المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد مَن أحقُّ به في الحضانة

- ‌ذِكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات

- ‌ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها

- ‌فصلفي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب الله أنهلا نفقة للمبتوتة ولا سكنى

- ‌ذِكر المطاعن التي طُعِن بها على حديث فاطمة بنت قيسقديمًا وحديثًا

- ‌ا طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب

- ‌ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق لكتاب اللهمن وجوب النفقة للأقارب

- ‌ذِكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعةوما يَحرُم بها وما لا يَحرُم وحكمه في القدر المحرِّم منها،وحكمه في رضاع الكبير هل له تأثير أم لا

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العِدَد

- ‌فصلفي الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلهاالذي توفي زوجها وهي فيه

- ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدَّة نفيًا وإثباتًا

- ‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

- ‌ذِكْر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع

- ‌ حكمه فيما يحرم بيعه

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّور

- ‌فصلفي حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسْبِ الفحل وضِرابه

- ‌ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة

الفصل: ‌ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

‌ذِكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء

ثبت في «صحيح مسلم»

(1)

من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنينٍ بعث جيشًا إلى أوطاسٍ، فلقي عدوًّا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غشيانهنَّ

(2)

من أجل أزواجهنَّ من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّساء 24]، أي فهنَّ لكم حلالٌ إذا انقضت عدَّتهنَّ.

وفي «صحيحه»

(3)

أيضًا من حديث أبي الدَّرداء: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ

(4)

على باب فُسْطاطٍ، فقال: «لعلَّه يريد

(5)

أن يُلِمَّ بها»

(6)

. فقالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد هممتُ أن ألعنَه لعنًا يَدخلُ معه قبرَه، كيف يُورِّثه وهو لا يحلُّ له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحلُّ له؟» .

وفي «الترمذي»

(7)

: من حديث عِرباض بن سارية: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حرَّم

(1)

برقم (1456).

(2)

ص، د:«غشيانهم» .

(3)

برقم (1441).

(4)

هي الحامل التي قربت ولادتها.

(5)

«يريد» ليست في م، د، ز.

(6)

أي يطؤها، وكانت حاملًا مسبيّة لا يحلّ جماعها حتى تضع.

(7)

برقم (1564). وأخرجه أحمد (1753) والحاكم (2/ 147) وصححه، وقال الترمذي:«غريب» . وفي إسناده أم حبيبة بنت العرباض بن سارية، تفرد عنها وهب بن خالد، ولم توثق، وللحديث شواهد كما ذكر الترمذي يتقوى بها الحديث.

ص: 371

وطء السَّبايا حتَّى يضعن ما في بطونهنَّ.

وفي «المسند» و «سنن أبي داود»

(1)

من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاسٍ: «لا تُوطَأ حاملٌ حتى تضع، ولا غيرُ ذاتِ حملٍ حتَّى تحيض حيضةً» .

وفي «الترمذي»

(2)

من حديث رُوَيفِع بن ثابتٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَسقِي ماءه ولدَ غيرِه» . قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

ولأبي داود

(3)

من حديثه أيضًا: «لا يحلُّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأةٍ من السَّبْي حتَّى يَستبرئها» .

(1)

«المسند» (11596)، و «السنن» (2157) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 449)، والبغوي في «شرح السنة» (9/ 319). وأخرجه الدارمي (2341)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (8/ 53)، والحاكم (2/ 212)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 538)، وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو يخطئ كثيرًا، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، وروي مرسلًا عن الشعبي وطاوس، وأصل الحديث في مسلم (1456)، وقد صححه الألباني في «صحيح أبي داود» (6/ 371).

(2)

برقم (1131). وأخرجه أحمد (16990)، وأبو داود (2158) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 449) ــ والطبراني في «الكبير» (5/ 26)، وابن حبان (4850)، وقال الترمذي:«حديث حسن» ، وكذا حسنه الحافظ في «التلخيص» (1/ 171)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (6/ 371).

(3)

برقم (2158)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 449).

ص: 372

ولأحمد

(1)

: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحنَّ ثيِّبًا من السَّبايا حتَّى تحيض» .

وذكر البخاريُّ في «صحيحه»

(2)

: قال ابن عمر: إذا وُهِبت الوليدةُ الَّتي تُوطأ أو بِيعتْ أو عُتِقتْ فلتُستَبرأْ بحيضةٍ، ولا تُستبرأ العذراء.

وذكر عبد الرزاق

(3)

عن معمر، [عن عمرو بن مسلم]

(4)

، عن طاوسٍ: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا في بعض مغازيه: «لا يقعنَّ رجلٌ على حاملٍ ولا حائلٍ حتَّى تحيض» .

وذكر

(5)

عن سفيان الثَّوريِّ، عن زكريا، عن الشَّعبيِّ قال: أصاب المسلمون سبايا يومَ أوطاسٍ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقعوا على حاملٍ حتَّى تضع، ولا على غير حاملٍ حتَّى تحيض.

فصل

فتضمَّنت هذه السُّنن أحكامًا عديدةً:

أحدها

(6)

: أنَّه لا يجوز وطء المَسْبِيَّة حتَّى تُعلم براءةُ رحمِها، فإن كانت

(1)

برقم (16998). وفي إسناده جهالة، وللحديث شواهد يرتقي بها إلى الحسن، منها ما تقدم.

(2)

(4/ 423 - بشرحه الفتح).

(3)

«المصنف» (12903). وهو مرسل صحيح.

(4)

ليست في النسخ، وزيدت من «المصنف» .

(5)

«المصنف» (12904).

(6)

«أحدها» ليست في د.

ص: 373

حاملًا فبوضع حَمْلِها، وإن كانت حائلًا فبأن تحيض حيضةً، فإن لم تكن من ذوات الحيض فلا نصَّ فيها. واختُلِف فيها

(1)

وفي البكر، وفي الَّتي تُعلم براءة رحمها بأن حاضت عند البائع، ثمَّ باعها عقيب الحيضة ولم يطأها، ولم يُخرِجها عن مِلكه، أو كانت عند امرأةٍ وهي مصونةٌ فانتقلت عنها إلى رجلٍ. فأوجب الشَّافعيُّ وأبو حنيفة وأحمد الاستبراء في ذلك كلِّه، أخذًا بعموم الأحاديث، واعتبارًا بالعدَّة حيث تجب مع العلم ببراءة الرَّحم، واحتجاجًا بآثار الصَّحابة، كما ذكر عبد الرزاق

(2)

: حدَّثنا ابن جريجٍ قال: قال عطاء: تداولَ ثلاثةٌ من التُّجَّار جاريةً فولدتْ، فدعا عمر بن الخطَّاب القافةَ، فألحقوا ولدها بأحدهم، ثمَّ قال عمر: من ابتاع جاريةً قد بلغت المحيض، فليتربَّصْ بها حتَّى تحيض، فإن كانت لم تَحِضْ فليتربَّص بها خمسًا وأربعين ليلةً.

قالوا: وقد أوجب الله سبحانه العدَّةَ على من يئست من المحيض وعلى من لم تبلغ سنَّ المحيض، وجعلها ثلاثة أشهرٍ، والاستبراء عدَّة الأمة، فيجب على الآيسة ومن لم تبلغ سنَّ المحيض.

وقال آخرون: المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرَّحم، فحيث تيقَّن

(3)

المالك براءةَ رحم الأمة فله وطؤها، ولا استبراءَ

(4)

عليه، كما روى

(1)

«واختلف فيها» ليست في ص، د.

(2)

في «المصنف» (12884، 12896).

(3)

د: «يتيقن» .

(4)

د، ص:«والاستبراء» ، خطأ.

ص: 374

عبد الرزاق

(1)

عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء. وذكره البخاريُّ في «صحيحه»

(2)

عنه.

وذكر حمَّاد بن سلمة: ثنا عليُّ بن زيدٍ، عن أيوب بن عبد الله اللخمي، عن ابن عمر قال: وقعت في سهمي جاريةٌ يوم جَلُولاءَ كأنَّ عنقها إبريق فضَّةٍ، قال ابن عمر: فما ملكتُ نفسي أن جعلتُ أقبِّلها والنَّاس ينظرون

(3)

.

ومذهب مالك إلى هذا يرجع، وهاك قاعدته وفروعها:

قال أبو عبد الله المازريُّ، وقد عقد قاعدةً لباب الاستبراء، فنذكرها بلفظها

(4)

: والقول الجامع في ذلك أنَّ كلَّ أمةٍ أُمِنَ عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء. وكلُّ من غلب على الظَّنِّ كونها حاملًا، أو شُكَّ في حملها، أو تُردِّد فيه= فالاستبراء لازمٌ فيها، وكلُّ من غلب على الظَّنِّ براءةُ رحمها، لكنَّه مع الظَّنِّ الغالب يجوز حصوله، فإنَّ المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه.

(1)

في «المصنف» (12906).

(2)

تقدم قريبًا.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (16656)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 419)، والحربي في «غريب الحديث» (3/ 1112) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد، وعلي بن زيد ضعفه جمهور النقاد، وتابع حمادًا هشيم بن بشير عند الخرائطي في «اعتلال القلوب» (259)، إلا أن الإمام أحمد وابن معين قالا:«لم يسمعه هشيم من علي بن زيد» ، وينظر:«العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد (رواية ابنه عبد الله)(2/ 260)، و «تاريخ ابن معين» رواية الدوري (4/ 401).

(4)

ذكرها ابن شاس في «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 283)، وعليه اعتمد المؤلف.

ص: 375

ثمَّ خرَّج على ذلك الفروع المختلَف فيها، كاستبراء الصَّغيرة الَّتي تُطيق الوطء، واليائسة، وفيه روايتان عن مالك. قال صاحب «الجواهر»

(1)

: ويجب في الصَّغيرة إذا كانت ممَّن قارب سنَّ

(2)

الحمل، كبنت ثلاث عشرة وأربع عشرة. وفي إيجاب الاستبراء إذا كانت ممَّن تُطيق الوطء ولا

(3)

يَحمِل مثلُها ــ كبنت تسعٍ وعشرٍ ــ روايتان: أثبته في رواية ابن القاسم، ونفاه في رواية ابن عبد الحكم. وإن كانت ممَّن لا تُطيق الوطء فلا استبراء فيها.

قال

(4)

: ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سنَّ الحيض، ولم تبلغ سنَّ اليائسة، مثل ابنة الأربعين والخمسين. وأمَّا الَّتي قعدتْ عن المحيض ويئستْ عنه، فهل يجب فيها الاستبراء أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم.

قال المازري

(5)

: ووجه استبراء الصَّغيرة الَّتي تطيق الوطء والآيسة أنَّه يمكن فيهما ــ يعني الحمل ــ على النُّدور، أو لحماية الذَّريعة، لئلَّا يُدَّعى في مواضع الإمكان أن لا إمكانَ.

قال

(6)

: ومن ذلك: استبراء الأمة خوفًا أن تكون زنتْ، وهو المعبَّر عنه بالاستبراء لسوء الظَّنِّ، وفيه قولان. والنَّفي لأشهب.

(1)

المصدر نفسه (2/ 281، 282).

(2)

«سن» ساقطة من د.

(3)

«لا» ساقطة من «عقد الجواهر» ، وهي ثابتة في جميع النسخ، وبها يستقيم المعنى.

(4)

أي صاحب «عقد الجواهر» . والكلام متصل بما قبله.

(5)

انظر: «عقد الجواهر» (2/ 283).

(6)

المصدر نفسه. والكلام متصل.

ص: 376

قال: ومن ذلك: استبراء الأمة الوَخْشِ

(1)

، فيه قولان، لأنّ الغالب عدم وطء السَّادات لهنَّ، وإن كان يقع في النَّادر.

