المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

والسُّكنى، فروى حمَّاد بن سلمة عن حمَّاد بن أبي سليمان

(1)

أنَّه أخبر إبراهيم النَّخعيَّ بحديث الشَّعبيِّ عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إنَّ عمر أخبر بقولها، فقال: لسنا بتاركي آيةٍ من كتاب الله وقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لقول امرأةٍ لعلَّها أوهمت، سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:«لها السُّكنى والنَّفقة» . ذكره أبو محمد في «المحلَّى»

(2)

، فهذا نصٌّ صريحٌ يجب تقديمه على حديث فاطمة لجلالة راويه

(3)

، وتركِ إنكار الصَّحابة عليه، وموافقتِه لكتاب اللَّه.

‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

وحاصلها أربعةٌ.

أحدها: أنَّ راويتها امرأةٌ لم تأتِ بشاهدين يُتابِعانها على حديثها.

الثَّاني: أنَّ روايتها تضمَّنت مخالفة القرآن.

الثَّالث: أنَّ خروجها من المنزل لم يكن لأنَّه لا حقَّ لها في السُّكنى، بل لأذاها أهلَ زوجها بلسانها.

الرَّابع: معارضة روايتها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب.

ونحن نُبيِّن ما في كلِّ واحدٍ من هذه الأمور الأربعة بحول الله وقوَّته، هذا مع أنَّ في بعضها من الانقطاع وفي بعضها من الضَّعف وفي بعضها من البطلان ما سنُنبِّه عليه، وبعضها صحيحٌ عمَّن نُسِب إليه بلا شكٍّ.

(1)

د، ص:«بن أبي سلمة» ، تحريف.

(2)

(10/ 298، 299)، وأعله بالانقطاع بين إبراهيم وعمر.

(3)

في المطبوع: «رواته» خلاف النسخ. والمقصود به هنا عمر رضي الله عنه.

ص: 133

فأمَّا المطعن الأوَّل: وهو كون الرَّاوي امرأةً، فمطعنٌ باطلٌ بلا شكٍّ، والعلماء قاطبةً على خلافه، والمحتجُّ بهذا من أتباع الأئمَّة أوَّلُ مبطلٍ له ومخالفٍ له، فإنَّهم لا يختلفون في أنَّ السُّنن تُؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرَّجل. هذا، وكم من سنَّةٍ تلقَّتْها الأمةُ بالقبول عن امرأةٍ واحدةٍ من الصَّحابة، وهذه مسانيد نساء الصَّحابة بأيدي النَّاس لا تشاء أن ترى فيها سنَّةً تفرَّدت بها امرأةٌ منهنَّ إلا رأيتَها، فما ذنبُ فاطمة دون نساء العالمين؟

وقد أخذ النَّاس بحديث فُريعة بنت مالك بن سِنان أخت أبي سعيد في اعتداد المتوفَّى عنها في بيت زوجها

(1)

، وليست فاطمة بدونها علمًا وجلالةً وثقةً وأمانةً، بل هي أفقه منها بلا شكٍّ، فإنَّ الفُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر، وأمَّا شهرة فاطمة ودعاؤها من نازعها من الصَّحابة إلى كتاب الله ومناظرتها على ذلك فأمرٌ مشهورٌ، وكانت أسعدَ بهذه المناظرة ممَّن خالفها كما مضى تقريره.

وقد كان الصَّحابة يختلفون في الشَّيء، فتَروي لهم إحدى أمَّهات المؤمنين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فيأخذون به ويرجعون إليه ويتركون ما عندهم له، وإنَّما فُضِلَتْ

(2)

فاطمة بنت قيس بكونهنَّ أزواجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلَّا فهي

(3)

(1)

أخرجه أحمد (27087)، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (3532)، والحاكم (2/ 226)، وابن حبان (4292)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

(2)

كذا في النسخ، والمعنى: أن فاطمة كانت مفضولة بمقابل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي .... وفي المطبوع:«فضلن على» .

(3)

م، ح:«فهن» ، خطأ.

ص: 134

من المهاجرات الأول، وقد رَضِيَها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِبِّه وابنِ حِبِّه أسامة بن زيدٍ، وكان الذي خطبها له.

