المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم

وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه، وفي ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم، ومضمون الملة التي وصى بها (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)، أي أن الله جل جلاله، وهو ربكم الذي ذراكم وأنعم عليكم، اختار لكم الدين الكامل، والدين هنا، هو ملة إبراهيم، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده، وهو ملته، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له، كما فسر الله تعالى، من قبل بقوله تعالى:(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

وقد صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم، (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى:(وَأَنتُم مُّسْلِمونَ) حال من تموتن.

وقد أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة، وليس النهي متجها إلى الموت؛ لأن الموت ليس أمرًا اختياريا يجري فيه التكليف بالأمر، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام، أي لابد أن تبقوا على الإسلام مؤكدًا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه، كما تقول: لَا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيًا عن الصلاة.

وقوله تعالى: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهُ اصْطَفَى لَكُمُ) أهي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا؟ الظاهر ذلك، وقال بعضهم: إنها وصية إبراهيم وأمها وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد:

ص: 416

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‌

(133)

.

وأرى أن قوله تعالى: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهُ اصْطَفَى لَكُمُ) وصيتهما معا، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم، مبينا حقيقة الأمر (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَإِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) إلى آخر الآية، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة، اللهم إنَّا أسلمنا وجهنا لك كما أسلم إبراهيم وجهه لرب العالمين.

* * *

ص: 416

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

* * *

ادعى المشركون أنهم على ملة إبراهيم، شرفهم وشرف محتدهم، وادعى اليهود أنهم يسيرون على ملة إبراهيم وقد غيروا وبدلوا، بل جرى على ألسنتهم ما يومئ إلى أن إبراهيم كان يهوديا، وبذلك يقلبون التاريخ، فيجعلون أوله آخره، وصدره عجزه، وادعى النصارى الذين يعبدون الأوهام أن ثالوثهم دين النبيين أجمعين وافتروا فرية واهمة تبهت العقول، ولكن الأوهام غلبتهم، فديانتهم وهم في وهم، ليس فيها إلا أوهام تكاثفت فاعتنقوها، والمسيح منهم براء.

هؤلاء جميعا، وخصوصا من كانوا ينتحلون نحلة ينسبونها إلى نبي من أبناء يعقوب عليه السلام كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب.

ولقد وجه الخطاب إليهم، وخصوصا اليهود والنصارى لبيان أنهم ليسوا على ملة إبراهيم، وهم على غير الوصية التي وصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب، فقال تعالى:(أَمْ كنتُمْ شًهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم هنا تدل على الاستفهام والإضراب معا فهي تتضمن معنى " بل " و " الهمزة "، فهي استفهام إنكاري مع التوبيخ

ص: 417

والإضراب عن إفكهم. والمعنى نضرب صفحا عما تقولون، ونسالكم:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْت) وشهداء جمع شاهد، كما قال تعالى في الشهادة على الديون:(وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ. . .)، وتكون جمع شهيد، والمعنى على كل حال أكنتم حاضرين الوقت الماضي الذي حضر فيه يعقوبَ الموتُ، أي كنتم حاضرين الوقت الذي بدت فيه على يعقوب أمارات الموت، فمعنى حضور الموت ظهور أماراته، ومقدماته، أي وهو يحتضر؛ ولذا كان التعبير بحضر، فحضور أماراته ومقدماته، حضوره؛ ولذا لم يقل نزل به إذ الأولى في قوله تعالى:(إِذْ حَضَرَ) تدل على وقت حلول الموت بمقدماته وأماراته، وقد ذكر سبحانه وتعالى (إِذْ) مرة أخرى في قوله:(إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) وهما يدلان على وقت واحد قد مضى.

قال يعقوب أبو بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، قال لبنيه:(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي من الذي تعبدونه من بعدى؟، وعبر بما هنا دون مَن لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى؛ قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ:(قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا).

ابتدأوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهي تدل على أنهم لا يغيرون ولايبدلون بل هم مقتدون، ولذلك قالوا:(إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) ولم يقولوا مثلا: نعبد الله وحده.

وإن أباهم إبراهيم وإسحاق وليس من آبائهم إسماعيل بل هو عم يعقوب وليس أباه ولا جده ولكن العرب تسمي على المجاز العم أبا - كما يسمى العم ابن أخيه ابنه، كما قال أبو طالب لقريش عندما طلبوا أن يعطوا أبا طالب بدلا لمحمد ابن أخيه أنهد فتى من قريش ليسلم إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فقال لهم موبخا: آخذ ولدكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ وروى علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 418

" عم الرجل صنو أبيه "(1) هذا وإن عَدَّ إسماعيل عليه السلام في آباء يعقوب يدل على أن إسماعيل وإسحاق، لَا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بني إسرائيل.

