم: لو كانت الأقراء الأطهار لم يحصل بالقرء الأوَّل دلالةٌ؛ لأنَّه لو جامعها ثمَّ طلَّقها فيه حسبت بقيَّته قرءًا، ومعلومٌ قطعًا أنَّ هذا الطُّهر لا يدلُّ على شيءٍ.

فجوابه أنَّها إذا طهرت بعد طهرين كاملين، صحَّت دلالته بانضمامه إليهما.

قولكم: إنَّ الحدود والعلامات والأدلَّة إنَّما تحصل بالأمور الظَّاهرة

إلى آخره.

جوابه: أنَّ الطُّهر إذا احتوَشَه دمانِ كان كذلك، وإذا لم يكن قبله دمٌ ولا بعده دمٌ، فهذا لا يُعتدُّ به البتَّة.

قالوا: ويزيد ما ذهبنا إليه قوَّةً أنَّ القرء هو الجمع، وزمان الطُّهر أولى به، فإنَّه حينئذٍ يجتمع الحيض، وإنَّما يخرج بعد جمعه.

قالوا: وإدخال الهاء

(1)

في (ثلاثة قروءٍ) يدلُّ على أنَّ القرء مذكَّرٌ، وهو الطُّهر، ولو كان للحيض لكان بغير تاءٍ

(2)

؛ لأنَّ واحدها حيضةٌ.

فهذا ما احتجَّ به أرباب هذا القول استدلالًا وجوابًا، وهذا موضعٌ لا يمكن فيه التَّوسُّط بين الفريقين، إذ لا توسُّطَ بين القولين، فلا بدَّ من التَّحيُّز إلى إحدى الفئتين، ونحن متحيِّزون في هذه المسألة إلى أكابر الصِّحابة، وقائلون فيها بقولهم: إنَّ القرء الحيض، وقد تقدَّم الاستدلال على صحَّة هذا

(1)

في المطبوع: «التاء» . والمثبت من النسخ.

(2)

كذا في جميع النسخ هنا.

ص: 260

القول، فنجيب عمَّا عارض به أرباب القول الآخر، ليتبيَّن ما رجَّحناه، وباللَّه التَّوفيق.

فنقول: أمَّا استدلالكم بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فهو إلى أن يكون حجَّةً عليكم أقربُ منه

(1)

إلى أن يكون حجَّةً لكم، فإنَّ المراد طلاقها قبل العدَّة ضرورةً، إذ لا يمكن حملُ الآية على الطَّلاق في العدَّة، فإنَّ هذا ــ مع تضمُّنه لكون اللَّام للظَّرفيَّة بمعنى «في» ــ فاسدٌ معنًى، إذ لا يمكن إيقاع الطَّلاق في العدَّة، فإنَّه سببها، والسَّبب يتقدَّم الحكم، وإذا تقرَّر ذلك فمن قال: الأقراء الحيض، فقد عمل بالآية، وطلَّق قبل العدَّة.

فإن قلتم: ومن قال إنَّها الأطهار فالعدَّة تتعقَّب الطَّلاق، فقد طلَّق قبل العدَّة.

قلنا: فبطل احتجاجكم حينئذٍ، وصحَّ أنَّ المراد الطَّلاق قبل العدَّة لا فيها، وكلا الأمرين يصحُّ أن يراد بالآية، لكنَّ إرادة الحيض أرجح، وبيانه أنَّ العِدَّة فِعْلةٌ ممَّا يُعدُّ يعني معدودةً؛ لأنَّها تُعدُّ وتُحصى، كقوله:{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]، والطُّهر الذي قبل الحيضة ممَّا يُعدُّ ويُحصى، فهو من العدَّة، وليس الكلام فيه، وإنَّما الكلام في أمرٍ آخر، وهو دخوله في مسمَّى القروء الثَّلاثة المذكورة في الآية أم لا؟ فلو كان النَّصُّ: فطلِّقوهنَّ لقروئهنَّ، لكان فيه تعلُّقٌ، فهنا أمران، قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، والثَّاني: قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، ولا ريبَ أنَّ القائل: افعلْ كذا لثلاثٍ بقين من الشَّهر، إنَّما يكون المأمور ممتثلًا إذا فعله قبل مجيء الثَّلاث، وكذلك إذا

(1)

«منه» ليست في ص، د، م.

