المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

قراره، ومعلومٌ أنَّ ماء البئر لا يفارقها، فهو كالبِركة الَّتي اتُّخِذت مَقرًّا للبئر سواءٌ، ولا فرقَ بينهما، وقد تقدَّم من نصوص أحمد ما يدلُّ على المنع من بيع هذا.

وأمَّا الدَّليل فما تقدَّم من النُّصوص الَّتي سُقناها، وقوله في الحديث الذي رواه البخاريُّ

(1)

في وعيد الثَّلاثة: «ورجلٌ على فَضْلِ ماءٍ يَمنعُه ابنَ السَّبيل» ، ولم يفرِّق بين كون ذلك الفضل في أرضه المختصَّة به أو في الأرض المباحة. وقوله:«النَّاس شركاء في ثلاثٍ»

(2)

، ولم يشترط في هذه الشَّركة كون مقرِّه مشتركًا. وقوله وقد سئل: ما الشَّيء الذي لا يحلُّ منعه؟ فقال: «الماء»

(3)

، ولم يشترط كون مقرِّه مباحًا. فهذا مقتضى الدَّليل في هذه المسألة أثرًا ونظرًا، والله أعلم.

‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

في «السُّنن» و «المسند»

(4)

من حديث حكيم بن حِزامٍ قال: قلت يا

(1)

برقم (2358)، وقد تقدم (ص 485).

(2)

تقدم تخريجه (ص 484 - 485) بلفظ: «المسلمون شركاء

».

(3)

تقدم تخريجه (ص 485).

(4)

أخرجه أحمد (15311) والترمذي (1232) والنسائي (4613) وأبو داود (3503) وابن ماجه (2187) كلهم من طريق يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام به، ويوسف لم يسمع من حكيم، وقد ورد متصلًا من طريق أخرى عند أحمد في «المسند» (15316) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 313) عن يحيى بن أبي كثير عن يعلى بن حكيم عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام به، وقال الترمذي:«حديث حسن» ، وقال البيهقي:«هذا إسناد حسن متصل» .

ص: 496

رسول اللَّه، يأتيني الرَّجل يسألني البيعَ ليس عندي، فأبيعه منه، ثمَّ أبتاعه من السُّوق، فقال:«لا تَبِعْ ما ليس عندك» . قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

وفي «السُّنن»

(1)

نحوه من حديث ابن عمرو لفظُه: «لا يحلُّ سَلَفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيعٍ، ولا رِبْحُ ما لم يُضْمَنْ، ولا بيعُ ما ليس عندك» . قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

فاتَّفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمَّن نوعًا من الغَرَر، فإنَّه إذا باعه شيئًا معيَّنًا وليس في مِلْكه، ثمَّ مضى

(2)

ليشتريه ويُسلِّمه له، كان متردِّدًا بين الحصول وعدمه، فكان غَررًا يُشبِه القمار، فنُهِي عنه.

وقد ظنَّ بعض النَّاس أنَّه إنَّما نُهِي عنه لكونه معدومًا، فقال: لا يصحُّ بيع المعدوم، ورَوَوا في ذلك حديثًا أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم

(3)

. وهذا الحديث لا يُعرف في شيءٍ من كتب الحديث، ولا له أصلٌ، والظَّاهر أنَّه مرويٌّ بالمعنى من هذا الحديث، وغَلِطَ من ظنَّ أنَّ معناهما واحدٌ، وأنَّ هذا المنهيَّ عنه في حديث حَكيم وابن عمرو لا يلزم أن يكون معدومًا، وإن كان فهو معدومٌ خاصٌّ، فهو كبيع حبل الحبلة، وهو معدومٌ يتضمَّن غررًا وتردُّدًا في حصوله.

(1)

أخرجه أبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي (4631) وابن ماجه (2188) و أحمد (6671) والحاكم (2/ 21)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

(2)

د، ز:«يمضي» .

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، والظاهر أنه كما قال المصنف.

ص: 497

والمعدوم ثلاثة أقسامٍ:

معدومٌ موصوفٌ مضمونٌ

(1)

في الذِّمَّة، فهذا يجوز بيعه اتِّفاقًا، وإن كان أبو حنيفة شرطَ في هذا النَّوع أن يكون وقتَ العقد في الوجود من حيث الجملة، وهذا هو السَّلَم، وسيأتي ذكره إن شاء الله.