ومن ذلك: استبراء من باعها مجبوبٌ أو امرأةٌ أو ذو محرمٍ، ففي وجوبه روايتان عن مالك.

ومن ذلك: استبراء المكاتبة إذا كانت تتصرَّف ثمَّ عجزت، فرجعت إلى سيِّدها، فابن القاسم يثبت الاستبراء، وأشهب ينفيه.

ومن ذلك: استبراء البكر، قال أبو الحسن اللخمي

(2)

: هو مستحبٌّ على وجه الاحتياط غير واجبٍ، وقال غيره من أصحاب مالك: هو واجبٌ.

ومن ذلك: إذا استبرأ البائع الأمة، وعلم المشتري أنَّه قد استبرأها، فإنَّه يُجزِئ استبراء البائع عن استبراء المشتري.

ومن ذلك: إذا أودعه أمةً، فحاضت عند المودع حيضةً، ثمَّ اشتراها

(3)

، لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط أن لا تخرج، ولا يكون سيِّدها يدخل عليها.

ومن ذلك: أن يشتريها من زوجته أو ولدٍ له صغيرٍ في عياله، وقد حاضت عند البائع، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك، وأشهب يقول:

(1)

الوخش: رذال الناس وسقّاطهم، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. والمراد هنا: المرأة التي لا يرغب فيها الرجال عادة. وفي هامش نسخة م: «لعلها التي جنّت» . وهو خطأ.

(2)

كما في «عقد الجواهر» (2/ 281).

(3)

كذا في النسخ، وهو الصواب كما يدل عليه السياق. وفي المطبوع:«استبرأها» .

ص: 377

إن كانت مع المشتري في دارٍ، وهو الذَّابُّ عنها والنَّاظر في أمرها، أجزأه ذلك، سواءٌ كانت تخرج أو لا تخرج.

ومن ذلك: إذا كان سيِّد الأمة غائبًا، فحين قدِمَ اشتراها منه رجلٌ قبل أن تخرج، أو خرجت وهي حائضٌ، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه.

ومن ذلك: إذا بيعت وهي حائضٌ في أوَّل حيضها، فالمشهور من مذهبه أنَّ ذلك يكون استبراءً لها، لا يحتاج إلى حيضةٍ مستأنفةٍ.

ومن ذلك: الشَّريك يشتري نصيبَ شريكه من الجارية وهي تحت يد المشتري منهما، وقد حاضت في يده، فلا استبراء عليه.

وهذه الفروع كلُّها من مذهبه تُنبِئك عن مأخذه في الاستبراء، وأنَّه إنَّما يجب حيث لا تُعلم ولا تُظنُّ براءة الرَّحم، فإن عُلِمتْ أو ظُنَّت فلا استبراء. وقد قال أبو العبَّاس ابن سُريجٍ

(1)

وأبو العباس ابن تيمية

(2)

: إنَّه لا يجب استبراء البكر، كما صحَّ عن ابن عمر

(3)

. وبقولهم نقول، وليس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نصٌّ عامٌّ في وجوب استبراء كلِّ من تجدَّد له عليها ملكٌ على أيِّ حالةٍ كانت، وإنَّما نهى عن وطء السَّبايا حتَّى تضع حواملُهنَّ، ويحِضن

(4)

حوائلُهنَّ.

(1)

كما في «روضة الطالبين» (8/ 427).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 255، 34/ 70، 71).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (12906)، وابن أبي شيبة (16886)، وأصله في «صحيح البخاري» معلقًا (4/ 423 - الفتح).

(4)

كذا في النسخ على لغة: «أكلوني البراغيث» .

ص: 378

فإن قيل: فعمومه يقتضي تحريم وطء أبكارهنَّ قبل الاستبراء، كما يمنع وطء الثَّيِّب؟

قيل: نعم، وغايته أنَّه

(1)

عمومٌ أو إطلاقٌ ظهر القصد منه، فيُخَصُّ أو يُقيَّد عند انتفاء موجب الاستبراء، ويُخَصُّ أيضًا بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رُوَيفِع:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكح ثيِّبًا من السَّبايا حتَّى تحيض»

(2)

، ويُخَصُّ أيضًا بمذهب الصَّحابيِّ، ولا يُعلَم له مخالفٌ.

وفي «صحيح البخاريِّ»

(3)

من حديث بُريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى خالد ــ يعني باليمن

(4)

ــ ليقبض الخُمس، فاصطفى عليٌّ منها صبيَّةً

(5)

، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: أما ترى إلى هذا؟ وفي روايةٍ

(6)

: فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟ قال بريدة: وكنت أُبغِض عليًّا، فلمَّا قدمنا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك، فقال:«يا بريدة، أتبغض عليًّا؟» ، قلت: نعم، قال:«لا تُبغِضْه، فإنَّ له في الخمسِ أكثرَ من ذلك» .

فهذه الجارية إمَّا أن تكون بِكرًا فلم يرَ عليٌّ وجوب استبرائها، وإمَّا أن تكون في آخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبلَ تملُّكه لها. وبكلِّ حالٍ، فلا بدَّ أن

(1)

«أنه» ليست في د.

(2)

تقدم تخريجه (ص 373).

(3)

برقم (4350).

(4)

في المطبوع: «باليمين» ، تحريف.

(5)

كذا في جميع النسخ. وليس هذا اللفظ عند البخاري. وذكر الحافظ في «الفتح» (8/ 66) أن في رواية للإسماعيلي: «سبيئة» أي جارية من السبي.

(6)

للإسماعيلي كما ذكر الحافظ في «الفتح» .

ص: 379

يكون تحقَّقَ براءةَ رحمِها بحيث أغناه عن الاستبراء.

وإذا تأمَّلتَ قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حقَّ التَّأمُّل وجدتَ قوله: «لا تُوطأ حاملٌ حتَّى تضع، ولا غيرُ ذاتِ حملٍ حتى تحيض» ، ظهر لك منه أنَّ المراد بغير ذات الحمل من يجوز أن تكون حاملًا وأن لا تكون، فيُمسِك عن وطئها مخافةَ الحمل، لأنَّه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها، وهذا قاله في المَسْبِيَّات لعدم علم السَّابي بحالهنَّ.

وعلى هذا فكلُّ من ملك أمةً لا يعلم حالها قبل الملك، هل اشتمل رَحِمُها على حملٍ أم لا؟ لم يطأها حتَّى يستبرئها بحيضةٍ. هذا أمرٌ معقولٌ، وليس بتعبد محضٍ لا معنى له، فلا معنى لاستبراء العذراء والصَّغيرة الَّتي لا يحمل مثلها، والَّتي اشتراها من امرأته وهي في بيته لا تخرج أصلًا، ونحوها ممَّن يعلم براءة رحمها. وكذلك إذا زنت المرأة فأرادت أن تتزوَّج استبرأت

(1)

بحيضةٍ ثمَّ تزوَّجت، وكذلك إذا زنت وهي مزوَّجةٌ أمسك زوجها عنها حتَّى تحيض حيضةً، وكذلك أمُّ الولد إذا مات عنها سيِّدها، اعتدَّت بحيضةٍ.

قال عبد الله بن أحمد

(2)

: سألت أبي، كم عدَّة أمِّ الولد إذا توفِّي عنها مولاها أو أعتقها؟ قال: عدَّتها حيضةٌ، وإنَّما هي أمةٌ في كلِّ أحوالها، إن جَنَتْ فعلى سيِّدها قيمتها، وإن جُنِي عليها فعلى الجاني ما نقص من قيمتها، وإن ماتت فما تركت من شيءٍ فلسيِّدها، وإن أصابت حدًّا فحدُّ أمةٍ، وإن زوَّجها سيِّدها فما ولدت فهم بمنزلتها يَعتِقون بعتقها، ويَرِقُّون برقِّها.

(1)

في المطبوع: «استبرأها» خلاف النسخ.

(2)

«مسائله» (ص 369).

ص: 380

وقد

(1)

اختلف النَّاس في عدَّتها، فقال بعض النَّاس: أربعة أشهرٍ وعشرًا، فهذه عدَّة الحرَّة، وهذه عدَّة أمةٍ خرجت من الرِّقِّ إلى الحرِّيَّة، فيلزم من قال: أربعة أشهرٍ وعشرًا أن يُورِّثها، وأن يجعل حكمها أحكام الحرَّة؛ لأنَّه قد أقامها في العدَّة مقام الحرَّة.

وقال بعض النَّاس: عدَّتها ثلاث حيضٍ. وهذا قولٌ ليس له وجهٌ، إنَّما تعتدُّ ثلاث حيضٍ المطلَّقةُ، وليست هي بمطلَّقةٍ ولا حرَّةٍ، وإنَّما ذكر الله العدَّة فقال:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وليست أمُّ الولد بحرَّةٍ ولا زوجةٍ، فتعتدُّ بأربعة أشهرٍ وعشرًا

(2)

. قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وإنَّما هي أمةٌ خرجت من الرِّقِّ إلى الحرِّيَّة. وهذا لفظ أحمد.

وكذلك قال في رواية صالح

(3)

: تُحِدُّ

(4)

أمُّ الولد إذا توفِّي عنها مولاها أو أعتقها حيضةً، وإنَّما هي أمةٌ في كلِّ أحوالها.

وقال في رواية محمد بن العباس: عدَّة أمِّ الولد أربعة أشهرٍ وعشرًا

(5)

إذا توفِّي عنها سيِّدها.

(1)

الكلام متصل بما قبله في المصدر السابق.

(2)

كذا بالنصب في النسخ و «المسائل» .

(3)

ليس في القسم المطبوع من «مسائله» .

(4)

في المطبوع: «تعتد» خلاف النسخ.

(5)

كذا في النسخ منصوبًا.

ص: 381

وقال الشَّيخ في «المغني»

(1)

: وحكى أبو الخطاب روايةً ثالثةً عن أحمد أنَّها تعتدُّ بشهرين وخمسة أيَّامٍ. قال: ولم أجد هذه الرِّواية عن أحمد في «الجامع» ، ولا أظنُّها صحيحةً عن أحمد. وروي ذلك عن عطاء وطاوس وقتادة؛ لأنَّها حينَ الموت أمةٌ، فكانت عدَّتها عدَّة الأمة، كما لو مات رجلٌ عن زوجته الأمة، فعتقتْ بعد موته. فليست هذه رواية إسحاق بن منصورٍ عن أحمد.

قال أبو بكر عبد العزيز في «زاد المسافر»

(2)

: باب القول في عدَّة أمِّ الولد من الطَّلاق والوفاة. قال أبو عبد الله في رواية ابن القاسم: إذا مات السَّيِّد وهي عند زوجٍ فلا عدَّةَ عليها، كيف تعتدُّ وهي مع زوجها؟ وقال في رواية مهنَّا: إذا أعتق أمَّ الولد فلا يتزوَّج أختَها حتَّى تخرج من عدَّتها. وقال في رواية إسحاق بن منصورٍ: وعدَّة أمِّ الولد عدَّة الأمة في الوفاة والطَّلاق والفرقة. انتهى كلامه.

وحجَّة من قال: عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرًا

(3)

، ما رواه أبو داود

(4)

عن

(1)

(11/ 263).

(2)

(3/ 426).

(3)

كذا بالنصب في جميع النسخ.