ص: 261

قال: فعلتُه لثلاثٍ مضين من الشَّهر، إنَّما يصدق إذا فعله بعد مضيِّ الثَّلاث، وهو بخلاف حرف الظَّرف الذي هو «في» ، فإنَّه إذا قال: فعلتُه في ثلاثٍ بقين، كان الفعل واقعًا في نفس الثَّلاث.

وهاهنا نكتةٌ حسنةٌ، وهي أنَّهم يقولون: فعلتُه لثلاث ليالٍ خلون أو بقين من الشَّهر، وفعلتُه في الثَّاني أو الثَّالث من الشَّهر، أو في ثانيه أو ثالثه، فمتى أرادوا مضيَّ الزَّمان أو استقبالَه أَ تَوا باللَّام، ومتى أرادوا وقوع الفعل فيه نفسه

(1)

أَ تَوا بـ «في» . وسرُّ ذلك أنَّهم إذا أرادوا مضيَّ زمن الفعل أو استقباله أتوا باللام الدَّالَّة على اختصاص العدد الذي يلفظون به بما مضى أو بما يستقبل، وإذا أرادوا وقوع الفعل في ذلك الزَّمان أتوا بالأداة المعيَّنة له، وهي أداة «في». وهذا خيرٌ من قول كثيرٍ من النُّحاة: إنَّ اللَّام تكون بمعنى «قبل» في قولهم: كتبته لثلاثٍ بقين، وطلِّقوهنَّ لعدَّتهنَّ. وبمعنى «بعد» ، كقولهم: لثلاثٍ خلون. وبمعنى «في» ، كقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقوله:{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25].

والتَّحقيق: أنَّ اللَّام على بابها للاختصاص بالوقت المذكور، كأنَّهم جعلوا الفعل للزَّمان المذكور اتِّساعًا لاختصاصه به، فكأنَّه له، فتأمَّلْه.

وفرقٌ آخر: وهو أنَّك إذا أتيت باللَّام لم يكن الزِّمان المذكور بعده إلا ماضيًا أو منتظرًا، ومتى أتيت بـ «في» لم يكن الزَّمان المجرور بها إلا مقارنًا للفعل. وإذا تقرَّر هذا من قواعد العربيَّة، فقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(1)

«نفسه» من م، ز.

ص: 262

معناه: لاستقبال عدَّتهنَّ، لا فيها، وإذا كانت العدَّة الَّتي يطلَّق لها النِّساء مستقبلةً بعد الطَّلاق، فالمستقبل بعدها إنَّما هو الحيض، فإنَّ الطَّاهر لا تستقبل الطُّهر إذ هي فيه، وإنَّما تستقبل الحيض بعد حالها الَّتي هي فيها. هذا المعروف لغةً وعقلًا وعرفًا، فإنَّه لا يقال لمن هو في عافيةٍ: هو مستقبِلٌ العافيةَ، ولا لمن هو في أمنٍ: هو مستقبِلٌ الأمنَ، ولا لمن هو في قبضِ مُغَلِّه وإحرازِه: هو مستقبِلٌ المغلَّ، وإنَّما المعهود لغةً وعرفًا أن يَستقبل الشَّيءَ من هو على حالٍ ضدَّه، وهذا أظهر من أن نُكثِر شواهده.

فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون من طلَّق في الحيض مطلِّقًا للعدَّة عند من يقول: الأقراء الأطهار؛ لأنَّها تستقبل طهرها بعد حالها الَّتي هي فيها.

