الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسرائيليات وما دسَّه النصارى إليهم كما أشرنا من قبل، وعلى هذا يسنُّ ابن تيمية أمثل المناهج في اعتتماده.
فأعلى المراتب تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن كتاب متكامل، ما يجمله في موضع يفسره في آخر، وهكذا. وتلي هذه المرتبة تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا ذلك بما يناسب المقام.
والمرتبة الثالثة تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وهم الذين تلقوا تفسيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: والله الذي لَا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا إلا أتيته.
المرتبة الرابعة مرتبة التابعين الذين تلقوا علم الصحابة كمجاهد وقتادة، وقد يختلفون، فيرى ابن تيمية أنه إذا اختلف التابعون اختار من أقوالهم، ولا يخرج عنها. فإن التابعين قد دخلت في عهدهم الإسرائيليات، ومعابث النصارى، فيجب الأخذ عنهم باحتراس ويقظة، وإذا اختلفوا نأخذ من أقوالهم ما ليس فيه دَسٌّ على الإسلام لنصون كتاب الله تعالى عن تطاول المفسدين، كما ذكرنا في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنه المدسوسة على المفسرين.
وإنه يجب التنبيه إلى أن الواجب العلمي إبعاد الإسرائيليات عن تفسير القرآن، وتنقية كتبط التفسير منها، وإذا قيل إن منها ما يوافق النصوص القرآنية، ولا يخالفها، نقول إن في القرآن غنى عنها، والأكثر فيه تهويش على معاني القرآن، وإثارة للأوهام الكاذبة.
* * *
(تفسير القرآن بالرأي)
ابن تيمية وبعض علماء السلف يقصرون التفسير على ما يكون بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعون التفسير بالرأي، ويستدلون على ذلك بما يأتي:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن تيمية: " مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بغَيرِ عِلْم فَلْيَتَبَؤَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار "(1)، وقوله عليه الصلاة والسلام:" مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بَرأيِهِ، وأصَابَ فقدْ أخْطَأ "(2).
ثانيًا: شدد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في منع الأخذ بالرأي في معاني القرآن، ويروون في ذلك عن أبي بكر أنه قال:(أي أرض تُقِلُّنِي، وأي سماء تُظِلُّنِي إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم).
ثالثًا: وكان التابعون يتحرجون في القول في التفسير إلا أن تكون الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، ولقد قال مسروق:" اتقوا التفسير فإنه الرواية عن الله "(3). وهكذا نرى طائفة من علماء السلف يمنعون التفسير بالرأي المجرد، وابن تيمية يوضح آراءهم ويؤيدها مشددًا فيها، ونحسب أن المبرر الذي جعل ابن تيمية يتشدد في ذلك هو سد الذريعة لمنع الأوهام التي وجدت بتفسير بعض الإمامية، والإسماعيلية، والباطنية، فقد رويت تفسيرات سموها باطن القرآن وجعلوا للباطن باطنا، حتى وصلوا إلى سبعة بواطن، فكان منع التفسير بالرأي دفعًا لهذه الأوهام الباطنية التي أفسدت المعاني القرآنية بتأويلات لَا برهان عليها.
فإذا كان الإسرائيليون قد أدخلوا على التفسير ما ليس بمعقول ولا مقبول، فالباطنيون قد أدخلوا بتأويلاتهم وبواطنهم ما ليس من التفسير في شيء، والله حافظ كتابه من الفريقين، وهو بنوره الساطع يلفظ الخبث كما يلفظ الفلز في كير النار
خبثه.
(1) أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن - باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن بغير علم، وأحمد: كتاب مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه الترمذي. الموضع السابق (2952)، وأبو داود في كتاب العلم (3652) بلفظ:" كتاب الله " كلاهما عن جندب بن عبد الله.
(3)
قال أبو عبيد: عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. [مؤلفات ابن تيمية (أصول التفسير) ج 13 ص 521].
والغزالي أجاز التفسير بالرأي، وفتح الباب، ولكن قبل أن نقدم إسناده من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة نحرر رأيه، فهو:
أولا: لَا يهمل السنة ولا آثار الصحابة وأقوالهم، ويقرر أن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بسند صحيح لَا تصح مخالفته، ويجب الأخذ به.
ثانيا: لَا يفتح الباب على مصراعيه لكل من يرى رأيا فيفسر القرآن برأيه، بل يجب أن يكون عنده علم اللغة، وعلم القرآن، وعلم السنة، لكيلا يقول على الله تعالى بغير علم.
وإن الفهم في كتاب الله تعالى باب متسع لكل من عنده أداة الفهم لعلم القرآن، ويستدل على ذلك بنصوص من القرآن والسنة وأقوال الصحابة:
(أ) إن القرآن الكريم فيه كل علوم الدين بعضها بطريق العبارة، وبعضها بطريق الإشارة، وبعضها بالإجمال، وبعضها بالتفصيل، وإن ذلك يحتاج إلى التعمق في الفهم، والاستبصار في حقائقه. وذلك لَا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر التفسير التي تجيء على ألسنة بعض السلف، بل لابد من التعمق، واستخراج المعاني ما دامت لَا تخالف صريح المأثور، ولكنها أمور تسير وراءه، وعلى ضوئه وعلى مقتضى هديه؛ ولذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن " وإن ذلك لَا يكون بغير التعمق في الفهم والتعرف بالإشارة للمَرائي البعيدة والقريبة من غير اقتصار على ظاهر النصوص.