(4)

برقم (2308). وأخرجه ابن ماجه (2083)، وابن أبي شيبة (19074) ــ ومن طريقه أبو يعلى (7338)، وعنه ابن حبان (4300) ــ، والدارقطني (4/ 477 - 478)، والحاكم (2/ 210)، ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (11/ 238)، من طرق عن مطر الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبيصة عن عمرو بن العاص. ومطر متكلم فيه، وأعل ابن حزم الحديث به، لكن تابعه قتادة كما أخرجه أحمد (17803)، وأبو يعلى (7349)، وابن حبان (4300)، والدارقطني (4/ 477)، وأعل بالانقطاع بين قبيصة وعمرو كما ذكر الدارقطني، وابن حزم، وقال الدارقطني:«هو موقوف» ، ونقل ابن المنذر في «الإشراف» (5/ 401) تضعيف الحديث عن أحمد وأبي عبيد، وقال الإمام أحمد فيه:«منكر» ، كما أسنده عن ابنه عبد الله الدارقطنيُّ في «سننه» (4/ 479)، وقد أخرجه مالك في «الموطأ» ــ رواية الشيباني ــ (598) عن رجاء عن عمرو، وهو منقطع أيضًا.

ص: 382

عمرو بن العاص أنَّه قال: لا تُفسِدوا

(1)

علينا سنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، عدَّة أمِّ الولد إذا توفِّي عنها سيِّدها أربعة أشهرٍ وعشرًا. وهذا قول السَّعيدين

(2)

، ومحمَّد بن سيرين

(3)

، ومجاهد

(4)

، وعمر بن عبد العزيز

(5)

،

وخِلاس بن عمرٍو

(6)

، والزُّهريِّ

(7)

، والأوزاعيِّ

(8)

، وإسحاق

(9)

. قالوا: ولأنَّها حرَّةٌ تعتدُّ للوفاة، فكانت عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرًا، كالزَّوجة الحرَّة.

(1)

كذا في النسخ. وفي «السنن» و «المصنف» : «تلبسوا» ، وسيأتي التعليق عليه في كلام المؤلف.

(2)

أخرجه عن سعيد بن المسيب سعيد بن منصور (1/ 346)، وابن أبي شيبة (19076، 19080)، وأخرجه عن سعيد بن جبير عبد الرزاق (12935)، وسعيد بن منصور (1/ 345، 346)، وابن أبي شيبة (19077).

(3)

تقدم تخريجه. وقد روي عنه أن عدتها ثلاث حيض كما في «مصنف ابن أبي شيبة» (19069)، إلا أن في إسناده أشعث بن سوار، وهو ضعيف.

(4)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 304).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (19080)، وابن حزم (10/ 304) ..

(6)

أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 304).

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة (19078)، وابن حزم (10/ 304).

(8)

نسبه له ابن حزم في «المحلى» (10/ 304).

(9)

«مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» للكوسج (4/ 1555).

ص: 383

وقال عطاء

(1)

، والنخعي

(2)

، والثَّوريُّ، وأبو حنيفة وأصحابه: تعتدُّ بثلاث حِيَضٍ، وحكي عن علي

(3)

، وابن مسعودٍ

(4)

. قالوا: لأنَّها لا بدَّ لها من عدَّةٍ، وليست زوجةً فتدخل في آية الأزواج المتوفَّى عنهنَّ، ولا أمةً فتدخل في نصوص استبراء الإماء بحيضةٍ، فهي أشبه شيءٍ بالمطلَّقة فتعتدُّ بثلاثة أقراءٍ.

والصَّواب من هذه الأقوال: أنَّها تُستبرأ بحيضةٍ، وهو قول عثمان بن عفَّان

(5)

، وعائشة

(6)

، وعبد الله بن عمر

(7)

، والحسن

(8)

، والشَّعبيِّ

(9)

، والقاسم بن محمَّدٍ

(10)

، وأبي قلابة

(11)

، ومكحول

(12)

، ومالك،

(1)

أخرجه عبد الرزاق (12929، 12943)، وابن أبي شيبة (19112).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (12931)، وابن أبي شيبة (19068).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (12932)، وابن أبي شيبة (19070 - 19072)، وفي إسنادها كلها الحجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (19072).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (16887).

(6)

نسبه لها البغوي في «شرح السنة» (9/ 317).

(7)

أخرجه عبد الرزاق (12899، 12900)، وسعيد بن منصور (1/ 346)، وابن أبي شيبة (16890).

(8)

أخرجه عبد الرزاق (12901، 12905).

(9)

أخرجه عبد الرزاق (12939)، وسعيد بن منصور (1/ 347)، وابن أبي شيبة (19087).

(10)

أخرجه مالك (1736)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 736).

(11)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 346)، وابن أبي شيبة (18755).

(12)

أخرجه ابن أبي شيبة (16633).

ص: 384

والشَّافعيِّ، وأحمد بن حنبل في أشهر الرِّوايات عنه، وهو

(1)

قول أبي عبيد وأبي ثورٍ وابن المنذر، فإنَّ هذا إنَّما هو لمجرَّد الاستبراء لزوال المِلك عن الرَّقبة، فكان حيضةً واحدةً في حقِّ من تحيض، كسائر استبراءات المُعتَقات والمملوكات والمَسْبِيَّات.

وأمَّا حديث عمرو بن العاص، فقال ابن المنذر

(2)

: ضعَّف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص

(3)

، فقال لا يصحُّ. وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثمَّ قال: أين

(4)

سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ وقال: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} إنَّما هي عدَّة الحرَّة من النِّكاح، وإنَّما هذه أمةٌ خرجت من الرِّقِّ إلى الحرِّيَّة. ويلزم من قال بهذا أن يُورِّثها، وليس لقول من قال: تعتدُّ ثلاث حيضٍ وجهٌ، إنَّما تعتدُّ بذلك المطلَّقة. انتهى كلامه

(5)

.

وقال المنذري

(6)

: في إسناد حديث عمرٍو مَطَرُ بن طهمان أبو رجاءٍ الورَّاق، وقد ضعَّفه غير واحدٍ.

(1)

«هو» ليست في م، ح.

(2)

في «الإشراف» (5/ 401). والمؤلف صادر عن «المغني» (11/ 263، 264).

(3)

«وقال محمد

العاص» ساقطة من ص، د.

(4)

في النسخ: «ابي» . والتصويب من «المغني» .

(5)

أي كلام صاحب «المغني» . أما كلام ابن المنذر فانتهى بذكر تضعيف الحديث.

(6)

في «مختصر سنن أبي داود» (3/ 205).

ص: 385

وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب «التَّهذيب»

(1)

: قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبلٍ عن مطرٍ الورَّاق، فقال: كان يحيى بن سعيدٍ يضعِّف حديثه عن عطاء. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبلٍ: سألت أبي عن مطرٍ الورَّاق، قال: كان يحيى بن سعيدٍ يُشبِّه حديث مطرٍ الورَّاق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ. قال عبد الله: فسألت أبي عنه، فقال: ما أَقربَه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصَّةً، وقال: مطر في عطاء، ضعيف الحديث. قال عبد الله: قلت ليحيى بن معينٍ: مطرٌ الورَّاق؟ فقال: ضعيفٌ في حديث عطاء بن أبي رباحٍ. وقال النَّسائيُّ: ليس بالقويِّ.

وبعد، فهو ثقةٌ، قال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: صالح الحديث، وذكره ابن حبَّان في كتاب «الثِّقات»

(2)

، واحتجَّ به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به. وإنَّما علَّة الحديث

(3)

أنَّه من رواية قَبيصة بن ذُؤيبٍ، عن عمرو بن العاص، ولم يسمع منه، قاله الدَّارقطنيُّ

(4)

.

وله علَّةٌ أخرى، وهي أنَّه موقوفٌ، لم يقل:«لا تلبسوا علينا سنَّة نبيِّنا» . قال الدَّارقطنيُّ

(5)

: والصَّواب: «لا تلبسوا علينا ديننا» . موقوفٌ.

وله علَّةٌ أخرى، وهي اضطراب الحديث، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجهٍ:

(1)

«تهذيب الكمال» (28/ 53 وما بعدها).

(2)

(5/ 435).

(3)

انظر: «تهذيب السنن» للمؤلف (1/ 586).

(4)

في «السنن» (3838).

(5)

في المصدر السابق.

ص: 386

أحدها: هذا.

والثَّاني: عدَّة أمِّ الولد عدَّة الحرَّة.

والثَّالث: عدَّتها إذا توفِّي عنها سيِّدها أربعة أشهرٍ وعشرًا، فإذا عَتَقَتْ فعدَّتها ثلاث حيضٍ. والأقاويل الثَّلاثة عنه ذكرها البيهقي

(1)

.

قال الإمام أحمد: هذا حديثٌ منكرٌ، حكاه البيهقي عنه

(2)

.

وقد روى خِلاس عن علي مثل رواية قَبِيصة عن عمرو، أنَّ عدَّة أمِّ الولد أربعة أشهرٍ وعشرًا

(3)

. ولكنَّ خِلاس بن عمرٍو قد تُكلِّم في حديثه

(4)

، فقال أيوب: لا تَرْوِ عنه؛ فإنَّه صحفيٌّ، وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه. وقال أحمد: روايته عن علي يقال: إنَّه كتابٌ، وقال البيهقي

(5)

: روايات خِلاس عن علي ضعيفةٌ عند أهل العلم بالحديث، يقال: هي من صحيفةٍ. ومع ذلك فقد روى مالك

(6)

عن نافع عن ابن عمر في أمِّ الولد يتوفَّى عنها سيِّدها، قال: تعتدُّ بحيضةٍ.

(1)

في «السنن الكبرى» (7/ 448).

(2)

في «السنن الكبرى» (7/ 448)، والدارقطني في «سننه» (4/ 479).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (19081)، والبيهقي (7/ 448) من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس به. وخلاس لم يسمع من علي كما قال غير واحد من الأئمة.

(4)

انظر: «الجرح والتعديل» (3/ 402).

(5)

في «السنن الكبرى» (7/ 448).

(6)

(1735)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 554)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 447، 10/ 349)، وأخرجه سعيد بن منصور (1/ 346) من طريق الحجاج عن نافع به.

ص: 387

فإن ثبت عن علي وعمرو ما رُوي عنهما فهي مسألة نزاعٍ بين الصَّحابة، والدَّليل هو الحاكم، وليس مع من جعلها أربعة أشهرٍ وعشرًا إلا التَّعلُّقُ بعموم المعنى، إذ لم يكن معهم لفظٌ عامٌّ، ولكنَّ شرط عموم المعنى تَساوي الأفراد في المعنى الذي ثبت الحكم لأجله، فما لم يُعلم ذلك لم يتحقَّق الإلحاق.

والَّذين ألحقوا أمَّ الولد بالزَّوجة رأوا أنَّ الشَّبَه الذي بين أمِّ الولد وبين الزَّوجة أقوى من الشَّبَه الذي بينها وبين الأمة، من جهةِ أنَّها بالموت صارت حرَّةً، فلزمتْها العدَّة مع حرِّيَّتها، بخلاف الأمة. ولأنَّ المعنى الذي جُعِلت له عدَّة الزَّوجة أربعة أشهرٍ وعشرًا موجودٌ في أمِّ الولد، وهو أدنى الأوقات الذي يتيقَّن فيها خلق الولد، وهذا لا يفترق الحال فيه بين الزَّوجة وأمِّ الولد، والشَّريعة لا تُفرِّق بين متماثلين.

ومنازعوهم يقولون: أمُّ الولد أحكامها أحكام الإماء، لا أحكام الزَّوجات، ولهذا لم تدخل في قوله:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وغيرها، فكيف تدخل في قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]؟

قالوا: والعدَّة لم تُجعل أربعة أشهرٍ وعشرًا لأجل مجرَّد براءة الرَّحم، فإنَّها تجب على من يتيقَّن براءة رحمها، وتجب قبل الدُّخول والخلوة، فهي من حريمِ عقد النِّكاح وتمامِه. وأمَّا استبراء الأمة فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها، وهذا يكفي فيه حيضةٌ، ولهذا لم يُجعل استبراؤها ثلاثة قروءٍ، كما جُعلت عدَّة الحرَّة كذلك تطويلًا لزمان الرَّجعة ونظرًا للزَّوج. وهذا المعنى مقصودٌ في المستبرأة، فلا نصَّ يقتضي إلحاقَها بالزَّوجات ولا معنى، فأولى

ص: 388

الأمور بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحب الشَّرع في المَسْبيَّات والمملوكات، ولا يتعدَّاه، وباللَّه التَّوفيق.

