الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تمهيد)
كان أحب إليَّ منذ كنت طالبًا علم القرآن، ودراسة هذا الكتاب العظيم في بيانه المعجز الذي تحدى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحدى الخليقة إلى اليوم فلن يستطيعوا أن يأتوا بمثله:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وهو يتحدى الفكر الإنساني ببلاغته، ومعانيه، وقصصه، وشريعته، وتوجيهه الأنظار إلى الكون بما فيه من ذكر السماوات والأرض، وخلق الإنسان، واختلاف ألوانه وألسنته، والنفس الإنسانية في خواطرها، وما يعليها، وما يُدسِّيها، وسيطرة الخالق على ما خلق، له الملك في السماوات الأرض وهو على كل شيء قدير.
كنت طالبًا بالأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي، وكنت أميل إلى علم تفسير القرآن؛ يصغي قلبي إليه، ويصبو فكري نحوه، وذلك من بين علوم الإسلام وعلوم الحياة المختلفة التي كانت تدرس، فكان لكل علم ناحية في نفسي، أما علم القرآن فكان قلبي كله له.
ولما تخرجت فى هذه المدرسة كان حب القرآن وعلوم القرآن مختلطا بنفسي، ومن حسن المصادفات الموفقة أن يكون أول درس ألقيه، بعد أن شددت في العلم، هو القرآن.
لقد علمت أني عينت مدرسا بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي في يوم ْالعاشر من أكتوبر سنة 1927، فلما ذهبت لأتسلم العمل في ذلك اليوم، سلمني شيخنا العارف بالله المرحوم الأستاذ حسن منصور الذي كان وكيلًا لمدرسة القضاء الشرعي، وأستاذ التفسير بها - سلمني الجدول، وكله في مادة التفسير، في السنة
الخامسة من التجهيزية، ثم رؤى أن يقسم بيني وبين أحد زملائي الكرام، رحمه الله وطيب ثراه، ومكثت أدرِّس التفسير بالتجهيزية سنتين، وكان أحب إليَّ من أي عمل سواه، انقطعت بعد ذلك عن هذا الدرس الحبيب بمقتضى سنَّة العمل في الحياة العلمية، وشغلت بعلوم العربية وقتا غير طويل، نحو ثلاث سنين، ثم شغلت بالفقه في أطول مدة قضيتها. ولكني كنت على شوق إلى القرآن، وكانت مجلة " لواء الإسلام " تنشر في كل عدد منها تفسيرًا للقرآن، وكان يتولاه الرجل المؤمن العارف بالله الشيخ الخضر حسين، وواصل تفسيره حتى وصل إلى قوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ. . .)، ووقف عند هذه الآية، لأسباب نفسية، لم تكن من صاحب المجلة الرجل الطيب، فاعتذر، وطلب إلى أن أتمم ما بدأت، وأيده صاحب المجلة فيما طلب، فتوليت كتابة التفسير من هذه الآية راغبًا دائبًا، فعدت إلى التفسير كما بدأت في حيأتي العلمية، واستمررت في هذا العمل المحبوب، إلى أن منعت من التفسير، ومن غيره بأمر طاغوتيٍّ بمن كان يحكم مصر إبان ذلك، وكنت قد وصلت إلى قوله تعالى:(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54).
ولما تكشَّفت الغمة، وزال الحكم الطاغوتي، وزالت آثاره التي بقيت بعده شهورا، وحملت القلم لأعود إلى أداء الواجب، تعذر على أن أقوم بواجبي مع الكرامة، وكان لي ما كان للمرحوم الخضر رضي الله عنه، وقد ألحَّ عليَّ الكثيرون من أهل العلم وطلابه أن أتمم ما بدأت في " لواء الإسلام "، وتكرر الطلب، فوجدت أن من الواجب عليَّ أن أقوم بكتابة التفسير مستعينًا الله، متوكلًا عليه، ضارعًا إليه أن يمن بتوفيقه، فلولا توفيقه ما اهتدينا إلى عمل، وما أتممنا عملا بدأناه.
فابتدأت بكتابة الجزء الذي كتبه الإمام الخضر، ليكون التفسير كله نسقا واحدا، وعلى منهاج واحد، وها نحن أُولاء نسير في الطريق ضارعين إليه سبحانه وتعالى أن نصل إلى الحق فيما نكتب.