وقوله تعالى: (إِلَهًا وَاحِدًا) قيل إنها بدل من إلهك ولا مانع من أن تكون

النكرة بدلا من المعرفة مثل قوله تعالى: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16).

ويصح أن تكون حالاً من إلهك، أي حال كونه إلها واحدا، أي نعبده على هذه الحال، ولعل اعتباره بدلا؛ على أنه يكون بدل اشتمال أي أن البدل والمبدل منه شيء واحد.

ونرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب يعقوب، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه، وإشارة ثانية إلى الاتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها إبراهيم ويعقوب، وفيها إثبات السلسلة الوحدة في أولاده في يعقوب عليه السلام، وإن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

ولقد ختم الأبناء المخلصوِن إجابة أبيهم، البر الرحيم، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم:(وَنحْنُ لَهُ مُسْلِمُود)، أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده؛ ولذا قدم قوله:(لَهُ) على (مُسْلِمُونَ) لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية.

(1) عَنْ عَلِي أن النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ فِى الْعَباسِ: " إِن عَمَّ الرجلِ صِنْوُ أبِيهِ ". وَكَانَ عُمَرُ تكلَّمَ فِى صَدَقَته.

[رواه الترمذي: كتاب المناقب (3693) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسن صَحِيح، كما رواه أحمد في مسند العشرَة المبشرين (687)، وبنحوه عند مسلم عن أبي هريرة: كتاب الزكاة (1634)].

ص: 419

إن اليهود كانوا كلما ذكرت محمَدَة لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم، وإن لم يهتدوا بهديهم. فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بانهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم، ولا يسلكون مسلكهم، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال:

ص: 420

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم، وهي (قَدْ خَلتْ) أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم، وتأخذوا بوصيته، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لَا يغني فتيلا من غير اتباع.

وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم. وإن لم تجدوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم.

ولذا قال تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكم ما كسَبْتُمْ) أي لها ما كسبته مكسوبًا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه، ويتضمن قوله:(لَهَا مَا كَسَبَتْ) الجزاء لهذا الكسب، وهو خير (وَلَكم مَّا كسَبتمْ)، إن عملتم مثل عملهم، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارًا تتحلون به، وهذا حث على الاقتداء، ودعوة إليه، فإن تجانفوا لإثم، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون.

وإنكم لستم مسئولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم؛ لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم؛ ولذا قال تعالى:

ص: 420

(وَلا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وكذلك لَا يكفيكم عملهم، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى.

إن ملة إبراهيم عليه السلام، وهي التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا، وهي الحق الذي لَا ريب فيه، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق، وهو الهداية، كذلك ضلت أفهامهم، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون، ولذا قال تعالى:

ص: 421

(وَقَالُوا كُونوا هُودًا أَو نَصَارَى تَهْتَدُوا) أي قال اليهود: أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم: كونوا هودا، أي كونوا يهودا تهتدوا، لأن الهداية تحوطهم، وهم في قبتها، وقال النصارى المثلثون الوثنيون: كونوا نصارى تهتدوا؛ لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم، مع أنهم وثنيون، لَا يتبعون نبيا مرسلًا، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة (1).

قال اليهود ما قالوا، وقال النصارى المثلِّثون ما قالوا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله:(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ).

قل لهم يا رسول الله: إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع؛ لأجل البعد عن الباطل، والاهتداء بهدى الحق - مضربا عن كلامهم صفحا - هو ملة إبراهيم، ولذا قال تعالى:(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا)، وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره: بل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أي مائلًا للاستقامة أو مائلًا نحو الحق هاديًا إليه، فالحنيفية السمحة أي الحق، وجَنفَ وَحَنَفَ معناهما الميل، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى:(غَيْرَ مُتًجَانِف لإِثْمٍ)، والحنيف المائل نحو الحق، والحنفيف معناه الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لَا عوج فيه ولا انحراف.

(1) راجع: " محاضرات في النصرانية " للمؤلف.

ص: 421

ويثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة إبراهيم، فيقول:(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ) وهذا نفي للشرك عن ملته، ورد للعرب المشركين عن تبعيته، وإن كانوا من سلالته.

ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين؛ لأنه من تبليغ رسالة ربه، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها، وإن ذلك الرد كقوله تعالى:(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ).

