الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأطهار، وهل يقال في كلِّ لفظٍ مشتركٍ: إنَّ أسبق معانيه إلى الوجود أحقُّ به؟ فيكون عسعس من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] أولى بكونه لإقبال اللَّيل لسبقه في الوجود، فإنَّ الظَّلام سابقٌ على الضِّياء!
وأمَّا قولكم: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فسَّر القروء بالأطهار، فلعَمْرُ الله لو كان الأمر كذلك لما سبقتمونا إلى القول بأنَّها الأطهار، ولبادرنا إلى هذا القول اعتقادًا وعملًا، وهل المعوَّل إلا على تفسيره وبيانه:
تقول سُليمى لو أقمتم بأرضِنا
…
ولم تَدْرِ أنِّي للمُقامِ أطوِّفُ
(1)
فقد بيَّنَّا من صريح كلامه ومعناه ما يدلُّ على تفسيره للقرء بالحيض، وفي ذلك كفايةٌ.
فصل
في الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا
قولكم في الاعتراض على الاستدلال بقوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وأنه يقتضي أن تكون كوامل، أي: بقيَّة الطُّهر قرءٌ كاملٌ= فهذا ترجمة المذهب، والشَّأن في كونه قرءًا في لسان الشَّارع أو في اللُّغة، فكيف تستدِلُّون علينا بالمذهب، مع منازعة غيركم له فيه ممَّن يقول: الأقراء الأطهار كما تقدَّم؟ ولكن أوجِدُونا في لسان الشَّارع أو في لغة العرب أنَّ اللَّحظة من الطُّهر تُسمَّى قرءًا كاملًا، وغاية ما عندكم أنَّ بعض من قال: القروء الأطهار ــ لا كلُّهم ــ يقولون: بقيَّة القرء المطلق فيه قرءٌ، وكان ماذا؟ كيف وهذا الجزء
(1)
البيت لعروة بن الورد في «ديوانه» (ص 107)، و «الكامل» للمبرد (1/ 262)، و «الأغاني» (3/ 82).
من الطُّهر بعض طهرٍ بلا ريبٍ؟ فإذا كان مسمَّى القرء في الآية هو الطُّهر وجب أن يكون هذا بعض قرءٍ يقينًا، أو يكون القرء مشتركًا بين الجميع
(1)
والبعض، وقد تقدَّم إبطال ذلك، وأنَّه لم يقل به أحدٌ.
قولكم: إنَّ العرب تُوقِع اسم الجمع على اثنين وبعض الثَّالث، جوابه من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ هذا إن وقع فإنَّما يقع في أسماء الجموع الَّتي هي ظواهر في مسمَّاها، وأمَّا صيغ العدد الَّتي هي نصوصٌ في مسمَّاها
(2)
فكلَّا ولمَّا
(3)
، ولم تَرِد صيغة العدد إلا مسبوقةً بمسمَّاها، كقوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]، وقوله:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25]، وقوله:{يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وقوله:{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]، ونظائره ممَّا لا يراد به في موضعٍ واحدٍ دون مسمَّاه من العدد. وقوله:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} اسم عددٍ ليس بصيغة جمعٍ، فلا يصحُّ إلحاقه بأشهرٍ معلوماتٍ لوجهين:
أحدهما: أنَّ اسم العدد نصٌّ في مسمَّاه لا يقبل التَّخصيص المنفصل
(4)
،
(1)
ز، ح، ص، د:«الجمع» .
(2)
«وأما صيغ
…
مسماها» ساقطة من ص.
(3)
سبق التعليق على هذا الأسلوب في أول الكتاب (1/ 12).
(4)
بعدها في المطبوع: «بخلاف الاسم العام، فإنه يقبل التخصيص المنفصل» . وليست في النسخ.
فلا يلزم من
(1)
التَّوسُّعِ في الاسم الظَّاهر التَّوسُّع في الاسم الذي هو نصٌّ فيما يتناوله.
الثَّاني: أنَّ اسم الجمع يصحُّ استعماله في الاثنين فقط مجازًا عند الأكثرين، وحقيقةً عند بعضهم، فصحَّة استعماله في اثنين وبعضِ الثَّالث أولى بخلاف الثَّلاثة، ولهذا لما قال تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] حمله الجمهور على أخوين، ولمَّا قال:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] لم يحملها أحدٌ على ما دون الأربع.
والجواب الثَّاني: أنَّه وإن صحَّ استعمال الجمع في اثنين وبعض الثَّالث إلا أنَّه مجازٌ، والحقيقة أن يكون المعنى على وفق اللَّفظ، وإذا دار اللَّفظ بين حقيقته ومجازه فالحقيقة أولى به.
الجواب الثَّالث: أنَّه إنَّما جاء استعمال الجمع في اثنين وبعضِ الثَّالث في أسماء الأيَّام والشُّهور والأعوام خاصَّةً؛ لأنَّ التَّاريخ إنَّما يكون في أثناء هذه الأزمنة، فتارةً يُدخِلون السَّنة النَّاقصة في التَّاريخ وتارةً لا يُدخلونها، وكذلك الأيَّام، وقد توسَّعوا في ذلك ما لم يتوسَّعوا في غيره، فأطلقوا اللَّيالي وأرادوا الأيَّام معها تارةً وبدونها أخرى، وبالعكس.
الجواب الرَّابع: أنَّ هذا التَّجوُّز جاء في جمع القلَّة، وهو قوله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقوله:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} جمع كثرةٍ، وكان من الممكن أن يقال: ثلاثة أقراءٍ، إذ هو الأغلب على الكلام، بل هو الحقيقة عند أكثر النُّحاة، فالعدول عن صيغة القلَّة إلى صيغة الكثرة لا بدَّ له من فائدةٍ،
(1)
«من» ليست في ص، د، ح، م.
ونفي
(1)
التَّجوُّز في هذا الجمع يصلح أن يكون فائدةً، ولا يظهر غيرها، فوجب اعتبارها.
الجواب الخامس: أنَّ الجمع إنَّما يُطلق على اثنين وبعض الثَّالث فيما يقبل التَّبعيض، وهو اليوم والشَّهر والعام ونحو ذلك، دون ما لا يقبله، والحيض والطُّهر لا يتبعَّضان، ولهذا جعلت عدَّة الأمة ذات
(2)
الأقراء قرأينِ كاملين بالاتِّفاق، ولو أمكن تنصيف القرء لجعلت قرءًا ونصفًا، هذا مع قيام المقتضي للتَّبعيض، فأن لا يجوز التَّبعيض مع قيام المقتضي للتَّكميل أولى. وسرُّ المسألة أنَّ القرء ليس لبعضه حكمٌ في الشَّرع.
الجواب السَّادس: أنَّه سبحانه قال في الآيسة والصَّغيرة: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، ثمَّ اتَّفقت الأمَّة على أنَّها ثلاث كوامل، وهي بدلٌ عن الحيض، فتكميل المُبدَل أولى.
قولكم: إنَّ أهل اللُّغة يُصرِّحون بأنَّ له مسمَّيينِ الحيضَ والطُّهرَ، لا ننازعكم فيه، ولكنَّ حمْلَه على الحيض أولى للوجوه الَّتي ذكرناها، والمشترك إذا اقترن به قرائن تُرجِّح أحد معانيه وجب الحمل على الرَّاجح.
قولكم: إنَّ الطُّهر الذي لم يسبقه دمٌ قرءٌ على الأصحِّ، فهذا ترجيحٌ وتفسيرٌ للفظه بالمذهب، وإلَّا فلا يُعرف في لغة العرب قطُّ أنَّ طهر بنت أربع سنين يُسمَّى قرءًا، ولا تُسمَّى من ذوات الأقراء لا لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا، فثبت أنَّ الدَّم داخلٌ في مسمَّى القرء، ولا يكون قرءًا إلا مع وجوده.
(1)
م، ز:«وبقي» .
(2)
ص، د، ز، م:«ذوات» .
قولكم: الدَّم شرطٌ للتَّسمية كالكأس والقلم وغيرهما من الألفاظ المذكورة بنظرٍ
(1)
فاسدٍ، فإنَّ مسمَّى تلك الألفاظ حقيقةٌ واحدةٌ بشروطٍ، والقرء مشتركٌ بين الطُّهر والحيض يقال على كلٍّ منهما حقيقةً، فالحيض مسمَّاه حقيقةً لا أنَّه شرطٌ في استعماله في أحد مسمَّيَيْه، فافترقا.
قولكم: لم يجئ في لسان الشَّارع للحيض.
قلنا: قد بيَّنَّا مجيئه في كلامه للحيض، بل لم يجئ في كلامه للطُّهر البتَّةَ في موضعٍ واحدٍ، وقد تقدَّم أنَّ سفيان بن عيينة روى عن أيوب
(2)
عن سليمان بن يسارٍ عن أم سلمة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: «تَدَعُ الصَّلاة أيَّامَ أقرائِها» .
قولكم: إنَّ الشَّافعيَّ قال: ما حدَّث بهذا سفيان قطُّ.
جوابه: أنَّ الشَّافعيَّ لم يسمع سفيان يحدِّث به، فقال بموجب ما سمعه من سفيان، أو عنه من قوله:«لِتنظُرْ عددَ اللَّيالي والأيَّام الَّتي كانت تحيضهنَّ من الشَّهر» ، وقد سمعه من سفيان من لا يُستَراب بحفظه وصدقه وعدالته. وثبت في «السُّنن»
(3)
من حديث فاطمة بنت أبي حُبَيش أنَّها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكتْ إليه الدَّم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما ذلك عِرْقٌ، فانظري فإذا
(1)
في المطبوع: «تنظير» خلاف النسخ.
(2)
في د بعدها: «السختياني» .
(3)
أبو داود (280)، والنسائي (211)، وابن ماجه (620). وأخرجه أحمد (27360)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 491)، وفي إسناده المنذر بن المغيرة، جهَّله أبو حاتم، وقال ابن حجر في التقريب (6891):«مقبول» . وله شواهد، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2/ 38).
أتى قرؤك فلا تصلِّي، وإذا مرَّ قرؤك فتطهَّري، ثمَّ صلِّي ما بين القرء إلى القرء». رواه أبو داود، وإسناده صحيحٌ. فذكر فيه لفظ القرء أربع مرَّاتٍ، في كلِّ ذلك يريد به الحيض لا الطُّهر. وكذلك إسناد الذي قبله، وقد صحَّحه جماعةٌ من الحفَّاظ.
وأمَّا حديث سفيان الذي قال فيه: «لِتنظُرْ عدد اللَّيالي والأيَّام الَّتي كانت تحيضهنَّ من الشَّهر» ، فلا تعارضَ بينه وبين اللَّفظ الذي احتججنا به بوجهٍ ما حتَّى يُطلَب ترجيح أحدهما على الآخر، بل أحد اللَّفظين يجري من الآخر مجرى التَّفسير والبيان، وهذا يدلُّ على أنَّ القرء اسمٌ لتلك اللَّيالي والأيَّام، فإنَّه إن كانا جميعًا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وهو الظَّاهر ــ فظاهرٌ، وإن كان قد رُوِي بالمعنى فلولا أنَّ معنى أحد اللَّفظين معنى الآخر لغةً وشرعًا لم يحلَّ للرَّاوي أن يُبدل لفظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقوم مقامه، أو لا يَسُوغ له أن يُبدِل اللَّفظ بما يوافق مذهبه، ولا يكون مرادفًا للفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيَّما والرَّاوي لذلك مَن
(1)
لا يُدفع عن الإمامة والعدالة
(2)
والصِّدق والورع
(3)
، وهو أيُّوب السَّختيانيُّ، وهو أجلُّ من نافع وأعلمُ.
(1)
ص، د:«ما» .
(2)
«والعدالة» ليست في المطبوع.
(3)
«والورع» ليست في ز.
وقد روى عثمان بن سعيد القرشي
(1)
، حدَّثنا ابن أبي مُلَيكة قال: جاءت خالتي فاطمة بنت أبي حُبيش إلى عائشة فقالت: إنِّي أخاف أن أقع في النَّار، أَدَعُ الصَّلاةَ السَّنةَ والسَّنتين، قالت: انتظري حتى يجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فقالت عائشة: هذه فاطمة تقول كذا وكذا، قال:«قُولي لها فَلْتَدَعِ الصَّلاة في كلِّ شهرٍ أيَّامَ قرئها»
(2)
. قال الحاكم
(3)
: هذا حديثٌ صحيحٌ، وعثمان بن سعيد
(4)
الكاتب بصريٌّ ثقةٌ عزيز الحديث، يجمع حديثه. قال البيهقي
(5)
: وتكلَّم فيه غيره. وفيه: أنْ تابعه الحجَّاج بن أرطاة على ابن أبي مليكة عن عائشة.
وفي «المسند»
(6)
: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «إذا أقبلتْ أيَّامُ أقرائِك فأمسكي عليكِ
(7)
…
» الحديث.
وفي «سنن أبي داود»
(8)
من حديث عديِّ بن ثابتٍ
(9)
، عن أبيه، عن جدِّه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المستحاضة:«تَدَعُ الصَّلاة أيَّام أقرائها، ثمَّ تغتسل وتصلِّي» .
