المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هؤلاء هم أهل الإيمان - من الماضين - بكتبهم، المؤمنون - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: هؤلاء هم أهل الإيمان - من الماضين - بكتبهم، المؤمنون

هؤلاء هم أهل الإيمان - من الماضين - بكتبهم، المؤمنون بالقرآن الكتاب الأكمل، أما من كفروا فقد ذكر الله تعالى ما يستميلهم، فقال تعالت كلماته:(وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الكفر به جحود بآياته وإنكار لأحكامه، ومعاندة، وقال أولئك الإشارة إليهم محكمين كفرهم متصفين به، وحكم سبحانه بالخسران مؤكدا له بضمير الفصل هم، وبالجملة الاسمية وبحصرهم في الخسران، والله أعلم بهم.

* * *

ص: 391

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‌

(122)

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

* * *

تقدم بيان معاني هاتين الآيتين الكريمتين (1)، وبقى أن يسأل سائل لماذا تكررت الآيتان، ونقول إنه ابتدأت قصة بني اسرائيل بهاتين الآيتين، وذكر من بعدها النعم المتوالية، والكفر المتوالي، وكيف كانت النعم لَا تزيدهم إلا كفرًا وخسارًا، وذكر سبحانه وتعالى تقلبهم في نعمه تبارك وتعالى، وكفرهم المتوالي بهذه النعم.

وفى ذلك اعتبار للناس، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار، وأنه ما كان حديثا يفترى.

وفى ختام قصصهم في هذه السورة (سورة البقرة) تأكيد لنعمه عليهم، وتأكيد لم كان زجرهم؛ ليتبين أن ابتداء أمرهم كنهايته. (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكرونَ).

* * *

(1) راجع تفسير الآيين 47، 48 من سورة البقرة في هذا التفسير المبارك.

ص: 391

إبراهيم وبناء الكعبة

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

* * *

بعد أن قص الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل وما كفروا به هذه النعم في حاضرهم وماضيهم، وكانوا يفخرون بأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإنهم لهذا أبناء الله وأحباؤه، وما أداهم ذلك الاعتقاد الواهم الباطل إلى ضلال توارثوه، وفساد فكر تناقلوه، وكفر بالله، وقتل للنبيين، أخذ سبحانه يقص قصص إبراهيم أبي إسماعيل وإسحاق وجدّ يعقوب وجدّ النبيين الذين ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن.

يقول سبحانه ة

ص: 392

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهنَّ) و " إذ " ظرف زمان يدل على الماضي متعلق بمحذوف تقديره: اذكر الوقت الذي ابتلى الله فيه إبراهيم بكلمات فأتمهن، وذكر الوقت ليس ذكرًا للزمن المجرد، إنما هو ذكر للوقائع في هذا الزمن، للعبرة بها، والاتعاظ في مثلها.

وقد ابتدأ هذه الوقائع بابتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات، والابتلاء معناه الاختبار من الله تعالى لَا عن جهل بما سيكون، بل لإظهار ما علمه الله تعالى عما

ص: 392

يكون، ولا يكون إلا في أمر يعمله العبد بمجاهدة، وصبر وجهاد نفس، وقد كان الابتداء بذكر الابتلاء لبيان أن إمامة النبوة لَا تكون إلا بمجاهدة، وجهاد نفس، وقدم المفعول على الفاعل وهو " الكلمات " التي ابتلى بها؛ لأن موضع الحديث هو إبراهيم ذاته وليست الكلمات، فكان هو موضع الاهتمام وحده، وكان المراد كشف حال نفسه القوية الطاهرة، كما قال تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ. . .).

والكلمات التي اختبر الله تعالى بها إبراهيم، ليست هي ألفاظها وكلماتها وحروفها، إنما المراد بالكلمات المدلولات والمطلوبات التي تتضمنها من أوامر ونواه، ووقائع.

وقد اتجه بعض مفسري السلف إلى إحصاء ما تدل عليه هذه الكلمات، واعتمدوا في ذلك على أقوال الصحابة والتابعين، ولكن لم يسند فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيء؛ ولذا قال شيخ المفسرين السلفيين ابن جرير: لَا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع. . ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة يجب التسليم له. اهـ.

وإذا كان لم يصح خبر بهذه الكلمات أو بالوقائع التي تدل عليها الألفاظ، فإننا نتلمسها من القرآن الكريم سجل النبوات وأخبارها.

