الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن آدم أحس بأنه عصى ربه، وأنه ظلم نفسه، فألهمهما الله تعالى أن يقرَّا بالمعصية، وأن يطلبا منه سبحانه وتعالى غفران هذا العصيان (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، هذه هي الكلمات التي تلقياها من ربهما كما قال تعالى:
* * *
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(37)
* * *
وكما جاء في سورة طه: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).
هذه القصة الحقيقية في خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وهي تدل على ثلاثة أمور: أولها: أن الله تعالى كرم آدم على خلقه من الملائكة والجن بدليل أنه سبحانه أمرهم بالسجود له.
ثانيها: أن الله تعالى خلقه ووهبه الاستعداد لمعرفة الأشياء، وبها امتاز على الملائكة، وبهذا الاستعداد للعلم، ومعرفته أسماء الأشياء سخر الله تعالى له ما في السماء وما في الأرض، وذلل له كل ما في الأرض وما في السماء.
ثالثها: أنه يؤتي من قبل أهوائه وما يغريه، وأن إبليس له عدو مبين، وأنه سلط على آدم، وسلط على بنيه من بعده، وأنه موسوس في نفسه، فهو لَا يتصل بحسه، ولكن يتصل بنفسه.
ولسنا نقول إن الجن وإبليس، هما وسوسة النفس، أو ما يحيك في الصدر، ولكن نقول إن الجن مخلوقات موجودة، وإن إبليس موجود مخلوق، ولكن مع ذلك نقول إن إبليس وذريته من بعده يوسوسون في النفوس بالشر، وإن كانوا يعجزون عن النفوس المؤمنة الطاهرة.
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى النفوس من قبل الشهوات، والأهواء، وعلى المؤمن أن يسد مسام الشيطان.
* * *
الأرض موطن التكليف
خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بني آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفي كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل؛ ولذا قال تعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين:
* * *
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
* * *
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله:
(قُلْنَا) معناه أنه أُخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين: اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسي، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان - إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه، والهبوط المعنوي ظاهر، ولذا نقتصر عليه، لأن الحسي غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون: آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
وقوله تعالى: (فَإِمَّا) فيه " ما " زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدًا وجوبيًّا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواحي الحياة. وجواب الشرط في قوله تعالى:(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) هو قوله تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ) أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى:(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، وهو جواب (فَمَن تَبِعَ) لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى:(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب شرط الثانية.
ومعنى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.