(1)
كذا في النسخ. وفي مصادر التخريج: «بن سعد القرشي» . وفي المطبوع: «بن سعد الكاتب» . والمعروف بالرواية عن ابن أبي مليكة: عثمان بن سعد التميمي البصري الكاتب، وليس القرشي، كما في «تهذيب التهذيب» (7/ 117).
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 403)، والحاكم (1/ 175)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 354)، وفي إسناده عثمان بن سعد، وهو ضعيف، والحديث ضعفه البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 355)، وتعقب الذهبي الحاكم في تصحيحه في «التلخيص» .
(3)
«المستدرك» (1/ 176).
(4)
كذا في النسخ. وفي «المستدرك» : «سعد» .
(5)
«السنن الكبرى» (1/ 355).
(6)
برقم (25681).
(7)
ص، د:«عليكي» .
(8)
برقم (281). وتقدم تخريجه.
(9)
ص، د:«بن أبي ثابت» ، خطأ.
وفي «سننه»
(1)
أيضًا: عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكتْ إليه الدَّم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّما ذلكِ عِرْقٌ، فانظري فإذا أتى قرؤكِ فلا تُصلِّي، فإذا مَرَّ قرؤكِ فتَطهَّري، ثمَّ صلِّي ما بين القرء إلى القرء» . وقد تقدَّم.
قال أبو داود
(2)
: وروى قتادة، عن عروة، عن زينب، عن أم سلمة أنَّ أم حبيبة بنت جحش استُحِيضَتْ، فأمرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَدَعَ الصَّلاة أيَّام أقرائها.
وتعليل هذه الأحاديث بأنَّ هذا من تغيير الرُّواة رووه بالمعنى لا يُلتَفت إليه، ولا يُعرَّج عليه، فلو كانت من جانبِ مَن علَّلها لأعاد ذكرها وأبداه، وشنَّع على من خالفها.
وأمَّا قولكم: إنَّ الله سبحانه جعل اليأس من الحيض شرطًا في الاعتداد بالأشهر، فمن أين يلزم أن تكون القروء هي الحيض؟
قلنا: لأنَّه جعل الأشهر الثَّلاثة بدلًا عن الأقراء الثَّلاثة، وقال:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4]، فنقلَهنَّ إلى الأشهر عند تعذُّرِ مُبدَلهنَّ وهو الحيض، فدلَّ على أنَّ الأشهر بدلٌ عن الحيض الذي يئسن منه، لا عن الطُّهر، وهذا واضحٌ.
قولكم: حديث عائشة معلولٌ بمُظاهر بن أسلم ومخالفة عائشة له، فنحن إنَّما احتججنا عليكم بما استدللتم به علينا في كون الطَّلاق بالنِّساء لا بالرِّجال، فكلُّ من صنَّف من أصحابكم في طريق الخلاف، أو استدلَّ على أنَّ
(1)
برقم (280). وتقدم تخريجه (ص 287).
(2)
عقب (281).
طلاق العبد طلقتان، احتجَّ علينا بهذا الحديث، وقال: جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طلاق العبد تطليقتين، فاعتبر الطَّلاق بالرِّجال لا بالنِّساء، واعتبر العدَّة بالنِّساء، فقال:«وقرء الأمة حيضتان» . فيا سبحان الله! يكون الحديث سليمًا من العلل إذا كان حجَّةً لكم، فإذا احتجَّ به منازعوكم عليكم اعتورَتْه العلل المختلفة! فما أشبهَه بقول القائل
(1)
:
يكون أُجاجًا دونكم فإذا انتهى
…
إليكم تلقَّى نَشْرَكم فيَطِيبُ
فنحن إنَّما كِلْنا لكم بالصَّاع الذي كِلْتم لنا به، بخسًا ببخسٍ، وإيفاءً بإيفاءٍ. ولا ريبَ أنَّ مظاهرًا ممَّن لا يُحتجُّ به، ولكن لا يمتنع أن يُعتَضد بحديثه ويُقوَّى به الدَّليلُ غيرُه.
وأمَّا تعليله بخلاف عائشة له، فأين ذلك من تقريركم أنَّ مخالفة الرَّاوي لا تُوجِب ردَّ حديثه وأنَّ الاعتبار بما رواه لا بما رآه، وتكثيركم من الأمثلة الَّتي أخذ النَّاس فيها بالرِّواية دون مخالفة راويها لها، كما أخذوا برواية ابن عبَّاسٍ المتضمِّنة لبقاء النِّكاح مع بيع الزَّوجة، وتركوا رأيه بأنَّ بيع الأمة طلاقها، وغير ذلك.
وأمَّا ردُّكم لحديث ابن عمر: «طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان» بعطية العَوْفي، فهو وإن ضعَّفه أكثر أهل الحديث فقد احتمل النَّاس حديثه وخرَّجوه في السُّنن، وقال يحيى بن معينٍ في رواية عبَّاسٍ الدُّوريِّ
(2)
عنه:
(1)
هو العباس بن الأحنف كما في «الأشباه والنظائر» للخالديين (1/ 11) و «زهر الآداب» (2/ 945) و «الحماسة المغربية» (2/ 974) و «ديوانه» (ص 29). ويروى للمجنون وغيره في «الأغاني» (2/ 63، 64) و «ديوان مجنون ليلى» (ص 53).
(2)
«التاريخ» (3/ 500).
صالح الحديث، وقال أبو أحمد بن عديٍّ
(1)
: روى عنه جماعةٌ من الثِّقات، وهو مع ضعفه يُكتَب حديثه. فيُعتضَد به وإن لم يُعتمَد عليه وحده.
وأمَّا ردُّه بأنَّ ابن عمر مذهبه أنَّ القروء الأطهار، فلا ريب أنَّ هذا يُورِث شبهةً في الحديث، ولكن ليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، وكان
(2)
الاعتبار بما رواه لا بما ذهب إليه. وهذا هو الجواب عن ردِّكم لحديث عائشة بمذهبها، ولا يُعتَرض على الأحاديث بمخالفة الرُّواة لها.
وأمَّا ردُّكم لحديث المختلعة وأمرها أن تعتدَّ بحيضةٍ، بأنَّا
(3)
لا نقول به، فللنَّاس في هذه المسألة قولان وهما روايتان عن أحمد
(4)
: أنَّ عدَّتها ثلاث حِيَضٍ، كقول الشَّافعيِّ ومالك وأبي حنيفة. والثَّاني: أنَّ عدَّتها حِيضةٌ، وهو قول أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان
(5)
، وعبد الله بن عمر
(6)
، وعبد الله بن عبَّاسٍ
(7)
، وهو مذهب أبان بن عثمان
(8)
، وبه يقول إسحاق بن راهويه وابن
(1)
«الكامل» (5/ 370).
(2)
«الحديث
…
وكان» ساقطة من ص، د.
(3)
في المطبوع: «فإنا» خلاف النسخ.
(4)
بعدها في المطبوع: «أحدهما» ليست في النسخ.
(5)
أخرجه عبد الرزاق (11859)، وابن أبي شيبة (18776)، وهناك واقعة أخرى أخرجها ابن أبي شيبة (18460)، إلا أن في إسناده الحجاج بن أرطأة، وهو كثير الخطأ والتدليس.
(6)
أخرجه أبو داود (2230)، وابن أبي شيبة (18777).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (18780)، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المحاربي، متكلم فيه من قبل حفظه، وليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
(8)
ذكره عنه ابن قدامة في «المغني» (11/ 195).
المنذر. وهذا هو الصَّحيح في الدَّليل، والأحاديث الواردة فيه لا معارِضَ لها، والقياس يقتضيه حكمًا، كما سنبيِّن هذه المسألة عند ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه
(1)
المختلعة.
قالوا: ومخالفتنا لأحاديث
(2)
اعتداد المختلعة بحيضةٍ في بعض ما اقتضاه من جواز الاعتداد بحيضةٍ لا يكون عذرًا لكم في مخالفة ما اقتضاه من أنَّ القرء الحيض. قالوا: فنحن وإن خالفناه في حكمٍ فقد وافقناه في الحكم الآخر، وهو أنَّ القرء الحيض، وأنتم خالفتموه في الأمرين جميعًا. هذا مع أنَّ من يقول: الأقراء الحيض ويقول: المختلعة تعتدُّ بحيضةٍ= قد سَلِم من هذه المطالبة، فماذا تردُّون به قوله؟
وأمَّا قولكم في الفرق بين الاستبراء والعدَّة: إنَّ العدَّة وجبت قضاءً لحقِّ الزَّوج، فاختصَّت بزمان حقِّه= كلامٌ لا تحقيقَ وراءه، فإنَّ حقَّه في جنس الاستمتاع في زمن الحيض والطُّهر، وليس حقُّه مختصًّا بزمن الطُّهر، ولا العدَّة مختصَّةٌ بزمن الطُّهر دون الحيض، وكلا الوقتين محسوبٌ من العدَّة، وعدمُ تكرُّر الاستبراء لا يمنع أن يكون طهرًا مُحتوَشًا بدَمَينِ كقرء المطلَّقة، فتبيَّن أنَّ الفرق غير طائلٍ.
قولكم: إنَّ انضمام قرءينِ إلى الطُّهر الذي جامع فيه يجعله عَلَمًا، جوابه: أنَّ هذا يُفضي إلى أن تكون العدَّة قرءينِ حسبُ، فإنَّ ذلك الذي جامع فيه لا دلالة له على البراءة البتَّةَ، وإنَّما الدَّالُّ القرآنِ بعده، وهذا خلاف
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «عدة» .
(2)
في المطبوع: «لحديث» خلاف النسخ.
موجب النَّصِّ، وهذا لا يلزم من جعْلِ الأقراء الحيضَ، فإنَّ الحيضة وحدها عَلَمٌ، ولهذا اكتُفِي بها في استبراء الإماء.
قولكم: إنَّ القرء هو الجمع، والحيض يجتمع في زمان الطُّهر، فقد تقدَّم جوابه، وأنَّ ذلك في المعتلِّ لا في المهموز.
قولكم: دخول التَّاء في «ثلاثةٍ» يدلُّ على أنَّ واحدها مذكَّرٌ، وهو الطُّهر، جوابه: أنَّ واحد القروء قرءٌ، وهو مذكَّرٌ، فأتى بالتَّاء مراعاةً للفظه وإن كان مسمَّاه حيضةً، وهذا كما يقال: جاءني ثلاثة أنفسٍ وهنَّ نساءٌ باعتبار اللَّفظ. والله أعلم.
فصل
وقد احتجَّ بعموم آيات العِدَد الثَّلاث من يرى عدَّة الحرَّة والأمة سواءً، قال أبو محمَّد بن حزمٍ
(1)
: وعدَّة الأمة المتزوِّجة من الطَّلاق والوفاة كعدَّة الحرَّة سواءً بسواءٍ، ولا فرقَ؛ لأنَّ الله تعالى علَّمنا العِدَد في الكتاب فقال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقال:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وقال تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وقد علم الله عز وجل إذ أباح لنا زواج الإماء أنَّه يكون عليهنَّ العِدَد المذكورات، فما فرَّق عز وجل بين حرَّةٍ ولا أمةٍ في ذلك، وما كان ربُّك نسيًّا.
(1)
في «المحلى» (10/ 306).
وثبت عمَّن سلف مثل قولنا: قال محمَّد بن سيرين: ما أرى عدَّة الأمة إلا كعدَّة الحرَّة إلا أن تكون مضتْ في ذلك سنَّةٌ، فالسُّنَّة أحقُّ أن تتَّبع
(1)
.
قال
(2)
: وذكر أحمد بن حنبلٍ أنَّ قول مكحول: إنَّ عدَّة الأمة في كلِّ شيءٍ كعدَّة الحرَّة
(3)
، وهو قول أبي سليمان
(4)
وجميع أصحابنا. هذا كلامه.
وقد خالفهم في ذلك جمهور الأمَّة فقالوا: عدَّتها نصف عدَّة الحرَّة، هذا قول فقهاء المدينة سعيد بن المسيَّب
(5)
والقاسم
(6)
وسالم
(7)
وزيد بن أسلم
(8)
وعبد الله بن عتبة
(9)
والزُّهريِّ
(10)
ومالك، وفقهاء أهل مكَّة كعطاء بن أبي رباحٍ
(11)
ومسلم بن خالدٍ
(12)
وغيرهما، وفقهاء البصرة
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12880).
(2)
أي ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
(3)
ينظر: «مسائل أحمد» برواية ابنه عبد الله (ص 376) و «مصنف ابن أبي شيبة» (19219)، فإن فيهما:«إذا مات عنها زوجها اعتدتْ عدة الحرة» .
(4)
هو داود الظاهري.
(5)
أخرجه عبد الرزاق (12887)، وابن أبي شيبة (19097).
(6)
أخرجه البخاري في «التاريخ الأوسط» (2/ 128)، والدارقطني (5/ 72)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 606).