قلنا: نعم يلزمهم ذلك، فإنَّه لو كان أوَّل العدَّة الَّتي يُطلِّق لها المرأةَ هو الطُّهر لكان إذا طلَّقها في أثناء الحيض مطلِّقًا للعدَّة؛ لأنَّها تستقبل الطُّهر بعد ذلك الطَّلاق.

فإن قيل: اللَّام بمعنى «في» ، والمعنى: فطلِّقوهنَّ في عدَّتهنَّ، وهذا إنَّما يمكن إذا طلَّقها في الطُّهر، بخلاف ما إذا طلَّقها في الحيض.

قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أنَّ الأصل عدم الاشتراك في الحروف، والأصل إفراد كلِّ حرفٍ بمعناه، فدعوى خلاف ذلك مردودةٌ بالأصل.

الثَّاني: أنَّه يلزم منه أن يكون بعض العدَّة ظرفًا لزمن الطَّلاق، فيكون الطَّلاق واقعًا في نفس العدَّة ضرورةَ صحَّة الظَّرفيَّة، كما إذا قلتَ: فعلتُه في يوم الخميس، بل الغالب في الاستعمال من هذا أن يكون بعض الظَّرف سابقًا

ص: 263

على الفعل، ولا ريبَ في امتناع هذا، فإنَّ العدَّة تتعقَّب الطَّلاق، ولا تُقارِنه ولا تتقدَّم عليه.

قالوا: ولو سلَّمنا أنَّ اللَّام بمعنى «في» ، وساعد على ذلك قراءة

(1)

ابن عمر وغيره: (فطلِّقوهنَّ في قُبُلِ عدَّتهنَّ)، فإنَّه لا يلزم من ذلك أن يكون القرء هو الطُّهر، فإنَّ القرء حينئذٍ يكون هو الحيض، وهو المعدود المحسوب، وما قبله من الطُّهر يدخل في حكمه تبعًا وضمنًا لوجهين:

أحدهما: أنَّ من ضرورة الحيض أن يتقدَّمه

(2)

طهرٌ، فإذا قيل: تربَّصي

(3)

ثلاث حيضٍ، وهي في أثناء الطُّهر كان ذلك الطُّهر من مدَّة التَّربُّص، كما لو قيل لرجلٍ: أقِمْ هاهنا ثلاثة أيَّامٍ، وهو في أثناء ليلةٍ، فإنَّه يدخل بقيَّة تلك اللَّيلة في اليوم الذي يليها، كما تدخل ليلة اليومين الآخرين في يومَيْهما. ولو قيل له في النَّهار: أقِمْ ثلاثَ ليالٍ، دخل تمام ذلك النَّهار تبعًا للَّيلة الَّتي تليه.

الثَّاني: أنَّ الحيض إنَّما يتمُّ باجتماع الدَّم في الرَّحم قبله، فكان الطُّهر مقدِّمةً وسببًا لوجود

(4)

الحيض، فإذا عُلِّق الحكم بالحيض فمن لوازمه ما لا يوجد الحيض إلا بوجوده. وبهذا يظهر أنَّ هذا أبلغ من الأيَّام واللَّيالي، فإنَّ اللَّيل والنَّهار متلازمان، وليس أحدهما سببًا لوجود الآخر، وهنا الطُّهر

(1)

د، ص، م:«فرواه» .

(2)

د: «يتقدم» .

(3)

ز، ح، م:«تربصن» .

(4)

ز، ح، م:«وسبب الوجود» .

ص: 264

سببًا

(1)

لاجتماع الدَّم في الرَّحم، فقوله سبحانه:{لِعِدَّتِهِنَّ} أي لاستقبال العدَّة الَّتي تتربَّصها، وهي تتربَّص ثلاث حيضٍ بالأطهار الَّتي قبلها. فإذا طُلِّقت في أثناء الطُّهر فقد طُلِّقت في الوقت الذي تستقبل فيه العدَّة المحسوبة، وتلك العدَّة هي الحيض بما قبلها من الأطهار، بخلاف ما لو طُلِّقت في أثناء حيضةٍ، فإنَّها لم تُطلَّق لعدَّةٍ تحسبها؛ لأنَّ بقيَّة ذاك الحيض ليس هو العدَّة الَّتي تعتدُّ بها المرأة أصلًا ولا تبعًا لأصلٍ، وإنَّما تُسمَّى عدَّةً لأنَّها تحبس فيها عن الأزواج.

