المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هذا أمر الصبر والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: هذا أمر الصبر والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب

هذا أمر الصبر والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب " إليه، والاتجاه إليه، وهي التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فينسى ما بينه وبين الناس، وهي استحضار العزة من الله، وامتلاء الإنسان بجبروت الله، وأنه فوق قوى البشر، والاستعانة هي سلوك المؤمن، روى " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى " (1).

ولقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر والصلاة إذا اشتدت عليه شديدة الناس بالقول والعمل، فقال تعالت كلماته:(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).

فعبر عن الصلاة هنا بالتسبيح فسبيل الرضا بالنوازل والشدائد من الناس - كما تدل الآية - الصبر على ما يقولون، والصلاة إذ هي اطمئنان القلوب، وسرور النفوس وبها تستبدل النعمة بالنقمة، والسراء بالضراء.

وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بمعاونته لهم، فينصرهم، بسيطرتهم على نفوسهم، ثم ينصرهم على أعدائهم، ثم يغلبهم على كل شر في الحياة، ثم تقوية عزمهم، وضبطهم لنفوسهم، فالله معهم في كل أعمالهم، وهو وليهم ونعم المولى ونعم النصير.

هذا ما يعذ الله به تعالى نفوس المجتهدين، صبر وذكر لله تعالى، وإنه من بعد ذلك يكون القتال، ويكون الشهداء، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس القتال شهوة، ولا نزهة، ولكنه فداء وبلاء، واستشهاد، وإن الشهداء لَا يموتون ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون، والحياة ليست للأشباح فقط، بل هي للأرواحِ، ولذا قال تعالى:

(1) رواه أحمد (22210)، وأبو داود (1124). عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

ص: 468

(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‌

(154)

النهي عن القول، والقول دليل الاعتقاد فهو نهي عن الاعتقاد، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن الاعتقاد في آية أخرى في معنى هذه الآية الكريمة وفي موضوعها فقال تعالى:(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عندَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ)، وفي الآية التي نتكلم في معناها قال الله تعالى: (وَلَكِن

ص: 468

لا تَشْعُرُونَ)، أي ولكن لَا تحسونهم بمرأى العين، وذلك لَا يقتضي أنهم ماتوا، بلِ هم عند ربهم يرزقون، ولقد قال تعالى:(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171).

ْوإن حياتهم روحية يستبشرون بها بأنهم فدوا إخوانهم، وأنهم قدموا أنفسهم، وآثروا إخوانهم، ولقد صور النبي صلى الله عليه وسلم حياتهم فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لَا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى، فيقول الربُّ جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون "(1).

هذا حديث مصور لحياتهم الروحية، وأنهم في جنات النعيم، وأنهم ما ندموا على أن قتلوا شهداء بل إنهم فرحون بذلك، وأنهم يتمنون أن يعودوا ليقتلوا في سبيل الله تعالى؛ لأنهم راضون بما فعلوا، فهم يطلبون الشهادة بأرواحهم كما

(1) رواه مسلم، عَن مَسْرُوق قَالَ: سَألنا عَبْدَ اللَّه - أي ابن مسعود - عَنْ هَذه الآيَة (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً» ، فَقَالَ:" هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ".

وبنحوه عند الترمَذي (2937) في كتاب التفسيَرَ - باب تفسير سورة آل عمران وابن ماجه (2791) في كتاب الجهاد - باب فضل الشهادة في سبيل الله (2791) وجاء من رواية جابر بن عبد الله عند الترِمذي (2936) وابن ماجه (0 279) واللفظ له يَقُولُ: " لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟» وَقَالَ: يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا "، قَالَ:«أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟» ، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:" مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ".

ص: 469