فصل

الحكم الثَّاني: أنَّه لا يحصل الاستبراء بطهرٍ البتَّةَ، بل لا بدَّ من حيضةٍ. وهذا قول الجمهور، وهو الصَّواب. وقال أصحاب مالك، والشَّافعيُّ في قولٍ له: يحصل بطهر كاملٍ، ومتى طعنتْ في الحيضة تمَّ استبراؤها، بناءً على قولهما: إنَّ الأقراء الأطهار. ولكن يردُّ هذا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُوطَأ حاملٌ حتَّى تَضعَ، ولا حائلٌ حتَّى تُستبرأ بحيضةٍ»

(1)

.

وقال رُوَيفع بن ثابتٍ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومَ حنين: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جاريةً من السَّبي حتَّى يستبرئها بحيضةٍ» . رواه الإمام أحمد

(2)

، وعنده فيه ثلاثة ألفاظٍ، [هذا أحدها]

(3)

.

الثَّاني: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُوطَأ

(4)

الأمة حتَّى تحيض، وعن الحبالى حتَّى يضعن»

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 372).

(2)

لم أجده في «مسند أحمد» بهذا اللفظ، وعزاه ابن قدامة في «المغني» (11/ 264، 275) إلى الأثرم. وأخرجه سعيد بن منصور (2/ 312)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهوصدوق يدلس، وقد أُمِنَ تدليسه بتصريحه بالتحديث في إحدى روايات الحديث في «مسند أحمد» (16997).

(3)

زيادة ليستقيم السياق، وليست في النسخ.

(4)

في المطبوع: «أن لا توطأ» ، خطأ.

(5)

أخرجه أحمد (16993). وفي المطبوع: «تضعن» ، خطأ.

ص: 389

الثَّالث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحنَّ ثيِّبًا من السَّبايا حتَّى تحيض»

(1)

.

فعلَّق الحِلَّ في ذلك كلِّه بالحيض وحده لا بالطُّهر، فلا يجوز إلغاء ما اعتبره واعتبارُ ما ألغاه، ولا تعويلَ على ما خالف نصَّه، وهو مقتضى القياس المحض، فإنَّ الواجب هو الاستبراء، والَّذي يدلُّ على البراءة هو الحيض، فأمَّا الطُّهر فلا دلالة فيه على البراءة، فلا يجوز أن يُعَوَّل

(2)

في الاستبراء على ما لا دلالةَ له فيه عليه دون ما يدلُّ عليه.

وبناؤهم هذا على أنَّ الأقراء هي الأطهار بناءٌ للخلاف على الخلاف، وليس بحجَّة ولا شبهةٍ. ثمَّ لم يُمكِنهم بناءُ هذا على ذاك حتَّى خالفوه، فجعلوا الطُّهر الذي طلَّقها فيه قرءًا، ولم يجعلوا طهر المستبرأة الَّتي تجدَّد عليها المِلكُ فيه أو مات سيِّدها فيه قرءًا، وحتَّى خالفوا الحديثَ أيضًا كما تبيَّن، وحتَّى خالفوا المعنى كما بيَّنَّاه، فلم يمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثَّلاثة من المخالفة.

وعامة

(3)

ما قالوا: أنَّ بعض الحيضة المقترن بالطُّهر يدلُّ على البراءة، فيقال لهم: فيكون الاعتماد حينئذٍ على بعض الحيضة، وليس ذلك قرءًا عند أحدٍ.

فإن قالوا: هو اعتمادٌ على بعض حيضةٍ وطهرٍ.

(1)

تقدم تخريج هذا اللفظ (ص 373).

(2)

د، م، ح:«يقول» ، تحريف.

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وغاية» .

ص: 390

قلنا: هذا قولٌ ثالثٌ في مسمَّى القرء، ولا يُعرف، وهو أن تكون حقيقته مركَّبةً من حيضٍ وطهرٍ.

فإن قالوا: بل هو اسمٌ للطُّهر بشرط الحيض، فإذا انتفى الشَّرط انتفى المشروط.

قلنا: هذا إنَّما يمكن أن لو علَّق الشَّارع الاستبراء بقرءٍ، فأمَّا مع تصريحه على التَّعليق بحيضةٍ فلا. والله أعلم.

فصل

الحكم الثَّالث: أنَّه لا يحصل ببعض حيضةٍ في يد المشتري

(1)

اكتفاءً

(2)

بها. قال صاحب «الجواهر»

(3)

: فإن بيعت الأمة في آخر أيَّام محيضها لم يكن ما بقي من حيضها استبراءً لها من غير خلافٍ، وإن بيعت وهي في أوَّل [حيضتها]

(4)

فالمشهور من المذهب أنَّ ذلك يكون

(5)

استبراءً لها.

وقد احتجَّ من نازع مالكًا رحمة الله عليه بهذا الحديث، فإنَّه علَّق الحلَّ بحيضةٍ، فلا بدَّ من تمامها. ولا دليلَ فيه على بطلان قوله، فإنَّه لا بدَّ من الحيضة بالاتِّفاق، ولكنَّ النِّزاع في أمرٍ آخر، وهو أنَّه هل يُشترط أن يكون جميع الحيضة وهي في مِلكه، أو يكفي أن يكون معظمها في ملكه؟ فهذا لا

(1)

د، م:«المستبرئ» .

(2)

م، ح:«اكتفى» .

(3)

«عقد الجواهر الثمينة» (2/ 277).

(4)

هنا بياض في جميع النسخ. والمثبت من المصدر السابق.

(5)

في المصدر السابق: «لا يكون» . والمثبت أولى بالسياق.

ص: 391

ينفيه الحديث ولا يُثبته. لكن لمنازعيه أن يقولوا: لمَّا اتَّفقنا على أنَّه لا يكفي أن يكون بعضها في مِلك المشتري وبعضها في مِلك البائع، إذا كان أكثرها عند البائع، عُلِم أنَّ الحيضة المعتبرة أن تكون وهي عند المشتري، ولهذا لو حاضت عند البائع لم يكن ذلك [كافيًا]

(1)

في الاستبراء.

ومن قال بقول مالك يجيب عن هذا: بأنَّها إذا حاضت قبل البيع وهي مُودَعةٌ عند المشتري، ثمَّ باعها عقيبَ الحيضة، ولم تخرج من بيته= اكتفَى بتلك الحيضة، ولم يجب على المشتري استبراءٌ ثانٍ. وهذا أحد القولين في مذهب مالك كما تقدَّم، فهو يُجوِّز أن يكون الاستبراء واقعًا قبل البيع في صورٍ، منها هذه، ومنها إذا وُضِعت للاستبراء عند ثالثٍ، فاستبرأها، ثمَّ بيعت بعده.

قال في «الجواهر»

(2)

: ولا يُجزئ الاستبراء قبل البيع إلا في حالاتٍ:

منها: أن تكون تحت يده للاستبراء أو بالوديعة، فتحيض عنده، ثمَّ يشتريها

(3)

حينئذٍ أو بعد أيَّامٍ، وهي لا تخرج، ولا يدخل عليها سيِّدها.

ومنها: أن يشتريها ممَّن هو ساكنٌ معه من زوجته أو ولدٍ له صغيرٍ في عِياله، وقد حاضت، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وقال أشهب: إن كانت معه في دارٍ وهو الذَّابُّ عنها والنَّاظر في أمرها فهو استبراءٌ، كانت تخرج أو لا تخرج.

(1)

ليست في النسخ، زيدت ليستقيم السياق.

(2)

«عقد الجواهر» (2/ 282).

(3)

م، ز:«يستبرئها» .

ص: 392

ومنها: إذا كان سيِّدها غائبًا، فحين قدِمَ اشتراها

(1)

قبل أن تخرج، أو خرجت وهي حائضٌ فاشتراها منه قبل أن تطهر.

ومنها: الشَّريك يشتري نصيبَ شريكه من الجارية وهي تحت يد المشتري منهما، وقد حاضت في يده.

وقد تقدَّمت هذه المسائل

(2)

، فهذه وما في معناها تضمَّنت الاستبراء قبل البيع، واكتفى به مالك عن استبراءٍ ثانٍ.

فإن قيل: فكيف يجتمع قوله هذا وقوله: إنَّ الحيضة إذا وُجِد معظمها عند البائع لم يكن استبراءً؟

قيل: لا تناقضَ بينهما، وهذه لها موضعٌ، وهذه لها موضعٌ، فكلُّ موضعٍ يحتاج فيه المشتري إلى استبراءٍ مستقلٍّ لا يُجزئ إلا حيضةٌ، لم يوجد معظمها عند البائع، وكلُّ موضعٍ لا يحتاج فيه إلى استبراءٍ مستقلٍّ لا يحتاج فيه إلى حيضةٍ ولا بعضها، والاعتبار

(3)

بالاستبراء قبلَ البيع كهذه الصُّور ونحوها.

فصل

الحكم الرَّابع: أنَّها إذا كانت حاملًا فاستبراؤها بوضع الحمل، وهذا كما أنَّه حكمُ النَّصِّ فهو مجمعٌ عليه بين الأمَّة.

(1)

أي شخص من سيِّدها. وفي ص، د، م:«استبرأها» ، خطأ. والمثبت من المصدر السابق.

(2)

(ص 377، 378).

(3)

في المطبوع: «ولا اعتبار» خلاف النسخ، وهو خطأ يقلب المعنى.

ص: 393

فصل

الحكم الخامس: أنَّه لا يجوز وطؤها قبل وضع حملها، أيَّ حملٍ كان، سواءٌ كان يلحق بالواطئ، كحمل الزَّوجة والمملوكة والموطوءة بشبهة، أو لا يلحق به، كحمل الزَّانية، فلا يحلُّ وطء حاملٍ من غير الواطئ البتَّةَ، كما صرَّح به النَّصُّ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَسقِي ماءه زَرْعَ غيرِه»

(1)

، وهذا يعمُّ الزَّرعَ الطَّيِّب والخبيثَ. ولأنَّ صيانة ماء الواطئ عن الماء الخبيث حتَّى لا يختلط به أولى من صيانته عن الماء الطَّيِّب. ولأنَّ حمْلَ الزَّاني وإن كان لا حرمة له ولا لمائه، فحملُ هذا الواطئ وماؤه محترمٌ، فلا يجوز له خلطه بغيره. ولأنَّ هذا مخالفٌ لسنَّة الله في تمييز الخبيث من الطَّيِّب، وتخليصِه منه، وإلحاقِ كلِّ قسمٍ بمجانسه ومشاكله.

والَّذي يُقضى منه العجب تجويزُ من جوَّز من الفقهاء الأربعة العقدَ على الزَّانية قبل استبرائها ووَطْأَها عقيبَ العقد، فتكون اللَّيلةَ عند الزَّاني وقد عَلِقَتْ منه، واللَّيلة الَّتي تليها فراشًا للزَّوج. ومن تأمَّل كمال هذه الشَّريعة علم أنَّها تأبى ذلك كلَّ الإباء، وتمنع منه كلَّ المنع.

ومن محاسن مذهب الإمام أحمد قدَّس الله روحه أن حرَّم نكاحها بالكلِّيَّة حتَّى تتوب، ويرتفع عنها اسم الزَّانية والبغيِّ والفاجرة، فهو رحمه الله لا يُجوِّز أن يكون الرَّجل زوجَ بغيٍّ. ومنازعوه يُجوِّزون ذلك. وهو أسعدُ منهم في هذه المسألة بالأدلَّة نصًّا كلِّها، من النُّصوص والآثار، والمعاني والقياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحًا. والنَّاس إذا بالغوا في

(1)

تقدم تخريجه (ص 372).