وإذا شئتَ أن تعرف مقدار حفظها وعلمها فاعرِفْه من حديث الدَّجَّال الطَّويل الذي حدَّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فوعَتْه فاطمة وحفظته، وأدَّته كما سمعتْه، ولم ينكره عليها أحدٌ مع طوله وغرابته

(1)

. فكيف بقصَّةٍ جرتْ لها وهي سببُها، وخاصمَتْ فيها وحُكِم فيها بكلمتين، وهي: لا نفقةَ لكِ ولا سكنى. والعادة تُوجِب حفظَ مثل هذا وذكره، واحتمال النِّسيان فيه أمرٌ مشتركٌ بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمر رضي الله عنه قد نسي تيمُّم الجنب، وذكَّره عمَّار بن ياسرٍ أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالتَّيمُّم من الجنابة، فلم يذكره عمر، وأقام على أنَّ الجنب لا يُصلِّي حتَّى يجد الماء

(2)

.

ونسي رضي الله عنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] حتَّى ذكَّرتْه به امرأةٌ، فرجع إلى قولها

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (2942).

(2)

أخرجه البخاري (347)، ومسلم (368).

(3)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 195)، ومن طريقه الطحاوي في «مشكل الآثار» (13/ 57)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 233)، وقال البيهقي:«هذا منقطع» ، وفيه مجالد بن سعيد، متكلم فيه من قبل حفظه. وقد أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (757 - المقصد العلي)، متصلًا من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر، وجوَّدَ ابن كثير إسناد أبي يعلى في «تفسيره» (2/ 244). وأخرجه عبد الرزاق (10420) مختصرًا من طريق أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عمر، واختلف في سماع أبي عبد الرحمن من عمر، وأصل الأثر عند أبي داود (2106)، والنسائي (3349)، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (1927) دون زيادة قصة اعتراض المرأة على عمر.

ص: 135

ونسي قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] حتَّى ذُكِّر به

(1)

.

فإن كان جواز النِّسيان على الرَّاوي يوجب سقوطَ روايته سقطتْ رواية عمر الَّتي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يوجب سقوطَ روايته بطلت المعارضة بذلك، فهي باطلةٌ على التَّقديرين، ولو رُدَّت السُّنن بمثل هذا لم يبقَ بأيدي الأمَّة منها إلا اليسير.

ثمَّ كيف يعارِض خبر فاطمة ويطعن فيه بمثل هذا مَن يرى قبول خبر الواحد العدل ولا يشترط للرِّواية نصابًا؟ وعمر رضي الله عنه أصابه في هذا مثلُ ما أصابه في ردِّ خبر أبي موسى في الاستئذان حتَّى

(2)

شهد له أبو سعيد

(3)

، وردِّ خبر المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتَّى شهد له محمد بن مَسْلمة

(4)

. وهذا كان تثبُّتًا

(5)

منه رضي الله عنه حتَّى لا يركب النَّاس الصَّعب والذَّلولَ في الرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلَّا فقد قَبِلَ خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابيٌّ

(6)

، وقَبِلَ لعائشة عدَّة أخبارٍ تفرَّدت بها.

(1)

أخرجه البخاري (3667، 3668) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

د، ص، ح:«حين» .

(3)

أخرجه البخاري (2062) ومسلم (2153).

(4)

أخرجه البخاري (6905، 6906) ومسلم (1689) من حديث المسور بن مخرمة.

(5)

في المطبوع: «تثبيتا» خلاف النسخ.

(6)

أخرجه أحمد (15745)، وأبو داود (2927)، والترمذي (1415، 2110)، والحاكم (4/ 38)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

ص: 136

وبالجملة فلا يقول أحدٌ: إنَّه لا يُقبل قول الرَّاوي الثِّقة العدل حتَّى يشهد له شاهدان، لا سيَّما إن كان من الصَّحابة.

فصل

وأمَّا المطعن الثَّاني: وهو أنَّ روايتها مخالفةٌ للقرآن، فنجيب بجوابين مجملٍ ومفصَّلٍ:

أمَّا المجمل فنقول: لو كانت مخالِفةً كما ذكرتم لكانت مخالفةً لعمومه، فتكون تخصيصًا للعامِّ، فحكمها حكم تخصيصِ قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بالكافر والرَّقيق والقاتل، وتخصيصِ قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بتحريم

(1)

الجمع بين المرأة وعمَّتها وبينها وبين خالتها، ونظائره، فإنَّ القرآن لم يَخُصَّ البائنَ بأنَّها لا تُخرَج ولا تَخْرج وبأنَّها تسكن من حيث يسكن زوجها، بل إمَّا أن يَعُمَّها ويَعُمَّ الرَّجعيَّة وإمَّا أن يخصَّ الرَّجعيَّة. فإن عمَّ النَّوعين فالحديث مخصِّصٌ لعمومه، وإن خصَّ الرَّجعيَّاتِ ــ وهو الصَّواب، للسِّياق الذي مَن تدبَّره وتأمَّله قطع بأنَّه في الرَّجعيَّات، من عدَّة أوجهٍ قد أشرنا إليها ــ فالحديث ليس مخالفًا لكتاب الله بل موافقٌ له، ولو ذُكِّر أمير المؤمنين رضي الله عنه ذلك