وأولى واقعة تجلى فيها اختبار الله تعالى لإبراهيم هو في طلبه معرفة ربه رب الوجود، ورب المشارق والمغارب، فقد اختبره الله تعالى بذلك - كما حكى القرآن الكريم - فقد كفر بالأوثان، ابتداء؛ لأنها لَا تنفع ولا تضر، ثم أخذ يتعرف رب الوجود من الوجود والملك واقرأ قوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا

ص: 393

أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)

* * *

هذا اختبار من الله تعالى عرف به عقل إبراهيم السليم، وإدراكه المستقيم.

وقد اختبره الله تعالى وألهمه أن يحطم الأوثان فحطمها، وجعلها جذاذا، وألقوه في النار عقابا فقال الله تعالى:(يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). واختبره الله تعالى بكلمة مدلولها أشد ما يكون على النفس البشرية أن يذبح ولده البكر إسماعيل عليه السلام، فاستجاب لأمر ربه، وأخذ يذبح ولده الحبيب استجابة للحبيب، ولكن فداه الله تعالى بذبح عظيم.

واختبره الله تعالى بالهجرة من بلده إلى الشام، وإلى مكة حيث ولده العزيز إسماعيل وأمه واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت ملته المتبعة، وما كان من المشركين.

اختبره الله تعالى بكلماته، أي بمدلولها، وما ذكرنا بعضها، فأتمهن أي أتم ما طلب منه فيها، وكان أمرها عظيما وكان إبراهيم في إتمامها عظيما.

ولذا كانت مكافأة الله تعالى له أعظم، فكانت جزاء وفاقا لما أتم به الكلمات، قال الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم:(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي يقتدى به ويتبع، فالإمام ما يؤتم به ويتبع و " جاعلك " أي مصيِّرُك بإتمام الكلمات، ووفائك لهذا قدوة طيبة، وأسوة صالحة، فمن اتبعك فقد اهتدى، وأي امرى عنده طاقة إبراهيم أبي الأنبياء في القدرة على الاقتداء به، والاهتداء بهديه والوفاء بكلماته إن ذلك لمقام عظيم.

وإبراهيم كان شفيقا رفيقا محبا لأسرته في غير ظلم ولا اعتداء، وكان يعطف على الأطفال ويرفق بهم؛ ولذلك لم يكتف بأن كان هو الإمام، بل أراد أن يكون

ص: 394

إمام من ذريته يعمل بمثل عمله ويقتدى به في الهداية، فهو يطلب الهداية لذريته لا استئثارا بالمحبة ولكن بالتقوى والهداية؛ ولذلك قال مناجيا ربه:(وَمِن ذُرِّيَّتِي) أي اجعل يا رب العالمين من ذريتي أئمة صالحين يؤتمون ويقتدى بهم، فهو يدعو الله تعالى إلى أن تكون ذريته طيبة صالحة يقتدى بهم، فتكون خلفا له في الإمامة لا بمجرد الانتساب إليه بل لعملهم وتقواهم وإيمانهم بكلمات الله.

ولكن الله تعالى العليم الذي يعلم كل شيء يعلم ما هو كائن، وما يكون أشار إلى أنه لن تكون ذرية إبراهيم كلها من الصالحين الذين يؤتم بهم، بل سيكون منهم الظالمون الذين يظلمون أنفسهم، وغيرهم بالمعاصي يرتكبونها وبالشر يعملونه ويطلبونه؛ ولذا قال تعالى:(قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

أي أن ذريته سيكون منهم محسن، وسيكون منهم ظالم لنفسه، بالمعاصي، فالمحسنون ينالهم عهدي، ويكون منهم أئمة يقتدى بهم، وأما الظالمون فلن ينالوا إمامة في الدين من الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى:(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)، والمعنى أن ذرية إبراهيم من أحسن منها نال الإمامة، ومن لم يحسن فهو ظالم لَا ينالها؛ لأنه يضل الناس، ولا يهدي أحدا؛ ولذلك كان من ذريته أئمة في الدين، وقد قال تعالى:

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27).

والعهد في اللغة مراعاة الشيء والمحافظة عليه، ومن ذلك قوله تعالى:

(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْل فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، والعهد أيضا الأمر الموثق الذي لَا يجوز نقضه، ومن ذلك قوله تعالى:(وَأَوْفوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْئولًا)، وقوله تعالى:(وَأَوْفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. . .).

والعهد في هذه الآية هو الإمامة، وكأنها مأخوذة من العهد بمعنى الرعاية فعهد الله تعالى أن يعهد برعاية الدين والإمامة إلى إمام في الدين، وإنه لَا ينال هذه

ص: 395

الإمامة ظالم، ولا يشمل عهد الله بمعنى أن يعهد بالرعاية للظالمين، أي لَا يشمل عهدي ظالما قط.