(7)
أخرجه عبد الرزاق (12878)، وابن أبي شيبة (19099).
(8)
ذكره عنه معلقًا ابن حزم في «المحلى» (10/ 307)، وابن عبد البر في «التمهيد» (3/ 241).
(9)
أخرجه عبد الرزاق (12873).
(10)
أخرجه عبد الرزاق (12876)، وابن أبي شيبة (19104).
(11)
أخرجه عبد الرزاق (12877)، وابن أبي شيبة (19106).
(12)
لم أقف عليه.
كقتادة
(1)
، وفقهاء الكوفة كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه، وفقهاء الحديث كأحمد وإسحاق والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ وغيرهم.
وسلفُهم في ذلك الخليفتان الرَّاشدان عمر بن الخطَّاب
(2)
وعليُّ بن أبي طالبٍ
(3)
، صحَّ ذلك عنهما، وهذا قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما رواه مالك
(4)
عن نافع عنه: عدَّة الأمة حيضتان وعدَّة الحرَّة ثلاث حيضٍ. وقول زيد بن ثابتٍ كما رواه الزُّهريُّ عن قَبيصة بن ذُؤيبٍ عن زيد بن ثابتٍ: عدَّة الأمة حيضتان وعدَّة الحرَّة ثلاث حيضٍ
(5)
.
وروى حمَّاد بن زيدٍ عن عمرو بن أوس الثقفي أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: لو استطعتُ أن أجعل عدَّة الأمة حيضةً ونصفًا لفعلتُ، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين فاجعلْها شهرًا ونصفًا
(6)
.
وقال عبد الرزاق
(7)
: ثنا ابن جريجٍ، أخبرني أبو الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: جعل لها عمر حيضتين، يعني الأمة المطلَّقة.
وروى عبد الرزاق
(8)
أيضًا عن ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسارٍ، عن عبد الله
(9)
بن عتبة بن مسعود، عن عمر: ينكح العبد اثنتين، ويطلِّق تطليقتين، وتعتدُّ الأمة حيضتين، فإن لم تحض فشهرين، أو قال: فشهرًا ونصفًا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12876).
(2)
سيذكره المصنف، وسيأتي تخريجه.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (19096)، وعلقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 425)، وفي إسناده انقطاع.
(4)
برقم (1675)، ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 650)، ومن طريقه الدارقطني (5/ 69)، وتقدم الكلام عليه.
(5)
أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 62).
(6)
هكذا في «المحلى» لابن حزم (10/ 306)، وقد أخرجه من طريق الحجاج بن المنهال عن حماد بن زيد عن عمرو بن أوس به، وحماد لا يروي عن عمرو بن أوس، والحجاج ثقة كثير الحديث، ولا يعرف بتدليس، وهو كما سيأتي عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس به، فلعل ابن حزم وهم في إسقاط عمرو بن دينار في رواية الحجاج، ونقله عنه المصنف، والله أعلم. وقد أخرجه سعيد بن منصور (1/ 343)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 426) عن حماد عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس به، وتابع حمادًا يحيى بن سعيد فرواه عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس به كما عند سعيد بن منصور (1/ 343)، وأخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 553)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 425)، وسعيد بن منصور (1/ 343)، وابن أبي شيبة (19103) من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن رجل من ثقيف أنه سمع عمر، وهو الأشبه؛ لأن ابن عيينة مقدم على حماد في عمرو بن دينار. وله شاهد عند عبد الرزاق (12885) من طريق عطاء عن عمر، وعطاء لم يسمع من عمر.
(7)
«المصنف» (12875).
(8)
«المصنف» (12872)، وأخرجه الشافعي في «الأم» (6/ 552، 553)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 255، 698)، وسعيد بن منصور (1/ 344، 2/ 121)، والدارقطني (4/ 475) كلهم من طريق ابن عيينة به، وذكر الدارقطني في «العلل» (195) أن شعبة تابع ابن عيينة فيه أيضًا، وأن الثوري رواه عن محمد بن عبد الرحمن به، إلا أنه دلسه، ولم يسمعه منه.
(9)
م، ز، د:«عبيد الله» ، خطأ.
وذكر عبد الرزاق أيضًا
(1)
عن معمر، عن المغيرة، عن إبراهيم النَّخعيِّ،
(1)
«المصنف» (12879)، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (9/ 337)، وأخرجه سعيد بن منصور (1/ 344) من طريق هشيم عن المغيرة به، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وسمع منه بواسطة أصحابه كعلقمة، وسيأتي كلام المصنف في ذلك.
عن ابن مسعودٍ قال: يكون عليها
(1)
نصف العذاب، ولا يكون لها نصف الرُّخصة!
وقال ابن وهب
(2)
: أخبرني رجالٌ من أهل العلم أنَّ نافعًا وابن قُسَيط ويحيى بن سعيدٍ وربيعة وغير واحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتَّابعين
(3)
: عدَّة الأمة حيضتان. قالوا: ولم يزل هذا عمل المسلمين.
قال ابن وهب
(4)
: أخبرني هشام بن سعدٍ، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق قال: عدَّة الأمة حيضتان. قال القاسم: مع أنَّ هذا ليس في كتاب الله عز وجل، ولا نعلمه سنَّةً من
(5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد مضى أمر
(1)
ص، د:«لها» .
(2)
علقه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 307).
(3)
بعدها في المطبوع: «قالوا» . وليست في النسخ و «المحلَّى» .
(4)
هكذا هو في «المحلى» (10/ 307) من طريق هشام بن سعد عن القاسم به. وهشام لم يروِ عن القاسم، والمعروف أنه يروي عن زيد بن أسلم عن القاسم، ولعل الوهم من ابن حزم في إسقاط زيد بن أسلم، ونقله عنه المصنف، والله أعلم. فقد أخرجه الدارقطني (5/ 72)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 606)، من طريق الليث بن سعد وأبي عامر العقدي كلاهما عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن القاسم به. وأخرجه البخاري في «التاريخ الأوسط» (2/ 128)، وعلقه الدارقطني (5/ 72) من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه عن القاسم مقرونًا بسالم.
(5)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «عن» .
النَّاس على هذا.
وقد تقدَّم هذا الحديث بعينه، وقول القاسم وسالم فيه لرسول الأمير: قل له إنَّ هذا ليس في كتاب اللَّه، ولا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل به المسلمون.
قالوا: ولو لم يكن في المسألة إلا قول عمر وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وعبد الله بن عمر لكفى به. وفي قول ابن مسعودٍ: أتجعلون عليها نصفَ العذاب، ولا تجعلون لها نصفَ الرُّخصة؟ دليلٌ على اعتبار الصَّحابة للأقيسة والمعاني، وإلحاق النَّظير بالنَّظير.
ولمَّا كان هذا الأثر
(1)
مخالفًا لقول الظَّاهريَّة في الأصل والفرع طعن ابن حزمٍ فيه، وقال
(2)
: لا يصحُّ عن ابن مسعودٍ. قال: وهذا بعيدٌ على رجلٍ من عُرْضِ النَّاس
(3)
، فكيف عن مثل ابن مسعودٍ؟ وإنَّما جرَّأه على الطَّعن فيه أنَّه من رواية إبراهيم النَّخعيِّ عنه، رواه عبد الرزاق عن معمر عن المغيرة عن
(4)
إبراهيم، وإبراهيم لم يسمع من عبد الله، ولكنَّ الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد الله كعلقمة ونحوه. وقد قال إبراهيم: إذا قلت «قال عبد الله» فقد حدَّثني به غير واحدٍ عنه، وإذا قلت: قال فلانٌ عنه فهو مَن سَمَّيتُ، أو كما قال
(5)
.
(1)
م، ح:«الأمر» ، تصحيف.
(2)
«المحلى» (10/ 310).
(3)
أي عامتهم.
(4)
في النسخ: «بن» ، تحريف.
(5)
أخرجه عنه الترمذي في «العلل الصغير» بشرحه لابن رجب (1/ 537 - مكتبة الرشد)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (14/ 519)، وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 37).
ومن المعلوم أنَّ بين إبراهيم وعبد الله أئمَّةً ثقاتٍ، لم يُسمِّ قطُّ متَّهمًا ولا مجروحًا ولا مجهولًا، فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد الله أئمَّةٌ أجلَّاء نُبلاء، وكانوا كما قيل: سُرُج الكوفة. وكلُّ من له ذوقٌ في الحديث إذا قال إبراهيم: «قال عبد الله» لم يتوقَّف في ثبوته عنه، وإن كان غيره ممَّن في طبقته لو قال: قال عبد الله، لا يحصُلُ لنا الثَّبتُ بقوله. فإبراهيم عن عبد الله نظير ابن المسيَّب عن عمر، ونظير مالك عن ابن عمر، فإنَّ الوسائط بين هؤلاء وبين الصَّحابة إذا سَمَّوهم وجدوا من أجلِّ النَّاس وأوثقهم وأصدقهم، ولا يسمُّون سواهم البتَّةَ.
ودَعِ ابنَ مسعودٍ في هذه المسألة، فكيف يُخالَف عمر وزيد وابن عمر وهم أعلم بكتاب الله وسنَّة رسوله، ويُخالَف عمل المسلمين، لا إلى قول صاحبٍ البتَّةَ، ولا إلى حديثٍ صحيحٍ ولا حسنٍ، بل إلى عمومٍ أمرُه ظاهرٌ عند جميع الأمَّة، ليس هو ممَّا تخفى دلالته ولا موضعه حتَّى يَظْفَر به الواحد والاثنان دون سائر النَّاس؟ هذا من أبينِ المحال. ولو ذهبنا نذكر الآثار عن التَّابعين بتنصيف عدَّة الأمة لطالت جدًّا.
ثمَّ إذا تأمَّلتَ سياقةَ الآيات الَّتي فيها ذكرُ العِدَد وجدتَها لا تتناول الإماء، وإنَّما تتناول الحرائر، فإنَّه سبحانه قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} إلى أن قال: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 228 - 229]. وهذا في حقِّ الحرائر دون الإماء، فإنَّ افتداء الأمة إلى سيِّدها لا إليها. ثمَّ قال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، فجعل ذلك إليهما، والتَّراجع
(1)
المذكور في حقِّ الأمة ــ وهو العقد ــ إنَّما هو إلى سيِّدها لا إليها، بخلاف الحرَّة فإنَّه إليها بإذن وليِّها.
وكذلك قوله سبحانه في عدَّة الوفاة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، وهذا إنَّما هو في حقِّ الحرَّة، وأمَّا الأمة فلا فِعْلَ لها في نفسها البتَّةَ. فهذا في العدَّة الأصليَّة، وأمَّا عدَّة الأشهر ففرعٌ وبدلٌ.
وأمَّا عدَّة وضع الحمل فيستويان فيها، كما ذهب إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتَّابعون وعمِلَ به المسلمون، وهو محضُ الفقه، وموافقٌ لكتاب الله في تنصيف الحدِّ عليها، ولا يُعرف في الصَّحابة مخالفٌ في ذلك، وفهمُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله أولى من فهمِ من شذَّ عنهم من المتأخِّرين، وباللَّه التَّوفيق.
ولا تُعرف التَّسوية بين الحرَّة والأمة في العدَّة عن أحدٍ من السَّلف إلا عن محمَّد بن سيرين ومكحول. فأمَّا ابن سيرين فلم يجزم بذلك، وأخبر به عن رأيه، وعلَّق القولَ به على
(2)
عدمِ سنَّةٍ تُتَّبع. وأمَّا قول مكحول فلم يذكر
(1)
م، ص، ز، د:«والراجع» .
(2)
ز، ح:«عن» .
له سندًا، وإنَّما حكاه عن أحمد عنه، وهذا لا يُقبل عند أهل الظَّاهر ولا يصحُّ، فلم يبقَ معكم أحدٌ من السَّلف إلا رأي ابن سيرين وحده المعلَّق على عدم سنَّةٍ متَّبعةٍ
(1)
، ولا ريبَ أنَّ سنَّة عمر بن الخطَّاب في ذلك متَّبعَةٌ، ولم يخالفه في ذلك أحدٌ من الصَّحابة، والله أعلم.
فإن قيل: كيف تدَّعون إجماع الصَّحابة وجماهير الأمَّة، وقد صحَّ عن عمر بن الخطَّاب أنَّ عدَّة الأمة الَّتي لم تبلغ ثلاثة أشهرٍ
(2)
؟ وصحَّ ذلك عن عمر بن عبد العزيز
(3)
، ومجاهد
(4)
، والحسن
(5)
، وربيعة
(6)
، واللَّيث بن سعدٍ
(7)
، والزُّهريِّ
(8)
، وبكر
(9)
بن الأشجّ
(10)
، ومالك وأصحابه، وأحمد بن حنبلٍ في إحدى الرِّوايات عنه. ومعلومٌ أنَّ الأشهُرَ في حقِّ الآيسة والصَّغيرة بدلٌ عن الأقراء الثَّلاث، فدلَّ على أنَّ مُبدلَها في حقَّها ثلاثةٌ.