والثَّاني: معدومٌ تبعٌ للموجود، وإن كان أكثر منه، وهو نوعان: نوعٌ متَّفقٌ عليه، ونوعٌ مختلفٌ فيه:

فالمتَّفق عليه بيع الثِّمار بعد بدوِّ صلاح ثمرةٍ واحدةٍ منها، فاتَّفق النَّاس على جواز بيع ذلك الصِّنف الذي بدا صلاح واحدةٍ منه، وإن كانت بقيَّة أجزاء الثِّمار معدومةً وقتَ العقد، ولكن جاز بيعها تبعًا للموجود، وقد يكون المعدوم متَّصلًا بالموجود، وقد يكون أعيانًا أُخَر منفصلةً عن الموجود لم تُخْلَق بعدُ.

والنَّوع المختلف فيه كبيع المَقَاثِئ والمَباطِخ إذا طابتْ، فهذا فيه قولان، أحدهما: أنَّه يجوز بيعها جملةً، ويأخذها المشتري شيئًا بعد شيءٍ، كما جرت به العادة، ويجري مجرى بيع الثَّمرة بعد بدوِّ صلاحها. وهذا هو الصَّحيح من القولين الذي استمَّر

(2)

عليه عمل الأمَّة، ولا غِنى لهم عنه، ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ولا سنَّةٌ ولا إجماعٌ، ولا أثرٌ ولا قياسٌ صحيحٌ، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة

(3)

.

(1)

«مضمون» ساقطة من المطبوع.

(2)

في المطبوع: «استقر» خلاف النسخ.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 547، 29/ 227، 484 - 485، 487 - 489).

ص: 498

والَّذين قالوا: لا يباع إلا لقطةً لقطةً لا ينضبط قولهم شرعًا ولا عرفًا، ويتعذَّر العمل به غالبًا، وإن أمكن ففي غاية العسر، ويؤدِّي إلى التَّنازع والاختلاف الشَّديد، فإنَّ المشتري يريد أخذ الصِّغار والكبار، ولا سيَّما إذا كان صغاره أطيبَ من كباره، والبائع لا يؤثر ذلك، وليس في ذلك عرفٌ منضبطٌ، وقد تكون المَقْثَأة كبيرة، فلا يستوعب المشتري اللُّقطة الظَّاهرة حتَّى يَحدُث فيها لقطة أخرى، ويختلط المبيع بغيره، ويتعذَّر تمييزه، ويتعذَّر أو يتعسَّر على صاحب المَقْثأة أن يحضر لها كلَّ وقتٍ من يشتري ما تجدَّد فيها، ويُفرِده بعقدٍ، وما كان هكذا فإنَّ الشَّريعة لا تأتي به، فهذا غير مقدورٍ ولا مشروعٍ، ولو أُلزِم النَّاس به لفسدت أموالهم وتعطَّلت مصالحهم. ثمَّ إنَّه يتضمَّن التَّفريقَ بين متماثلين من كلِّ الوجوه، فإنَّ بدوَّ الصَّلاح في المقاثئ بمنزلة بدوِّ الصَّلاح في الثِّمار، وتلاحقُ أجزائها كتلاحق أجزاء الثِّمار

(1)

، وجَعْلُ ما لم يُخْلَق منها تبعًا لما خُلِق في الصُّورتين واحدٌ، فالتَّفريق بينهما تفريقٌ بين متماثلين.

ولمَّا رأى هؤلاء ما في بيعها لقطةً لقطةً من الفساد والتَّعذُّر قالوا: طريق رفْعِ ذلك بأن يبيع أصلها معها. ويقال: إذا كان بيعها جملةً مُفسِدةً عندكم، وهو بيع معدومٍ وغررٍ، فإنَّ هذا لا يرتفع ببيع العروق الَّتي لا قيمة لها، وإن كان لها قيمةٌ فيسيرةٌ جدًّا بالنِّسبة إلى الثَّمن المبذول، وليس للمشتري قصدٌ في العروق، ولا يدفع فيها الجملة من المال، وما الذي حصل ببيع العروق معها من المصلحة لهما حتَّى شرط؟ وإذا لم يكن بيع أصول الثِّمار شرطًا في

(1)

ص، د، م:«النار» .