* * *

وحدة المؤمنين باتباع ملة إبراهيم

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

* * *

يجمع الرسل على اختلاف ما أنزل على النبيين من كتب لَا تتباين في معناها، وإن اختلفت أزمانها، يجمع هذه الكتب أنها كلها في لبها وغايتها ملة إبراهيم عليه السلام، فهي ملة جامعة لَا تختلف رسائل النبيين ولا تتباين عندها،

ص: 422

فهي ملة النبيين أجمعين، وقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي ملة إبراهيم عليه السلام! ولذا قال تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجِ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُم الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ. . .)، وقد تلونا هذا النص الكريم من قبل، ولذا دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعلنوا أنهم يؤمنون بذلك فقال تعالى مخاطبا المؤمنين:

ص: 423

(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُو سَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ)

وإن هؤلاء جميعا على ملة إبراهيم، وهي التوحيد، وهذا كقوله تعالى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).

إن إبراهيم ويعقوب وصى كلاهما أبناءه بملته، واتبعه من بعدهم موسى وعيسى والنبيون الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، فهم جميعا على ملة واحدة جامعة، وهي ملة إبراهيم التي هي التوحيد والتنزيه، والاستقرار على الحق، والحنيفية السمحة.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين، ولم يكن أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل كان أمره له ولمن اتبعه، وفيه بيان أن إيمانهم هو إيمان إبراهيم، وبنيه، ويعقوب وبنيه، والنبيين أجمعين، فهو إيمان عام بالرسالة الإلهية لَا فرق بين رسول ورسول، ولذلك قال بحق بعض الذين علموا الإسلام وما يدعو إليه: إن الإسلام دين عام.

وقيل لمسيحي أسلم: لماذا خرجت عن المسيحية؟. فقال: إني لم أخرج عن المسيحية دين المسيح، ولكن دخلت فيها بدخولي في الإسلام.

أمر الله المؤمنين أن يقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ)، والأسباط هم ولد يعقوب عليه السلام الذي قال لهم: ما تعبدون من بعدي، وهم اثنا عشر، وقد ذكر القرآن لهم ذلك العدد في رؤيا يوسف بن يعقوب، إذ قال الله تعالى عنه: (إِذْ قَالَ يوسف لأبِيهِ يَا

ص: 423

أَبَتِ إِنِّي رَأَيْت أَحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيتهُمْ لي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5). وإن الأحد عشر كوكبا رمز لأبناء يعقوب غير يوسف، وبضم يوسف إليهم يكونون اثني عشر. . والأسباط واحدهم سِبْط، وهو بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل إن السبط هو الحفيد، وسموا بذلك لأنهم في أصلهم حفدة إبراهيم.

ولماذا ذكر الأسباط مع أن ذكر يعقوب يغني عن ذكرهم، لأنهم أبناء يعقوب، وقد وصاهم باتباع ملة إبراهيم وشدد في الوصية؟ والجواب عن ذلك أنهم صاروا من بعده جموعا، كونوا العشائر والقبائل، فكانت لهم صفة بهذا الانفراد وقد أمر الله تعالى المؤمنين، بأن يقولوا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُم) لأنهم جميعا يتكلمون عن الله، ويذكرون أمره ونهيه، ورسالتهم رسالة من الله تعالى، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمونَ)، أي أسلمنا وجهنا وقلوبنا وكل جوارحنا له سبحانه وتعالى، جمع الله قلوبنا ونفوسنا وحواسنا لتكون لله تعالى، وهو الحكيم العليم.

إن ذلك هو الإيمان الحق، وهو الإيمان الجامع غير المفرق؛ ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم، وهو الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة الإلهية؛ ولذا قال تعالى:

ص: 424

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا).

الضمير في قوله تعالى: (فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم به) يعود إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط، َ (وَقَالُوا كونُوا فهدًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا. . .)، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم:(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وفى الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لَا يفرق، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا، لَا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق.

ص: 424

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِتْلِ مَا آمَنتُم بِهِ) والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها - فقد اهتدوا، فكلمة " مثل " في موضعها من القول ولها دلالتها، فالمراد - وعند الله تعالى علمه - أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث، فقال إن مثل " مُقْحَم " أستغفر الله لي وله، إنه ليس في القرآن مقحم، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط، إنما هي تنزيل من حكيم حميد.

ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى: (قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى آخر الآية الكريمة، يتحقق فيه أمران: أولهما - الإيمان بالوحدانية، والثاني - الصفة الجامعة، فالمثلية ليست في أصل الإيمان، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة.