(2)

لكان أوَّل راجعٍ إليه، فإنَّ الرَّجل كما يَذْهَل عن النَّصِّ يَذْهَل عن دلالته وسياقه وما يقترن به ممَّا يُبيِّن المرادَ منه، وكثيرًا ما يَذْهَل عن دخول الواقعة المعيَّنة تحت النَّصِّ العامِّ واندراجِه تحتها، فهذا كثيرٌ جدًّا، والتَّفطُّنُ له من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء من

(1)

م، ح، ز:«تحريم» .

(2)

في المطبوع: «بذلك» خلاف النسخ.

ص: 137

عباده. ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من ذلك بالمنزلة الَّتي لا تُجهَل، ولا يَستَوفيها

(1)

عبارةٌ، غير أنَّ النِّسيان والذُّهول عُرضَةُ الإنسان

(2)

، وإنَّما الفاضل العالم من إذا ذُكِّر ذَكر ورجع.

فحديث فاطمة مع كتاب الله على ثلاثة أطباقٍ لا يخرج عن واحدٍ منها: إمَّا أن يكون تخصيصًا لعامِّه. الثَّاني: أن يكون بيانًا لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثَّالث: أن يكون بيانًا لما أريد به، وموافقًا لما أَرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه، وهذا هو الصَّواب، فهو إذن موافقٌ له لا مخالفٌ، وهكذا ينبغي قطعًا، ومعاذَ الله أن يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخالف كتاب الله تعالى أو يعارضه.

وقد أنكر الإمام أحمد هذا من قول عمر، وجعل يتبسَّم ويقول: وأين في كتاب الله إيجاب النَّفقة والسُّكنى للمطلَّقة ثلاثًا

(3)

؟ وأنكرتْه قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتاب اللَّه

(4)

، قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، فأيُّ أمرٍ يحدُث بعد الثَّلاث؟ وقد تقدَّم أنَّ قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] يشهد بأنَّ الآيات كلَّها في الرَّجعيَّات.

(1)

في المطبوع: «ولا تستغرقها» . د: «يستغرها» . ح وهامش م: «يشعر فيها» . والمثبت من م.

(2)

في المطبوع: «عرضة للإنسان» خلاف النسخ.

(3)

ينظر: «الآحاد والمثاني» لابن أبي عاصم (6/ 9).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 138

فصل

وأمَّا المطعن الثَّالث: وهو أنَّ خروجها لم يكن إلا لفُحْشٍ في لسانها، فما أبردَه من تأويلٍ وأسْمَجَه! فإنَّ المرأة من خيار الصَّحابة وفُضَلائهم، ومن المهاجرات الأُول، وممَّن لا يَحملها رقَّةُ الدِّين وقلَّة التَّقوى على فحشٍ يوجب إخراجها من دارها، وأن تُمنَع حقَّها الذي جعله الله لها ونهى عن إضاعته. ويا عجبًا! كيف لم ينكر عليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الفحش، ويقول لها: اتَّقي

(1)

الله وكُفِّي لسانك عن أذى أهل زوجك واستقرِّي في مسكنك؟ وكيف يَعدِلُ عن هذا إلى قوله: «لا سكنى لك ولا نفقة» وإلى قوله: «إنَّما النَّفقة والسُّكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعةٌ» ؟ فيا عجبًا! كيف يُترَك هذا المانع الصَّريح الذي خرج من بين شَفَتَي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويُعلَّل بأمرٍ موهومٍ لم يُعلِّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم البتَّةَ، ولا أشار إليه ولا نبَّه عليه؟ هذا من المحال البيِّن. ثمَّ لو كانت فاحشة اللِّسان ــ وقد أعاذها الله من ذلك ــ لقال لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وسمعت وأطاعت: كُفِّي لسانَكِ حتَّى تنقضي عدَّتك، وكان مَن دونها يسمع ويطيع، لئلَّا تخرج

(2)

من سكنه.