(1)
م، ص، د:«متعينة» .
(2)
ذكره عنه ابن وهب كما نقله ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (12893)، وابن أبي شيبة (16907).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (12889)، وابن أبي شيبة (16907).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (12891، 12892، 12894).
(6)
رواه عنه ابن وهب من طريق يونس بن يزيد، وقد علقه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
(7)
ذكره عنه ابن وهب، وقد علقه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
(8)
ذكره عنه ابن وهب، وقد علقه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
(9)
كذا في جميع النسخ والمطبوع. والصواب «بُكَير» مصغرًا كما في «المحلى» (10/ 308). وانظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 491).
(10)
ذكره عنه ابن وهب، وقد علقه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 308).
فالجواب: أنَّ القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون إنَّ عدَّتها حيضتان، وقد أفتَوا بهذا وهذا، ولهم في الاعتداد بالشهور ثلاثة أقوالٍ، وهي للشَّافعيِّ، وهي ثلاث رواياتٍ عن أحمد:
فأكثر الرِّوايات عنه أنَّها شهران، رواه عنه جماعةٌ من أصحابه، وهو إحدى الرِّوايتين عن عمر بن الخطَّاب
(1)
، ذكرها الأثرم وغيره عنه
(2)
. وحجَّة هذا القول أنَّ عدَّتها بالأقراء حيضتان، فجُعِلَ كلُّ شهرٍ مكان حيضةٍ.
والقول الثَّاني: إنَّ عدَّتها شهرٌ ونصفٌ، نقلها عنه الأثرم والميموني
(3)
. وهذا قول عليِّ بن أبي طالبٍ
(4)
وابن عمر
(5)
وابن المسيَّب
(6)
وأبي حنيفة، والشَّافعيِّ في أحد أقواله. وحجَّته أنَّ التَّنصيف في الأشهر ممكنٌ، فتنصَّفتْ بخلاف القروء. ونظير هذا: أنَّ المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصَّيد نصفُ مدٍّ أخرجه، فإن أراد الصِّيام مكانَه لم يُجزِئْه إلا صوم يومٍ كاملٍ.
والقول الثَّالث: إنَّ عدَّتها ثلاثة أشهرٍ كوامل، وهو إحدى الرِّوايتين عن عمر
(7)
، وقولٌ ثالثٌ للشَّافعيِّ، وهو فيمن ذكرتموه.
(1)
تقدم تخريجه (ص 288).
(2)
انظر: «المغني» (11/ 208، 209).
(3)
كما في «المغني» (11/ 209).
(4)
تقدم تخريجه (ص 287).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (19102).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (12887)، وابن أبي شيبة (19097).
(7)
تقدم تخريجه قريبًا.
والفرق عند هؤلاء بين اعتدادها بالأقراء وبين اعتدادها بالشُّهور: أنَّ اعتبار الشُهور للعلم ببراءة رحمها، وهو لا يحصل بدون ثلاثة أشهرٍ في حقِّ الحرَّة والأمة جميعًا؛ لأنَّ الحمل يكون نطفةً أربعين يومًا، ثمَّ عَلَقةً أربعين، ثمَّ مُضْغةً أربعين، وهي الطَّور الثَّالث الذي يمكن أن يظهر فيه الحمل، وهذا بالنِّسبة إلى الحرَّة والأمة سواءٌ بخلاف الأقراء، فإنَّ الحيضة الواحدة عَلَمٌ ظاهرٌ على الاستبراء، ولهذا اكتُفِي بها في حقِّ المملوكة، فإذا زُوِّجت فقد أخذَتْ شَبَهًا من الحرائر، وصارت أشرفَ من مِلْك اليمين، فجُعِلتْ عدَّتها بين العدَّتين.
قال الشَّيخ في «المغني»
(1)
: ومن ردَّ هذا القول قال: هو مخالفٌ لإجماع الصَّحابة، لأنَّهم اختلفوا على القولين الأوَّلين، ومتى اختلفوا على قولين لم يجز إحداثُ قولٍ ثالثٍ؛ لأنَّه يُفضِي إلى تخطئتهم وخروجِ الحقِّ عن قول جميعهم.
قلت: وليس في هذا إحداث قولٍ ثالثٍ، بل هو إحدى الرِّوايتين عن عمر، ذكرها ابن وهب وغيره، وقال به من التَّابعين من ذكرناهم وغيرهم.
فصل
وأمَّا عدَّة الآيسة والَّتي لم تَحِضْ، فقد بيَّنها سبحانه في كتابه فقال:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. وقد اضطرب النَّاس في حدِّ الإياس اضطرابًا شديدًا:
(1)
(11/ 210).
فمنهم من حدَّه بخمسين سنةً، وقال: لا تحيض المرأة بعد الخمسين. وهذا قول إسحاق وروايةٌ عن أحمد، واحتجَّ أرباب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها: إذا بلغتْ خمسين سنةً خرجتْ من حدِّ الحيَّض
(1)
.
وحدَّه طائفةٌ بستِّين سنةً، وقالوا: لا تحيض بعد السِّتِّين، وهذا
(2)
روايةٌ ثانيةٌ عن أحمد.
وعنه روايةٌ ثالثةٌ: الفرق بين نساء العرب وغيرهم، فحدُّه ستُّون في نساء العرب وخمسون في نساء العجم.
وعنه روايةٌ رابعةٌ: أنَّ ما بين
(3)
الخمسين والسِّتِّين دمٌ مشكوكٌ فيه، تصوم وتصلِّي وتقضي الصَّوم المفروض، وهذه اختيار الخِرقي.
وعنه روايةٌ خامسةٌ: أنَّ الدَّم إن عاود بعد الخمسين وتكرَّر فهو حيضٌ، وإلَّا فلا.
وأمَّا الشَّافعيُّ فلا نصَّ له في تقدير اليأس بمدَّةٍ، وله قولان بعدُ، أحدهما: أنَّه يعرف بيأس أقاربها. والثَّاني: أنَّه يعتبر بيأس جميع النِّساء.
(1)
لم أقف عليه مسندًا، وذكره الإمام أحمد كما في «مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» للكوسج (3/ 1302)، وذكره ابن الجوزي في «التحقيق» (1/ 267) بلفظ:«لن ترى المرأة ولدًا في بطنها بعد خمسين سنة» ، ونقل هذا أيضًا ابن قدامة في «المغني» (11/ 210)، وقال الشيخ الألباني في «الإرواء» (1/ 200): لم أقف عليه، ولا أدري في أي كتاب ذكره أحمد، ولعله في بعض كتبه التي لم نقف عليها.
(2)
كذا في النسخ.
(3)
ص، د:«تأثير» ، تحريف.
فعلى القول الأوَّل هل المعتبر جميع أقاربها، أو نساء عَصَباتها، أو نساء بلدها خاصَّةً؟ فيه ثلاثة أوجهٍ. ثمَّ إذا قيل: يُعتبر بالأقارب فاختلفت عادتهنَّ فهل يعتبر بأقلَّ عادةً منهنَّ، أو بأكثرهنَّ عادةً، أو بأقصرِ امرأةٍ في العالم عادةً؟ على ثلاثة أوجهٍ.
والقول الثَّاني للشَّافعيِّ أنَّ المعتبر جميع النِّساء، ثمَّ اختلف أصحابه هل لذلك حدٌّ أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: ليس له حدٌّ، وهو ظاهر نصِّه.
والثَّاني: له حدٌّ، ثمَّ اختلفوا فيه على وجهين، أحدهما: أنَّه ستُّون سنةً، قاله أبو العباس بن القاصّ والشَّيخ أبو حامد. والثَّاني: اثنان وستُّون سنةً، قاله الشَّيخ أبو إسحاق في «المهذَّب» وابن الصباغ في «الشَّامل»
(1)
.
وأما أصحاب أبي حنيفة
(2)
…
وأمَّا أصحاب مالك فلم يحدُّوا سنَّ الإياس بحدٍّ البتَّةَ.
وقال آخرون منهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة: اليأس يختلف باختلاف النِّساء، وليس له حدٌّ يتَّفق فيه النِّساء. والمراد بالآية أنَّ يأس كلِّ امرأةٍ من نفسها؛ لأنَّ اليأس ضدُّ الرَّجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم تَرْجُه فهي آيسةٌ وإن كان لها أربعون أو نحوها، وغيرُها لا تيأسُ منه وإن كان لها خمسون.
(1)
انظر: «المهذب بشرحه المجموع» (18/ 143)، و «روضة الطالبين» (8/ 372).
(2)
بعدها بياض في النسخ، والعبارة ساقطة من المطبوع. وانظر لمذهبهم:«البحر الرائق» (1/ 201)، و «حاشية ابن عابدين» (3/ 515، 516).
وقد ذكر الزُّبير بن بكَّارٍ
(1)
: أنَّ بعضهم قال: لا تَلِدُ لخمسين سنةً إلا عربيَّةٌ
(2)
، ولا تلد لستِّين إلا قرشيَّةٌ، وقال: إنَّ هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة
(3)
ولدتْ موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ولها ستُّون سنةً.
وقد صحَّ عن عمر بن الخطَّاب في امرأةٍ طلِّقت فحاضت حيضةً أو حيضتين، ثمَّ يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه: أنَّها تَربَّصُ تسعة أشهرٍ، فإن استبان بها حملٌ وإلَّا اعتدَّت ثلاثة أشهرٍ
(4)
.
وقد وافقه الأكثرون على هذا، منهم مالك وأحمد والشَّافعيُّ في القديم، قالوا: تتربَّص غالبَ مدَّة الحمل، ثمَّ تعتدُّ عدَّةَ الآيسة، ثمَّ تحلُّ للأزواج ولو كانت بنتَ ثلاثين سنةً أو أربعين. وهذا يقتضي أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ومن وافقه من السَّلف والخلف تكون المرأة آيسةً عندهم قبل الخمسين وقبل الأربعين، وأنَّ اليأس عندهم ليس وقتًا محدودًا للنِّساء، بل مثلُ هذه تكون آيسةً وإن كانت بنت ثلاثين، وغيرُها لا تكون آيسةً وإن بلغت خمسين. وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضُها ولا تدري ما رفَعَه جعلوها آيسةً بعد تسعة
(1)
نقله عنه ابن قدامة في «المغني» (1/ 446، 11/ 210).
(2)
في النسخ: «لا يلد
…
إلا عربي». والتصويب من «المغني» .
(3)
كذا في النسخ. والصواب: «زمعة» كما في «جمهرة أنساب العرب» (ص 119) و «المغني» .
(4)
أخرجه مالك (1703) ــ ومن طريقه الشافعي في «الأم» (6/ 539) ــ وابن أبي شيبة (19334)، من طريق ابن المسيب عن عمر، وابن المسيب لم يسمع من عمر، لكن روايته عنه مقبولة كما قال الإمام أحمد وغيره. وسيأتي لفظه قريبًا.
أشهرٍ، فالَّتي تدري ما رفعَه ــ إمَّا بدواءٍ يُعلَم أنَّه لا يعود معه، وإمَّا بعادةٍ مستقراةٍ لها من أهلها وأقاربها ــ أولى أن تكون آيسةً وإن لم تبلغ الخمسين، وهذا بخلاف ما إذا ارتفع لمرضٍ أو رضاعٍ أو حملٍ، فإنَّ هذه ليست آيسةً، فإنَّ ذلك يزول.
فالمراتب ثلاثةٌ، إحداها: أن يرتفع ليأسٍ
(1)
معلومٍ متيقَّنٍ، بأن ينقطع عامًا بعد عامٍ، ويتكرَّر انقطاعه أعوامًا متتابعةً، ثمَّ تُطلَّق بعد ذلك، فهذه تتربَّصُ ثلاثة أشهرٍ بنصِّ القرآن، سواءٌ كانت بنتَ أربعين أو أقلَّ أو أكثر. وهي أولى بتربُّصِ ثلاثة أشهرٍ من الَّتي حكم فيها الصَّحابة والجمهور بتربُّصها تسعةَ أشهرٍ ثمَّ ثلاثةً، فإنَّ تلك كانت تحيض وطُلِّقت وهي حائضٌ، ثمَّ ارتفع حيضها بعد طلاقها لا تدري ما رفَعَه، فإذا حُكِمَ فيها بحكم الآيسات بعد انقضاء غالب مدَّة الحمل فكيف بهذه؟
ولهذا قال القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن»
(2)
: إذا كان الله سبحانه قد ذكر اليأس مع الرِّيبة فقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، ثمَّ جاء عن عمر بن الخطَّاب لفظٌ موافقٌ لظاهر القرآن لأنَّه قال: أيُّما امرأةٍ طُلِّقت فحاضتْ حيضةً أو حيضتين، ثمَّ رُفِعَتْ حيضتها
(3)
لا تدري ما رفعها، فإنَّها تنتظر تسعة أشهرٍ، ثمَّ تعتدُّ ثلاثة أشهرٍ
(4)
. فلمَّا كانت لا تدري ما الذي رفع الحيضة كان موضع
(1)
د، ص، ز، م:«اليأس» .