وقد تكلم بعض المفسرين على ضوء هذه الآية الكريمة على الولاية وإمامة الناس، فقال بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه لَا يجوز ولاية الظالم، ولا يصح أن يكون إماما، وأنه إذا ولي ظالم لَا تجوز طاعته، أو على الأقل في ظلمه، وقال آخرون: تجب طاعته في الطاعة وتجب مخالفته في المعصية، لأنه لَا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويستمر في ولايته، ويُسعى في تغييره.

وإن الاتفاق على أنه لَا يجوز تولية الجائر، ولكن أتسقط ولايته بجوره؟، أم تبقى ويُسعى في تغييره؛ المعتزلة والشيعة والخوارج قالوا: لَا طاعة له، ويغير بالقوة.

والذي عليه الأكثرون كما قال القرطبي: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الخوف بالأمن، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض.

وقد كان الإمام مالك يمنع محاربة الخوارج وأمثالهم إذا خرجوا على الظالمين ويقول: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما، ولكن إذا خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس أن يقاتلوهم ويمنعوهم من طغيانهم.

أنعم الله تعالى على العرب بإبراهيم عليه السلام إذ جعل البيت الذي بناه وهو بيت الله الحرام مثابة للناس وأمنا، كما قال تعالى في سورة أخرى:(أَوَلم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيتَخَطَّفُ النَّاس مِنْ حَوْلِهِمْ. . .).

ولقد قال تعالى في ذلك:

ص: 396

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، والمعنى واذكر الوقت الذي جعلنا فيه البيت مَثَابَةً لِلنَّاسِ، أي اذكر ذلك الوقت بما فيه من نعم، وإكرام لأهل التقوى، والبيت المراد منه المسجد الحرام، وإطلاق كلمة " البيت " وإرادة البيت الحرام إشعار بفضله، وإشارة إلى كماله، وإلى أنه أكمل بيت وضع

ص: 396

للناس، لأنه أول بيت للعبادة، ولأنه بناء إبراهيم أبي الأنبياء، ولأنه موضع الأمن من الخوف، ومثابة الناس، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة إبراهيم وإن كان - البيت - شرفهم ومحتدهم الكريم.

والمثابة: أي المرجع الذي يأوون إليه، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابا، وثووبا، أي مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه.

وقوله تعالى:

ص: 397

(وَأَمْنًا) فهو مصدر موصوف به البيت فهو أمن للناس يأمنون فيه من القتل أو الاعتداء، حتى إن الرجل ليلقى فيه قاتل أبيه أو أخيه فلا يمتد إليه، وحرم فيه القتل والقتال، وكان محترما في الجملة من العرب أيام شركهم، وذلك من هداية الله تعالى لهم بالأخذ بأثارة من بقايا ملة إبراهيم.

ولقد قال الله تعالى في هذا البيت؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97).

وقوله تعالى: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) فيه إشارة أولا إلى أن الكعبة مثابة للناس، يجيئون إليها في حجهم، كما صرح سبحانه وتعالى، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى.

وإن باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه إسماعيل عليه السلام، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم إبراهيم المسلمين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال الله تعالى:(وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قرئ بالطلب بكسر الخاء، وقرئ بالفتح على أنها خبر، وفي الحالين هي معطوفة على (جَعَلْنَا) فعلى قراءة فتح الخاء يكون المعنى جعلناه للناس مثابة وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعلى قراءة

ص: 397

الأمر يكون عطف جملة طلبية على مثلها لأن (جَعَلْنَا) وإن كانت بلفظ الخبر ولكن معناها الطلب؛ لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

و (مَّقَامِ) اسم مكان القيام، أي الشيء الذي قام إبراهيم عليه يبني البيت بمعاونة إسماعيل عليهما السلام، وقد قالوا إنه الحجر الذي يعرفه الناس، في الحج، واتخاذه مصلى، أي اتخاذ المكان الذي هو فيه مصلى أي مكانا للصلاة فالمصلى اسم مكان للصلاة.

وفى البخاري أن مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت (1) وغرقت قدماه فيه، وقال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه.

وإن اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر، وقد كانت بأمر الله تعالى، وليست بدعا قد أتيها.

وقد تكلم المؤرخون في الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء الكعبة المكرمة، وأوثق من قال في ذلك ابن كثير، لقد قال في ذلك: " مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده، وهذا الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار

(1) جاء في صحيح البخاري في حديث طويل عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قَالَ: فَجَاءَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: أَنْتِ ذَاكِ، فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قَالَ: فَجَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَنْزِلُ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ، فَقَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ» قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كَمَا قَالَ: قَالَ فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} " َ [أحاديث الأنبياء: باب (واتخذ الله إبراهيم خليلا): (3114)].