فصل

وأمَّا المطعن الرَّابع: وهو معارضة روايتها برواية عمر، فهذه المعارضة تُورَد من وجهين، أحدهما قوله:«لا نَدَعُ كتابَ ربِّنا وسنَّة نبيِّنا» ، وأنَّ هذا من حكم المرفوع. والثَّاني قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السُّكنى

(1)

في النسخ: «اتق» .

(2)

ص، د، ح:«يخرج» .

ص: 139

والنَّفقة».

ونحن نقول: قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصحُّ عنه أبدًا. قال الإمام أحمد: لا يصحُّ ذلك عن عمر

(1)

. وقاله

(2)

أبو الحسن الدَّارقطنيُّ

(3)

. بل السُّنَّة بيد فاطمة بنت قيس قطعًا، ومن له إلمامٌ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة الله

(4)

أنَّه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ للمطلَّقة ثلاثًا السُّكنى والنَّفقة، وعمر كان أتقى لله وأحرصَ على تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه السُّنَّة عنده ثمَّ لا يرويها أصلًا ولا يبيِّنها ولا يُبلِّغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا حديث حمَّاد عن حمَّاد عن إبراهيم [عن عمر]

(5)

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السُّكنى والنَّفقة»

(6)

= فنحن نشهد بالله شهادةً نُسأَل عنها إذا لقيناه أنَّ هذا كذبٌ على عمر وكذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن لا يَحمِل الإنسانَ

(7)

فرطُ الانتصار للمذاهب والتَّعصُّب لها

(8)

على معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة الصَّريحة بالكذب البحت، فلو يكون هذا عند

(1)

«مسائل الإمام أحمد» برواية أبي داود (1917).

(2)

في المطبوع: «وقال» ، خطأ. فليس ما بعده مقول له.

(3)

«العلل» (164).

(4)

ص، ز:«شهادة لله» .

(5)

ما بين المعكوفتين ليس في النسخ.

(6)

تقدم تخريجه (ص 133).

(7)

«الإنسان» ليست في ح، ز، م.

(8)

«لها» ليست في د، ص.

ص: 140

عمر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لخرِسَتْ فاطمة وذووها ولم يَنْبِزوا

(1)

بكلمةٍ، ولا دعتْ فاطمة إلى المناظرة، ولا احتيجَ إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها، ولَمَا فات هذا الحديثُ أئمَّةَ الحديث والمصنِّفين في السُّنن والأحكام، المنتصرين للسُّنن فقط لا لمذهبٍ ولا لرجلٍ.

هذا قبلَ أن نصلَ به إلى إبراهيم، ولو قُدِّر وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم لانقطعَ نُخاعُه

(2)

؛ فإنَّ إبراهيم لم يُولد إلا بعد موت عمر بسنين، فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيمَ عن عمر وحسَّنَّا به الظَّنَّ، كان قد روى له قول عمر بالمعنى، وظنَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النَّفقة والسُّكنى للمطلَّقة، حتَّى قال عمر: لا نَدَعُ كتاب ربِّنا لقول امرأةٍ، فقد يكون الرَّجل صالحًا ويكون مغفَّلًا ليس تحمُّلُ الحديث وحفظه وروايته من شأنه، وباللَّه التَّوفيق.

وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيَّب فذكر له ميمون خبر فاطمة فقال سعيد: تلك امرأةٌ فَتنتِ النَّاسَ، فقال له ميمون: لئن كانت إنَّما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت النَّاس، وإنَّ لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً، مع أنَّها أحرم النَّاس عليه، ليس لها عليه

(3)

رجعةٌ ولا بينهما ميراثٌ. انتهى

(4)

.

(1)

كذا في جميع النسخ بالزاي. والمعروف في اللغة بالسين.

(2)

«لانقطع نخاعه» ليست في ص، د.

(3)

«عليه» ليست في د.

(4)

تقدم تخريجه (ص 131)، وذكره المؤلف هنا بالمعنى.

ص: 141

ولا يُعلَم أحدٌ

(1)

من الفقهاء إلا وقد احتجَّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام:

فمالك والشَّافعيِّ وجمهور الأمَّة يحتجُّون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلًا

(2)

.

والشَّافعيُّ نفسه احتجَّ به على جواز جمع الثَّلاث؛ لأنَّ في بعض ألفاظه: «فطلَّقني ثلاثًا»

(3)

، وقد بيَّنَّا أنَّه إنَّما طلَّقها آخر ثلاثٍ كما أخبرت به عن نفسها.

واحتجَّ به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرِّجال.

واحتجَّ به الأئمَّة كلُّهم على جواز خطبة الرَّجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سَكنتْ إلى الخاطب الأوَّل.