(2)
لا يوجد النص في القسم المطبوع منه. وهو نصّ طويل يستمر إلى أربع صفحات.
(3)
ص، ح:«حيضها» .
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
الارتياب، فحُكِم فيها بهذا الحكم، وكان اتِّباع ذلك ألزمَ وأولى من قول من يقول: إنَّ الرَّجل يطلِّق امرأته تطليقةً أو تطليقتين فيرتفع حيضها وهي شابَّةٌ، أنَّها تبقى ثلاثين سنةً معتدَّةً، وإن جاءت بولدٍ لأكثر من سنتين لم يلزمه. فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذين مَضَوا، لأنَّهم كانوا مُجمِعين على أنَّ الولد يُلحَق بالأب ما دامت المرأة في عدَّتها، فكيف يجوز أن يقول قائلٌ: إنَّ الرَّجل يُطلِّق امرأته تطليقةً أو تطليقتين، ويكون بينها وبين زوجها أحكامُ الزّوجات ما دامت في عدَّتها من الموارثة وغيرها؟ فإن جاءت بولدٍ لم يلحقه، وظاهرُ عدَّةِ الطَّلاق أنَّها جعلت من الدُّخول الذي يكون منه الولد، فكيف تكون المرأة معتدَّةً والولد لا يلزم؟
قلت: هذا إلزامٌ منه
(1)
لأبي حنيفة، فإنَّ عنده أقصى مدَّة الحمل سنتان، والمرتابة في أثناء عدَّتها لا تزال في عدَّةٍ حتَّى تبلغ سنَّ الإياس فتعتدَّ
(2)
به، وهو يلزم الشَّافعيَّ في قوله الجديد سواءً، إلا أنَّ مدَّة الحمل عنده أربع سنين، فإذا جاءت به بعدها لم يلحقه وهي في عدَّتها منه.
قال القاضي إسماعيل: واليأس يكون بعضه أكثرَ من بعضٍ، وكذلك القنوط، وكذلك الرَّجاء، وكذلك الظَّنُّ، ومثل هذا يتبع
(3)
الكلام فيه، فإذا قيل منه شيءٌ أُنزِل على قدر ما يظهر من المعنى فيه، فمن ذلك أنَّ الإنسان يقول: قد يئستُ من مريضي إذا كان الأغلب عنده أنَّه لا يَبْرأ، ويئستُ من غائبي إذا كان الأغلب عنده أنَّه لا يَقْدَم، ولو قال إذا مات غائبه أو مات مريضه: قد يئستُ منه،
(1)
«منه» ليست في د.
(2)
د، ص:«فتعدّ» .
(3)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «يتسع» .
لكان الكلام عند النَّاس على غير وجهه، إلا أن يتبيَّن معنى ما قصد له في كلامه، مثل أن يقول: كنتُ وَجِلًا في مرضه مخافةَ أن يموت، فلمَّا مات وقع اليأس، فينصرف الكلام على هذا وما أشبهه. إلَّا أنَّ أكثر ما يُلفَظ باليأس إنَّما هو فيما يكون
(1)
الأغلب عند اليأس أنَّه لا يكون، وليس واحدٌ من اليائس والطَّامع يعلم يقينًا أنَّ ذلك الشَّيء يكون أو لا يكون.
وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، والرَّجاء ضدُّ اليأس، والقاعدة من النِّساء قد يُمكِن أن تُزَوَّج، غير أنَّ الأغلب عند النَّاس فيها أنَّ الأزواج لا يرغبون فيها. وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]، والقنوط شبه اليأس، وليس يعلمون يقينًا أنَّ المطر لا يكون، ولكنَّ اليأس دخلَهم حين تطاولَ إبطاؤه. وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، فلمَّا ذكر أنَّ الرُّسل هم الذين استيأسوا كان فيه دليلٌ على أنَّهم دخل قلوبَهم يأسٌ من غير يقينٍ استيقنوه؛ لأنَّ اليقين في ذلك إنَّما يأتيهم من عند الله، كما قال في قصَّة نوحٍ:{(35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ} ، ثم قال
(2)
: {آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا} [هود: 36]، وقال تعالى في قصَّة إخوة يوسف:{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]، فدلَّ الظَّاهر على أنَّ يأسهم ليس بيقينٍ.
(1)
ص، د، ز:«كان» .
(2)
ليس بعدها في النسخ بقية الآية. والمثبت من المطبوع.
وقد حدَّثنا ابن أبي أُويسٍ، ثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يقول في خطبته: تَعلَّمُنَّ أيُّها النَّاس أنَّ الطَّمع فقرٌ، وأنَّ اليأس غِنًى، وأنَّ المرء إذا يئس من شيءٍ استغنى عنه
(1)
. فجعل عمر اليأس بإزاء الطَّمع.
وسمعت أحمد بن المعذَّل
(2)
ينشد شعرًا لرجلٍ من القدماء يصف ناقةً
(3)
:
صَفْراء من تَلْدِ
(4)
بني العبَّاس
…
صيَّرتُها كالظَّبي في الكِنَاسِ
تَدِرُّ أن تَسْمعَ بالإِبساسِ
(5)
…
فالنَّفسُ بين طَمَعٍ وياس
فجعل الطَّمع بإزاء اليأس.
وحدَّثنا سليمان بن حربٍ، ثنا جرير بن حازمٍ، عن الأعمش، عن سلَّام بن
(6)
شُرَحْبيل سمع حَبَّةَ بن خالد وسَواءَ بن خالد أنَّهما أَتَيا
(1)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (631) ــ ومن طريقه ابن المقرئ في «معجمه» (241) ــ وابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/ 767) من طريق يحيى بن سعيد، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 50) من طريق وكيع وأبي معاوية، أربعتهم (ابن المبارك ويحيى بن سعيد ووكيع وأبو معاوية) عن هشام بن عروة به. وعروة لم يسمع من عمر.
(2)
في المطبوع: «المعدَّل» ، تصحيف. انظر:«الإكمال» (7/ 274) و «ترتيب المدارك» (4/ 5) و «سير أعلام النبلاء» (11/ 519).
(3)
لم أجد الرجز في المصادر التي رجعت إليها.
(4)
التَّلْد: المال القديم الموروث.
(5)
هو أن يقال للناقة عند الحلب: بسْ بسْ، فتدرّ باللبن.
(6)
د، ص، ز، م:«عن» ، تحريف.
النَّبيَّ
(1)
صلى الله عليه وسلم قالا: عَلِّمْنا أشياءَ، ثمَّ قال: «لا تَيْأَسا من الخيرِ ما تَهَزْهزتْ
(2)
رُؤوسُكما، فإنَّ كلَّ عبدٍ يُولَد أحمرَ ليس عليه قِشْرةٌ، ثمَّ يرزقه الله ويعطيه»
(3)
.
وحدَّثنا علي بن عبد الله، حدَّثنا ابن عيينة قال: قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم، ما مالك؟ قال: خيرُ مالٍ، ثقتي بالله ويَأْسي ممَّا في أيدي النَّاس
(4)
.
قال: وهذا أكثر من أن يُحصى. انتهى
(5)
.
قال شيخنا
(6)
: وليس للنِّساء في ذلك عادةٌ مستمرَّةٌ، بل فيهنَّ من لا
(1)
د، ز:«إلى النبي» .
(2)
أي تحركت، كناية عن الحياة. وفي بعض مصادر التخريج:«تهزَّزتْ» ، وكلاهما بمعنًى.
(3)
أخرجه أحمد (15855)، والبخاري في «الأدب المفرد» (453) مختصرًا، وابن ماجه (4165)، والطبراني في «الكبير» (4/ 7)، وابن حبان (3242) من طرق عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل به، وسلام تابعيٌّ لم يرو عنه غير الأعمش، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي:«وُثِّق» ، وقال ابن حجر:«مقبول» ، والحديث صححه ابن حبان والبوصيري في «مصباح الزجاجة» (4/ 227)، وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (4798)، وحديث مثل سلام في التابعين يُحسَّنُ إن لم يكن فيه ما يستنكر.
(4)
أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (3/ 337، 7/ 342) وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 231) من طريق سفيان بن عيينة به.
(5)
أي كلام القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» ، الذي بدأ قبل أربع صفحات.
(6)
لم أجد كلامه في المطبوع من كتبه.
تحيض وإن بلغت، وفيهنَّ من تحيض حيضًا يسيرًا يتباعد ما بين أقرائها حتَّى تحيض في السَّنة مرَّةً، ولهذا اتَّفق العلماء على أنَّ أكثر الطُّهر بين الحيضتين لا حدَّ له. وغالب النِّساءَ يَحِضْنَ كلَّ شهرٍ مرَّةً، ويَحِضنَ ربع الشَّهر، ويكون طهرهنَّ ثلاثةَ أرباعه، ومنهنَّ من تطهر الشُّهورَ المتعدِّدةَ لقلَّة رطوبتها، ومنهنَّ من يُسرِع إليها الجفافُ فينقطع حيضها وتيأسُ منه، وإن كان لها دون الخمسين بل والأربعين، ومنهنَّ من لا يُسرِع إليها الجفافُ فتجاوزُ الخمسين وهي تحيض. قال: وليس في الكتاب ولا السُّنَّة تحديدُ اليأس بوقتٍ، ولو كان المراد بـ (اللائي يئسن من المحيض) من لها خمسون سنةً أو ستُّون أو غير ذلك لقيل: واللَّائي يبلغن من السِّنِّ كذا وكذا، ولم يقل: يئسنَ.
وأيضًا فقد ثبت عن الصَّحابة أنَّهم جعلوا من ارتفع حيضها قبل ذلك يائسةً كما تقدَّم، والوجود مختلفٌ في وقت يأسهنَّ غيرُ متَّفقٍ.
وأيضًا فإنَّه سبحانه قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4]، ولو كان له وقتٌ محدَّد لكانت المرأة وغيرها سواءً في معرفة يأسها، وهو سبحانه قد خصَّ النِّساء بأنَّهنَّ من اللَّائي يئسنَ، كما خصَّهنَّ بقوله:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فالَّتي تحيض هي الَّتي تيأس. وهذا بخلاف الارتياب، فإنَّه سبحانه قال:{إِنِ ارْتَبْتُمْ} ، ولم يقل:«إن ارتَبْن» ، أي إن ارتبتم في حكمهنَّ وشككتم فيه فهو.
هذا
(1)
الذي عليه جماعة أهل التَّفسير، كما روى ابن أبي حاتمٍ في
(1)
في المطبوع: «فهو هذا لا هذا» . والمثبت من النسخ.
«تفسيره»
(1)
من حديث جرير وموسى بن أعين واللَّفظ له، عن مُطرِّف بن طَريفٍ، عن عمر بن سالم، عن أبيِّ بن كعبٍ قال: قلت: يا رسول الله، إنَّ ناسًا بالمدينة يقولون في عِدَد النِّساء ما لم يذكر الله في القرآن، الصِّغار والكبار وأولات الأحمال، فأنزل الله سبحانه في هذه السُّورة:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. فأجلُ إحداهنَّ أن تضع حملها، فإذا وضعت فقد قضتْ عدَّتها.
ولفظ جرير: قلت: يا رسول الله، إنَّ ناسًا من أهل المدينة لمَّا نزلت هذه الآية الَّتي في البقرة في عدَّة النِّساء قالوا: لقد بقي مِن عدَّة النِّساء عِدَدٌ لم يُذكَرن في القرآن، الصِّغار والكبار الَّتي قد انقطع عنها الحيض وذوات الحمل، قال: فأُنزِلت الَّتي في النِّساء القصرى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} فالتي قد يئستْ ثلاثة أشهر
(2)
.
(1)
(10/ 3660) معلقًا، وهو ممّا جُمع من كتب التفسير، وأسنده في «العلل» (1316)، وأخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» ــ كما في «المطالب العالية» (15/ 359)، و «إتحاف الخيرة» للبوصيري (6/ 289) ــ، وابن أبي شيبة (17104)، وابن جرير في «تفسيره» (23/ 51)، والحاكم (2/ 492)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 414) من طرق عن مطرف بن طريف عن عمرو بن سالم عن أُبَيٍّ به، إلا أن ابن أبي حاتم رواه عن أبيه عن يحيى بن المغيرة عن جرير عن مطرف به، وقال فيه: عمر بن سالم لا عمرو بن سالم، ثم نقل عن أبيه تصحيح قول من قال عمر، وأنه أعله بالانقطاع بين عمرو بن سالم وأُبَيٍّ. وينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1316)، و «المراسيل» له أيضًا (ص 144).
(2)
«فالتي قد يئست ثلاثة أشهر» ساقطة من المطبوع.
ثمَّ روى عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} ، يعني بالآيسة العجوز الَّتي لا تحيض، أو المرأة الَّتي قد قعدت في
(1)
الحيضة، فليست هذه من القرء في شيءٍ.
وفي قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} يعني في الآيسة
(2)
، يعني: إن شككتم فعدَّتهنَّ ثلاثة أشهرٍ.