ص: 499

صحَّة بيع الثَّمرة المتلاحقة كالتِّين والتُّوت وهي مقصودةٌ، فكيف يكون بيع أصول المقاثئ شرطًا في صحَّة بيعها وهي غير مقصودةٍ؟

والمقصود أنَّ هذا المعدوم يجوز بيعه تبعًا للموجود، ولا تأثيرَ للمعدوم، وهذا كالمنافع المعقود عليها في الإجارة، فإنَّها معدومةٌ، وهي مورد العقد؛ لأنَّها لا يمكن أن تَحدُث دفعةً واحدةً، والشَّرائع مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدمِ الحجر عليهم فيما لا بدَّ لهم منه، ولا تتمُّ مصالحهم في معاشهم إلا به.

فصل

الثَّالث: معدومٌ لا يُدرى يَحصلُ أو لا يحصل، ولا ثقةَ لبائعه بحصوله، بل يكون المشتري منه على خطرٍ، فهذا الذي منع الشَّارع بيعَه لا لكونه معدومًا، بل لكونه غررًا، فمنه صورة النَّهي الَّتي تضمَّنها حديث حكيم بن حزامٍ وابن عمرو

(1)

، فإنَّ البائع إذا باع ما ليس في مِلكه، ولا له قدرةٌ على تسليمه؛ ليذهب ويُحصِّله ويسلِّمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهًا بالقِمار والمخاطرة من غير حاجةٍ بهما إلى هذا العقد، ولا تتوقَّف مصلحتهما عليه. وكذلك بيع حبل الحبلة، وهو بيع حمل ما تحمل ناقته، ولا يختصُّ هذا النَّهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمل ناقته أو بقرته أو أمته كان من بيوع الجاهليَّة الَّتي يعتادونها.

وقد ظنَّ طائفةٌ أنَّ بيع السَّلَم مخصوصٌ من النَّهي عن بيع ما ليس عنده، وليس كما ظنُّوه، فإنَّ السَّلَم يرد على أمرٍ مضمونٍ في الذِّمَّة، ثابتٍ فيها،

(1)

في النسخ: «وابن عمر» ، خطأ.

ص: 500

مقدورٍ على تسليمه عند محلِّه، ولا غررَ

(1)

في ذلك ولا خطرَ، بل هو جعل المال في ذمَّة المُسْلَم إليه، يجب عليه أداؤه عند محلِّه، فهو يُشبِه تأجيل الثَّمن في ذمَّة المشتري، فهذا شَغْلٌ لذمَّة المشتري بالثَّمن المضمون، وهذا شَغْلٌ لذمَّة البائع بالمبيع المضمون، فهذا لونٌ وبيعُ ما ليس عنده لونٌ. ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث فصلًا مفيدًا، وهذه سياقته:

قال

(2)

: للنَّاس في هذا الحديث أقوالٌ:

قيل: المراد بذلك أن يبيع السِّلعة المعيَّنة الَّتي هي مال الغير، فيبيعها، ثمَّ يتملَّكها، ويُسلِّمها إلى المشتري. والمعنى: لا تبِعْ ما ليس عندك من الأعيان، ونقل هذا التَّفسير عن الشَّافعيِّ، فإنَّه يجوِّز السَّلم الحالَّ، وقد لا يكون عند المُسلَم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان ليكون بيع ما في الذِّمَّة غيرَ داخلٍ تحته، سواءٌ كان حالًّا أو مؤجَّلًا.

وقال آخرون: هذا ضعيفٌ جدًّا، فإنَّ حكيم بن حزامٍ ما كان يبيع شيئًا معيَّنًا هو مِلْكٌ لغيره، ثمَّ ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون: نطلب عبدَ فلانٍ أو دارَ فلانٍ، وإنَّما الذي يفعله النَّاس أن يأتيه الطَّالب فيقول: أريد طعامًا كذا وكذا، أو ثوبًا كذا وكذا، أو غير ذلك، فيقول: نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثمَّ يذهب، فيُحصِّله من عند غيره إذا لم يكن عنده. هذا هو الذي يفعله من يفعله من النَّاس، ولهذا قال: يأتيني فيطلب منِّي البيعَ ليس عندي، لم يقل: يطلب منِّي مما هو مملوكٌ لغيري، فالطَّالب طلب الجنسَ لم يطلب شيئًا معيَّنًا، كما جرت عادة الطَّالب لما يُؤكل ويُلبس ويُركب، إنَّما

(1)

ص، د، ح:«ولا يجوز» ، تحريف.

(2)

لم أجد كلامه في كتبه المطبوعة.