إذا عُرِف هذا فقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، يجوز أن تكون لام التَّعليل، أي: لأجل يوم القيامة. وقد قيل: إنَّ القسط منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ له، أي نضعها لأجل القسط، وقد استوفى شروط نصبه. وأمَّا قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فليست اللَّام بمعنى «في» قطعًا، بل قيل: إنَّها لام التَّعليل، أي: لأجل دلوك الشَّمس، وقيل: إنَّها بمعنى «بعد» ، فإنَّه ليس المراد إقامتها وقتَ الدُّلوك، سواءٌ فُسِّر بالزَّوال أو الغروب، وإنَّما يؤمر بالصَّلاة بعده، ويستحيل حملُ آية العدَّة على ذلك، وهذا

(2)

يستحيل حمل آية العدَّة عليه، إذ يصير المعنى: فطلِّقوهنَّ بعد عدَّتهنَّ. فلم يبقَ إلا أن يكون المعنى: فطلِّقوهنَّ لاستقبال عدَّتهنَّ، ومعلومٌ أنَّها إذا طُلِّقت طاهرًا استقبلت العدَّة بالحيض. ولو كانت الأقراء الأطهار لكانت السُّنَّة أن تُطلَّق حائضًا لتستقبل العدَّة بالأطهار، فبيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

كذا في النسخ منصوبًا.

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وهكذا» .

ص: 265

أنَّ العدَّة الَّتي أمر الله أن تُطلَّق لها النِّساء هي أن تُطلَّق طاهرًا لتستقبل عدَّتها بعد الطَّلاق.

فإن قيل: فإذا جعلنا الأقراء الأطهار استقبلت عدَّتها بعد الطَّلاق بلا فصلٍ، ومن جعلها الحيض لم تستقبلها على قوله حتَّى ينقضي الطُّهر.

قيل: كلام الرَّبِّ تبارك وتعالى لا بدَّ أن يحمل على فائدةٍ مستقلَّةٍ، وحمل الآية على معنى: فطلِّقوهنَّ طلاقًا تكون العدَّة بعده لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى: فطلِّقوهنَّ طلاقًا يستقبلن فيه العدَّة، لا يستقبلن فيه طهرًا لا يُعتدُّ به، فإنَّها إذا طُلِّقت حائضًا استقبلت طهرًا لا يُعتدُّ به، فلم تُطلَّق لاستقبال العدَّة. ويوضِّحه قراءة من قرأ:(فطلِّقوهنَّ في قُبُلِ عدِّتهنَّ)، وقُبُلُ العدَّة هو الوقت الذي يكون بين يدي العدَّة تستقبل به، كقبل الحائض

(1)

. يوضِّحه أنَّه لو أريد ما ذكروه لقيل: في أوَّل عدَّتهنَّ، فالفرق بين قُبُلِ الشَّيء وأوَّلِه.

وأمَّا قولكم: لو كانت القروء هي الحيض لكان قد طلَّقها قبل العدَّة.

قلنا: أجل، وهذا هو الواجب عقلًا وشرعًا، فإنَّ العدَّة لا تفارق الطَّلاق ولا تسبقه، بل يجب تأخُّرها

(2)

عنه

(3)

.

قولكم: فكان ذلك تطويلًا عليها، كما لو طلَّقها في الحيض.

قيل: هذا مبنيٌّ على أنَّ العلَّة في تحريم طلاق الحائض خشيةُ التَّطويل

(1)

ص، د، م:«الحائط» .

(2)

ص، د:«تأخيرها» .

