الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِكر ما رُوي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تمكين المرأة من فراقِ زوجها إذا أعسَرَ بنفقتها
روى البخاريُّ في «صحيحه»
(1)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصَّدقة ما تَركَ غِنًى ــ وفي لفظٍ: ما كان عن ظَهْرِ غِنًى ــ واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدَأْ بمن تَعُول» . تقول المرأة: إمَّا أن تُطعِمني وإمَّا أن تُطلِّقني، ويقول العبد: أَطعِمْني واستعمِلْني، ويقول الولد: أَطعِمْني، إلى مَن تَدَعُني؟ قالوا: يا أبا هريرة، سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة.
وذكر النَّسائيُّ هذا الحديث في كتابه
(2)
وقال فيه: «وابدَأْ بمن تَعُول» ، فقيل: من أعول يا رسول اللَّه؟ قال: «امرأتك تقول: أطعِمْني وإلَّا فارِقْني، خادمك يقول: أطعِمْني واستعمِلْني، ولدُك يقول
(3)
: إلى من تتركني؟». وهذا في جميع نسخ كتاب النَّسائيِّ هكذا، وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب عن محمَّد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة،
(1)
برقم (5355، 5356).
(2)
«السنن الكبرى» (9167). وأخرجه أحمد (10818)، وابن حبان (3363)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 774)، والمحفوظ أن هذه الزيادة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري في «الصحيح» (5355). قال البيهقي عقب تخريجه:«رواه ابن عيينة وغيره عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه وجعل آخره من قول أبي هريرة، وكذلك جعله الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة» . ووهَّمَ الحافظ من رجَّحَ الرفع في «فتح الباري» (9/ 501).
(3)
بعدها في المطبوع: «أطعمني» وليست في النسخ.
وسعيد ومحمد ثقتان.
وقال الدَّارقطنيُّ
(1)
: ثنا أبو بكر الشافعي، ثنا محمد بن بِشر بن مَطَر، ثنا شيبان بن فرُّوخٍ، ثنا حمَّاد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«المرأة تقول لزوجها: أطعِمْني أو طلِّقني» الحديث.
وقال الدَّارقطنيُّ
(2)
: ثنا عثمان بن أحمد بن السَّماك وعبد الباقي بن قانعٍ وإسماعيل بن علي قالوا: أخبرنا أحمد بن عليٍّ الخزَّاز، ثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي، ثنا إسحاق بن منصورٍ، ثنا حمَّاد بن سلمة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيَّب في الرَّجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يُفرَّق بينهما.
وبهذا الإسناد إلى حمَّاد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مثله
(3)
.
وقال سعيد بن منصورٍ في «سننه»
(4)
: ثنا سفيان عن أبي الزناد قال: سألت سعيد بن المسيَّب عن الرَّجل لا يجد ما ينفق على امرأته، أيُفرَّق بينهما؟ قال: نعم. قلت: سنَّةٌ؟ قال: سنَّةٌ.
(1)
في «السنن» (3781)، وفي إسناده عاصم بن بهدلة، قال في «الفتح» (9/ 501) عن هذا الإسناد:«لا حجة فيه؛ لأن في حفظ عاصم شيئًا» .
(2)
برقم (3783). ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 773)، وقد أعله الإمام أبو حاتم في «العلل» (1293) بأن إسحاق بن منصور وهم فيه فاختصره، ورواه بمعناه. وينظر:«إرواء الغليل» للألباني (2161).
(3)
برقم (3784). ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 773)، وتقدم الكلام على عاصم، وينظر:«البدر المنير» لابن الملقن (8/ 304).
(4)
(2/ 82). وأخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 115) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 773) ــ وابن أبي شيبة (19351).
وهذا ينصرف إلى سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغايته أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيَّب.
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوالٍ:
أحدها: أنَّه يُجبَر على أن يُنفِق أو يُطلِّق، روى سفيان عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ عن ابن المسيَّب قال: إذا لم يجد الرَّجل ما ينفق على امرأته أُجبِر على طلاقها
(1)
.