ص: 394

سبِّ الرَّجل صرَّحوا له بالزَّاي والقاف

(1)

. فكيف تُجوِّز الشَّريعة مثلَ هذا، مع ما فيه من تعرُّضِه لإفساد فراشه، وتعليقِ أولادٍ عليه من غيره، وتعرُّضِه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟

وقياسُ قول من جوَّز العقدَ على الزَّانية ووطْأَها قبل استبرائها حتَّى لو كانت حاملًا: أن لا يُوجِب استبراء الأمة إذا كانت حاملًا من الزِّنا، بل يطؤها عقيبَ مِلكها، وهو مخالفٌ لصريح السُّنَّة. فإن أوجبَ استبراءها نقضَ قولَه بجواز وطء الزَّانية قبل استبرائها، وإن لم يُوجِب استبراءها خالف النُّصوص، ولا ينفعه الفرقُ بينهما بأنَّ الزَّوج لا استبراءَ عليه بخلاف السَّيِّد، فإنَّ الزَّوج إنَّما لم يجب عليه الاستبراء؛ لأنَّه لا يَعقِد على معتدَّةٍ ولا حاملٍ من غيره، بخلاف السَّيِّد.

ثمَّ إنَّ الشَّارع إنَّما حرَّم الوطء بل العقدَ في العدَّة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئًا حاملًا من غيره، وساقيًا ماءه لزرع غيرِه مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقَّق حملُها؟

وغاية ما يقال: إنَّ ولد الزَّانية ليس لاحقًا بالواطئ الأوَّل، فإنَّ الولد للفراش، وهذا لا يُجوِّز إقدامَه على خلْطِ مائِه ونسبِه بغيره، وإن لم يلحق بالواطئ الأوَّل

(2)

، فصيانةُ مائه ونسبِه عن نسبٍ لا يلحق بواضعه لصيانته عن نسبٍ يلحق به.

والمقصود: أنَّ الشَّرع حرَّم وطء الأمة الحامل حتَّى تضع، سواءٌ كان حملُها محرَّمًا أو غيرَ محرَّمٍ. وقد فرَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الرَّجل وبين المرأة الَّتي

(1)

أي: زوجُ قحبةٍ.

(2)

«فإن الولد

بالواطئ الأول» ساقطة من ص، د بسبب انتقال النظر.

ص: 395

تزوَّجَ بها فوجدها حُبلى، وجلَدَها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق

(1)

. وهذا صريحٌ في بطلان العقد على الحامل من الزِّنا.

وصحَّ عنه أنَّه مرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ على بابِ فُسطاطٍ فقال: «لعلَّ سيِّدها يريد أن يُلِمَّ بها؟» ، قالوا: نعم. قال: «لقد هَممتُ أن ألعنَه لعنًا يدخل معه قبره، كيف يَستخدِمه وهو لا يحلُّ له؟ كيف يُورِّثه وهو لا يحلُّ له؟»

(2)

. فجعلَ سببَ همِّه بلعنته وَطْأَه للأمة الحامل، ولم يَستفصل عن حَمْلِها هل هو لاحقٌ بالواطئ أم غير لاحقٍ به؟

وقوله: «كيف يستخدمه وهو لا يحلُّ له» ، أن يجعله عبدًا له يستخدمه، وذلك لا يحلُّ له، فإنَّ ماء هذا الواطئ يزيد في خلق الحمل، فيكون بعضه منه، قال الإمام أحمد: يزيد وطؤه في سَمْعه وبصره.

وقوله: «كيف يُورِّثه وهو لا يحلُّ له» ، سمعت شيخ الإسلام ابن تيميَّة

(3)

يقول فيه

(4)

: أي كيف يجعله تركةً موروثةً عنه؟ فإنَّه يعتقده عبدَه، فيجعله تركةً تُورَث عنه، ولا يحلُّ له ذلك؛ لأنَّ ماءه زاد في خلقه، ففيه جزءٌ منه.

(1)

أخرجه أبو داود (2131) والدارقطني (3616) والحاكم (2/ 184) والبيهقي (7/ 157) من طريق صفوان بن سُليم عن سعيد بن المسيّب عن رجل من الأنصار. وفي بعض الروايات: يقال له بصرة. قال المؤلف في «تهذيب السنن» (1/ 451): هذا الحديث قد اضطُرب في سنده وحكمه، واسم الصحابي راويه. ثم تكلَّم على علله.

(2)

تقدم تخريجه (ص 371).

(3)

بعده في د، ز:«رحمه الله» .

(4)

انظر: «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 610) و «درء تعارض العقل والنقل» (4/ 60).

ص: 396

وقال غيره

(1)

: المعنى: كيف يُورِّثه على أنَّه ابنه؟ ولا يحلُّ له ذلك لأنَّ الحمل من غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورِّثه ماله.

وهذا يردُّه

(2)

أوَّلُ الحديث، وهو قوله:«كيف يستعبده؟» ، أي: كيف يجعله عبدَه؟ وهذا إنَّما يدلُّ على المعنى الأوَّل.

وعلى القولين فهو صريحٌ في تحريم وطء الحامل من غيره، سواءٌ كان الحمل من زنًا أو من غيره، وأنَّ فاعل ذلك جديرٌ باللَّعن. بل قد صرَّح جماعةٌ من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأنَّ الرَّجل إذا ملك زوجتَه الأمةَ لم يطأها حتَّى يستبرئها، خشيةَ أن تكون حاملًا منه في صلب النِّكاح، فيكون على ولده الولاءُ لموالي أمِّه، بخلاف ما عَلِقَتْ به في مِلكه فإنَّه لا ولاءَ عليه. وهذا كلُّه احتياطٌ لولده: هل هو صريح الحرِّيَّة لا ولاءَ عليه، أو عليه ولاءٌ؟ فكيف إذا كانت حاملًا من غيره؟

فصل

الحكم السَّادس: استنبط من قوله: «لا تُوطأ حاملٌ حتى تضعَ، ولا حائلٌ حتَّى تُستبرأ بحيضةٍ» أنَّ الحامل لا تحيض، وأنَّ ما تراه من الدَّم يكون دمَ فسادٍ بمنزلة الاستحاضة، تصوم معه وتصلِّي، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن. وهذه مسألةٌ اختلف فيها الفقهاء:

(1)

ذكره المنذري في «مختصر السنن» (ق 185 ب) وليس في المطبوع منه. كما ذكره القرطبي في «المفهم» (4/ 172) والنووي في «شرح صحيح مسلم» (10/ 15).

(2)

انظر ردّ المؤلف عليه في «تهذيب السنن» (1/ 459).

ص: 397

فذهب عطاء

(1)

، والحسن

(2)

، وعكرمة

(3)

، ومكحول

(4)

، وجابر بن زيدٍ

(5)

، ومحمَّد بن المنكدر

(6)

، والشَّعبيُّ

(7)

، والنخعي

(8)

، والحكم

(9)

، وحمَّاد

(10)

، والزُّهريُّ

(11)

، وأبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعيُّ، وأبو عبيد، وأبو ثورٍ، وابن المنذر، والإمام أحمد في المشهور من مذهبه، والشَّافعيُّ في أحد قوليه [إلى أنَّه ليس دم حيضٍ]

(12)

.

وقال قتادة

(13)

، وربيعة

(14)

، ومالك، واللَّيث بن سعدٍ، وعبد الرَّحمن بن مهديٍّ، وإسحاق بن راهويه: إنَّه دم حيضٍ وقد ذكر

(1)

أخرجه عبد الرزاق (1213) وابن أبي شيبة (6100، 6102) والدارمي (978).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (1210) وابن أبي شيبة (6103).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (6109).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (1217).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (6107).

(6)

نسبه له ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 238).

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة (6102).

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة (6105) والدارمي (976، 982).

(9)

أخرجه ابن أبي شيبة (6106، 6104).

(10)

أخرجه ابن أبي شيبة (6106، 6109).

(11)

أخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» (1/ 327). وروي عنه أيضًا أن الحامل تحيض، أخرجه عبد الرزاق (1209)، وابن أبي شيبة (6108)، والدارمي (961).

(12)

ليست في النسخ، وزيدت ليستقيم السياق.

(13)

أخرجه عبد الرزاق (1209).

(14)

نسبه له ابن حزم في «المحلى» (1/ 242).

ص: 398

البيهقي في «سننه»

(1)

: وقال إسحاق بن راهويه: قال لي أحمد بن حنبلٍ: ما تقول في الحامل ترى الدَّم؟ فقلت: تُصلِّي، واحتججتُ بخبر عطاء عن عائشة

(2)

. قال: فقال أحمد بن حنبلٍ: أين أنت عن خبرِ المدنيِّين خبرِ أمِّ علقمة مولاة عائشة؟ فإنَّه أصحُّ. قال إسحاق: فرجعتُ إلى قول أحمد.

وهذا كالتَّصريح من أحمد بأنَّ دم الحامل دم حيضٍ، وهو الذي فهمه إسحاق عنه. والخبر الذي أشار إليه أحمد هو ما روِّيناه من طريق البيهقي

(3)

: أخبرنا الحاكم، أبنا أبو بكر بن إسحاق، ثنا أحمد بن إبراهيم بن

(1)

«الكبرى» (7/ 423) و «الصغير» (3/ 155).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6099) وعبد الرزاق (1/ 317) والدارقطني (1/ 407) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 695) والدارمي (973 - 974) وابن المنذر في «الأوسط» (820) والطحاوي في «مشكل الآثار» (10/ 424) من طرق عن مطر الوراق عن عطاء عن عائشة، وأخرجه عبد الرزاق (1214) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (820) ــ والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 499، 7/ 695) والدارمي (985) والطحاوي في «مشكل الآثار» (10/ 425) من طرق عن سليمان بن موسى عن عطاء به. ومطر عن عطاء ضعيف كما قال القطان والإمام أحمد، وسليمان بن موسى عنده مناكير كما قال البخاري، وقد ضعَّف الحديث يحيى بن سعيد والإمام أحمد والبيهقي، وصححوا ما روته أم علقمة عن عائشة، وسيأتي تخريجه، وينظر:«السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 695).

(3)

في «السنن الصغير» (3/ 156). وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (822) والطحاوي في «مشكل الآثار» (10/ 423) من طريق بكير بن عبد الله عن أم علقمة به. وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 423) من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أيضًا، وأخرجه البيهقي أيضًا في «السنن الكبرى» (7/ 423) من طريق حماد بن زيد وحماد بن سلمة، والطحاوي في «مشكل الآثار» (10/ 426) من طريق حماد بن سلمة، كلاهما (الحمادان) عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عائشة، وبين يحيى وعائشة عمرة، وكأن يحيى كان يسنده تارة، ويرسله أخرى، وقد أخرجه مالك (153) بلاغًا، وصححه عن عائشة جماعة من الحفاظ كيحيى بن سعيد القطان وأحمد وإسحاق والبيهقي، وينظر:«السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 423) و «سنن الدارمي» (1/ 184).

ص: 399

ملحان، ثنا ابن بُكَير، ثنا الليث، عن بُكَير بن عبد اللَّه، عن أم علقمة مولاة عائشة، أنَّ عائشة سُئِلتْ عن الحامل ترى الدَّم؟ فقالت: لا تصلِّي.