(3)

د، ز، م:«عنها» .

ص: 266

عليها، وكثيرٌ من الفقهاء لا يرضَون

(1)

هذا التَّعليل، ويُفسِدونه بأنَّها لو رضيت بالمطلّق فيه واختارت التَّطويل لم يُبَحْ له، ولو كان ذلك لأجل التَّطويل لأُبيحَ

(2)

له برضاها، كما يُباح إسقاط الرَّجعة الذي هو حقُّ المطلِّق بتراضيهما بإسقاطها بالعوض اتِّفاقًا، وبدونه في أحد القولين، وهو مذهب أبي حنيفة، وإحدى الرِّوايتين عن أحمد ومالك، ويقولون: إنَّما حرم طلاقها في الحيض لأنَّه طلَّقها في وقت رغبته عنها. ولو سلَّمنا أنَّ التَّحريم لأجل التَّطويل عليها فالتَّطويل

(3)

المضرُّ أن يطلِّقها حائضًا، فتنتظر مُضِيَّ الحيضة والطُّهر الذي يليها، ثمَّ تأخذ في العدَّة، فلا تكون مستقبلةً لعدَّتها بالطَّلاق، وأمَّا إذا طُلِّقت طاهرًا فإنَّها تستقبل العدَّة عقيبَ انقضاء الطُّهر، فلا يتحقَّق التَّطويل.

وقولكم: إنَّ القرء مشتقٌّ من الجمع، وإنَّما يجمع الحيض في زمن الطُّهر.

عنه ثلاثة أجوبةٍ، أحدها: أنَّ هذا ممنوعٌ، والَّذي هو مشتقٌّ من الجمع إنَّما هو من بنات الياء من المعتلِّ، من قَرى يَقْرِي كقضى يقضي، والقرء من المهموز من بنات الهمز، من قرأ يقرأ كنَحَر ينْحَر، وهما أصلان مختلفان، فإنَّهم يقولون: قريتُ الماء في الحوض أَقرِيه، أي: جمعتُه، ومنه سُمِّيت القرية، ومنه قرية النَّمل: للبيت الذي تجتمع فيه؛ لأنَّه يَقْرِيها، أي يضمُّها ويجمعها. وأمَّا المهموز فإنَّه من الظُّهور والخروج على وجه التَّوقيت

(1)

د: «لا يوهون» .

(2)

في المطبوع: «لم تبح» ، خطأ يقلب المعنى. والمثبت من النسخ.

(3)

«عليها فالتطويل» ساقطة من د.

ص: 267

والتَّحديد، ومنه قرأتُ القرآن؛ لأنَّ قارئه يُظهِره ويُخرِجه مقدارًا محدودًا لا يزيد ولا ينقص، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، ففرِّق بين الجمع والقرآن، ولو كانا واحدًا لكان تكريرًا محضًا. ولهذا قال ابن عبَّاسٍ:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإذا بيَّنَّاه

(1)

، فجعل قراءته نفسَ إظهاره وبيانه، لا كما زعم أبو عبيدة

(2)

أنَّ القرآن مشتقٌّ من الجمع، ومنه قولهم

(3)

: ما قَرأتْ هذه النَّاقة سَلًى قطُّ، وما قَرأتْ جنينًا، هو من هذا الباب، أي ما ولدتْه وما أخرجتْه وأظهرتْه. ومنه: فلانٌ يُقرِئك ويُقرِئ عليك السَّلامَ، هو من الظُّهور والبيان. ومنه قولهم: قرأت المرأة حيضةً أو حيضتين، أي: حاضتهما؛ لأنَّ الحيض ظهور ما كان كامنًا، كظهور الجنين. ومنه: قَرْء الثُّريَّا، وقَرْء الرِّيح، وهو الوقت الذي يُظهِر المطر والرِّيح، فإنَّهما يظهران في وقتٍ مخصوصٍ، وقد ذكر هذا الاشتقاق المصنِّفون في كتب الاشتقاق، وذكره أبو عمرو وغيره

(4)

، ولا ريب أنَّ هذا المعنى في الحيض أظهر منه في الطُّهر.