الثَّاني: إنَّما يطلِّقها عليه الحاكم، وهذا قول مالك؛ لكنَّه قال: يُؤجَّل في عدم النَّفقة شهرًا ونحوه، فإن انقضى الأجل وهي حائضٌ أُخِّر حتَّى تَطْهُر، وفي الصَّداق عامين، ثمَّ يُطلِّقها عليه الحاكم طلقةً رجعيَّةً، فإن أيسرَ في العدَّة فله ارتجاعها.
وللشَّافعيِّ قولان:
أحدهما: أنَّ الزَّوجة تُخيَّر، إن شاءت أقامت معه، وتبقى نفقة المعسر دَينًا لها في ذمَّته. قال أصحابه: هذا إذا أمكنَتْه من نفسها، وإن لم تمكِّنه سقطتْ نفقتها، وإن شاءت فسخت النِّكاح.
والقول الثَّاني: ليس لها أن تفسخ، لكن يرفع الزَّوج يده عنها لتكتسب. والمذهب أنَّها تملك الفسخ.
قالوا: وهل هو طلاقٌ أو فسخٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه طلاقٌ، فلا بدَّ من الرَّفع إلى القاضي حتَّى يُلزِمه أن يُطلِّق أو يُنفِق، فإن أبى طلَّق الحاكم عليه طلقةً رجعيَّةً، فإن راجعها طلَّق عليه ثانيةً،
(1)
أخرجه بهذا الإسناد ابن أبي شيبة (19357). وهو في «المغني» (11/ 361).
فإن راجعها طلَّق عليه ثالثةً.
والثَّاني: أنَّه فسخٌ، فلا بدَّ من الرَّفع إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثمَّ تفسخ هي، وإن اختارت المقام ثمَّ أرادت الفسخ ملكَتْه؛ لأنَّ النَّفقة يتجدَّد وجوبها كلَّ يومٍ. وهل تَملِك الفسخَ في الحال أو لا تملكه إلا بعد مضيِّ ثلاثة أيَّامٍ؟ فيه قولان، الصَّحيح عندهم الثَّاني.
قالوا: فلو وجد في اليوم الثَّالث نفقتها وتعذَّرتْ عليه نفقة اليوم الرَّابع، فهل يجب استئناف هذا الإمهال؟ فيه وجهان. وقال حمَّاد بن أبي سليمان: يُؤجَّل سنةً ثمَّ يفسخ قياسًا على العنِّين. وقال عمر بن عبد العزيز: يُضرَب له شهرٌ أو شهران. وقال مالك: الشَّهر ونحوه
(1)
.
وعن أحمد روايتان، إحداهما وهي ظاهر مذهبه: أنَّ المرأة تُخيَّر بين المقام معه وبين الفسخ، فإن اختارت الفسخ رفعتْه إلى الحاكم، فيخيَّر الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يُجبِره على الطَّلاق أو يأذن لها في الفسخ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخٌ لا طلاقٌ، ولا رجعة له وإن أيسرَ في العدَّة. وإن أجبره على الطَّلاق
(2)
فطلَّق رجعيًّا فله رجعتُها، فإن راجعَها وهو مُعسِرٌ أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخَ فسخ عليه ثانيًا وثالثًا، وإن رضيتْ بالمقام معه مع عُسْرته ثمَّ بدا لها الفسخُ، أو تزوَّجته عالمةً بعُسْرتِه ثمَّ اختارت الفسخ، فلها ذلك.
قال القاضي
(3)
: وظاهر كلام أحمد أنَّه ليس لها الفسخ في الموضعين
(1)
انظر هذه الأقوال في «المغني» (11/ 362).
(2)
د، ص:«على ذلك الطلاق» .
(3)
كما في «المغني» (11/ 366).
ويَبطُل خيارها، وهو قول مالك، لأنَّها رضيتْ بعيبه ودخلتْ في العقد عالمةً به، فلم تملك الفسخ، كما لو تزوَّجت عنِّينًا عالمةً بِعُنَّته، أو قالت بعد العقد: قد رضيتُ به عنِّينًا.