ولذا قال تعالى: (وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق) التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب، والانحياز، ويفقد الدين سلطانه في القلوب، ويصير لجاجة، وعداوة وبغضاء بين الناس، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لَا يلتقي ولا يهتدي؛ ولذلك قال:(فِي شِقَاق)، والشقاق: أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس.

وإنه عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين، إلى أن يتوقع منهم الشر، والبغضاء المستمرة؛ ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه، وأنه

ص: 425

ناصره تعالى عليهم؛ ولذا قال تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والمعنى: إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك، ومانعك منهم. يقال كفاك هذا الرجل، أي منعك ودافع عنك، و " السين " هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، فـ " السين " و " سوف " الدالان على المستقبل القريب أو البعيد، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم.

وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون، وما يخفون وما يعلنون، عليم علم من يسمع، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم، ويكفيك أمرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.

إن الإيمان الجامع بالنبيين أجمعين لَا يفرق بين أحد من رسله، لأنهم جميعا يحملون رسالات ربهم إلى عباده وهي واحدة، إن هذا الإيمان هو دين الله تعالى، وهوِ ملة إبراهيم وهي الشارة الوحيدة للدين الحق؛ ولذا قال تعالى:

ص: 426

(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمنْ أَحْسنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنحْن لَهُ عَابِدُونَ).

الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه.

والصبغة في الأصل ما يصبغ منه، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان، يخالط مداركه، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته؛ لأنه مفطور على الإيمان والإيمان في فطرته، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة، ولقد قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النًّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

ص: 426

ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء "(1).

وصبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره إلزم صبغة الله، فإنها إيمان القلوب، وزينة النفوس للمؤمنين؛ كما يتزين الجسم بزينة الثياب اللونة بأبهى الصباغ.

وإن التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية.

فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل.

ولقد بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى، وطهارة؛ ولذا قال تعالى:(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي لَا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى؛ لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب. وغيرها الباطل، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان، والإشراق بنوره، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات.

وقد قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَق كَانَ لَهُ قَلْبٌ. . .)، من شأنه الإذعان للحق، والتمسك به، وقال هنا:(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) فالقلوب قسمان: قلوب على الفطرة يدخلها نور الإيمان فيشرق فيها، وقلوب طمست عليها

(1) رواه أحمد عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَة، فَأبَوَاهُ يُهَودانه اوْ يُنَصرانِهِ اوْ يُمَجسانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً هًلْ تُحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ "[مسند المكثَرين (6884)، َ وبنحوه في البخاري: الجنائز (1270)، ومسلم: القدَر (4403)]. والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو غيره، ولفظ البخاري: عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُحَدثُ: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَة فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَاِنِهِ أوْ يُنَصرانه أوْ يُمَجسَانِه، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَة بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحسُّون فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ " ثُم يَقُولُ أبُو هُريْرَةَ رضي الله عنه: (فِطْرًتَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. . .].

ص: 427

الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي فى عمياء عن الهدى، غلقت فلا تدخلها هداية.

وإنَّما يدرك جمال صبغة الله تعالى، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله، وبدرت محاسنه؛ ولذا قال تعالى:(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) خاضعون له لَا لسواه؛ ولذا قدم " له " على " عابدون " إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره.

* * *

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

* * *

كان اليهود والنصارى يدَّعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى، وأنهم أعلم الناس بالله، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا، والوثنيون ليسوا كذلك، وبذلك يحاجون النبي في أنهم أقرب إلى الله، وأنه أقرب إليهم، وأنهم أولى به، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم، وأن القربى إليه بالعمل، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى:

ص: 428

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) كان الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وليتولى الحِجَاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة، والله

ص: 428

أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أمر هذه المحاجة. والاستفهام هنا للتوبيخ؛ أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته، فالمحاجة في الله تعالى لَا في أصل وجوده، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى:(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) (. ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى، من حيث وجوده، وأنه الفاعل المختار.

أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه، والمنزلة عنده لَا محاجة أصل وجوده، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله، وأنهم أحبابه، وأنهم أبناؤه، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى.

وهم يثيرون قولهم على اعتقاد أن النبي يحاجهم كما يحاجونه؛ ولذلك كانت صيغة المفاعلة.