وعن مجاهد: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} لم تعلموا عدَّة الَّتي قعدتْ عن الحيض أو الَّتي لم تحِضْ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
(3)
.
فقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} يعني: إن سألتم عن حكمهنَّ ولم تعلموا حكمهنَّ وشككتم فيه فقد بيَّنَّاه لكم، فهو بيانٌ لنعمته على من طلب عليه ذلك ليزول ما عنده من الشَّكِّ والرَّيب، بخلاف المعرِض عن طلب العلم.
وأيضًا فإنَّ النِّساء لا يستوين في ابتداء الحيض، بل منهنَّ من تحيض لعشرٍ، أو اثنتي عشرة، أو خمس عشرة، أو أكثر من ذلك، فكذلك لا يستوين في آخر سنِّ الحيض الذي هو سنُّ اليأس، والوجود شاهدٌ بذلك.
وأيضًا فإنَّهم تنازعوا فيمن بلغتْ ولم تَحِضْ، هل تعتدُّ بثلاثة أشهرٍ أو بالحول كالَّتي ارتفع حيضها لا تدري ما رفَعه؟ وفيه روايتان عن أحمد.
(1)
في المطبوع: «عن» خلاف النسخ.
(2)
في النسخ: «معنى في الآية» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3)
أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (23/ 49).
قلت: والجمهور على أنَّها تعتدُّ بثلاثة أشهرٍ، ولم يجعلوا للصِّغر
(1)
الموجب للاعتداد بها حدًّا، فكذلك يجب أن لا يكون للكبر الموجب للاعتداد بالشُّهور حدًّا
(2)
، وهذا ظاهرٌ وللَّه الحمد.
فصل
وأمَّا عدَّة الوفاة فتجب بالموت، سواءٌ دخل بها أو لم يدخل، اتِّفاقًا كما دلَّ عليه عموم القرآن والسُّنَّة، واتَّفقوا على أنَّهما يتوارثان قبل الدُّخول، وعلى أنَّ الصَّداق يستقرُّ إذا كان مسمًّى؛ لأنَّ الموت لمَّا كان انتهاء العقد وانقضاءَه
(3)
استقرَّت به الأحكام، فتوارثَا واستقرَّ المهر ووجبت العدَّة.
واختلفوا في مسألتين:
إحداهما: وجوب مهر المثل إذا لم يكن مسمًّى، فأوجبه أحمد وأبو حنيفة والشَّافعيُّ في أحد قوليه، ولم يوجبه مالك والشَّافعيُّ في القول الآخر، وقضى بوجوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة من حديث بَرْوَع بنت واشق، وقد تقدَّم
(4)
. ولو لم تَرِدْ به السُّنَّة لكان هو محض القياس؛ لأنَّ العرف
(5)
أُجري مُجرى الدُّخول في تقرير المسمَّى ووجوبِ العدَّة.
(1)
ص، د، ز:«الصغر» .
(2)
كذا في جميع النسخ منصوبًا على توهُّم أنه خبر «يكون» ، والوجه الرفع.
(3)
«وانقضاءه» ليست في المطبوع.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في المطبوع: «الموت» خلاف النسخ.
والمسألة الثَّانية: هل يثبت تحريم الرَّبيبة بموت الأمِّ كما يثبت بالدُّخول بها؟ وفيه قولان للصَّحابة، وهما روايتان عن أحمد.
والمقصود أنَّ العدَّة فيه ليست للعلم ببراءة الرَّحم، فإنَّها تجب قبل الدُّخول، بخلاف عدَّة الطَّلاق. وقد اضطرب النَّاس في حِكمة عدَّة الوفاة وغيرها:
فقيل: هي لبراءة الرَّحم، وأُورِد على هذا القول وجوهٌ كثيرةٌ، منها: وجوبها قبل الدُّخول في الوفاة، ومنها: أنَّها ثلاثة قروءٍ وبراءة الرَّحم يكفي فيها حيضةٌ كما في المستبرأة
(1)
، ومنها: وجوب ثلاثة أشهرٍ في حقِّ من يقطع ببراءة رحمها لصغرها أو كبرها.
ومن النَّاس من يقول: هو تعبُّد لا يُعقَل معناه، وهذا فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّه ليس في الشَّريعة حكمٌ إلا وله حكمةٌ، وإن لم يعقلها كثيرٌ من النَّاس أو أكثرهم.
الثَّاني: أنَّ العِدَد ليست من العبادات المحضة، بل فيها من المصالح رعايةُ حقِّ الزَّوجين والولد والنَّاكح.
قال شيخنا
(2)
: والصَّواب أن يقال: أمَّا عدَّة الوفاة فهي حرمٌ لانقضاء النِّكاح ورعايةٌ لحقِّ الزَّوج، ولهذا تُحِدُّ المتوفَّى عنها زوجُها
(3)
في عدَّة الوفاة رعايةً لحقِّ الزَّوج، فجُعِلت العدَّة حريمًا لحقِّ هذا العقد الذي له خَطَرٌ
(1)
«ومنها أنها
…
في المستبرأة» ساقطة من ز.
(2)
لم أجد كلامه في كتبه المطبوعة.
(3)
«زوجها» من ص، ح.
وشأنٌ، فيحصل فصلٌ بهذه بين نكاح الأوَّل ونكاح الثَّاني، ولا يتَّصل النَّاكحان. ألا ترى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا عظُمَ حقُّه حُرِّم نساؤه بعده، وهذا اختصَّ به الرَّسول؛ لأنَّ أزواجه في الدُّنيا هنَّ أزواجه في الآخرة، بخلاف غيره، فإنَّه لو حَرُمَ على المرأة أن تتزوَّج بغير زوجها تضرَّرت المتوفَّى عنها، وربَّما كان الثَّاني خيرًا لها من الأوَّل، ولكن لو تأيَّمتْ على أولاد الأوَّل لكانت محمودةً على ذلك مستحبًّا
(1)
(2)
.
وإذا كان المقتضي لتحريمها قائمًا فلا أقلَّ من مدَّةٍ تتربَّصُها، وقد كانت في الجاهليَّة تتربَّص سنةً، فخفَّفها الله سبحانه بأربعة أشهرٍ وعشرًا
(3)
. وقيل لسعيد بن المسيَّب: ما بال العشر؟ قال: فيها يُنفَخ الرُّوح
(4)
. فيحصل بهذه المدَّة براءة الرَّحم حيث يُحتاج إليه، وقضاء حقِّ الزَّوج إذا لم يُحتَج إلى ذلك.
(1)
ص، د، ز:«مستحب» .
(2)
أخرجه أحمد (24006)، وأبو داود (5149)، والطبراني في «الكبير» (18/ 56)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (635)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (11/ 145 - 146) من طرق عن النهّاس بن قَهْم عن شداد بن عبد الله عن عوف بن مالك رضي الله عنه. والنهاس ضعفه جمهور النقاد، وشداد لم يسمع من عوف بن مالك، وله شاهد حسن عند أبي يعلى في «مسنده» (6651) والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (649) من طريقين عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد.
(3)
كذا في النسخ منصوبًا.
(4)
أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 258).
فصل
وأمَّا عدَّة الطَّلاق فهي الَّتي أشكلَتْ، فإنَّه لا يمكن تعليلُها بذلك، لأنَّها إنَّما تجب بعد المسيس، ولأنَّ الطَّلاق قطعٌ للنِّكاح، ولهذا يتنصَّف فيه المسمَّى ويسقط فيه مهر المثل.
فيقال ــ والله الموفِّق للصَّواب ــ: عدَّة الطَّلاق وجبت ليتمكَّن الزَّوج فيها من الرَّجعة، ففيها حقٌّ للزَّوج وحقٌّ لله وحقٌّ للولد وحقٌّ للنَّاكح الثَّاني: فحقُّ الزَّوج ليتمكَّن من الرَّجعة في العدَّة. وحقُّ الله بوجوب ملازمتها المنزلَ كما نصَّ عليه سبحانه، وهو منصوص أحمد ومذهب أبي حنيفة. وحقُّ الولد لئلَّا يضيع نسبه، ولا يُدرى لأيِّ الواطئينِ. وحقُّ المرأة لِما لها من النَّفقة زمنَ العدَّة، لكونها زوجةً ترِثُ وتُورَث.
ويدلُّ على أنَّ العدَّة حقٌّ للزَّوج قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فقوله:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} دليلٌ على أنَّ العدَّة للرَّجل على المرأة.
وأيضًا فإنَّه سبحانه قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، فجعل الزَّوج أحقَّ بردِّها في العدَّة، وهذا حقٌّ له. فإذا كانت العدَّة ثلاثةَ قروءٍ أو ثلاثةَ أشهرٍ طالت مدَّة التَّربُّص، لينظر في أمره هل يُمسِكها أو يُسرِّحها، كما جعل سبحانه للمُؤلِي تربُّص أربعة أشهرٍ لينظر في أمره هل يُمسِك ويفيء أو يُطلِّق، فكان تخيير المطلِّق كتخيير المُؤلي، لكنَّ المُؤلي جعل له أربعة أشهرٍ كما جعل مدَّة التَّسيير أربعة أشهرٍ لينظروا في أمرهم.
وممَّا يُبيِّن ذلك أنَّه سبحانه قال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، وبلوغ الأجل هو الوصول والانتهاء إليه، وبلوغ الأجل في هذه الآية مجاوزته، وفي قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] مقاربته ومشارفته، ثمَّ فيه قولان:
أحدهما: أنَّه حدٌّ من الزَّمان، وهو الطَّعن في الحيضة الثَّالثة، أو انقطاع الدَّم منها أو من الرَّابعة، وعلى هذا فلا يكون مقدورًا لها.
وقيل: بل هو فعلها، وهو الاغتسال كما قاله جمهور الصَّحابة، وهذا كما أنَّه بالاغتسال يحلُّ للزَّوج وطؤها، ويحلُّ لها أن تُمكِّنه من نفسها، فالاغتسال عندهم شرطٌ في النِّكاح الذي هو العقد، وفي النِّكاح الذي هو الوطء.
وللنَّاس في ذلك أربعة أقوالٍ:
أحدها: أنَّه ليس شرطًا، لا في هذا ولا في هذا، كما يقوله من يقوله من أهل الظَّاهر.
والثَّاني: أنَّه شرطٌ فيهما، كما قاله أحمد وجمهور الصَّحابة، كما تقدَّم حكايته عنهم.
والثَّالث: أنَّه شرطٌ في نكاح الوطء لا في نكاح العقد، كما قاله مالك والشَّافعيُّ.
والرَّابع: أنَّه شرطٌ فيهما، أو ما يقوم مقامه، وهو الحكم بالطُّهر بمضيِّ وقت صلاةٍ وانقطاعه لأكثره كما يقوله أبو حنيفة.
فإذا ارتجعها قبل غسلها كان غسلها لأجل وطئه لها، وإلَّا كان لأجل حلِّها لغيره، وبالاغتسال يتحقَّق كمال الحيض وتمامه كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
والله سبحانه أمرها أن تتربَّص ثلاثة قروءٍ، فإذا مضت الثَّلاثة فقد بلغت أجلها، وهو سبحانه لم يقل: إنَّها عقيبَ القرء
(1)
تَبِين من الزَّوج، بل
(2)
خيَّر الزَّوج عند بلوغ الأجل بين الإمساك والتَّسريح. فظاهر القرآن كما فهمه الصَّحابة أنَّه عند انقضاء القروء الثَّلاثة يُخيَّر الزَّوج بين الإمساك بالمعروف والتَّسريح بإحسان، وعلى هذا فيكون بلوغ الأجل في القرآن واحدًا لا يكون قسمين، بل يكون استيفاء المدَّة واستكمالها. وهذا كقوله تعالى إخبارًا عن أهل النَّار:{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128]، وقوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234].
وإنَّما حملَ من قال إنَّ بلوغ الأجل هو مقارنته أنَّها بعد أن تحلَّ للخُطَّاب لا يبقى الزَّوج أحقَّ برجعتها، وإنَّما يكون أحقَّ بها ما لم تحلَّ لغيره، فإذا حلَّ لغيره أن يتزوَّج بها صار هو خاطبًا من الخطَّاب. ومنشأ هذا ظنُّ أنَّها ببلوغ الأجل تحلُّ لغيره، والقرآن لم يدلَّ على هذا، بل القرآن جعل عليها أن تتربَّص ثلاثة قروءٍ، وذكر أنَّها إذا بلغت أجلَها فإمَّا أن تُمسَك بمعروفٍ وإمَّا أن تُسرَّح بإحسانٍ. وقد ذكر سبحانه قبلَ هذا الإمساكَ والتَّسريحَ عقيبَ الطَّلاق فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
(1)
في المطبوع: «القرءين» خلاف النسخ.
(2)
«بل» ساقطة من المطبوع.
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، ثمَّ قال:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وهذا هو تزوُّجها بزوجها الأوَّل المطلِّق الذي كان أحقَّ بها، فالنَّهي عن عَضْلهنَّ مؤكِّدٌ لحقِّ الزَّوج.