ص: 398

وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى زم بناء جدران الكعبة ".

ويقول ابن كثير في موضعه الذي وضعه - إبراهيم بعد البناء: " وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى مكان الباب مما يلي الحجرة يمين الداخل من البقعة المستقلة هناك، وكأن الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء الكعبة، وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - والله أعلم - أمر الله تعالى بالصلاة عند الانتهاء من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة ". اهـ

وبهذا تبين أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم لإتمام البناء، ولما أتمه وضعه بجوارها، وكأن الصلاة عقب الطواف عنده حيث انتهى إبراهيم من البناء وحيث انتهى الطائفون من طوافهم. ولقد جاء في العام السابع عشر من الهجرة سيل شديد نقل الحجر من موضعه فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب إلى مكة وتحري الموضع الذي كان فيه الحجر فوضعه فيه رضي الله تعالى عنه. لقد أقام البناء للبيت العتيق نبيان، وبهذا البناء بنيا مجد العرب، وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها.

وقد بنياه طاهرا، مطهرا، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه، فقال تعالى:(وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُكَّعِ السُّجُودِ).

والعهد في هذا النص السامي، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه.

فمعنى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيلَ)، أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية البيت إنشاءً وتطهيرا وقوله تعالى:(أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) تفسير للعهد المذكور، وتطهيره

ص: 399

هو التطهير من الرجس الحسي من الخبائث الحسية، والتطهير المعنوي بأن يخصص لعبادة الله تعالى وحده فلا يكون مكانا لوثن، ولا معبدًا لغير الله تعالى، وقد قال تعالى في هذا المعنى السامي:(وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير مكة، والمقيمين حوله، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله. والطائفون عند أكثر الكاتبين هم القادمون للطواف وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا، وإنه مع أنه موطن الحجيج الطوافين والمقيمين حوله مجاورين معتكفين هو مسجد الله تعالى تقام فيه الصلاة، فيكون لهؤلاء الطائفين العاكفين ويكون للمقيمين للصلاة، وأشار إليهم سبحانه بقوله تعالت كلماته:(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم الراكعون وهو جمع تكسير، وهم الذين يخضعون لله تعالى راكعين متضرعين متبتلين، والسجود جمع ساجد، كقعود جمع قاعد، ورقود جمع راقد. ويراد الركوع الذي هو ركن الصلاة، والسجود الذي هو الركن أيضا، واكتفى بذكرهما دون بقية الأركان من قراءة وقيام وقعود؛ لأنهما مظهر الخضوع الكامل، والتطامن لرب العالمين.

بعد أن بني خليل الله أبو الأنبياء بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه، أن يجعل ما حول البيت آمنا، وقد أقاموا في مكان جدب؛ ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات، فقال تعالى حاكيا دعاءه:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) وفي هذا دعاء إلى أن يكون ما حول البيت بلدا آمنا، وأن يرزقه من الثمرات، وهذا يشير إلى أنه عند بناء البيت لم يكن البلد قد تكوّن، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونًا؛ ولذلك ذكر بالتعريف، فقال تعالى:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبدَ الأَصْنَامَ).

ص: 400

وقد قال بعض المفسرين إن الدعوة قد تكررت، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا، كما في قوله تعالى:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)، وإنه عند تمام البيت استجاب الله تعالى لنبيه، فأخذ الناس يأوون إليه يبنون ويقيمون الخيام، وإن البلد ينشا بعد بضعِ سنين فلما نشأ، وإبراهيم ذو ضراعة، وأوّاه حليم دعا فقال:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنًا) وخشي من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)، وإن كثيرين يرون أن طلب إبراهيم لم يكن إنشاء بلد آمن، بل كان طلبه فقط أن يكون آمنا، فالطلب من إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن، والإشارة إلى المكان، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن، ويكون المطلوب الأمن، كما تقول مشيرًا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا، ويكون المراد وصفه بالبر، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه، فجعله بيتا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.

(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ)، والرزق الإعطاء والتمكين، ومن هنا للبعضية، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه، وكذلك شأن الذين لَا يسرفون على أنفسهم، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب، وأعطاهم ثمرات التجارة، فكانت مكة موطن الاتجار فى الجزيرة العربية، وكانت مزار العرب في الحج، وقد كان ذلك إجابة لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

وإنه في هذه الآية طلب أن تهوي إليهم أفئدة الناس، فيقدموا على الحج، وطلب أن يعطيهم من الثمرات، كما طلب في الآية الكريمة التي، نتكلم في معناها

ص: 401

السامي، وطلب الثمرات لايتنافى مع أنها غير ذات زرع؛ لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب، والفاكهة والرمان، وغيره مما ينبت في الصحراء.