وهذا الذي قاله القاضي: هو مقتضى المذهب والحجَّة.
والَّذين قالوا: لها الفسخ ــ وإن رضيتْ بالمقام ــ قالوا: حقُّها متجدِّدٌ كلَّ يومٍ، فيتجدَّد لها الفسخ بتجدُّد حقِّها. قالوا: ولأنَّ رضاها يتضمَّن إسقاط حقِّها فيما لم يجب فيه من الزَّمان، فلم يسقط كإسقاط الشُّفعة قبل البيع. قالوا: وكذلك لو أسقطت النَّفقة المستقبلة لم تسقط، وكذلك لو أسقطتْها قبل العقد جملةً ورضيتْ بلا نفقةٍ، وكذلك لو أسقطت المهرَ قبله لم يسقط، وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقُط الفسخُ الثَّابت به.
والَّذين قالوا بالسُّقوط أجابوا عن ذلك بأنَّ حقَّها من الجماع يتجدَّد، ومع هذا إذا أسقطت حقَّها من الفسخ بالعُنَّة سقطَ، ولم تملك الرُّجوع فيه.
قالوا: وقياسكم ذلك على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غير متَّفقٍ عليه ولا ثابتٍ بالدَّليل، بل الدَّليل يدلُّ على سقوط الشُّفعة بإسقاطها قبل البيع، كما صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«لا يَحِلُّ له أن يبيعَ حتَّى يُؤذِنَ شريكَه، فإن باعَه ولم يُؤذِنْه فهو أحقُّ بالبيع»
(1)
. وهذا صريحٌ في أنَّه إذا أسقطها قبل البيع لم يملك طَلَبَها بعده، وحينئذٍ فنجعل هذا أصلًا لسقوط حقِّها من النَّفقة بالإسقاط، ونقول: خيارٌ
(2)
لدفع الضَّرر، فسقط بإسقاطه قبل ثبوته كالشُّفعة.
(1)
أخرجه البخاري (2214)، ومسلم (1608) من حديث جابر رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
(2)
د: «خيارًا» .
ثمَّ ينتقض هذا بالعيب في العين المُؤْجَرة، فإنَّ المستأجر إذا دخل عليه أو علم به ثمَّ اختار ترك الفسخ لم يكن له الفسخُ بعد هذا، وتجدُّد حقِّه من الانتفاع كلَّ وقتٍ كتجدُّد حقِّ المرأة من النَّفقة سواءٌ، ولا فرق بينهما
(1)
.
وأمَّا قوله: لو أسقطتْها قبل النِّكاح أو أسقطت المهر قبله لم يسقط، فليس إسقاط الحقِّ
(2)
قبل انعقاد سببه بالكلِّيَّة كإسقاطه بعد انعقاد سببه. هذا إن كان في المسألة إجماعٌ، وإن كان فيها خلافٌ فلا فرقَ بين الإسقاطين وسوَّينا بين الحكمين، وإن كان بينهما فرقٌ امتنع القياس.
وعنه روايةٌ أخرى: ليس لها الفسخ، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه. وعلى هذا لا يلزمها تمكينُه من الاستمتاع؛ لأنَّه لم يُسلِّم إليها عوضَه فلم يلزمها تسليمه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه، وعليه تخليةُ سبيلها لتكتسب لها وتُحصِّل ما تنفقه على نفسها؛ لأنَّ في حبسها بغير نفقةٍ إضرارًا بها.
فإن قيل: فلو كانت مُوسِرةً، فهَلْ
(3)
يملك حبسها؟
قيل: قد قالوا أيضًا: لا يملك حبسها؛ لأنَّه إنَّما يملكه إذا كفاها المُؤْنةَ وأغناها عمَّا لا بدَّ لها منه من النَّفقة والكسوة، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها، فإذا انتفى هذا وهذا لم يملك حبْسَها، وهذا قول جماعةٍ من السَّلف والخلف.
(1)
«بينهما» ليست في المطبوع.