وليس في القرآن أنه
(1)
بعد بلوغ الأجل تحلُّ
(2)
للخُطَّاب، بل فيه أنَّه في هذه الحال إمَّا أن يُمسِك بمعروفٍ أو يُسرِّح بإحسانٍ، فإن سَرَّح بإحسانٍ حلَّت حينئذٍ للخُطَّاب. وعلى هذا فدلالة القرآن بيِّنةٌ أنَّها إذا بلغت أجلها ــ وهو انقضاء ثلاثة قروءٍ بانقطاع الدَّم ــ فإمَّا أن يُمسِكها قبل أن تغتسل فتغتسل عنده، وإمَّا أن يُسرِّحها فتغتسل وتنكح من شاءت. وبهذا يُعرَف قدرُ فهم الصَّحابة رضي الله عنهم، وأنَّ مَن بعدهم إنَّما يكون غاية اجتهاده أن يفهم ما فهموه ويَعرِف ما قالوه.
فإن قيل: فإذا كان له أن يرتجعها في جميع هذه المدَّة ما لم تغتسل، فلِمَ قُيِّد التَّخييرُ ببلوغ الأجل؟
قيل: ليتبيَّن أنَّها في مدَّة العدَّة كانت متربِّصةً لأجل حقِّ الزَّوج، والتَّربُّص الانتظار، فكانت منتظرةً هل يُمسِكها أو يسرِّحها؟ وهذا التَّخيير ثابتٌ له من أوَّل المدَّة إلى آخرها، كما خُيِّر المُؤلي بين الفيئة وعدم الطَّلاق، وهنا لمَّا خيَّره عند بلوغ الأجل كان تخييره قبله أولى وأحرى، لكنَّ التَّسريح بإحسانٍ إنَّما يمكن إذا بلغت الأجل، وقبل ذلك هي في العدَّة.
وقد قيل: إنَّ تسريحها بإحسانٍ مؤثِّرٌ فيها حين تنقضي العدَّة، ولكن
(1)
كذا في النسخ، وهو ضمير الشأن. وفي المطبوع:«أنها» .
(2)
ص، د، ز:«محل» .
ظاهر القرآن يدلُّ على خلاف ذلك، فإنَّه سبحانه جعل التَّسريح بإحسانٍ عند بلوغ الأجل، ومعلومٌ أنَّ هذا التَّرك ثابتٌ من أوَّل المدَّة، فالصَّواب أنَّ التَّسريح إرسالُها إلى أهلها بعد بلوغ الأجل ورفعُ يدِه عنها، فإنَّه كان يملك حبْسَها مدَّةَ العدَّة، فإذا بلغتْ أجلَها فحينئذٍ إن أمسكها كان له حبْسُها، وإن لم يمسكها كان عليه أن يسرِّحها بإحسانٍ.
ويدلُّ على هذا قوله تعالى في المطلَّقة قبل المسيس: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، فأمر بالسَّراح الجميل ولا عدَّة، فعُلِم أنّه تخلية سبيلها وإرسالُها، كما يقال: سرَّح الماءَ والنَّاقةَ إذا [مَكَّنها]
(1)
من الذَّهاب، وبهذا الإطلاق والسَّراح يكون قد تمَّ تطليقُها وتخليتُها، وقبل ذلك لم يكن الإطلاق تامًّا، وقبل ذلك كان له أن يُمسِكها وأن يُسرِّحها، وكان مع كونه مطلِّقًا قد جُعِلَ أحقَّ بها من غيره مدَّةَ التَّربُّص، وجُعِلَ التَّربُّص ثلاثة قروءٍ لأجله.
ويؤيِّد هذا أشياء:
أحدها: أنَّ الشَّارع جعل عدَّة المختلعة حيضةً كما ثبتت به السُّنَّة، وأقرَّ به عثمان بن عفَّان وابن عبَّاسٍ وابن عمر
(2)
، وحكاه أبو جعفرٍ النَّحَّاس في «ناسخه ومنسوخه»
(3)
إجماع الصَّحابة، وهو مذهب إسحاق وأحمد بن حنبلٍ في أصحِّ الرِّوايتين عنه دليلًا، كما سيأتي تقرير المسألة عن قربٍ إن شاء الله. فلمَّا لم يكن
(1)
هنا بياض في النسخ.
(2)
تقدم تخريجه عنهم (ص 283).
(3)
(ص 229).
على المختلعة رجعةٌ لم يكن عليها عدَّةٌ، بل استبراءٌ
(1)
بحيضةٍ، لأنَّها لمَّا افتدتْ منه وبانتْ ملكتْ نفسَها، فلم يكن أحقَّ بإمساكها، فلا معنى لتطويل العدَّة عليها، بل المقصود العلم ببراءة رحمها، فيكفي فيه مجرَّد الاستبراء.
الثَّاني: أنَّ المهاجرة من دار الحرب قد جاءت السُّنَّة بأنَّها إنَّما تُستبرأ بحيضةٍ ثمَّ تُزوَّج، كما سيأتي.
الثَّالث: أنَّ الله سبحانه لم يشرع لها طلاقًا بائنًا بعد الدُّخول إلا الثَّالثة، وكلُّ طلاقٍ في القرآن سواها فرجعيٌّ، وهو سبحانه إنَّما ذكر القروء الثَّلاثة في هذا الطَّلاق الذي شرعه لهذه الحكمة
(2)
. وأمَّا المفتدية فليس افتداؤها طلاقًا، بل خلعًا غيرَ محسوبٍ من الثَّلاث، والمشروع فيه حيضةٌ.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بصورتين:
إحداهما: بمن استوفتْ عددَ طلاقها، فإنَّها تعتدُّ ثلاثة قروءٍ، ولا يتمكَّن زوجها من رجعتها.
الثَّانية: بالمُخيَّرة إذا عتقتْ تحت حرٍّ أو عبدٍ، فإنَّ عدَّتها ثلاثة قروءٍ بالسُّنَّة، كما في «السُّنن»
(3)
من حديث عائشة: «أُمِرَتْ بَريرةُ أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة» ، وفي «سنن ابن ماجه»
(4)
: «أُمِرتْ أن تعتدَّ ثلاثَ حِيَضٍ» . ولا رجعةَ لزوجها عليها.
فالجواب: أنَّ الطَّلاق المحرِّم للزَّوجة لم يجب فيه التَّربُّص لأجل
(1)
د: «تستبرأ» .
(2)
في النسخ: «الحلة» . والتصحيح من هامش م.
(3)
تقدم تخريجه (ص 258 - 259)، والكلام على ألفاظه.
(4)
برقم (2077). وقد تقدم (ص 259).
رجعة الزَّوج، بل جُعِل حريمًا للنِّكاح وعقوبةً للزَّوج بتطويل مدَّة تحريمها عليه، فإنَّه لو سُوِّغ لها أن تتزوَّج بعد مجرَّد الاستبراء بحيضةٍ أمكنَ أن يتزوَّجها الثَّاني ويُطلِّقها بسرعةٍ، إمَّا على قصد التَّحليل أو بدونه، فكان تيسيرُ عَوْدها إلى المطلِّق، والشَّارع حرَّمها عليه بعد الثَّالثة عقوبةً له؛ لأنَّ الطَّلاق أبغض الحلال إلى الله، وإنَّما أباح منه قدر الحاجة، وهو الثَّلاث، وحرَّم المرأة بعد الثَّالثة حتَّى تنكح زوجًا غيره.
وكان من تمام الحكمة أنَّها لا تنكح حتَّى تتربَّصَ ثلاثة قروءٍ، وهذا لا ضررَ عليها به، فإنَّها في كلِّ مرَّةٍ من الطَّلاق لا تنكح حتَّى تتربَّص ثلاثة قروءٍ، فكان التَّربُّص هناك نظرًا في مصلحته لمَّا لم يوقع الثَّلاث المحرِّمة، وهنا التَّربُّص بالثَّلاث من تمام عقوبته، فإنَّه عوقب بثلاثة أشياء: أن حُرِّمت عليه حبيبتُه، وجُعِل تربُّصها ثلاثةَ قروءٍ، ولم يجز أن تعود إليه حتَّى يحظى
(1)
بها غيرُه حُظوةَ الزَّوج الرَّاغب بزوجته المرغوب فيها، وفي كلٍّ من ذلك عقوبةٌ مؤلمةٌ على إيقاع البغيض إلى الله المكروه له.
فإذا علم بعد الثَّالثة: لا تحلُّ له إلا بعد تربُّصٍ وتزوُّجٍ بزوجٍ آخر، وأنَّ الأمر بيد ذلك الزَّوج، ولا بدَّ أن تذوقَ عُسَيلتَه ويذوقَ عُسيلتَها= علمَ أنَّ المقصود أن ييأسَ منها، فلا تعودُ إليه لا باختياره ولا باختيارها
(2)
، ومعلومٌ أنَّ الزَّوج الثَّاني إذا كان قد نكح نكاحَ رغبةٍ ــ وهو النِّكاح الذي شرعه الله لعباده، وجعله سببًا لمصالحهم في المعاش والمعاد، وسببًا لحصول الرَّحمة
(1)
ص، د:«يحضى» ، خطأ.
(2)
في المطبوع: «إلا باختيارها لا باختياره» خلاف النسخ، وهو مخالف أيضًا للسياق ومقصود المؤلف.
والوِداد ــ فإنَّه لا يُطلِّقها لأجل الأوَّل، بل يُمسِك امرأته، فلا يصير لأحدٍ من النَّاس اختيارٌ
(1)
في عَودِها إليه، فإذا اتَّفق فراقُ الثَّاني لها بموتٍ أو طلاقٍ كما يفترق الزَّوجان اللَّذان هما زوجان، أُبيح للمطلِّق الأوَّل نكاحُها كما يُباح للرَّجل نكاحُ مطلَّقةِ الرَّجل ابتداءً.
وهذا أمرٌ لم يحرِّمه الله سبحانه في الشَّريعة الكاملة المهيمنة على جميع الشَّرائع، بخلاف الشَّريعتين قبلَنا، فإنَّه في شريعة التَّوراة قد قيل: إنَّها متى تزوَّجتْ بزوجٍ آخر لم تحلَّ للأوَّل أبدًا. وفي شريعة الإنجيل قد قيل: إنَّه ليس له أن يُطلِّقها البتَّة. فجاءت هذه الشَّريعة الكاملة الفاضلة على أكمل الوجوه وأحسنها وأصلحها للخلق. ولهذا لمَّا كان التَّحليل مباينًا للشَّرائع كلِّها وللعقل والفطرة، ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعنُ المحلِّلِ والمحلَّلِ له
(2)
. ولعنُه صلى الله عليه وسلم لهما إمَّا خبرٌ عن الله بوقوع لعنته عليهما، أو دعاءٌ عليهما باللَّعنة، وهذا يدلُّ على تحريمه وأنَّه من الكبائر.
والمقصود أنَّ إيجاب القروء الثَّلاثة في هذا الطَّلاق من تمام تأكيد تحريمها على الأوَّل، على أنَّه ليس في المسألة إجماعٌ، فذهب ابن اللبَّان الفَرَضي صاحب «الإيجاز» وغيره إلى أنَّ المطلَّقة ثلاثًا ليس عليها غيرُ استبراءٍ بحيضةٍ، ذكره عنه أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى فقال
(3)
: مسألةٌ: إذا طلَّق الرَّجل امرأته ثلاثًا بعد الدُّخول، فعدَّتها ثلاثة أقراءٍ إن كانت من ذوات الأقراء، وقال ابن اللبَّان: عليها الاستبراء بحيضةٍ. دليلنا قوله تعالى:
(1)
ص، د، ز:«اختيارًا» ، خطأ.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
لعله من «رؤوس المسائل» له.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
ولم يقف شيخ الإسلام على هذا القول، وعلَّق تسويغه على ثبوت الخلاف فقال
(1)
: إن كان فيه نزاعٌ كان القول بأنَّه ليس عليها ولا على المُعتَقة المخيَّرة إلا الاستبراء قولًا متوجِّهًا. ثمَّ قال: ولازم هذا القول أنَّ الآيسة لا تحتاج إلى عدَّةٍ بعد الطَّلقة الثَّالثة. قال: وهذا لا نعلم أحدًا قاله.
قد ذكر الخلاف أبو الحسين فقال: مسألةٌ: إذا طلَّق الرَّجل زوجته ثلاثًا وكانت ممَّن لا تحيض لصغرٍ أو هرمٍ، فعدَّتها ثلاثة أشهرٍ، خلافًا لابن اللبّان أن لا عدَّة عليها. دليلنا: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].
قال شيخنا: وإذا مضت السُّنَّة بأنَّ على هذه ثلاثةَ أقراءٍ لم يجزْ مخالفتها ولو لم يُجمَع عليها، فكيف إذا كان مع السُّنَّة إجماعٌ؟
قال: وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: «اعتدِّي»
(2)
قد فهم منه العلماء أنَّها تعتدُّ ثلاثة قروءٍ، فإنَّ مع
(3)
الاستبراء قد تُسمَّى عدَّةً.