وخص خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء، فقال:(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وقوله تعالى: (مَنْ آمَنَ) بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها:(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي) فرد الله تعالى طلبه بقوله: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فظن نبي الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين؛ ولذلك قال تعالى ردا لخليله:(قَالَ وَمَن كفَرَ) أي أن الرزق يعم، البريء والسقيم، والعادل والظالم، والمؤمن والكافر، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى، فلا تكون إلا لمؤمن عادل: ولقد قال تعالى في سورة الزخرف: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35).

وإن ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عنِ كفره، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى:(سَنَسْتَدْرِجُفم مِّنْ حيْثُ لَا يَعْلَمونَ وَأملِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، ولذا قال سبحانه، بعد أن نبه خليله إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر (فَأُمتِّعُهُ قَلِيلًا) أي أعطيه المتعة أمدا قليلا، وهو ما يكون في الدنيا، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة، وعذابها خالد، ونعيمها مقيم، (ثُمَّ أَضْطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) والعطف بـ (ثُمَّ) هنا، للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب، واضطره معناها أُلجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا، كما قال:(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، أي يدفعون دفعا،

ص: 402

وكما قال تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذوقُوا مَسَّ سَقَرَ). وبذلك ينالهم عذاب الحرمان، والإلجاء إلى جهنم فاقدي الاختيار؛ لأنه جزاءً وفاقًا لما قدموا، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، جنَّبنا الله عقابه، وغفر الله لنا، وكتب ثوابه.

* * *

بناء الكعبة

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

* * *

كان بناء الكعبة من الكلمات التي اختبر الله تعالى بها نبيه إبراهيم، فقد قلنا إن المراد من الكلمة مدلولاتها من أمر ونهي، ونحوها، وقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم ببناء الكعبة لتكون المزار، وبها نسك الحج؛ ولذا قال تعالى:

ص: 403

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)، و " إذ " ظرف زمان دال على الماضي، ويتعلق بمحذوف تقديره اذكر أو اذكروا الوقت الذي كان يرفع فيه القواعد من البيت وإسماعيل، وذكر الوقت ليس بذكر الزمان المجرد إنما يكون بذكر الوقائع التي وقعت فيه، وإنها تكون قليلة خطيرة، لها أثرها فيما وراءها، وحكى الله تعالى قصة البناء بقوله تعالى:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) وعبر بفعل المستقبل، وهي واقعة في الماضي؛ لأن الفعل المضارع يصور الواقع كأنه حاضر تستحضره، وتراه: شيخ هو خليل الله تعالى وشاب هو ذبيح الله تعالى يقومان معا ببناء البيت،

ص: 403

ويتضرعان إلى الله تعالى في كل حجر يضعانه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس لما فوقها، وكل حجر يوضع هو قاعدة لما فوقه، والحجر الثاني قاعدة للثالث؛ ولذا قال تعالى:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) وعبر سبحانه عن وضع القواعد بعضها فوق بعض بـ " يرفع "؛ لأن البناء هو الغاية من الوضع، فعبر سبحانه وتعالى عن الفعل بغايته ونهايته.

وإن إبراهيم الخليل وولده الطاهر الذبيح المحتسب، لَا يبنيان لذات البناء ولا لغرض دنيوي ولا للمأوى والسكن، بل استجابة لأمر الله تعالى، بأمره، ويتضرعان بالبناء، طالبين قبوله.

ولقد ذكرنا أن البناء كان بأمر الله، روى البخاري وجاء مثله في مصنف عبد الرزاق أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده - الذي تركه في البيداء - الوقت بعد الآخر، فجاءه وقد صار فتي سويا وتزوج فوجده يصلح النبل، فقال: يا إسماعيل إن ربي عز وجل أمرني أن أبني له بيتا، فقال الابن البار المطيع: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال الشاب القوي: إذن أفعل، فقام فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (1).

والدعاء على ما بينه الحديث كان محفوفًا بالعمل فهما يعملان بأيديهم، ويحملان على عاتقهما، وقلوبهما ضارعة بالدعاء وألسنتهما لاهجة بالثناء على الله تعالى، والتقرب إليه، وقد قيل إن إبراهيم الخليل كان يبني وإسماعيل كان يدعو، وذلك يخالف النص في القرآن ويخالف الحديث ويخالف منطق العبادة، فإنه لا تكون عبادة أحدهما بالدعاء مغنية عن عبادة الآخر.

(1) سبق تخريجه قريبا.