قال البيهقي

(1)

: ورُوِّيناه عن أنس بن مالكٍ، ورُوِّينا عن عمر بن الخطَّاب ما يدلُّ على ذلك

(2)

. ورُوِّينا عن عائشة أنَّها أنشدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَ أبي كبير

(3)

الهذلي:

ومُبرَّأٍ من كلِّ غُبَّرِ حيضةٍ

وفسادِ مُرضعةٍ وداءٍ مُغْيِلِ

(4)

(1)

في «السنن الصغير» (3/ 156). وحديث أنس أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 423)، وفي إسناده هلال بن زيد أبو عقال البصري، وهو متروك الحديث.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

د، ز:«أبي كثير» ، تصحيف. والبيت من قصيدة له في «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1069) و «الحماسة» (1/ 73) وغيرهما. وغُبَّر الحيض: بقاياه. والمغيل من الغَيْل، وهو أن تُغشَى المرأة وهي مرضع، فذلك اللبن الغيل.

(4)

أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 422) والخطيب في «تاريخ بغداد» (15/ 338) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 45) من طرق عن البخاري عن شيخه عمرو بن محمد عن معمر بن المثنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به، وشيخ البخاري مجهول، وجعل بعضهم الحمل فيه على شيخ البخاري، وبعضهم على معمر بن المثنى، وقال ابن كثير في «التكميل» (1/ 119):«حديث منكر جدًّا» ، وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة» (4144):«كذب موضوع» .

ص: 400

قال

(1)

: وفي هذا دليلٌ على ابتداء الحمل في حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعر.

قال

(2)

: وروِّينا عن مطر [عن عطاء]

(3)

عن عائشة أنَّها قالت: الحُبلى لا تحيض، إذا رأتِ الدَّمَ صَلَّتْ.

قال

(4)

: وكان يحيى القطَّان يُنكِر هذه الرِّواية، ويُضعِّف رواية ابن أبي ليلى ومطر عن عطاء.

قال

(5)

: وروى محمَّد بن راشدٍ، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة نحو رواية مطرٍ، فإن كانت محفوظةً فيُشِبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثمَّ كانت تراها تحيض، فرجعتْ إلى ما رواه المدنيُّون، والله أعلم.

قال المانعون من كون دمِ الحامل دمَ حيضٍ: قد قسَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإماء قسمين: حاملًا وجعل عدَّتها وضْعَ الحمل، وحائلًا فجعل عدَّتها حيضةً، فكانت الحيضة عَلَمًا على براءة رحمها، فلو كان الحيض يجامع الحملَ لما كانت الحيضة عَلَمًا على عدمه.

قالوا: وكذلك جُعِلت عدَّة المطلَّقة ثلاثة أقراءٍ ليكون دليلًا على عدم

(1)

أي البيهقي في «السنن الصغير» (3/ 156). والكلام متصل بما قبله.

(2)

البيهقي في المصدر السابق (3/ 155). وتقدم تخريجه والكلام عليه.

(3)

ليست في النسخ، وزيدت من المصدر السابق.

(4)

الكلام متصل بما قبله عند البيهقي.

(5)

أي البيهقي في المصدر السابق.

ص: 401

حملها، فلو جامع الحيضُ الحملَ لم يكن دليلًا على عدمه

(1)

.

قالوا: وقد ثبت في «الصَّحيح»

(2)

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطَّاب لمّا طلَّق ابنُه امرأتَه وهي حائضٌ: «مُرْه فليراجِعْها، ثمَّ ليمسِكْها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إن شاء أمسكها بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يَمَسَّ، فتلك العدَّة الَّتي أمر الله أن تُطلَّق لها النِّساء» .

ووجه الاستدلال به: أنَّ طلاق الحامل ليس ببدعةٍ في زمن الدَّم وغيره إجماعًا، فلو كانت تحيض لكان طلاقُها فيه وفي طهرِها بعد المَسِيسِ بدعةً عملًا بعموم الخبر.

قالوا: وروى مسلم في «صحيحه»

(3)

من حديث [ابن عمر]

(4)

: «مُرْه فليراجِعْها، ثمَّ ليطلِّقْها طاهرًا أو حاملًا» ، وهذا يدلُّ على أنَّ ما تراه من الدَّم لا يكون حيضًا، فإنَّه جعل الطَّلاق في وقته نظيرَ الطَّلاق في وقت الطُّهر سواءً، فلو كان ما تراه

(5)

حيضًا لكان لها حالان: حال طهرٍ، وحال

(6)

حيضٍ، ولم يجز طلاقها في حال حيضها، فإنَّه يكون بدعةً.

قالوا: وقد روى أحمد في «مسنده»

(7)

من حديث رُوَيفِع عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

«فلو جامع

عدمه» ساقطة من ص، د، ز.

(2)

أخرجه البخاري (5251) ومسلم (1471) وقد تقدم (ص 242).

(3)

برقم (1471/ 5).

(4)

هنا بياض في النسخ.

(5)

بعدها في المطبوع: «من الدم» ، وليست في النسخ.

(6)

د، ص، م:«حالة» .

(7)

برقم (16992). وقد روي بعدة ألفاظ، وتقدم تخريجه (ص 372، 389).

ص: 402

قال: «لا يحلُّ لأحدٍ أن يَسقِيَ ماءه زرعَ غيرِه، ولا يقع على أَمَةٍ حتَّى تحيضَ أو يتبيَّنَ حملُها» . فجعل وجود الحيض علمًا على براءة الرَّحم من الحمل.

قالوا: وقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: إنَّ الله رفعَ الحيضَ عن الحبلى، وجعل الدَّمَ ممَّا تَغِيضُ الأرحام. وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ الله رفعَ الحيضَ عن الحبلى، وجعلَ الدَّم رزقًا للولد

(1)

. رواهما أبو حفص بن شاهين.

قالوا: وروى الأثرم

(2)

والدَّارقطنيُّ

(3)

بإسنادهما عن عائشة في الحامل ترى الدَّم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسلُ وتُصلِّي. وقولها:«تغتسل» بطريق النَّدب، لكونها مستحاضةً.

قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكنَّ عائشة قد ثبت عنها أنَّها قالت: الحامل لا تُصلِّي

(4)

. وهذا محمولٌ على ما تراه قريبًا من الولادة باليومين ونحوهما، وأنَّه نفاسٌ جمعًا بين قوليها.

قالوا: ولأنَّه دمٌ لا تنقضي به العدَّة، فلم يكن حيضًا كالاستحاضة. وحديث عائشة يدلُّ على أنَّ الحائض قد تَحْبَلُ، ونحن نقول بذلك، لكنَّه يقطع حيضها ويرفعه.

(1)

لم أقف عليهما. وقد ذكرهما ابن التركماني في «الجوهر النقي» (7/ 424)، وعزاهما إلى ابن شاهين.

(2)

لم أقف عليه في «السنن» للأثرم.

(3)

«السنن» (1/ 407). وقد تقدم تخريجه والكلام عليه (ص 399).

(4)

أي: إذا رأت الدم، كما تقدم تخريجه (ص 400).

ص: 403

قالوا: ولأنَّ الله سبحانه أجرى العادة بانقلاب دمِ الطَّمْث لبنًا غذاءً للولد، فالخارج وقتَ الحملِ يكون غيرَه، فهو دم فسادٍ.

قال المحيِّضون: لا نزاعَ أنَّ الحائض

(1)

قد ترى الدَّم على عادتها، ولا سيَّما في أوَّل حملها، وإنَّما النِّزاع في حكم هذا الدَّم لا في وجوده. وقد كان حيضًا قبل الحمل بالاتِّفاق، فنحن نستصحب حُكمَه حتَّى يأتي ما يرفعه بيقينٍ.

قالوا: والحكم إذا ثبت في محلٍّ فالأصل بقاؤه حتَّى يأتي ما يرفعه، فالأوَّل استصحابٌ لحكم الإجماع في محلِّ النِّزاع، والثَّاني استصحابٌ للحكم الثَّابت في المحلِّ حتَّى يتحقَّق ما يرفعه، والفرق بينهما ظاهرٌ.

قالوا: وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا كان دم الحيض فإنَّه أسود يُعرَف»

(2)

. وهذا أسود يُعرَف، فكان حيضًا.

(1)

كذا في جميع النسخ، وفي المطبوع:«الحامل» . وكلاهما محتمل، والمعنى مفهوم بقوله:«لاسيما في أول حملها» . أي: أن المرأة التي تحيض قد ترى الدم على عادتها في أول حملها.

(2)

أخرجه أبو داود (286) والنسائي (362) وابن حبان (4/ 180) والحاكم (1/ 281) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش، وصححه ابن حزم وابن الصلاح والألباني، وأصل الحديث في البخاري (306) ومسلم (333) دون هذه اللفظة، وقد أعلها أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (117)، والدارقطني في «العلل» (3449) لتفرد محمد بن عمرو بها عن الزهري، وينظر:«البدر المنير» لابن الملقن (3/ 114) و «صحيح أبي داود» للألباني (2/ 95).

ص: 404

قالوا: وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أليست إحداكنَّ إذا حاضت لم تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟»

(1)

. وحيض المرأة خروج دمها في أوقاتٍ معلومةٍ من الشَّهر لغةً وشرعًا، وهذا كذلك لغةً، والأصل في الأسماء تقريرها لا تغييرها.

قالوا: ولأنَّ الدَّم الخارج من الفرج الذي رتَّب الشَّارع عليه الأحكام قسمان: حيضٌ واستحاضةٌ، ولم يجعل لهما ثالثًا، وهذا ليس باستحاضةٍ، فإنَّ الاستحاضة الدَّم المُطْبِق

(2)

أو الزَّائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحدًا منهما، فبطل أن يكون استحاضةً، فهو حيضٌ.

قالوا: ولا يُمكِنكم إثباتُ قسمٍ ثالثٍ في هذا المحلِّ، وجعلُه دمَ فسادٍ، فإنَّ هذا لا يثبت إلا بنصٍّ أو إجماعٍ أو دليلٍ يجب المصير إليه، وهو منتفٍ.

قالوا: وقد ردَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المستحاضة إلى عادتها، وقال:«اجلسي قدْرَ الأيَّام الَّتي كنتِ تحيضينَ»

(3)

. فدلَّ على أنَّ عادة النِّساء معتبرةٌ في وصف الدَّم وحكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ووقتِها من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ ولا انتقالٍ، دلَّ عادتُها على أنَّه حيضٌ، ووجب تحكيمُ عادتِها وتقديمُها على الفساد الخارج عن العادة

(4)

.

قالوا: وأعلم الأمَّة بهذه المسألة نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأعلمهنَّ عائشة، وقد

(1)

أخرجه البخاري (304) ومسلم (889) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أي الذي لا يفارق صاحبه ويستمر.

(3)

أخرجه البخاري (325) ومسلم (333) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

في المطبوع: «العبادة» ، تحريف.

ص: 405

صحَّ عنها من رواية أهل المدينة عنها أنَّها لا تصلِّي، وقد شهد له الإمام أحمد بأنَّه أصحُّ من الرِّواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق، وأخبر أنَّه قول أحمد بن حنبلٍ.

قالوا: ولا تُعرف صحَّة الآثار بخلاف ذلك عمَّن ذكرتم من الصَّحابة، ولو صحَّت فهي مسألة نزاعٍ بين الصَّحابة، ولا دليلَ يفصل.

قالوا: ولأنَّ عدم مجامعة الحيض للحمل إمَّا أن يُعلَم بالحسِّ أو بالشَّرع، وكلاهما منتفٍ، أمَّا الأوَّل فظاهرٌ، وأمَّا الثَّاني فليس عن صاحب الشَّرع ما يدلُّ على أنَّهما لا

(1)

يجتمعان.

وأمَّا قولكم: إنَّه جعله دليلًا على براءة الرَّحم من الحمل في العدَّة والاستبراء.