ص: 501

يطلب جنس ذلك، ليس له غرضٌ في مِلْك شخصٍ بعينه دون ما سواه، ممَّا هو مثله أو خيرٌ منه. ولهذا صار الإمام أحمد وطائفةٌ إلى القول الثَّاني، فقالوا: الحديث على عمومه يقتضي النَّهي عن بيع ما في الذِّمَّة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النَّهي عن السَّلَم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديث بجواز السَّلَم المؤجَّل، فبقي هذا في السَّلَم الحالِّ.

والقول الثَّالث ــ وهو أظهر الأقوال ــ: إنَّ الحديث لم يُرَدْ به النَّهي عن السَّلم المؤجَّل ولا الحالِّ مطلقًا، وإنَّما أريد به أن يبيع ما في الذِّمَّة ممَّا ليس هو مملوكًا له

(1)

، ولا يقدر على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يملكه ويَضْمَنه ويقدر على تسليمه، فهو نهيٌ عن السَّلم الحالِّ إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمَّته شيءٌ حالٌّ

(2)

، ويربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل، فهو من نوع الغرر والمخاطرة، وإذا كان السَّلَم حالًّا وجب عليه تسليمه في الحالِّ، وليس بقادرٍ على ذلك، ويربح فيه على أن يملكه ويضمنه، وربَّما أحاله على الذي ابتاع منه، فلا يكون قد عمل شيئًا، بل أكل المال بالباطل. وعلى هذا فالسَّلَم الحالُّ إذا كان المسلم إليه قادرًا على الإعطاء، فهو جائزٌ، وهو كما قال الشَّافعيُّ رحمه الله : إذا جاز المؤجَّل فالحالُّ أولى بالجواز.

وممَّا يبيِّن أنَّ هذا مراد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ السَّائل إنَّما سأله عن بيع شيءٍ مطلقٍ في الذِّمَّة كما تقدَّم، لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك، فبيع المعيَّن الذي لم يملكه أولى بالمنع، وإذا كان إنَّما سأله عن

(1)

«له» ليست في ص، د، ز.

(2)

ص، د:«شيئًا حالًّا» .

ص: 502

بيع شيءٍ في الذِّمَّة، فإنَّما سأله عن بيعه حالًّا، فإنَّه قال: أبيعُه، ثمَّ أذهبُ فأبتاعُه، فقال له:«لا تَبِعْ ما ليس عندك» ، فلو كان السَّلف الحالُّ لا يجوز مطلقًا لقال له ابتداءً: لا تبِعْ هذا، سواءٌ كان عنده أو ليس عنده، فإنَّ صاحب هذا القول يقول: بيعُ ما في الذِّمَّة حالًّا لا يجوز ولو كان عنده ما يُسلِّمه، بل إذا كان عنده فإنَّه لا يبيع إلا معيَّنًا، لا يبيع شيئًا في الذِّمَّة، فلمَّا لم ينهَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقًا، بل قال:«لا تَبِعْ ما ليس عندك» = عُلِم أنَّه صلى الله عليه وسلم فرَّق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذِّمَّة.

ومن تدبَّر هذا تبيَّن له أنَّ القول الثَّالث هو الصَّواب.

وإذا قيل: المؤخَّر

(1)

جائزٌ

(2)

للضَّرورة، وهو بيع المفاليس؛ لأنَّ البائع احتاج أن يبيع إلى أجلٍ، وليس عنده ما يبيعه الآن، فأمَّا الحالُّ فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه، فلا حاجة إلى بيع موصوفٍ في الذِّمَّة، أو يبيع عينًا غائبةً موصوفةً لا يبيع شيئًا مطلقًا.

قيل: لا نسلِّم أنَّ السَّلَم على خلاف الأصل، بل تأجيل المبيع كتأجيل الثَّمن، كلاهما من مصالح العالم.

والنَّاس لهم في مبيع الغائب ثلاثة أقوالٍ: منهم من يُجوِّزه مطلقًا، ولا يجوِّزه معيَّنًا موصوفًا، كالشَّافعيِّ في المشهور عنه. ومنهم من يُجوِّزه معيَّنًا موصوفًا، ولا يُجوِّزه مطلقًا، كأحمد وأبي حنيفة. والأظهر جواز هذا وهذا، ويقال للشَّافعيِّ مثل ما قال هو لغيره: إذا جاز بيع المطلق الموصوف في

(1)

في المطبوع: «إن بيع المؤجل» . والمثبت من النسخ.

(2)

ص، د:«جاز» .