قولكم: إنَّ عائشة قالت: القروء الأطهار، والنِّساء أعلم بهذا من الرِّجال.

فالجواب أن يقال: من جعل النِّساء أعلمَ بمراد الله من كتابه وأفهمَ لمعناه من أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعمر بن الخطَّاب، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وعبد الله بن مسعودٍ، وأبي الدَّرداء، وأكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ونزولُ

(1)

أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 90) وابن أبي حاتم (19602).

(2)

في «مجاز القرآن» (2/ 278).

(3)

ص، د، ز:«قوله» .

(4)

انظر: «لسان العرب» و «تاج العروس» (قرأ).

ص: 268

ذلك في شأنهنَّ لا يدلُّ على أنَّهنَّ أعلمُ به من الرِّجال، وإلَّا كانت كلُّ آيةٍ نزلت في النِّساء تكون النِّساء أعلمَ بها من الرِّجال، ويجب على الرِّجال تقليدهنَّ في معناها وحكمها، فيَكُنَّ أعلم من الرِّجال بآية الرَّضاع، وآيةِ الحيض، وتحريم وطء الحائض، وآية عدَّة المتوفَّى عنها، وآية الحمل والفصال ومدَّتهما، وآية تحريم إبداء الزِّينة إلا لمن ذكر فيها، وغير ذلك من الآيات الَّتي تتعلَّق بهنَّ، وفي شأنهنَّ نزلت، ويجب على الرِّجال تقليدهنَّ في حكم هذه الآيات ومعناها، وهذا لا سبيل إليه البتَّةَ.

كيف ومدار العلم بالوحي على الفهم والمعرفة ووفورِ العقل، والرِّجالُ أحقُّ بهذا من النِّساء، وأوفرُ نصيبًا

(1)

منه، بل لا يكاد يختلف الرِّجال والنِّساء في مسألةٍ إلا والصَّواب في جانب الرِّجال. وكيف يقال: إذا اختلفت عائشة وعمر بن الخطَّاب وعليُّ بن أبي طالبٍ وعبد الله بن مسعودٍ في مسألةٍ: إنَّ الأخذ بقول عائشة أولى؟ وهل الأولى إلا قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصِّدِّيق معهما كما حُكِي عنه فذلك القول ممَّا لا يعدوه الصَّواب البتَّةَ، فإنَّ النَّقل عن عمر وعلي ثابتٌ، وأمَّا عن الصِّدِّيق ففيه غرابةٌ، ويكفينا قولُ جماعةٍ من الصَّحابة فيهم مثل عمر وعلي وابن مسعودٍ وأبي الدَّرداء وأبي موسى، فكيف يُقدَّم قول أمِّ المؤمنين رضي الله عنها وفهمها على أمثال هؤلاء؟

ثمَّ يقال: فهذه عائشة رضي الله عنها ترى رضاع اللبن

(2)

ينشر الحرمة، ويُثبِت المحرميَّة، ومعها جماعةٌ من الصَّحابة، وقد خالفها غيرها من الصَّحابة، وهي روت حديث التَّحريم به، فهلَّا قلتم: النِّساء أعلمُ بهذا من

(1)

ص، د:«نصيب» .

(2)

في المطبوع: «الكبير» خلاف النسخ.

ص: 269

الرِّجال، ورجَّحتم قولها على قول من خالفها؟

ونقول لأصحاب مالك: وهذه عائشة لا ترى التَّحريم إلا بخمس رضعاتٍ، ومعها جماعةٌ من الصَّحابة، وروت فيه حديثين، فهلَّا قلتم: النِّساء أعلم بهذا من الرِّجال، وقدَّمتم قولها على قول من خالفها؟

فإن قلتم: هذا حكمٌ يتعدَّى إلى الرِّجال، فيستوي النِّساء معهم فيه.