قلت: كما في حديث أبي سعيد في سبايا أَوطاسٍ
(4)
أنَّه فسَّر قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] بالسَّبايا، ثمَّ قال: «أي
(5)
فهنَّ لكم
(1)
لم أجد هذا النص وما بعده في كتبه المطبوعة.
(2)
تقدم تخريجه (ص 124).
(3)
«مع» ليست في المطبوع، وهي ثابتة في النسخ.
(4)
أخرجه مسلم (1456) وغيره.
(5)
في النسخ: «إن» . والتصويب من «صحيح مسلم» .
حلالٌ إذا انقضتْ عدَّتهنَّ»، فجعل الاستبراء عدَّةً.
قال: فأمَّا حديث عائشة: أُمِرَتْ بَريرةُ أن تعتدَّ ثلاث حيضٍ
(1)
فحديثٌ منكرٌ؛ فإنَّ مذهب عائشة أنَّ الأقراء الأطهار.
قلت: ومن جعل عدَّة المختلعة حيضةً فبطريق الأولى تكون عدَّة الفسوخ كلِّها عنده حيضةً؛ لأنَّ الخلع الذي هو شقيقُ الطَّلاق وأشبهُ به لا يجب فيه الاعتداد عنده بثلاثة قروءٍ، فالفسخ أولى وأحرى من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ كثيرًا من الفقهاء يجعل الخلع طلاقًا ينقص به عدده، بخلاف الفسخ لرضاعٍ ونحوه.
الثَّاني: أنَّ أبا ثورٍ ومن وافقه يقولون: إنَّ الزَّوج إذا ردَّ العوض ورضيت المرأة بردِّه ورَجْعها فلهما ذلك، بخلاف الفسخ.
الثَّالث: أنَّ الخلع يمكن فيه رجوع المرأة إلى زوجها في عدَّتها بعقدٍ جديدٍ، بخلاف الفسخ لرضاعٍ أو تجدُّدِ محرميَّةٍ
(2)
حيث لا يمكن عودُها إليه، فهذه بطريق الأولى يكفيها استبراءٌ بحيضةٍ، ويكون المقصود مجرَّد العلم ببراءة رحمها، كالمَسْبِيَّة والمهاجرة والمختلعة والزَّانية على أصحِّ القولين فيهما دليلًا، وهما روايتان عن أحمد.
فصل
وممَّا يبيِّن الفرق بين عدَّة الرَّجعيَّة والبائن: أنَّ عدَّة الرَّجعيَّة لأجل
الزَّوج، وللمرأة فيها النَّفقة والسُّكنى باتِّفاق المسلمين، ولكنَّ سكناها هل هو
(1)
كسكنى الزَّوجة فيجوز أن ينقلها المطلِّق حيث شاء، أم يتعيَّن عليها المنزل فلا تَخْرج ولا تُخْرَج؟ فيه قولان. وهذا الثَّاني هو المنصوص عن أحمد وأبي حنيفة، وعليه يدلُّ القرآن. والأوَّل قول الشَّافعيِّ وقول بعض أصحاب أحمد.
والصَّواب ما جاء به القرآن، فإنَّ سكنى الرَّجعيَّة من جنس سكنى المتوفَّى عنها، ولو تراضيا بإسقاطها لم يجزْ، كما أنَّ العدَّة فيها كذلك، بخلاف البائن فإنَّها لا سكنى لها ولا عليها، فالزَّوج له أن يُخرِجها ولها أن تَخرج، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس:«لا نفقةَ لكِ ولا سكنى»
(2)
.
فأمَّا الرَّجعة فهل هي حقٌّ للزَّوج يملك إسقاطَها بأن يطلِّقها واحدةً بائنةً، أو هي حقٌّ لله فلا يملك إسقاطَها؟ ولو قال: أنت طالقٌ طلقةً بائنةً وقعت رجعيَّةً أم هي حقٌّ لهما؟ فإن تراضيا بالخلع بلا عوضٍ وقع طلاقًا بائنًا ولا رجعة فيه؟ فيه ثلاثة أقوالٍ:
فالأوَّل: مذهب أبي حنيفة وإحدى الرِّوايات عن أحمد.
والثَّاني: مذهب الشَّافعيِّ والرِّواية الثَّانية عن أحمد.
والثَّالث: مذهب مالك والرِّواية الثَّالثة عن أحمد.
والصَّواب أنَّ الرَّجعة حقٌّ لله تعالى، ليس لهما أن يتَّفقا على إسقاطها، وليس له أن يُطلِّق طلقةً بائنةً ولو رضيت الزَّوجة، كما أنَّه ليس لهما أن
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «هي» .
(2)
تقدم تخريجه (ص 121).
يتراضيا بفسخ النِّكاح بلا عوضٍ بالاتِّفاق.
فإن قيل: فكيف يجوز الخلع بغير عوضٍ في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد؟ وهل هذا إلا اتِّفاقٌ
(1)
من الزِّوجين على فسخ النِّكاح بغير عوضٍ؟
قيل: إنَّما يُجوِّز أحمد في إحدى الرِّوايتين الخلع بلا عوضٍ إذا كان طلاقًا، فأمَّا إذا كان فسخًا فلا يجوز بالاتِّفاق. قاله شيخنا رحمه الله. قال
(2)
: ولو جاز هذا لجاز أن يتَّفقا على أن يُبِيْنَها مرَّةً بعد مرَّةٍ من غير أن ينقص عدد الطَّلاق، ويكون الأمر إليهما إذا أرادا أن يجعلا الفرقة بين الثَّلاث جعلاها، وإن أرادا لم يجعلاها من الثَّلاث. ويلزم من هذا إذا قالت: فَادِني بلا طلاقٍ أن يُبِينها بلا طلاقٍ، ويكون مخيَّرًا إذا سألته إن شاء أن يجعله رجعيًّا وإن شاء أن يجعله بائنًا، وهذا ممتنعٌ، فإنَّ مضمونه أنَّه يخيَّر
(3)
إن شاء أن يُحرِّمها بعد المرَّة الثَّالثة، وإن شاء لم يُحرِّمها، ويمتنع أن يُخيَّر الرَّجل بين أن يجعل الشَّيء حلالًا وأن يجعله حرامًا، ولكن إنَّما يُخيَّر بين أمرين مباحين له، وله أن يباشر أسباب الحلِّ وأسباب التَّحريم، وليس له إنشاء نفس التَّحليل والتَّحريم.
والله سبحانه إنَّما شرع له الطَّلاق واحدةً بعد واحدةٍ، ولم يشرع له إيقاعه مرَّةً واحدةً، لئلَّا يندم، وتزول نزغةُ الشَّيطان الَّتي حملتْه على الطَّلاق،
(1)
ص، ح، د، ز:«الاتفاق» .
(2)
لم أجد النصَّ في كتبه المطبوعة، وانظر معناه في «مجموع الفتاوى» (32/ 303، 304).
(3)
ص، ز، م:«يخيره» .
فتتبع نفسُه المرأةَ فلا يجد إليها سبيلًا. فلو ملَّكه الشَّارع أن يُطلِّقها طلقةً بائنةً ابتداءً لكان هذا المحذور بعينه موجودًا، والشَّريعة المشتملة على مصالح العباد تأبى ذلك، فإنَّه يبقى الأمر بيدها إن شاءت راجعته وإن شاءت فلا.
والله سبحانه جعل الطَّلاق بيد الزَّوج لا بيد المرأة، رحمةً منه وإحسانًا ومراعاةً لمصلحة الزِّوجين. نعم، له أن يُملِّكها أمرَها باختياره، فيخيِّرها بين القيام معه وفراقها. وأمَّا أن يخرج الأمر عن يد الزَّوج بالكلِّيَّة إليها، فهذا لا يمكن، فليس له أن يُسقِط حقَّه من الرَّجعة، ولا يملك ذلك، فإنَّ الشَّارع إنَّما يُملِّك العبدَ ما ينفعه مِلْكُه ولا يتضرَّر به، ولهذا لم يُملِّكه أكثرَ من ثلاثٍ، ولا ملَّكه جمْعَ الثَّلاث، ولا ملَّكه الطَّلاقَ في زمن الحيض والطُّهر المُواقَع
(1)
فيه، ولا ملَّكه نكاحَ أكثر من أربعٍ، ولا ملَّك المرأةَ الطَّلاقَ، وقد نهى سبحانه الرِّجال أن يؤتوا السُّفهاء أموالهم الَّتي جعل الله لهم قيامًا، فكيف يجعلون أمر الأبضاع إليهنَّ في الطَّلاق والرَّجعة؟ فكما لا يكون الطَّلاق بيدها لا تكون الرَّجعة بيدها، فإن شاءت راجعتْه وإن شاءتْ فلا، فتبقى الرَّجعة موقوفةً على اختيارها.
وإذا كان لا يملك الطَّلاق البائن فلا يملك الطَّلاق المحرِّم ابتداءً أولى وأحرى؛ لأنَّ النَّدم في الطَّلاق المحرِّم أقوى منه في البائن. فمن قال: إنَّه لا يملك الإبانة، ولو أتى بها لم تَبِنْ، كما هو قول فقهاء الحديث= لزمه أن يقول: إنَّه لا يملك الثَّلاث المحرِّمة ابتداءً بطريق الأولى والأحرى، وإنَّ له رجعتَها وإن أوقعها، كما له
(2)
رجعتُها وإن قال: أنت طالقٌ واحدةً بائنةً. فإذا
(1)
ص، د، ح:«الواقع» .
(2)
في المطبوع: «كان له» خلاف النسخ.
كان لا يملك إسقاطَ الرَّجعة فكيف يملك إثبات التَّحريم الذي لا تعود بعده إلا بزوجٍ وإصابةٍ؟
فإن قيل: فلازمُ هذا أنَّه لا يملكه ولو بعد اثنتين.
قلنا: ليس ذلك بلازمٍ، فإنَّ الله سبحانه مَلَّكه الطَّلاقَ على وجهٍ معيَّنٍ، وهو أن يُطلِّق واحدةً ويكون أحقَّ برجعتها ما لم تنقضِ عدَّتها، ثمَّ إن شاء طلَّق الثَّانية كذلك، وتبقى له واحدةٌ، وأخبر أنَّه إن أوقعها حرمت عليه، ولا تعود إليه إلا أن تتزوَّج غيرَه ويصيبَها ويفارقَها. فهذا هو الذي ملَّكه إيَّاه لم يُملِّكه أن يُحرِّمها ابتداءً تحريمًا تامًّا من غير تقدُّمِ تطليقتين. وباللَّه التَّوفيق.
فصل
قد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المختلعة أنَّها تعتدُّ بحيضةٍ، وأنَّ هذا مذهب عثمان بن عفَّان، وابن عبَّاسٍ، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبلٍ في إحدى الرِّوايتين عنه، اختارها شيخنا. ونحن نذكر الأحاديث بذلك بإسنادها.
قال النَّسائيُّ في «سننه الكبير»
(1)
: بابٌ في عدَّة المختلعة. أخبرني أبو علي محمد بن يحيى المروزي، ثنا شاذان
(2)
بن عثمان أخو عبدان، ثنا أبي،
(1)
برقم (5661). وأخرجه النسائي أيضًا في «المجتبى» (3497)، وابن ماجه (2058)، وأبو عوانة في «صحيحه» (4729).
(2)
في المطبوع: «شاذان عبد العزيز» . والمثبت من النسخ والنسائي. وشاذان لقب، واسمه عبد العزيز.
ثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن أنَّ رُبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء أخبرته أنَّ ثابت بن قيس بن شمَّاسٍ ضرب امرأته فكسرَ يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، فجاء أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابتٍ فقال:«خُذِ الذي لها عليك وخَلِّ سبيلَها» . فقال: نعم. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربَّص حيضةً واحدةً وتَلْحَق بأهلها.
أخبرنا عبيد الله
(1)
بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدَّثني عمِّي، قال حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدَّثني عُبادة بن الوليد بن عبادة بن الصَّامت، عن رُبَيِّع بنت مُعَوِّذ، قال: قلت لها: حدِّثيني حديثَكِ، قالت: اختلعتُ من زوجي، ثمَّ جئتُ عثمانَ فسألتُ: ماذا عليَّ من العدَّة؟ قال: لا عدَّةَ عليكِ إلا أن يكون حديثَ عهدٍ بكِ، فتمكُثين حتَّى تحيضي
(2)
حيضةً. قالت: وإنَّما يَتَّبِع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المَغَالِيَّة
(3)
، كانت تحت ثابت بن قيس بن شمَّاسٍ فاختلعت منه
(4)
.
وروى عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أنَّ امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت منه،
(1)
د: «عبد الله» ، خطأ.
(2)
د، ص، ح، ز:«تحيضين» .
(3)
د، ص، ح، م:«العالية» ، تحريف. والمغالية نسبة إلى بني مَغَالة بطن من الأنصار. انظر:«الإصابة» (14/ 206).
(4)
برقم (5662). وأخرجه النسائي أيضًا في «المجتبى» (3498)، وابن ماجه (2058)، والطبراني في «الكبير» (24/ 256).