(2)
«الحق» ليست في د.
(3)
في المطبوع: «فهلّا» خلاف النسخ.
ذكر عبد الرزاق
(1)
عن ابن جريجٍ قال: سألت عطاء عمَّن لا يجد ما يصلح امرأته من النَّفقة، قال: ليس لها إلا ما وجدتْ
(2)
، ليس لها أن يطلِّقها.
وروى حمَّاد بن سلمة عن جماعةٍ عن الحسن البصريِّ أنَّه قال في الرَّجل يَعجِز عن [نفقة]
(3)
امرأته: قال: تُواسِيه وتتَّقي الله وتصبر، وينفق عليها ما استطاع
(4)
.
وذكر عبد الرزاق
(5)
عن معمر قال: سألت الزُّهريَّ عن رجلٍ لا يجد ما ينفق على امرأته، أيُفرَّق بينهما؟ قال: يُستَأْنَى
(6)
به ولا يُفرَّق بينهما، وتلا:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ} [الطلاق: 7]. قال معمر: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثلُ قول الزُّهريِّ سواءً.
وذكر عبد الرزاق
(7)
عن سفيان الثَّوريِّ في المرأة يُعسِرُ زوجها بنفقتها: قال: هي امرأةٌ ابتُلِيتْ، فلْتصبِرْ، ولا تأخُذْ بقول من فرَّق بينهما.
قلت: عن عمر بن عبد العزيز ثلاث رواياتٍ، هذه إحداها.
(1)
في «المصنف» (12354).
(2)
«ليس لها إلا ما وجدت» ليست في د.
(3)
ليست في النسخ، وهي في مصدر التخريج.
(4)
ينظر: «المحلى» لابن حزم (10/ 97).
(5)
في «المصنف» (12355).
(6)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«تستأنِي» .
(7)
في «المصنف» (12356).
والثَّانية: روى ابن وهب عن عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يقول لزوجِ امرأةٍ شكتْ إليه أنَّه لا يُنفِق عليها: اضرِبوا له أجلَ شهرٍ
(1)
أو شهرين، فإن لم ينفق عليها إلى ذلك الأجل فرِّقوا بينه وبينها
(2)
.
والثَّالثة: ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن أنَّ رجلًا شكا إلى عمر بن عبد العزيز بأنَّه أنكحَ ابنتَه رجلًا لا يُنفِق عليها، فأرسل إلى الزَّوج، فأتى، فقال: أَنكحَني وهو يعلم أنَّه ليس لي شيءٌ، فقال عمر: أنكحتَه وأنتَ تعرفه؟
(3)
فما الذي أصنع؟ اذهَبْ بأهلك
(4)
.
والقول بعدم التَّفريق مذهب أهل الظَّاهر كلِّهم، وقد تناظر فيها مالك وغيره فقال مالك
(5)
: أدركتُ النَّاس يقولون: إذا لم ينفق الرَّجل على امرأته فُرِّق بينهما. فقيل له: قد كانت الصَّحابة يُعسِرون ويحتاجون، فقال مالك: ليس النَّاس اليوم كذلك؛ إنَّما تزوَّجتْه رجاءً.
ومعنى كلامه: أنَّ نساء الصَّحابة كنَّ يُرِدن الدَّار الآخرة وما عند اللَّه، ولم يكن مرادهنَّ الدُّنيا، فلم يكُنَّ يبالين بعُسْر أزواجهنَّ؛ لأنَّ أزواجهنَّ كانوا كذلك. وأمَّا النِّساء اليوم فإنَّما تزوَّجن رجاءَ دنيا الأزواج ونفقتهنّ
(1)
كذا في النسخ ومصدر التخريج. وفي المطبوع: «أجلًا شهرًا» .
(2)
«المحلى» لابن حزم (10/ 94).
(3)
بعدها في المطبوع زيادة: «قال: نعم، قال» . وليست في النسخ ومصدر التخريج.
(4)
«المحلى» لابن حزم (10/ 95)، وابن وهب ممن حدث عن ابن لهيعة قبل اختلاطه.