ص: 404

وإن هذا العمل من الخليل إبراهيم، وابنه الذبيح المفدَّى، يدل على أن أي عمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان لله تعالى. . نعم إن ذلك العمل كان استجابة لأمر الله، فهو أجل من أي عمل، ولكن ذلك لَا يمنع أن أي عمل فيه أداء فرض كفاية يكون بأمر الله ما دام مطلوبًا لصالح الجماعة، وإذا اقترنت به نية القربى كان عبادة، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب العمل لَا يحبه إلا لله "(1).

أقام إبراهيم خليل الله مع ابنه المطيع لأبيه وربه البناء، ودارا حول جدرانه يتممانها، وهما يحفانه بدعائهما (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)، وقد أحسا بالاستجابة، لكمال الضراعة، وخاطبا ربهما في إحساس بالقرب منه قائلين:(إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقد أكدا أن علمه تعالى علم من يسمع من غير أذن، وعلم من يعلم علم إحاطة لا يخفى عليه شيء؛ أكداه أولا بالجملة الاسمية، وأكداه بإن، وأكداه بالتأكيد اللفظي بتكرار " أنت " وأكداه بتعريف الطرفين، أي أنه لَا سميع غيرك، ولا عليم سواك، وهكذا كانت ضراعة الإيمان.

أتم إبراهيم بناء الكعبة، وكان مما اختبره الله به، ومن الكلمات التي أتمها كما أشرنا إلى ذلك.

وقد اتجه الأواب الحليم بعد أن دعا ربه بقبول عمله، إذ قال:(تَقَبَّلْ مِنَّا)، أي اقبله راضيا عنا؛ لأن التقبل أبلغ من القبول، إذ القبول المجرد أقل من التقبل برضا، وجزاء لهذا العمل.

اتجه خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته، بعد دعائه لنفسه وابنه، فقال هو وابنه عليهما السلام:

(1) يشهد له من الصحيح الكثير، ومنه ما رواه أبو داود في سننه عَنْ أبي أمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:" مَن أحَبَّ للَهِ، وَأبْغَضَ لِلَّهِ، وَأعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدْ استكمًلَ الإيمَانَ ". [كتاب السَنة: باب زيادة الإيمان: 4061].

ص: 405

(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ).

الواو في قوله تعالى (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، عاطفة على قوله تعالى:(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) وكرر بين المعطوفين كلمة (ربنا) للشعور بكمال ربوبية الله تعالى، وبكمال

ص: 405

الضراعة له سبحانه، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما، وبذكر نعمه، وأنه كالئ هذا الوجود كله.

(وَاجْعَلْنَا) جعل هنا بمعنى صيَّر، وكوَّن؛ أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام، وأن يكونا لله وحده، مثل قوله تعالى:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ محْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزنونَ)، وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.

وإنهما لم يدعوا لأنفسهما فقط، بلِ دعوا أيضا لذريتهما، فقالا في دعائهما الضارع المخلص، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةَ لَّكَ) أي: واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك.

و" مِن " هنا للتبعيض، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك، بحيث تكون كلها لك.

وقالوا: إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له: (لا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، ونحن نرى أن " مِنْ " بيانية؛ لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لَا بأدناه، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة لك، والمقام مختلف عن دعاء الإمامة؛ لأن الإمامة لَا تكون للجميع، إنما تكون للبعض المختار منها، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع.

والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة.

هذا دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج، وأتم الإخلاص والضراعة ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا:(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا، والمناسك

ص: 406

جميع منسك، وأصل النسك الطهارة، وأصله الغسل والتنظيف، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة، ويطلق على العباد بالحج، وإقامة شعائره من طواف، وسعي وذبح ورمي جمار بعد الوقوف بعرفة، وبالمزدلفة، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة.

وما المراد بالمناسك هنا؛، فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، ومنها الحج.

وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف، وسعي وذبح هديٍ ووقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار، وغير ذلك من شعائر الحج.

وإني أميل إلى تعميم مدلول المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية.

والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى:(وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة: الرجوع إلى الله تعالى، وتاب عليه بمعنى قَبِلَ التوبة، ومعنى (وَتُبْ عَلَيْنَا)، اقبل توبتنا، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم، والتواب صيغة مبالغة من تائب، والمراد منها قبول التوبة، وكأن المعنى: إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين، كما قال تعالى في آية أخرى:(غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ. . .)، وإن قبول التوبة، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى؛ ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة؛ لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لَا عن استحقاق.

وهنا يسأل السائل: إن الأنبياء معصومون عن الذنوب، فلِمَ يتوبون، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران؟ والجواب عن ذلك أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه، والتوبة على ذلك مراتب:

ص: 407

المرتبة الأولى وهي أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى:(قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعَا. . .).