وقد أمر الله تعالى نبيه، بأن يبين لهم أنه لاحاجة إلى المحاجة؛ ولذا أمره تعالى بأن يقول:(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) فصلتنا بالله واحدة، وهو أنه ربنا جميعا، وقد بين المماثلة في الصلة بالله تعالى لصلة الربوبية، وهي متحدة في معنى الربوبية، ولا تفاوت بيننا في هذا، فلستم أقرب إليه، ولا نحن أقرب من هذه الناحية، ونبههم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بأن التفاوت إنما هو بالأعمال؛ ولذلك أمره تعالى بأن يقول لهم:(وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكمْ أَعْمَالُكمْ) فأعمالنا بما فيها من خير ونفع تتحمل في ذاتها استحقاق جزائها، ولكم أعمالكم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وأن القرب إلى الله تعالى أو البعد إنما هو بحسب الأعمال، فهي التي تقرب، وهي التي تبعد، وهي التي يكون عليها الجزاء.

وقد وصف الله آمرا نبيه بقوله: (وَنَحْن لَهُ مًخْلِصُونَ) أي نحن قد أخلصنا بقلوبنا في عبادة الله تعالى فلا نشرك في العبادة سواه، ولا نعكر إخلاصنا لله تعالى

ص: 429

بسبب من أسباب الدنيا، فنحن صرنا لله نحب الشيء لَا نحبه إلا لله، وهذا تحريض لليهود وغيرهم على أن يكونوا مثلهم، فإن كانوا مثلهم التقوا على الإيمان الجامع غير المفرق.

والإخلاص كما قلنا تصفية النفس من أن يكون فيها غير الله تعالى، وتصفية الفعل من أن تكون لغير الله فيه شائبة، ولقد قال بعض الصوفية: الإخلاص سر بين العبد وبين الله لَا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده. وفي الجملة الإخلاص حصن العبادة الحصين.

إن اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم: عزير ابن الله، وقولهم: المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لاحقا وآخره سابقا، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك:

ص: 430

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كانُوا هُودَا أَوْ نَصَارَى).

وإن هذا قلب كما قلنا للأوضاع، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام، وهم تابعون له، ولآبائه، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا، ولتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله:(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .)

، وقال الله تعالى لنبيه:(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم سؤالا لهم محرجا، كاشفا لهم؛ لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا، وإن قالوا أن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم، فهو سؤال ينتهي برد كلامهم بأنفسهم، وهو سؤال من علَّمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب.

ص: 430

وإن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام، والإيمان الجامع لكل الرسل، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه، ويكتمونه حتى لَا يعلم؛ ولذلك قال تعالى:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، والمعنى أنه لَا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفي الواقع والوقوع، فهو نفَى أنه لَا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها، وفي الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإنْ هُمْ إِلَّا يَظُنّونَ)، فيضلونهم بعلم، ويعلمون الكثير ويكتمونه.

والشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يدي القضاء أم لم يكن، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها، ولم تكن أخبارًا تقرأ ولا تعلم، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة. وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهذا وعيد، وإخبار بأمر الله تعالى، وقد نفَى الله تعالى نفيًا مؤكدا أنه غافل عن عملهم، بل إنه سبحانه آخذهم بذنوبهم، فنفَى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي.

والغفلة هي: عدم التنبه إلى ما يقع، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا معالم فيها ولا بناء، والآية تهديد ووعيد بلا ريب، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب " الوعيد في هذا فقال: هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء ذلك مجازاته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، لَا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لَا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد؟؟!!!.

ص: 431

وقد نبه سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وغيرهم إلى أنه لَا يصح لهم أن يتمسحوا بالأسلاف، فقال تعالى:

ص: 432

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة في ماضي قولنا فلا نعيد ما قلنا في ذكر معاني ألفاظها.

ولكن نتلمس المعنى في إعادة ذكرها ونرى أنها ختام لما يقوله بنو إسرائيل وغيرهم بالنسبة لأسلافهم، ودعوة لهم إلى أن الله تعالى سائلهم عما يعملون هم لا ما عمل أسلافهم.

وأيضا فإن الناس تعودوا اتباع الأسلاف، فالله تعالى يكرر سبحانه أن كل امرئ بما كسب رهين، وأنه لَا تزر وازرة وزر أخرى، ولهم ما كسبوا وعليكم ما اكتسبتم، وأن خير الماضين ليس خيرا لكم وأن شرهم ليس وزره عليكم.

ولقد قال تعالى في ذلك: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، وقال تعالى:(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. . .)، قالً تعالى:(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).

* * *

ص: 432

القبلة

(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

* * *

اعلم أن القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكمًا حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب.

وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وإنس وأنه كامل التكوين.

ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بني إسرائيل، وتوالي كفرهم مفصلا آثامهم، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاءوا.

ص: 433

وقد ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .).

وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية أن يذكر أمرًا يتعلق بالكعبة المشرفة، وهو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم - خليل الله - المسلمين ولذا قال تعالى:

ص: 434

(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).