(5)
كما في «المحلى» (10/ 95) و «الفروع» (8/ 262).
وكسوتهنّ
(1)
، فالمرأة إنَّما تدخل اليوم على رجاء الدُّنيا، فصار هذا العرف
(2)
كالمشروط في العقد، وكان عرف الصَّحابة ونسائهم كالمشروط في العقد، والشَّرط العرفيُّ في أصل مذهبه كاللَّفظيِّ، وإنَّما أَنكر على مالك كلامَه هذا من لم يفهمه ويفهم غَوْرَه.
وفي المسألة مذهبٌ آخر، وهو: أنَّ الزَّوج إذا أعسرَ بالنَّفقة حُبِس حتَّى يجدَ ما ينفقه. وهذا المذهب
(3)
حكاه النَّاس ــ ابنُ حزمٍ
(4)
وصاحبُ «المغني» وغيرُهما ــ عن عبيد الله بن الحسن العَنْبري قاضي البصرة
(5)
. وياللَّه العجب! لأيِّ شيءٍ يُسجَن ويُجمَع عليه بين عذاب السِّجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ، وما أظنُّ من شَمَّ رائحة العلم يقول هذا.
وفي المسألة مذهبٌ آخر، وهو: أنَّ المرأة تُكلَّف الإنفاقَ
(6)
إذا كان عاجزًا عن نفقة نفسه. وهذا مذهب أبي محمد ابن حزم، وهو خيرٌ بلا شكَّ من مذهب العنبري. قال في «المحلَّى»
(7)
: فإن عجز الزَّوج عن نفقة نفسه، وامرأتُه غنيَّةٌ، كُلِّفتِ النَّفقةَ عليه، لا تَرجِع بشيء من ذلك إن أيسرَ. برهانُ
(1)
في المطبوع: «ونفقتهم وكسوتهم» خلاف النسخ.
(2)
في المطبوع: «المعروف» .
(3)
م: «مذهب» .
(4)
في المطبوع: «عن ابن حزم» ، خطأ. فابن حزم ردَّ عليه واستغربه.
(5)
انظر: «المحلى» (10/ 93) و «المغني» (11/ 361).
(6)
بعدها في المطبوع: «عليها» ليست في النسخ.
(7)
(10/ 92).
ذلك قول الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا
(1)
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، والزوجة وارثةٌ، فعليها النَّفقةُ بنصِّ القرآن.
ويا عجبًا لأبي محمد! لو تأمَّل سياقَ الآية لتبيَّن له منها خلافُ ما فهمه؛ فإنَّ الله سبحانه قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وهذا ضمير الزَّوجات بلا شكٍّ، ثمَّ قال:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، فجعل سبحانه على وارثِ المولود له، أو وارثِ الولد مِنْ رزقِ الوالدات وكسوتهنَّ بالمعروف مثلَ ما على الموروث، فأين في الآية نفقةٌ على غير الزَّوجات حتَّى يُحمَل عمومُها لما ذهب إليه؟
واحتجَّ من لم ير الفسخ بالإعسار بقوله تعالى: {(6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. قالوا: وإذا لم يكلِّفه الله النَّفقةَ في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه، ولم يأثم بتركه، فلا يكون سببًا للتَّفريق بينه وبين حبِّه وسَكَنِه وتعذيبِه بذلك.
قالوا: وقد روى مسلم في «صحيحه»
(2)
من حديث أبي الزبير عن جابر قال: دخل أبو بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجداه جالسًا حوله نساؤه واجمًا ساكتًا، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، لو رأيتَ بنتَ خارجة سألتْني النَّفقةَ فقمتُ إليها فوجأتُ عنقَها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هنَّ حولي كما ترى يسألنني النَّفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عنقها، وقام عمر إلى
حفصة يجأ عنقها
(1)
، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ما ليس عنده، ثمَّ اعتزلهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا. وذكر الحديث.