قلنا: جعل دليلًا ظاهرًا أو قطعيًّا؟ الأوَّل صحيحٌ، والثَّاني باطلٌ، فإنَّه لو كان دليلًا قطعيًّا لما تخلَّف عنه مدلوله، ولكانت أوَّل مدَّة الحمل من حينِ انقطاعِ الحيض، وهذا لم يقله أحدٌ، بل أوَّل المدَّة من حين الوطء، ولو حاضت بعده عدَّة حِيَضٍ. فلو وطئها، ثمَّ جاءت بولدٍ لأكثرَ من ستَّة أشهرٍ من حين الوطء، ولأقلَّ منها من حينِ انقطاعِ الحيض= لحِقَه النَّسبُ اتِّفاقًا، فعُلِم أنَّه أمارةٌ ظاهرةٌ، قد يتخلَّف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطرِ عن الغيم الرَّطْب. وبهذا يخرج الجواب عمَّا استدللتم به من السُّنَّة، فإنَّا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهي الحَكَمُ بين المتنازعين.

(1)

«لا» ليست في ز. ففسد المعنى.

ص: 406

والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قسَّم النِّساء إلى قسمين: حاملٌ فعدَّتها وضْعُ حملها، وحائلٌ فعدَّتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غيرُ منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدلُّ على أنَّ ما تراه

(1)

الحامل من الدَّم على عادتها تصوم معه وتصلِّي؟ هذا أمرٌ آخر لا تعرُّضَ للحديث به، ولهذا يقول القائلون بأنَّ دمها دم حيضٍ هذه العبارةَ بعينها، ولا يُعَدُّ هذا تناقضًا ولا خللًا في العبارة.

قالوا: وهكذا قوله في شأن عبد الله بن عمر: «مُرْه فليراجِعْها، ثمَّ ليطلِّقْها طاهرًا قبل أن يَمَسَّها» ، إنَّما فيه إباحة الطَّلاق إذا كانت حائلًا بشرطين: الطُّهر وعدم المَسِيْس، فأين في هذا التَّعرُّضُ لحكم الدَّم الذي تراه على حملها؟

وقولكم: إنَّ الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدَّم بدعةً، وقد اتَّفق النَّاس على أنَّ طلاق الحامل ليس ببدعةٍ وإن رأت الدَّم؟

قلنا: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قسَّم أحوال المرأة الَّتي يريد طلاقها إلى حالِ حملٍ وحالِ خلوٍّ عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقًا من غير استثناءٍ، وأمَّا غير ذات الحمل فإنَّما أباح طلاقها بالشَّرطين المذكورين، وليس في هذا ما يدلُّ على أنَّ دم الحامل دم فسادٍ، بل على

(2)

أنَّ الحامل تخالف غيرَها في الطَّلاق، وأنَّ غيرها إنَّما تُطلَّق طاهرًا غيرَ مُصابةٍ، ولا يُشترط في الحامل شيءٌ من هذا، بل تُطلَّق عقيبَ الإصابة، وتُطلَّق وإن رأتِ الدَّم، فكما لا يحرم طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرم حالَ حيضها.

(1)

ص، د، ز:«براءة» بدل «ما تراه» ، تحريف.

(2)

«أن دم الحامل دم فساد بل على» ساقطة من ص، د، ز.

ص: 407

وهذا الذي تقتضيه حكمةُ الشَّارع في وقت الطَّلاق إذنًا ومنعًا، فإنَّ المرأة متى استبان حملُها كان المطلِّق على بصيرةٍ من أمره، ولم يَعرِض له من النَّدم ما يَعرِض لمن طلَّق

(1)

بعد الجماع ولا يَشْعُر بحملِها، فليس ما مُنِع منه نظيرَ ما أُذِن فيه، لا شرعًا ولا واقعًا ولا اعتبارًا، ولا سيَّما من علَّل [المنعَ]

(2)

من الطَّلاق في الحيض بتطويل العدَّة، فهذا لا أثرَ له في الحامل.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّه لو كان حيضًا لانقضتْ به العدَّة، فهذا لا يلزم، لأنَّ الله سبحانه جعل عدَّة الحامل بوضع الحمل، وعدَّة الحائل بالأقراء، ولا يمكن انقضاء عدَّة الحامل بالأقراء، لإفضاء ذلك إلى أن يَملِكها الثَّاني أو يتزوَّجها وهي حاملٌ من غيره، فيسقي زرعه ماء غيره

(3)

.

قالوا: وإذا كنتم سلَّمتم لنا أنَّ الحائض قد تَحْبَل، وحملتم على ذلك حديث عائشة، ولم يُمكِنْكم منعُ ذلك لشهادة الحسِّ به، فقد أعطيتم أنَّ الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالكم من رأسٍ

(4)

، لأنَّ مداره على أنَّ الحيض لا يجامع الحبلَ.

فإن قلتم: نحن إنَّما جوَّزنا ورود الحمل على الحيض، وكلامنا في عكسه، وهو ورود الحيض على الحمل، وبينهما فرقٌ.

(1)

في النسخ: «لهن كلهن» . والتصويب من هامش م.

(2)

ليست في النسخ، والسياق يقتضيها.

(3)

كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «فيسقي ماءه زرع غيره» .

(4)

كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «من رأسه» .

ص: 408

قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأيُّ فرقٍ بينَ ورودِ هذا على هذا وعكسه؟

وأمَّا قولكم: إنَّ الله سبحانه أجرى العادة بانقلاب دم الطَّمْث لبنًا يتغذَّى به الولد، ولهذا لا تحيض المراضع.

قلنا: وهذا من أكبر حجَّتنا عليكم؛ فإنَّ هذا الانقلاب والتَّغذية باللَّبن إنَّما يستحكم بعد الوضع، وهو دون

(1)

سلطانِ اللَّبن وارتضاعِ المولود، وقد أجرى الله العادة بأنَّ المرضع لا تحيض، ومع هذا فلو رأت دمًا في وقت عادتها لحُكِمَ له بحكم الحيض بالاتِّفاق، فلَأَنْ يُحكَم له بحكم الحيض في الحال الَّتي لم يستحكم فيها انقلابُه ولا تَغذِّي الطِّفلِ به= أولى وأحرى.

قالوا

(2)

: وَهَبْ أنَّ هذا كما تقولون، فهذا إنَّما يكون عند احتياج الطِّفل إلى التَّغذية باللَّبن، وهذا بعدَ أن يُنفَخ فيه الرُّوح، فأمَّا قبل ذلك فإنَّه لا ينقلب لبنًا لعدم حاجة الحملِ إليه. وأيضًا، فإنَّه لا يستحيل كلُّه لبنًا، بل يستحيل بعضه ويخرج الباقي.

وهذا القول هو الرَّاجح كما تراه نقلًا ودليلًا. والله المستعان.

فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمستبرأة بغير الوطء في الموضع الذي يجب فيه الاستبراء؟

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «زمن» ، تحريف. والمعنى أن انقلاب دم الطمث غذاءً للجنين دونَ انقلابه لبنًا للرضيع حيث يستحكم ذلك بعد الوضع.

(2)

ص، د:«قال» .

ص: 409

قيل: أمَّا إذا كانت صغيرةً لا يُوطأ مثلُها، فهذه لا تَحرم قُبلتُها ولا مباشرتُها، وهذا منصوص أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه، اختارها أبو محمَّدٍ المقدسيُّ وشيخنا

(1)

وغيرهما، فإنَّه قال

(2)

: إن كانت صغيرةً بأيِّ شيءٍ تُستبرأ إذا كانت رضيعةً؟ وقال في روايةٍ أخرى: تُستبرأ بحيضةٍ إن كانت تحيض، وإلَّا ثلاثة أشهرٍ إن كانت ممَّن تُوطأ وتَحْبَل.

قال أبو محمد

(3)

: فظاهر هذا أنَّه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها. وهذا اختيار ابن أبي موسى، وقول مالك، وهو الصَّحيح، لأنَّ سبب الإباحة متحقِّقٌ، وليس على تحريمها دليلٌ، فإنَّه لا نصَّ فيها ولا معنى نصٍّ، فإنَّ تحريم مباشرة الكبيرة إنَّما كان لكونه داعيًا إلى الوطء المحرَّم، أو خشيةَ أن تكون أمَّ ولدٍ لغيره، ولا يُتوهَّم هذا في هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة. انتهى كلامه.

فصل

وإن كانت ممَّن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكرًا وقلنا: لا يجب استبراؤها، فظاهرٌ، وإن قلنا: يجب استبراؤها، فقال أصحابنا: تحرم قُبلتُها ومباشرتها. وعندي أنَّه لا يَحرُم ولو قلنا بوجوب استبرائها؛ لأنَّه لا يلزم من تحريم الوطء تحريمُ دواعيه، كما في حقِّ الصَّائم، لا سيَّما وهم إنَّما حرَّموا تحريم

(4)

(1)

لم أجده في المطبوع من كتبه.

(2)

«المغني» (11/ 276).

(3)

أي صاحب «المغني» ، والكلام متصل بما قبله.

(4)

«تحريم» ليست في د، ز. وهي ثابتة في بقية النسخ، والمعنى واضح بدونها.

ص: 410

مباشرتها لأنَّها قد تكون حاملًا، فيكون مستمتعًا بأمة الغير. هكذا علَّلوا تحريم المباشرة، ثمَّ قالوا: ولهذا

(1)

لا يحرم الاستمتاع بالمسبيَّة بغير الوطء قبل الاستبراء في إحدى الرِّوايتين؛ لأنَّها لا يُتوهَّم فيها انفساخُ الملك؛ لأنَّه قد استقرَّ بالسِّباء، فلم يبقَ لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها من البكر معنًى.

وإن كانت ثيِّبًا، فقال أصحاب أحمد والشَّافعيِّ وغيرهم: يحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء. قالوا: لأنَّه استبراءٌ يُحرِّم الوطء، فحرَّم الاستمتاع كالعدَّة، ولأنَّه لا يأمن كونَها حاملًا، فتكون أمَّ ولدٍ، والبيع باطلٌ، فيكون مستمتعًا بأمِّ ولدِ غيره. قالوا: وبهذا فارق تحريم وطء الحائض والصَّائم.

وقال الحسن البصريُّ: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتع منها بما شاء ما لم يطأ

(2)

؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما منع من الوطء قبل الاستبراء، ولم يَمنع ممَّا دونه، ولا يلزم من تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصَّائمة، وقد قيل: ابنُ عمر [قبَّل]

(3)

جاريتَه من السَّبي حين وقعت في سهمه قبل استبرائها

(4)

.

ولمن نصَر هذا القول أن يقول: الفرق بين المشتراة

(5)

والمعتدَّة: أنَّ

(1)

«لهذا» ليست في ص، د.

(2)

لم أقف عليه مسندًا، وهو في «المغني» (11/ 276).

(3)

هنا بياض في النسخ.

(4)

تقدم تخريجه (ص 375).

(5)

ص، د، م:«المستبرأة» . وستأتي كلمة «المملوكة» الدالة على أنها مشتراة، ثم الكلام على استبرائها.

ص: 411

المعتدَّة قد صارت أجنبيَّةً منه، فلا يحلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإنَّ وطْأَها إنَّما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يوجب تحريمَ الدَّواعي، فهي أشبهُ بالحائض والصَّائمة. ونظير هذا أنَّه لو زنت امرأته أو جاريته حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرم دواعيه، وكذلك المَسْبيَّة كما سيأتي.

وأكثر ما يُتوهَّم كونُها حاملًا من سيِّدها، فينفسخ البيع، فهذا بناءً على تحريم بيع أمَّهات الأولاد على عَلالتِه

(1)

، ولا يَلزم القائلَ به؛ لأنَّه لمَّا استمتع بها كانت مِلْكَه ظاهرًا، وذلك يكفي في جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويحدِّثها، وينظر منها ما لا يباح من الأجنبيَّة، وما كان جوابكم عن هذه الأمور فهو الجواب عن القبلة والاستمتاع. ولا يُعلم في جواز هذا نزاعٌ، فإنَّ المشتري لا يُمنع من قَبْضِ أمته وحَوْزِها

(2)

إلى بيته، وإن كان وحده قبل الاستبراء، ولا يجب عليها أن تستر وجهها منه، ولا يحرم عليه النَّظر إليها، والخلوة بها، والأكل معها، واستخدامها، والانتفاع بمنافعها، وإن لم يجزْ له ذلك في ملك الغير.