قيل: ويتعدَّى

(1)

حكم العدَّة إلى الرِّجال مثله، فيجب أن يستوي النِّساء معهم

(2)

فيه، وهذا لا خفاءَ به. ثمَّ يُرجَّح قول الرِّجال

(3)

في هذه المسألة بأنَّ

(4)

رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لواحدٍ من هذا الحزب بأنَّ الله ضرب الحقَّ على لسانه وقلبه

(5)

. وقد وافق ربَّه تبارك وتعالى في عدَّة مواضع قال فيها قولًا، فنزل القرآن بمثل ما قال

(6)

، وأعطاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فضلَ إنائه في النَّوم وأوَّله بالعلم

(7)

، وشهد له بأنَّه مُحدَّثٌ مُلْهَمٌ

(8)

، فإذا لم يكن بدٌّ من التَّقليد فتقليدُه

(1)

د: «وتعدى» .

(2)

في النسخ: «معهن» .

(3)

«الرجال» ليست في د.

(4)

ص، د، ز:«لأن» .

(5)

أخرجه أحمد (5697)، والترمذي (3682)، وابن حبان (6895)، والحاكم (3/ 93) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» .

(6)

أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399) من حديث عمر رضي الله عنه.

(7)

أخرجه البخاري (82)، ومسلم (2391) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(8)

أخرجه البخاري (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 270

أولى، وإن كانت الحجَّة هي الَّتي تَفْصِل بين المتنازعين فتحكيمها هو الواجب.

قولكم: إنَّ من قال: الأقراء الحيض، لا يقولون بقول علي وابن مسعودٍ، ولا بقول عائشة، فإنَّ عليًّا يقول: هو أحقُّ برجعتها ما لم تغتسل، وأنتم لا تقولون بواحدٍ من القولين= فهذا غايته أن يكون تناقضًا ممَّن لا يقول بذلك، كأصحاب أبي حنيفة، فتلك شَكاةٌ ظاهرٌ

(1)

عارُها

(2)

عمَّن يقول بقول عليٍّ، وهو الإمام أحمد وأصحابه، كما تقدَّم حكاية ذلك، فإنَّ العدَّة تبقى عنده إلى أن تغتسل كما قاله عليٌّ ومن وافقه، ونحن نعتذر عمَّن يقول: الأقراء الحيض في ذلك، ولا يقول: هو أحقُّ بها ما لم تغتسل، فإنَّه وافق من يقول: الأقراء الحيض في ذلك، وخالفه في توقُّف

(3)

انقضائها على الغسل لمعارضٍ أوجب له مخالفته، كما يفعله سائر الفقهاء. ولو ذهبنا نعدُّ ما تصرَّفتم فيه هذا التَّصرُّف بعينه لطالَ

(4)

. فإن كان هذا المعارض صحيحًا لم يكن تناقضًا منهم، وإن لم يكن صحيحًا لم يكن ضعفُ قولِهم في إحدى المسألتين عندهم بمانعٍ لهم من موافقتهم لهم في المسألة الأخرى، فإنَّ موافقة

(5)

أكابر الصَّحابة ــ وفيهم مَن فيهم مِن الخلفاء الرَّاشدين ــ في معظم قولهم خيرٌ وأولى من مخالفتهم في قولهم جميعه وإلغائه بحيث لا يُعتَبر البتَّةَ.

(1)

م، ح:«ظاهرا» .

(2)

نظر المؤلف إلى قول أبي ذؤيب الهذلي:

وعَيَّرها الواشون أنّي أحبُّها

وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها

(3)

ص، د، ح:«موقف» .

(4)

«لطال» ساقطة من المطبوع.

(5)

م، ص، د:«موافقته» .