قالوا: فهذا أبو بكر وعمر يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقةً لا يجدها، ومن المحال أن يضربا طالبتينِ للحقِّ ويُقِرَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدلَّ على أنَّه لا حقَّ لهما فيما طلبَتَاه من النَّفقة في حال الإعسار، وإذا كان طلبهما لها
(2)
باطلًا فكيف تُمكَّن المرأةُ من فسخ النِّكاح بعدمِ ما ليس لها طلبُه ولا يحلُّ لها، وقد أمر الله سبحانه صاحبَ الدَّين أن يُنظِر المعسرَ إلى الميسرة، وغاية النَّفقة أن يكون دَينًا، فالمرأة مأمورةٌ بإنظار الزَّوج إلى الميسرة
(3)
بنصِّ القرآن. هذا إن قيل: تثبت في ذمَّة الزَّوج، وإن قيل: تسقط بمضيِّ الزَّمان فالفسخ أبعدُ وأبعدُ.
قالوا: فاللَّه سبحانه وتعالى أوجبَ على صاحب الحقِّ الصَّبر على المُعسِر، ونَدَبَه إلى الصَّدقة بترك حقِّه، وما عدا هذين الأمرين فَجَورٌ لم يُبِحه له، ونحن نقول لهذه المرأة كما قال الله تعالى لها سواءً بسواءٍ: إمَّا أن تُنظِريه إلى الميسرة وإمَّا أن تَصَّدَّقي، ولا حقَّ لكِ فيما عدا هذين الأمرين.
قالوا: ولم يزل في الصَّحابة المعسرُ والموسرُ، وكان مُعسِروهم أضعافَ أضعافِ موسريهم، فما مكَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قطُّ امرأةً واحدةً من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلَمَها أنَّ الفسخ حقٌّ لها، فإن شاءت صبرت وإن شاءت
فسخت، وهو يُشرِّع الأحكام عن الله بأمره، فهَبْ أنَّ الأزواج تركن حقَّهنَّ، أفما كان فيهنَّ امرأةٌ واحدةٌ تطالب بحقِّها؟ وهؤلاء نساؤه صلى الله عليه وسلم خير نساء العالمين يطالبنه بالنَّفقة حتَّى أغضبنه، وحلف أن لا يدخل عليهنَّ شهرًا من شدَّة مَوجِدتِه عليهنَّ، فلو كان من المستقِرِّ في شرعه أنَّ المرأة تملك الفسخ بإعسار زوجها لَرُفِع إليه ذلك ولو من امرأةٍ واحدةٍ، وقد رُفِع إليه ما ضرورتُه دون ضرورةِ فَقْد النَّفقة
(1)
من فقد النِّكاح، وقالت له امرأة رِفاعة: إنِّي نكحتُ بعد رفاعةَ عبد الرحمن بن الزَّبير وإنّما معه مثلُ هُدْبةِ الثَّوب
(2)
. تريد أن يُفرِّق بينه وبينها. ومن المعلوم أنَّ هذا كان فيهم في غاية النُّدرة بالنِّسبة إلى الإعسار، فما طلبت منه امرأةٌ واحدةٌ أن يُفرَّق بينها وبين زوجها بالإعسار.
قالوا: وقد جعل الله الفقر والغنى مَطيَّتينِ
(3)
للعباد، فيفتقر الرَّجل الوقتَ ويستغني الوقتَ، فلو كان كلُّ من افتقر فُسِخت عليه امرأته لعمَّ البلاء وتفاقم الشَّرُّ، وفُسِخت أنكحةُ أكثر العالم، وكان الفراق بيد أكثر النِّساء، فمن الذي لم تُصِبْه عُسرةٌ ويُعوِز النَّفقة أحيانًا؟
قالوا: ولو تعذَّر من المرأة الاستمتاعُ بمرض متطاولٍ وأَعسرتْ بالجماع لم يُمكَّن الزَّوجُ من فسخ النِّكاح، بل يوجبون عليه النَّفقة كاملةً مع إعسار زوجته بالوطء، فكيف يُمكِّنونها من الفسخ بإعساره عن النَّفقة الَّتي غايتها أن تكون عوضًا عن الاستمتاع؟
(1)
«النفقة» ليست في ز.