وإن النبي بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند، الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لَا يستدبر الكعبة في صلاته، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس (1).

ولما هاجر كان لَا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين، فاتجه إلى بيت المقدس؛ لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع عبادة أو فرغا من عبادة من تلقاء نفسه،، بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لَا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا.

وإنه بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة، ثم إلى بيت الله الحرام.

(1) قاله ابن عباس وغيره، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري: باب الصلاة من الإيمان.

ص: 434

ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة، وهي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، وتحويل القبلة - وهو الناسخ - ثبت بالسنة أيضا، فقد روى البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وإن أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد - أي قباء - فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت (1).

ولقد أعلم من يصلون في قباء في صباح اليوم التالي، روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة (2).

ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة، وثبت التحويل أيضا بالسنة، والقرآن ذكر آثار التحويل، وما يقوله الناس، وأكد التحويل، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بالفعل، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى:(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. . .).

قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ). قال بعض المفسرين أن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي؛ لأنهم قالوا: وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي، وسيقولونه في المستقبل، فسفه القول لا ينتهي، بل هو يمتد ويكرر ما السفه قائما.

(1) سبق تخريجه في المقدمة من رواية البخاري ومسلم.

(2)

متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الصلاة (388) ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (820).

ص: 435

وإن ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا، وإن ذلك إخبار من الله تعالى، وخبر الله تعالى لَا يقبل التخلف، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحى من الله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلي، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى:(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).

وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلي، والله على كل شيء قدير.

والسفيه هو: الخفيف العقل، وذلك مأخوذ من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد يكون السفه نوعيا، فقد يكون متزن العقل حكيما، ويكون في أمور أخرى سفيها، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل، ولكن الإدراك الديني فيه سفه، وكبعض أهل الكتاب، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم.

ومن هم السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها؛ قال بعضهم: المشركون، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم، وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقال اليهود: لقد التبس عليه أمره، وتحير، واستهزأ المنافقون بالمسلمين، وهم جميعا تساءلوا:(مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).

الاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ - لعنهم الله تعالى - وهم جديرون بهذا بوصف السفه، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا ممن سفه نفسه، وكان جهولا، ومعنى وَلَّاهُمْ أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد؛ لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى.

ص: 436

ولقد رد الله تعالى آمرًا النبي صلى الله عليه وسلم: (قُل لِّلَّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وقد أمر الله تعالى: بأن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليهم، لأن الاعتراض المتهكم كان على النبي وأصحابه، وهم يرمونه بالتحير، وكان الرد (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها، وذكر الشرق والغرب؛ لأن من ملكهما ملك الأرض كلها، لَا فرق بين قريب وبعيد، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد، وهو يختار من أرضه مايراه أصلح وأقرب وأنسب، وقد اختار البيت الحرام، كما اختار من قبل بيت المقدس، والبيت الحرام بناء إبراهيم وأول بيت وضع للناس، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية، كما كان الناس فيها آمنين من القتل، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.

ولقد بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لايرضي به إلا من هداه الله تعالى، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته:(يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى، وكان في عباده من ضل وغوى، فمن سلك الجدد، وحارب هواه، ووسوسة الشيطان، فإن الله تعالى يأخذ بيده، ويوجهه إلى صراط - أي طريق - مستقيم، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء.

وإن الله تعالى اختار خير أماكن الأرض لتكون قبلة الناس، وهي وسط الأرض وخير بقعة فيها، لما ذكرنا من مناقب لهذا البيت، ولأن منشئها أول نبي عرف بأنه حطم الأوثان، وجعلها جذاذا، ولقد كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر محطم للأوثان - والذي جعلها جذاذا مطروحا - خير أمة، وإنه كما اختار الله خير بقعة في الأرض لتكون قبلة إذ أنشأها محطم الأوثان فكذلك جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، ولذا قال تعالى:

ص: 437

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).

ص: 437

الوسط " يطلق " بإطلاقين أحدهما الشيء المتوسط " أو الأمر المتوسط بين أمرين أو نحو ذلك مما يكون متوسطا، الثاني - الوسط بمعنى الخير، ومن ذلك قوله تعالى:(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكمْ لَوْلا تُسَبحونَ)، أي: قال أعدلهم، ويقال وسط الوادي أي خير موضع فيه.