فصل

وإن كانت مَسبيَّةً، ففي جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد:

(1)

كذا في النسخ، أي: على ضعفه. وفي المطبوع: «علاته» . وقد ضعَّف المؤلف حجج القائلين بمنع بيعهن في «تهذيب السنن» (3/ 38 - 44).

(2)

أي ضمّها وسَوْقها.

ص: 412

إحداهما: أنَّها كغير المسبيَّة، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفرج، وهو

(1)

ظاهر كلام الخرقي، لأنَّه قال

(2)

: ومن ملكَ أمةً لم يُصِبْها ولم يُقبِّلها حتَّى يستبرئها بعد تمام مِلْكه لها.

والثَّانية: لا تحرم، وهو قول ابن عمر

(3)

رضي الله عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السَّبي أنَّ المسبيَّة لا يُتوهَّم فيها كونُها أمَّ ولدٍ، بل هي مملوكةٌ له على كلِّ حالٍ، بخلاف غيرها كما تقدَّم، والله أعلم.

فإن قيل: فهل يكون أوَّل مدَّة الاستبراء من حين البيع أو من حين القبض؟

قيل: فيه قولان، وهما وجهان في مذهب أحمد، أحدهما: من حين البيع؛ لأنَّ الملك ينتقل به. والثَّاني: من حين القبض؛ لأنَّ القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده. وهذا على أصل الشَّافعيِّ وأحمد. أمَّا على أصل مالك، فيكفي عنده الاستبراء قبل البيع في المواضع الَّتي تقدَّمت.

فإن قيل: فإن كان في البيع خيارٌ، فمتى يكون ابتداء مدَّة الاستبراء؟

قيل

(4)

: هذا ينبني على الخلاف في انتقال الملك في مدَّة الخيار، فمن

(1)

د، ز:«وهذا» .

(2)

«مختصره مع المغني» (11/ 274).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

«قيل» ساقطة من ز.

ص: 413

قال: ينتقل، فابتداء المدَّة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.

فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيار خيارَ عيبٍ؟

قيل: ابتداء المدَّة من حينِ البيع قولًا واحدًا؛ لأنَّ خيار العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلافٍ، والله أعلم.

فصل

فإن قيل: قد دلَّت السُّنَّة على استبراء الحامل بوضع الحمل، وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ، فكيف سكتتْ عن استبراء الآيسة

(1)

والَّتي لم تحض، ولم تسكت عنهما في العدَّة؟

قيل: لم تسكتْ عنهما بحمد اللَّه، بل بيَّنتهما بطريق الإيماء والتَّنبيه، فإنَّ الله سبحانه جعل عدَّة الحرَّة ثلاثة قروءٍ، ثمَّ جعل عدَّة الآيسة

(2)

والَّتي لم تَحِضْ ثلاثة أشهرٍ، فعُلِم أنَّه سبحانه جعل في مقابلة كلِّ قرءٍ شهرًا. وبهذا أجرى سبحانه عادته الغالبة في إمائه أنَّ المرأة تحيض في كلِّ شهرٍ حيضةً، وبيَّنت السُّنَّة أنَّ استبراء الأمة الحائض بحيضةٍ، فيكون الشَّهر قائمًا مقامَ الحيضة. وهذا إحدى الرِّوايات عن أحمد، وأحد قولي الشَّافعيِّ.

وعن أحمد روايةٌ ثانيةٌ: أنَّها تُستبرأ بثلاثة أشهرٍ، وهي المشهورة عنه، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ. ووجهُ هذا القول ما احتجَّ به أحمد في رواية

(1)

د، ص، ح، ز:«الأمة» . والمثبت من م، وهو الصواب.

(2)

د، ص، ح، ز:«الأمة» . والمثبت من م.

ص: 414

أحمد بن القاسم، فإنَّه قال

(1)

: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلتَ ثلاثة أشهرٍ مكان حيضةٍ، وإنَّما جعل الله سبحانه في القرآن مكان كلِّ حيضةٍ شهرًا؟ فقال أحمد: إنَّما قلنا: ثلاثة أشهرٍ من أجل الحمل، فإنَّه لا يتبيَّن في أقلَّ من ذلك، فإنَّ عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابلَ، فأخبروا أنَّ الحمل لا يتبيَّن في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ، فأعجبه ذلك

(2)

. ثمَّ قال: ألا تسمع قول ابن مسعودٍ: إنَّ النُّطفة

(3)

أربعين يومًا علقةٌ، ثمَّ أربعين يومًا مضغةٌ بعد ذلك

(4)

، فإذا خرجت الثَّمانون صارت بعدها مضغةً، وهي لحمٌ، فتبيَّن حينئذٍ. قال ابن القاسم: وقال لي: هذا معروفٌ عند النِّساء. فأمَّا شهرٌ فلا معنى فيه. انتهى كلامه.

وعنه روايةٌ ثالثةٌ: أنَّها تُستبرأ بشهرٍ ونصفٍ، فإنَّه قال في رواية حنبل

(5)

: قال عطاء: إن كانت لا تحيض فخمسٌ وأربعون ليلةً. قال حنبل: قال عمِّي: كذلك

(6)

أذهب؛ لأنَّ عدَّة المطلَّقة الآيسة كذلك. انتهى كلامه.

ووجه هذا القول: أنَّها لو طُلِّقت وهي آيسةٌ اعتدَّتْ بشهرٍ ونصفٍ في

(1)

كما في «المغني» (11/ 266).

(2)

أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (11/ 201).

(3)

بعدها في المطبوع: «تكون» . وليست في النسخ و «المغني» .

(4)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (283) والطبراني في «الكبير» (9/ 178) والفريابي في «القدر» (128) وابن جرير في «تفسيره» (5/ 186). وهو في البخاري (3208) ومسلم (2643) مرفوعًا أيضًا.

(5)

كما في «المغني» (11/ 266).

(6)

في المطبوع: «لذلك» خلاف النسخ و «المغني» .

ص: 415

روايةٍ، فلَأن تُستبرأ الأمة بهذا القدر أولى.

وعن أحمد روايةٌ رابعةٌ: أنَّها تُستبرأ بشهرين، حكاها القاضي عنه، واستشكلها كثيرٌ من أصحابه، حتَّى قال صاحب «المغني»

(1)

: ولم أرَ لذلك وجهًا. قال: ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراءُ ذاتِ القرء بقرءين، ولم نعلم به قائلًا.

ووجه هذه الرِّواية: أنَّها اعتُبِرت بالمطلَّقة، ولو طُلِّقت وهي أمةٌ لكانت عدَّتها شهرين، هذا هو المشهور عن أحمد، واحتجَّ فيه بقول عمر

(2)

رضي الله عنه. وهو الصَّواب؛ لأنَّ الأشهر [قائمةٌ مقامَ]

(3)

القروء، وعدَّة ذات القرء قرءانِ، فبَدَلُهما شهران، وإنَّما صرنا إلى استبراء ذات القرء بحيضةٍ؛ لأنَّها علمٌ ظاهرٌ على براءتها من الحمل، ولا يحصل ذلك بشهرٍ واحدٍ، فلا بدَّ من مدَّةٍ تظهر فيها براءتها، وهي إمَّا شهران أو ثلاثةٌ، فكانت الشَّهران أولى؛ لأنَّها جُعِلت عَلَمًا على البراءة في حقِّ المطلَّقة، ففي حقِّ المستبرأة أولى، فهذا وجه هذه الرِّواية.

وبعد، فالرَّاجح من الدَّليل الاكتفاءُ بشهرٍ واحدٍ، وهو الذي دلَّ عليه إيماء النَّصِّ وتنبيهه، وفي جعْلِ مدَّة استبرائها ثلاثةَ أشهرٍ تسويةٌ بينها وبين الحرَّة، وجَعْلها بشهرين تسويةٌ بينها وبين المطلَّقة، فكان أولى المُدَدِ بها شهرًا؛ فإنَّه البدل التَّامُّ. والشَّارع قد اعتبرَ نظيرَ هذا البدل في نظير الأمة، وهي

(1)

(11/ 265).

(2)

تقدم تخريجه (ص 287).

(3)

هنا بياض في النسخ.

ص: 416

الحرَّة، واعتبره الصَّحابة في الأمة المطلَّقة، فصحَّ عن عمر بن الخطَّاب أنَّه قال: عدَّتها حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهران

(1)

، احتجَّ به أحمد.

وقد نصَّ أحمد في أشهر الرِّوايات عنه على أنَّها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفَعَه اعتدَّت بعشرة أشهرٍ، تسعةٍ للحمل وشهرٍ مكان الحيضة.

وعنه روايةٌ ثانيةٌ: تعتدُّ بسنة، هذه طريقة الشَّيخ أبي محمد، قال

(2)

: وأحمد هاهنا جعل مكان الحيضة شهرًا؛ لأنَّ اعتبار تكرارها في الآيسة لِتُعلَم براءتها من الحمل، وقد عُلِم براءتها منه هاهنا بمُضيِّ غالب مدَّته، فجعل الشَّهر مكان الحيضة على وفق القياس.

وهذا هو الذي ذكره الخرقي مفرِّقًا بين الآيسة وبين من ارتفع حيضها، فقال

(3)

: وإن كانت مُويسةً

(4)

فبثلاثة أشهرٍ، وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفَعَه اعتدَّت بتسعة أشهرٍ للحمل، وشهرٍ مكان الحيضة.

وأمَّا الشيخ أبو البركات فجعلَ الخلاف في التي ارتفع حيضها كالخلاف في الآيسة، وجعل فيها الرِّوايات الأربع بعد غالب مدَّة الحمل تسويةً بينها وبين الآيسة، فقال في «محرَّره»

(5)

: والآيسة والصَّغيرة بمُضِيِّ شهرٍ. وعنه: بمضيِّ ثلاثة أشهرٍ. وعنه: شهرين. وعنه: شهرٍ ونصفٍ. وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فبذلك بعد تسعة أشهرٍ.

(1)

تقدم تخريجه (ص 287).

(2)

في «المغني» (11/ 267).

(3)

«مختصره مع المغني» (11/ 265، 267).

(4)

كذا في النسخ. وفي «المغني» : «آيسة» . وهما بمعنًى.

(5)

(2/ 105).

ص: 417

وطريقة الخِرَقي والشيخ أبي محمد أصحُّ، وهذا الذي اخترناه من الاكتفاء بشهرٍ هو الذي مال إليه الشَّيخ في «المغني» ، فإنَّه قال

(1)

: ووجهُ استبرائها بشهرٍ أنَّ الله جعل الشَّهر مكان الحِيضة، ولذلك اختلفت الشُّهور باختلاف الحيضات، فكانت عدَّة الحرَّة الآيسة ثلاثةَ أشهرٍ مكانَ الثَّلاثة قروءٍ، وعدَّة الأمة شهرين مكانَ القرءين، وللأمة المستبرأة الَّتي ارتفع حيضها عشرة أشهرٍ، تسعةٌ للحمل وشهرٌ مكان الحيضة، فيجب أن يكون مكان الحيضة هنا شهرٌ، كما في حقِّ من ارتفع حيضها.

قال

(2)

: فإن قيل: فقد وجدتم ما دلَّ على البراءة، وهو تربُّص تسعة أشهرٍ.

قلنا: وهاهنا ما يدلُّ على البراءة وهو الإياس، فاستويا.

* * * *

(1)

«المغني» (11/ 266).

(2)

الكلام متصل بما قبله.

ص: 418