(ب) إن في القرآن بيان صفات الله سبحانه وتعالى، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى، وإن معرفة ذلك مع التنزيه وعدم المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وبيان ليعرف القارئ لكتاب الله تعالى أنه سبحانه وتعالى منزه نزاهة مطلقة عن المشابهة للحوادث.
(جـ) إنه قد وردت آثار كثيرة تدعو إلى الفهم والتدبر، فقد قال علي - كرم الله وجهه -:" من فهم القرآن فسَّر به جمل العلم "، وقال رضي الله عنه: " ما
أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في كتابه " (1).
(د) إن عبارات القرآن تدعو إلى فهمه فقال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. . .)، فقد قال فقهاء السلف إن الحكمةَ هي فهم القرآن، وإذا كان فهم القرآن خيرا كثيرا، فإنه سبحانه يدعو القادرين على الفهم للبحث والتأمل والنظر في الآيات وفهمها.
ولقد قال تعالى: (. . . وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ. . .)، وفي هذا دعوة إلى الاستنباط، واستخراج المعاني العميقة، كما يستنبط الماء من الآبار، وفيه إشارة إلى وجوب تعرف معاني القرآن بالفهم بصحيح كما يتعرفونها بالآثار الصحيحة، فهما طريقان مستقيمان، فمن منع أحدهما فقد خالف العقل والنقل.
(هـ) إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالفهم في القرآن فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "(2) وليس التأويل إلا فهم مرامي العبارات والمآل والمكان للمعاني التي تشتمل عليها ألألفاظ وجمل القول. ولو كان التفسير مقصورا على ما ورد من أقوال النبي لقال عليه الصلاة والسلام: " حَفِّظْهُ ".
والغزالي لَا يقف في استدلاله عند تأثير التفسير بالرأي، بل ينقد أدلة الوقافين الذين يقفون عند المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لَا يعدونهم - وينقدهم من وجوه:
أولها: أنه لكي يصح الوقوف على تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون كل ما نأخذ به من تفسير مسندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ثابتا بالضرورة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه البخاري - كتاب العاقلة - باب: الديات (03 69). وبنحوه عند مسلم - كتاب العتق (1370) وكذا رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وأحمد.
(2)
أخرجه أحمد: كتاب: مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس (2874 - 3932) وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
بأن يقول التفسير صحابي أو تابعي، ولا يتصور أن يكون ذلك من غير النبي صلى الله عليه وسلم وليس للرأي فيه مجال، فإذا كان للرأي فيه مجال فاحتمال أن يكون ذلك من رأى الصحابي أو التابعي، وخصوصا أنه في عهد التابعين أدخلت الإسرائيليات، ونقل عبد الله بن عمرو بن العاص حمولة زاملتين في موقعة اليرموك، وإن ما نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفسير ليس كل التفسير، ولا جُلَّه.
ثانيها: أن الراجح أن تفسير الصحابة الذين قالوه لم ينسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من المحتمل أن يكون بآرائهم، وإن كان لها فضل الاقتباس من هدى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن واجب الاقتداء بهم أن نفسر بالرأي مثلهم مسترشدين بأقوالهم في فهم الآيات كما نسترشد بآرائهم في الفقه، وفي معاني الألفاظ العربية.
ثالثها: أن الصحابة اختلفوا، وكذلك التابعون، وسماع كل هذه الأقوال محال، فلا بد أن يكون بعضها صحيحا وبعضها غير صحيح. ولو كان بعضها مسموعا لوجب رد الباقي، ولا يمكن معرفة ما يرد وما يبقى؛ لأن المسموع منها غير متميز ولا معين، ويؤدي هذا إلى أن بعض هذه الاقوال كان بالرأي، وأن المتبع للآثار ولا يعدوها لَا يكون له مناص من أن يختار من هذه الأقوال المختلفة، وأن ذلك سيحمله على أن يعمل الرأي في تخير ما يختار، ويكون المتبع قد فر من الرأي ابتداء ثم وقع فيه انتهاء.
ويبين الغزالي موضع النهي عن الرأي في فهم القرآن فيرى أنه في موضعين: أولهما: أن يكون له رأي في موضوع الآية، ويميل إليه بطبعه وهواه، فيتأوَّل الآية من القرآن لتكون على وفق رأيه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ما كان ليلوح إليه ذلك المعنى. وهذا تارة يكون مع العلم بأنه ينزل القرآن على فكره وهواه كبعض المبتدعة الذين يجادلون في آيات الله ويلحفون في الجدل للغلب، وهم يدركون أن القرآن لَا يؤيد رأيهم ولكن يتغالبون به.
وقد يكون غير قاصد الغلب، بأن تكون الآية تحتمل معنيين أو تبدو له كذلك، فيختار منهما ما يكون أوفق مع فكره، ولولا فكره السابق ما اختار ذلك المعنى.