ولقد قال القائلون بالتفسير الثاني: إن الوسط كان خيرا، لأنه متوسط بين طرفين كلاهما إثم أو باطل، إذ الوسط مجانبة للغلو والتقصير، فاليهودية قصرت في حق الأنبياء، فقتلتهم، والنصرانية غلت في حق نبي فعبدته، فكان الوسط ألا يكون غلو ولا تقصير، بل تلق للرسالة، وإيمان بها، ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خير الأمور أوسطها (1)؛ لأن الأوسط بعيد عن الغلو والتقصير ولقد أثر عن علي بن أبي طالب أنه قال: " عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل ".

ولأن التوسط خير دائما، صار يطلق الوسط على الخير فيقال عن أفاضل الناس أوساطهم، وعن خيار الأمور أوسطها، وكل موضع فيه إصلاح أو صلح بين الناس يقال فيه وسط.

والنسبية في قوله تعالى: (وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ) من المشابهة بين خيرية الكعبة وخيرية الأمة، والمعنى كما جعلنا لكَم الكعبة قبلة، وهي خير بقعة في الأرض جعلناكم أمة وسطا.

وقد فسر بعض العلماء الوسط هنا بالإطلاق الأول، وهو التوسط بين أمرين، ومعنى التوسط أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق الأمم ودون الأنبياء، وهم على ذلك خير

(1) حديث: " خَيْرُ الأمُورِ أوْسَاطُهَا. رواه ابن السَّمعانيّ في (تاريخه)، من حديث عليّ بسند فيه من لَا يُعرف حالُه. وأخرجه ابن جرير في (تفسيره) من كلام مطرِّف بن عبد الله، ومن كلام يزيد بن مرَّة الجعفيّ. وروى أبو يعلى عن وهب بن منّبه قال: " إِنَّ لكُل شَىء طَرَفَيْنِ وَوَسَطا، فَماِذَا أمْسكَ أحَدُ الطَّرفَيْنِ مَالَ الآخَرُ، وَإِذَا أمْسِكَ الوَسَطُ اعتدَلَ الطَّرفَانِ. فَعَلًيْكُمْ بِالأوْسَاط مِنَ الأشياء ". [الدرر الَمنتثرة - ج 1 ص 415، وروى ابن ماجه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ: كَان رَسُولُ الَلَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا خًطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلا صَوْتُهُ وَاشْتَد غَضَبُهُ كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشِ. . . إلي أن قال: وَيَقُولُ: " أمَّا بَعْدُ فَإنَّ خَيْرَ الأمُورِ كتَابُ اللَّه وَخَيْرُ الْهَدْي هَدْىُ مُحَمَّدِ وَشَرّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلّ بِدْعَةِ ضَلالَةٌ ". [المقدمة: اجتناب البدع والجدلَ (44)].

ص: 438

الأمم وأعدلهم، وأقومهم سبيلا، وإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعلم الناس، وإن محمدا يعلمها.

وفسرها بعض العلماء بأن معنى (أُمَّةً وَسَطًا) أي أمة عادلة قويمة ارتضاها الله تعالى دون غيرها من الأمم كما قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .).

ولماذا كانت أمة محمد الذين يتبعونه ويهتدون بهديه خير أمة أخرجت للناس؟ الجواب عن ذلك أن خيرية هذه الأمة أو كونها فوق الأمم كانت لأنها بعيدة عن غلو النصارى في عيسى، وسقوطها في الأوهام الباطلة، وبعيدة عن حسد اليهود ومقتهم لكل حق، وفوق ذلك أنها تؤمن بجميع الأنبياء كما تلونا قوله تعالى:(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).

فهي أمة الكمال الديني الجامع، وفوق ذلك هي الشمالية لملة إبراهيم حقا وصدقا، من أجل هذا الإيمان الكامل بالأنبياء جميعا والشرائع السماوية كلها، كان لهم حق الشهادة على غيرهم بأنهم آمنوا بالله الإيمان الكامل، هل آمنوا برسالاته الإلهية، أم لم يؤمنوا، ولذا قال تعالى:(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

أي تشهدون للناس بأنهم آمنوا بمثل إيمانكم، والرسول يشهد لكم بأنكم آمنتم بالله الإيمان الكامل وآمنتم بوحدة الرسالة الإلهية، فالرسول يشهد بإيمانكم الذي يسمح لكم بأن تشهدوا على غيركم، فمقياس الإيمان وميزانه عندكم.

واللام في قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) هي للتعليل، أي لكونكم وسطا وعدولا في إيمانكم تكونون شهداء على الناس، مع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم -

ص: 439

عليكم، فالخيرية التي اتسمتم بها هي علة الشهادة، وهي باعثها، والسبب في أنكم فوق الناس تحكمون لهم أو عليهم (1).