ص: 503

الذِّمَّة، فالمعيَّن الموصوف أولى بالجواز، فإنَّ المطلق فيه من الغرر والخطر والجهل أكثر ممَّا في المعيَّن، فإذا جاز بيع حنطةٍ مطلقةٍ بالصِّفة، فجواز بيعها معيَّنةً بالصِّفة أولى، بل لو بِيعَ المعيَّنُ بلا صفةٍ

(1)

، وللمشتري الخيارُ إذا رآه، جاز أيضًا، كما نقل عن الصَّحابة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الرِّوايتين، وقد جوَّز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَم الحالَّ بلفظ البيع.

والتَّحقيق: أنَّه لا فرقَ بين لفظٍ ولفظٍ، فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرَّد ألفاظها، ونفس بيع الأعيان الحاضرة الَّتي يتأخَّر قبضُها يُسمَّى سَلَفًا إذا عجَّل له الثَّمن، كما في «المسند»

(2)

عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى أن يُسلِم في حائطٍ بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه. فإذا بدا صلاحه وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسقٍ من تمر هذا الحائط، جاز، كما يجوز أن يقول: ابتعتُ عشرة أوسقٍ من هذه الصُّبرة، ولكنَّ الثَّمن يتأخَّر قبضه إلى كمال صلاحه، فإذا عجَّل له الثَّمن قيل له: سلفٌ؛ لأنَّ السَّلف هو الذي تقدَّم، والسَّالف المتقدِّم، قال تعالى:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56]. والعرب تُسمِّي أوَّل الرَّواحل: السَّالفة، ومنه قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الحقي بسلفنا الخَيرِ

(3)

عثمان بن مظعونٍ»

(4)

،

وقول الصِّدِّيق: لأقاتلنَّهم

(1)

م: «بالصفة» . والمثبت من بقية النسخ.

(2)

لم أقف عليه في «المسند» بهذا اللفظ، والذي في «المسند» (5067): نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه. وأخرجه أبو داود (3467) وابن ماجه (2284)، وفي إسناده جهالة، فإن كان هو المراد فللحديث أصل في البخاري (2247) ومسلم (1534).

(3)

في المطبوع: «ألحق بسلفنا الصالح» خلاف النسخ والرواية.

(4)

أخرجه أحمد (2127) وأبو داود الطيالسي (2817) وابن سعد في «الطبقات» (3/ 398) والطبراني في «الكبير» (9/ 37) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وله شاهد من حديث أنس عند الطبراني في «الأوسط» (6/ 46)، ومن حديث الأسود بن سريع عند البخاري في «التاريخ الكبير» (7/ 378) والطبراني في «الكبير» (1/ 286)، وفي أسانيدها كلام ..

ص: 504

حتَّى تنفرد سَالِفتي

(1)

. وهي العنق.

ولفظ «السَّلف» يتناول القرض والسَّلَم؛ لأنَّ المُقرِض أيضًا سلَّف القرض، أي قدَّمه، ومنه هذا الحديث:«لا يحلُّ سَلَفٌ وبيعٌ»

(2)

، ومنه الحديث الآخر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استسلف بَكْرًا، وقضى جملًا رَباعيًا

(3)

. والَّذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الرِّبح، وهو تاجرٌ، فيُسلِف بسعرٍ، ثمَّ يذهب فيشتري بمثل ذلك الثَّمن، فإنَّه يكون قد أتعب نفسه لغيره بلا فائدةٍ، وإنَّما يفعل هذا من يتوكَّل لغيره فيقول: أعطني، فأنا أشتري لك

(4)

هذه السِّلعة، فيكون أمينًا. أمَّا أنَّه يبيعها بثمنٍ معيَّنٍ يقبضه، ثمَّ يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثَّمن من غير فائدةٍ في الحال، فهذا لا يفعله عاقلٌ. نعم إذا كان هناك تاجرٌ، فقد يكون محتاجًا إلى الثَّمن فيستسلفه، وينتفع به مدَّةً إلى أن تَحصُل تلك السِّلعة، فهذا يقع في السَّلم المؤجَّل، وهو الذي يُسمَّى بيع المفاليس، فإنَّه يكون محتاجًا إلى الثَّمن وهو مفلسٌ، وليس عنده في الحال ما يبيعه، ولكن له

(1)

أخرجه البخاري (2731) ضمن قصة الحديبية من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه من حديث عبد الله بن عمرو (ص 497).