المرتبة الثانية: وهي متوسطة بين أعلاها وأدناها، وهي الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

المرتبة الثالثة: وهي الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم، وقربهم من الله، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل، فهذه توبة إبراهيم. والتوبة كيفما كانت رتبتها عبادة، وأهل الله يقولون: رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دَلا، فالطاعة من الأنبياء لَا تورث دَلا، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له، فيتوبون، ثم يتوبون.

وإن نبي الله وخليله وابنه لَا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة، بل يطلبان هاديًا مرشدًا لهم من بعدهما؛ ولذلك يقولان في دعواتهما:

ص: 408

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ) الواو عاطفة عطفت " ابعث " على " واجعل "، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه، وتبليغها، و " فيهم " أي في وسطهم على أنه منهم، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف، ولهم اكف، كما قال تعالى:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ)

، وواضح أن الرسول الذي دعا إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي أنه قال إجابة لنفر من الصحابة قالوا: يا رسول الله عرفنا بنفسك، فقال:" نعم، أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى " فإبراهيم عليه السلام دعا، ببعثه وعيسى بشر به كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ

ص: 408

اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. . .).

وقد نكر " رسولًا " للتعظيم، أي رسولا عظيما كريما منهم. وقد ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليه فقال:(يَتلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى " يتلو " يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلًا كما قال تعالى:(وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرتِيلًا)، أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة محمد هي القرآن المتلو، تكون النتيجة واحدة، وهي أن المتلو القرآن.

وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينًا، ولذا قال تعالى:(وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه، لأنه الكامل كمالا مطلقًا.

وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين له، والشارح لأحكامه؛ ولذلك قال تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. . .).

فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه، وبيان شرائعه، وما اشتمل عليه، و " الحكمة ": قال الشافعي: إنها السنة؛ ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى ابن وهب عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى، وقيل: الحكمة هي الحكم، والفصل في عدالة بين الناس.

ص: 409

وإن الحكمة معناها حسن التدبير للأمور، وفهمها وفقه الدين، ومعرفة أسراره، وفي الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته، وعلاجه للأمور، وسياسة الناس، وتصريف الأمور معهم، وكانت جلسات النبي صلى الله عليه وسلم تحوي الكثير من أدب النفس، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال أبو حنيفة: إن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغني عن فقه سنين. وإن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم، بمعنى ينمي فيهم قوة الخلق وقوة الدين، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام، وبقائه خالدًا قائمًا.

وإنه يستفاد من هذا أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)، ويعلم الشرع منه؛ إذ فيه كله، ويشير إلى هذا قوله تعالى:(وَيعَلِّمهُمُ الْكِتَابَ).

وإن النبي صلى الله عليه وسلم يهذب النفوس، ويزكي القلوب بتعليم الحكمة والتزكية.

وقد ختم إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) العزيز: هو ذو العزة. وتتضمن معنى القدرة والمنعة، والغلب، والسلطان، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام.

وأكد هذين الوصفين بإنَّ المؤكدة، وبتوكيد القول، بقوله " أنت "، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان، فلا عزة لأحد بجوار عزته، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه.

* * *

ص: 410

ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء وهو أبوهم

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

* * *

إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاءوا بعده، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لابد أن يكون ذلك؛ لأن الله تعالى يقول:(وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذيرٌ)، ويقول:(مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. . .).

ولقد دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده، لأنها إجابة للفطرة، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم، ولقد قال تعالى:

ص: 411

(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَهُ) ومَن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفي الوقوع، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا، والمعنى لَا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه.

وقوله تعالى: (يَرْغَبُ عَن) فيها التجاوز والترك إلى أوهام، ونقيض يرغب عنها: يرغب فيها، فالرغبة فيها إقبال عليها، والرغبة عنها تجاوز عنها، وترك لها، وهذا يتضمن أمرين: أولهما - أنه علمها، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لَا عن انصراف مجرد، بل عن قصد وإعراض، وثانيهما - أنه اتجه ورغب في غيرها، ونفَى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه.

ص: 411

وقوله تعالى: (إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَة)، أي جهلها في حمق ورعونة؛ لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كلها يدل على الإيمان الحق ويهدي، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم، فيقول:(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. . .). فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدى وترشد إلى الحق، ولقد قال تعالى:(وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْفكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).

وقوله تعالى: (إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَهُ)، أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا، والفرق بين جهل النفس، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة، وأسبابها ويتركها حمقًا ورعونة، ولقد قال تعالى:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسوا اللَّهَ فَأنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ. . .)، وسفه نفسه، قيل إنها بمعنى سفَّه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدي إليه الفطرة.