واحتجُّوا به على جواز بيان ما في الرَّجل إذا كان على وجه النَّصيحة لمن استشاره أن يُزوِّجه أو يعامله أو يسافر معه، وأنَّ ذلك ليس بغيبةٍ.

واحتجُّوا به على جواز نكاح القرشيَّة من غير القرشيِّ.

واحتجُّوا به على وقوع الطَّلاق في حال غَيبة أحد الزَّوجين عن الآخر، وأنَّه لا يُشترط حضوره ومواجهته به.

واحتجُّوا به على جواز التَّعريض بخطبة المعتدَّة البائن.

(1)

ز: «ولا نعلم أحدًا» .

(2)

أي غير حامل.

(3)

أخرجه أحمد (27322)، والترمذي، (1180)، والنسائي (3244)، وابن ماجه (2024)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن» .

ص: 142

وكانت هذه الأحكام كلُّها حاصلةً ببركة روايتها وصدق حديثها، فاستنبطتها الأمَّة منها وعملت بها، فما بالُ روايتها تُرَدُّ في حكمٍ واحدٍ من أحكام هذا الحديث وتُقبَل فيما عداه؟! فإن كانت حفظتْه

(1)

قُبِلتْ في جميعه، وإن لم تكن حفظتْه وجب أن لا يُقبل في شيءٍ من أحكامه، وباللَّه التَّوفيق.

فإن قيل: بقي عليكم شيءٌ واحدٌ، وهو أنَّ قوله سبحانه:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إنَّما هو في البوائن لا في الرَّجعيَّات، بدليل قوله عقيبه:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، فهذا في البائن؛ إذ لو كانت رجعيَّةً لما قيَّد النَّفقة عليها بالحمل ولكان عديمَ التَّأثير، فإنَّها تستحقُّها حائلًا كانت أو حاملًا، والظَّاهر أنَّ الضَّمير في {أَسْكِنُوهُنَّ} هو والضَّمير في قوله:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} واحدٌ.

فالجواب: أنَّ مُورِد هذا السُّؤال إمَّا أن يكون من الموجبين النَّفقةَ والسُّكنى، أو ممَّن يوجب السُّكنى دون النَّفقة، فإن كان الأوَّل: فالآية على زعمه حجَّةٌ عليه؛ لأنَّه سبحانه شرطَ في إيجاب النَّفقة عليهنَّ كونَهنَّ حواملَ، والحكم المعلَّق على الشَّرط ينتفي عند انتفائه، فدلَّ على أنَّ البائن الحائل لا نفقة لها.

فإن قال: فهذه دلالةُ المفهوم

(2)

ولا نقول بها

(3)

.

(1)

د: «حفظت» . و «قبلت» ساقطة منها.

(2)

في المطبوع: «دلالة على المفهوم» ، خطأ.

(3)

في المطبوع: «يقول» .

ص: 143

قيل: ليس ذلك من دلالة المفهوم، بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطًا.

وإن كان ممن يوجب السُّكنى وحدها فيقال له: ليس في الآية ضميرٌ واحدٌ يخُصُّ البائنَ، بل ضمائرها نوعان: نوعٌ يخُصُّ الرَّجعيَّة قطعًا، كقوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، ونوعٌ يحتمل أن يكون للبائن وأن يكون للرَّجعيَّة وأن يكون لهما، وهو قوله:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وقوله {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، فحملُه على الرَّجعيَّة هو المتعيِّن لتتَّحد الضَّمائر ومفسِّرها، فلو حُمِل على غيرها لزِمَ اختلاف الضَّمائر ومفسِّرها

(1)

، وهو خلاف الأصل، والحملُ على الأصل أولى.

فإن قيل: فما الفائدة في تخصيص نفقة الرَّجعيَّة بكونها حاملًا؟

قيل: ليس في الآية ما يقتضي أنَّه لا نفقة للرَّجعيَّة الحائل، بل الرَّجعيَّة نوعان قد بيَّن الله حكمهما في كتابه: حائلٌ، فلها النَّفقة بعقد الزَّوجيَّة، إذْ حكمها حكم الأزواج. وحاملٌ، فلها النَّفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النَّفقة بعد الوضع نفقةَ قريبٍ لا نفقة زوجٍ، فيخالف حالُها قبل الوضع حالَها بعده، بأنَّ الزَّوج ينفق عليها وحده إذا كانت حاملًا، فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطِّفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطِّفل، فإنَّه في

(1)

«ومفسرها» ليست في د، ص.

ص: 144