ص: 271

قالوا: ثمَّ لم نخالفهم في

(1)

توقُّف انقضائها على الغسل، بل قلنا: لا تنقضي حتَّى تغتسل أو يمضيَ عليها وقت صلاةٍ، فوافقناهم في قولهم بالغسل، وزدنا عليهم انقضاءها بمُضِيِّ وقت الصَّلاة؛ لأنَّها صارت في حكم الطَّاهرات بدليل استقرار الصَّلاة في ذمَّتها، فأين المخالفة الصَّريحة للخلفاء الرَّاشدين؟

قولكم: لا نجد في كتاب الله للغسل معنًى.

فيقال: كتاب الله تعالى لم يتعرَّض للغسل بنفيٍ ولا إثباتٍ، وإنَّما علَّق الحلَّ والبينونة بانقضاء الأجل. وقد اختلف السَّلف والخلف فيما ينقضي به الأجل، فقيل: بانقطاع الحيض. وقيل: بالغسل منه

(2)

. وقيل: بالغسل أو مُضِيِّ صلاةٍ أو انقطاعه لأكثره. وقيل: بالطَّعن في الحيضة الثَّالثة.

وحجَّة من وقفه على الغسل قضاء الخلفاء الرَّاشدين، قال الإمام أحمد: عمر وعلي وابن مسعودٍ يقولون: حتَّى تغتسل من الحيضة الثَّالثة. قالوا: وهم أعلم بكتاب اللَّه تعالى، وحدودِ ما أنزل على رسوله، وقد روي هذا المذهب عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق وعثمان بن عفَّان وأبي موسى وعبادة وأبي الدَّرداء، حكاه صاحب «المغني»

(3)

وغيره عنهم. ومن هاهنا قيل: إنَّ مذهب الصِّدِّيق ومن ذكر معه أنَّ الأقراء: الحيض.

قالوا: وهذا القول له حظٌّ وافرٌ من الفقه، فإنَّ المرأة إذا انقطع حيضها

(1)

م، ز:«من» .

(2)

«وقيل: بالغسل منه» ليست في ص، د.

(3)

(11/ 204).

ص: 272

صارت في حكم الطَّاهرات من وجهٍ، وفي حكم الحُيَّض من وجهٍ، والوجوه الَّتي هي فيها في حكم الحُيَّض أكثر من الوجوه الَّتي هي فيها في حكم الطَّاهرات، فإنَّها في حكم الطَّاهرات في صحَّة الصِّيام ووجوب الصَّلاة، وفي حكم الحيَّض في تحريم قراءة القرآن عند من حرَّمه على الحائض، واللُّبث في المسجد، والطَّواف بالبيت، وتحريم الوطء، وتحريم الطَّلاق في أحد القولين، فاحتاط الخلفاء الرَّاشدون وأكابر الصَّحابة للنِّكاح، ولم يُخرِجوها منه بعد ثبوته إلا بيقينٍ

(1)

لا ريبَ فيه، وهو ثبوت حكم الطَّاهرات في حقِّها من كلِّ وجهٍ، إزالةً لليقين بيقينٍ مثله، إذ ليس جعلُها حائضًا في تلك الأحكام أولى من جعْلِها حائضًا في بقاء الزَّوجيَّة وثبوت الرَّجعة، وهذا من أدقِّ الفقه وألطفه مأخذًا.

قالوا: وأمَّا قول الأعشى:

لما ضَاع فيها من قُروءِ نسائكا

(2)

فغايته استعمال القروء في الطُّهر، ونحن لا نُنكره.

قولكم: إنَّ الطُّهر أسبق

(3)

من الحيض، فكان أولى بالاسم= فترجيحٌ طريفٌ

(4)

جدًّا، فمن أين يكون أولى بالاسم إذا كان سابقًا في الوجود؟ ثمَّ ذلك السَّابق لا يُسمَّى قرءًا ما لم يسبقه دمٌ عند جمهور من يقول: الأقراء

(1)

في المطبوع: «بقيد» خلاف النسخ.

(2)

ص، د، ز:«نسائك» . وهو شطر بيت تقدم تخريجه.

(3)

ص، د:«اشتق» .

(4)

م: «ظريف» .

ص: 273