وإن ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى: (فَاتَّبِعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أآل عمران، وقال تعالى في سورة الحج:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجِ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ. . .).

وإن ملة إبراهيم كانت ملة النبيين؛ لأن الله تعالى اختارة للإمامة، وابتلاه بالكلمات، ولأنه كان يشكر نعم ربه، ولأنه اختاره لبناء البيت، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج، ولأنه اختاره ليكون أبا الأنبياء؛ ولذلك كله قال تعالى:(وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرةِ لَمِنَ الصَّالحِينَ) وقال تعالى في آية أخرى: (شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاط مّسْتَقِيمٍ).

ص: 412

ومعنى اصطفاه الله تعالى، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له، وكان أمة وإماما، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما.

وأكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين، ففي الدنيا اصطفاه، فكان معه فيها على الخير المطلق، وقد ابتلى فأحسن البلاء، وكان صفيا وكان وليا، واختص بأن يكون خليلا.

وقد وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وقد قال بعض الناس: إن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لَا دار عمل، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين؟! ونقول في الجواب عن ذلك إن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضي عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء، فليس في الآخرة عمل، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح، والجزاء عليه، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين.

وقد أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فأكد بإنَّ الدالة على توكيد الخبر، وأكد بـ " اللام " في قوله لمن الصالحين، وأكده بتقديم في الآخرة، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح.

وإن عده من الصالحين يوم القيامة، إنما كان لأنه أخلص وأسلم وجهه لله رب العالمين مستجيبا طلب الله تعالى منه، إذ طلب ربه منه أن يكون كله له وحده؛ ولذا قال تعالى:

ص: 413

(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الإسلام هنا هو الإخلاص والإذعان لله تعالى، وهو كالإسلام في قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ وَهوَ

ص: 413

مُحْسِنٌ. . .)، فهو غاية الإيمان وأقصاه، وقد ذكرنا أن الإيمان تصديق وإذعان وتسليم، والإسلام تخليص القلب والنفس والجوارح لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.

وهو ليس الإسلام الذي هو نقيض الإيمان أو يغايره، وهو الإذعان المادي، والخضوع لأحكام الإسلام سواء أكانت مع القلب، أم لم تكن، وهو الذي قال فيه للأعراب إذ قالوا:(قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .).

وهذا هو الإسلام الذي يفرق علماء الكلام بينه وبين الإيمان، وليس موضوعه، وإنما هنا الإسلام بمعنى إسلام الوجه والجوارح لله تعالى، وهو الذي قال الله تعالى فيه:(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ. . .).

وقد يقال إن إبراهيم أثبت إخلاصه لله تعالى ودعا الله تعالى أن يجعله وابنه إسماعيل مسلمين، فقال في ذلك:(وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ. . .)، فلم كان الأمر بذلك، وقد طلباه؟.

فقالوا في الإجابة عنه أنه أمر بالاستدامة على الإسلام وتثبيت التوحيد، ونقول في ذلك أيضا إن الآية لبيان مقام إبراهيم عليه السلام في الاستجابة لأمر ربه، وخلوص نفسه إذ أمره بذلك فاستجاب فورا قائلا أسلمت لرب العالمين، فهذا النص لبيان مدى استجابة خليل الله تعالى لربه غير متردد، ولا متلكئ، ولكن صار إبراهيم يقول: أسلمت أي خلصت نفسي وجعلتها لرب العالمين، أي لخالق العالمين والقائم عليهم وربهم وكالئهم، وإن ذلك شكر له، فهو في ذلك شاكر لأنعم الله تعالى كحاله دائما.

وإن إبراهيم عليه السلام، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا بعد جيل، وصى بها بنيه، ووصى بها أحفاده، وأبناءهم، فمن كفر بها، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، ولقد رد الله تعالى

ص: 414

قولهم بقوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا. . .).

ذكر الله تعالى وصية إبراهيم وقال تعالى:

ص: 415

(وَوَصَّى بِهَا إِبرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) الضمير في (بِهَا) يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى:(إِذْ قَالَ لَهُ رًبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فهي موضوع الحديث.

والتوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه، وهي غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته.

وقد وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته، ويعقوب عليه السلام وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام قد وصى أيضًا بذلك.

وأولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وذريتهما من بعدهما، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّته النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال تعالى:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّته دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى، لأنها صيغة الوصية؛ ولذا قالوا إن هناك تقديرا، وهو أنْ بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها.

والوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم، ويعقوب لأبنائه بقوله: يا بني، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم.

ص: 415