(3)

أخرجه مالك (1988) ومن طريقه مسلم (1600) من حديث أبي رافع رضي الله عنه.

(4)

د، ص:«كل» .

ص: 505

ما ينتظره من مُغَلٍّ أو غيره، فيبيعه في الذِّمَّة، فهذا يفعل مع الحاجة، ولا يفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتَّجر بالثَّمن في الحال، ويرى أنَّه يحصل به من الرِّبح أكثر ممَّا يفوت بالسَّلم، فإنَّ المستسلف يبيع السِّلعة في الحال بدون ما تساوي نقدًا، والمُسْلِف يرى أنه يشتريها إلى أجلٍ بأرخصَ ممَّا يكون عند حصولها.

وإلَّا فلو علم أنَّها عند طرد الأصل تباع بمثل رأس مال السَّلَم لم يُسلِّم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدةٍ، وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضًا، ولا يجعل ذلك سلمًا إلا إذا ظنَّ أنَّه في الحال أرخص منه وقتَ حلول الأجل. فالسَّلم المؤجَّل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثَّمن، وأمَّا الحالُّ فإن كان عنده فقد يكون محتاجًا إلى الثَّمن، فيبيع ما عنده معيَّنًا تارةً وموصوفًا أخرى، وأمَّا إذا لم يكن عنده، فإنَّه لا يفعله إلا إذا قصد التِّجارة والرِّبح، فيبيعه بسعرٍ، ويشتريه بأرخص منه.

ثمَّ هذا الذي قدَّره قد يحصل كما قدَّره، وقد لا يحصل، وقد لا تحصلُ

(1)

له تلك السِّلعة الَّتي تسلَّف فيها إلا بثمنٍ أغلى ممَّا تسلَّف فيندم، وإن حصلت بسعرٍ أرخص من ذلك قدَّم السَّلف، إذ كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الثَّمن، فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق والبعير الشَّارد يُباع بدون ثمنه، فإن حصل ندِمَ البائع، وإن لم يحصل ندِمَ المشتري. وكذلك بيع حبل الحبلة، وبيع الملاقيح والمضامين، ونحو ذلك ممَّا قد يحصل وقد لا يحصل، فبائع ما ليس عنده من جنس بائع الغرر، الذي قد يحصل وقد لا يحصل، وهو من جنس القمار والميسر.

(1)

«وقد لا تحصل» ليست في المطبوع.

ص: 506

والمخاطرة مخاطرتان:

مخاطرة التِّجارة، وهو أن يشتري السِّلعة بقصد أن يبيعها بربحٍ

(1)

، ويتوكَّل على الله في ذلك.

والخطر الثَّاني: الميسر الذي يتضمَّن أكلَ المال بالباطل، فهذا الذي حرَّمه الله ورسوله، مثل بيع الملامسة والمنابذة

(2)

، وحبل الحبلة

(3)

، والملاقيح والمضامين

(4)

، وبيع الثِّمار قبل بدوِّ صلاحها

(5)

. ومن هذا النَّوع يكون أحدهما قد قمرَ الآخر وظلمه، ويتظلَّم أحدهما من الآخر، بخلاف التَّاجر الذي قد اشترى السِّلعة ثمَّ بعد هذا نقصَ سعرُها، فهذا من الله سبحانه، ليس لأحدٍ فيه حيلةٌ، ولا يتظلَّم مثل هذا من البائع.

(1)

في المطبوع: «ويربح» .

(2)

أخرجه البخاري (584) ومسلم (1511) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (2143) ومسلم (1514) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

روي النهي عن بيع الملاقيح والمضامين من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، أخرج حديث ابن عباس الطبراني في «الكبير» (11/ 230) والبزار في «مسنده» (4828)، وفي إسناده إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة وهو ضعيف. وحديث أبي هريرة أخرجه البزار في «مسنده» (7785)، من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا، وخالفه مالك كما في «الموطأ» (1909)، ومعمر عند عبد الرزاق (14137)، والأوزاعي عند المروزي في «السنة» (212)، فرووه مرسلًا عن ابن المسيب، وصحح إرساله عن سعيد الدارقطنيُّ في «العلل» (1705)، وهي مراسيل تقوِّي الحديث، لا سيما مع إجماع العلماء على عدم جواز هذا البيع، كما نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك عن ابن المنذر في «المغني» (4/ 157).

(5)

أخرجه البخاري (1486) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 507