(2)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
م، ز:«مظنتين» .
قالوا: وأمَّا حديث أبي هريرة فقد صرَّح فيه بأنَّ قوله: «امرأتك تقول: أَنفِقْ عليَّ وإلَّا طلِّقني» من كِيْسه، لا من كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. هكذا في «الصَّحيح»
(1)
عنه، ورواه عنه سعيد بن أبي سعيدٍ وقال
(2)
: ثمَّ يقول أبو هريرة إذا حدَّث بهذا الحديث: امرأتك تقول، فذكر الزِّيادة.
وأمَّا حديث حمَّاد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله
(3)
، فأشار إلى حديث يحيى بن سعيدٍ عن سعيد بن المسيَّب في الرَّجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يُفرَّق بينهما
(4)
= فحديثٌ منكرٌ لا يحتمل أن يكون عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصلًا، وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة موقوفًا، والظَّاهر أنَّه رَوى بالمعنى، وأراد قول أبي هريرة:«امرأتك تقول: أطعِمْني أو طَلِّقْني» . وأمَّا أن يكون عند أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن الرَّجل لا يجد ما ينفق على امرأته فقال: يفرَّق بينهما= فواللَّه ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سمعه أبو هريرة ولا حدَّث به، كيف وأبو هريرة لا يستجيز أن يروي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«امرأتك تقول: أطعمني وإلَّا طلِّقني» ، ويقولُ: هذا من كيس أبي هريرة، لئلَّا يتوهَّم نسبته إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
والَّذي تقتضيه أصول الشَّريعة وقواعدها في هذه المسألة: أنَّ الرَّجل إذا غَرَّ المرأة بأنَّه ذو مالٍ فتزوَّجتْه على ذلك، فظهر مُعدِمًا لا شيء له، أو كان ذا
(1)
تقدم تخريجه (ص 80).
(2)
كما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 466).
(3)
رواه الدارقطني (3781) وقد تقدم (ص 107).
(4)
المصدر نفسه (3782) وقد تقدم (ص 107).
مالٍ أو ترك الإنفاقَ على امرأته ولم تقدر على أخْذِ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم= أنَّ لها الفسخَ، وإن تزوَّجتْه عالمةً بعسرته أو كان موسرًا ثمَّ أصابته جائحةٌ اجتاحتْ ماله فلا فسخَ لها في ذلك، ولم يزل النَّاسُ تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجُهم إلى الحكَّام ليفرِّقوا بينهم وبينهنَّ، وباللَّه التَّوفيق.
وقد قال جمهور الفقهاء: لا يثبت لها الفسخ بالإعسار بالصَّداق، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وهو الصَّحيح من مذهب أحمد، اختاره عامَّة أصحابه، وهو قول كثيرٍ من أصحاب الشَّافعيِّ. وفصَّل الشَّيخ أبو إسحاق وأبو عليِّ بن أبي هريرة فقالا: إن كان قبل الدُّخول ثبت به الفسخ، وبعده لا يثبت، وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد. هذا
(1)
مع أنَّه عوضٌ محضٌ، وهو أحقُّ أن يُوفَّى به من ثمن المبيع كما دلَّ عليه النَّصُّ، وكلُّ ما تقرَّر في عدم الفسخ به فمثلُه في النَّفقة وأولى.
فإن قيل: في الإعسار بالنَّفقة من الضَّرر اللَّاحق بالزَّوجة ما ليس في الإعسار بالصَّداق، فإنَّ البنية
(2)
تقوم بدونه بخلاف النَّفقة.
قيل: والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِق من مالها أو ينفق عليها ذو قرابتها أو تأكل من غَزْلها، وبالجملة فتعيش بما تعيش به زمن العدَّة، وتقدِّر زمنَ عُسْرة
(3)
الزَّوج كلَّه عدَّةً.
(1)
«هذا» ليست في ز.
(2)
ز، ح، د، م:«البينة» .
(3)
د، ص، ح:«عشرة» .