ويصح أن تكون (اللام) ليست للتعليل، وتكون للعاقبة أو الغاية، والمعنى أن خيريتكم أو كونكم فوق الناس ودون الأنبياء غايتها وثمرتها أن تكونوا شهداء على الناس، وأن يكون الرسول شاهدا عليكم، بأنكم استحققتم هذه الخيرية. والشهداء يصح أن تكون جمعا لشاهد، أو جمعًا لشهيد، وقد ذكرنا أن منِ جمع الشاهد، قوله تعالى:(وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ. . .).

وهنا أنسب أن تكون جمعا لشهيد، وذلك لأن الله تعالى ذكر المفرد في قوله تعالى:(وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والشاهد هو الحاضر الذي يعاين الأمر الذي يشهد عليه، وهذا الأمر الذي يعاينه، وينظر إليه إما أن يكون بعينه المبصرة، وإما أن يكون ببصيرته المدركة المؤمنة الفاهمة، ولا شك أن الشهادة في هذا المقام تكون بالأفئدة التي في الصدور، لَا بالأبصار التي ترى الحسيات، ويصح أن تكون رؤية القلوب واضحة بينة كرؤية الأبصار.

وهنا إشارة بيانية يجب أن نذكرها، وهي أنه تعالى عدَّى الشهادة بـ " على " دون اللام، فقال تعالى:(ولِّتَكُونُوا شئهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) مع أن الشهادة قد تكون لهم، وقد تكون عليهم. والجواب عن ذلك أن الشهادة هنا حكم، أو هي متضمنة معنى الحكم، ولذا تعدت بعلى، لتكون بمعنى الحكم، وقد تكون الشهادة بمعنى تعليم الناس، وشهادة الرسول بمعنى تعليم أمته.

وقد يسأل سائل: لماذا كانت القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم حولت إلى الكعبة، بعد أن كانت في مكة ملتزمة إلى أمد يسير؛ إذ كان مع الاتجاه إلى بيت

(1) عَنْ أبِى سَعيد الْخُدْرِى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] " وَالوَسَطُ: العَدْلُ. [رواه البخاري: كتاب تفسير القرآن (4127)].

ص: 440

المقدس كان الاتجاه أيضا إلى الكعبة بعدم استدبارها كما نقلنا فيما سلف من قول.

ونقول في الجواب عن ذلك إن هناك بيانا لحكمة ذلك ذكره القرآن الكريم، وحكما أعظم وأعلى، وهناك سبب قد نتلمسه والسبب الذي نتلمسه هو أولاً: بيان وحدة الأديان السماوية، وثانيًا: الإشارة إلى أن بيت المقدس مسجده مقدس كالكعبة، وإن كان دونها تقديسا، وثالثًا: إن الكعبة كانت الأصنام تحوطها في ذلك الوقت. وأن التحويل إلى الكعبة كان إيذانا بتحطيم الأوثان وزوال دولتها؛ إذ كان التحويل في النصف من شعبان، وكان يوم الفرقان بغزوة بدر حول منتصف رمضان كما هو ثابت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سيرة الإسلام.

هذا ما نتلمسه وقد يكون غير ذلك.

أما ما ذكره الله سبحانه وتعالى، وهو المحكم الذي لَا يأتيه الباطل أبدا، فقد ذكره سبحانه في قوله تعالت كلماته:(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها متبعًا في صلاتك لها إلا لنعلم من يستمر على تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه.

وما القبلة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم: أهي بيت المقدس؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إليه قبل هذا التحويل، وذلك ظاهر، لَا يحتاج إلى تأويل. . أم هي الكعبة؟، وهي التي كان عليها بمكة، وإن اشترك معها الاتجاه إلى بيت المقدس بأمر ربه كما ذكرنا من قبل، وكان يتجه إليهما، ولم يتغير ذلك الاتجاه إلا بعد أن هاجر، وللمفسرين في ذلك اتجاهان:

أولهما - أن القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، وقد كان الاختبار للمهاجرين، وللذين دخلوا في الإسلام، وفي قلوبهم مرض أو ضعف في الإيمان.

أما المهاجرون فقد ألفوا البيت الحرام، والاتجاه إليه، وقد كان مطافهم وشرفهم في الجاهلية، وقبلتهم في الإسلام، وإن كان الله تعالى قد أمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، فقد كانوا يتجهون للاثنين على ما أشرنا وروينا، فكانت القبلة على ما

ص: 441

ألفوا من غير منافرة ولا استدبار لها، فلما كانت الهجرة، وكانت القبلة إلى بيت المقدس فقط، واستدبروها كان الاختبار، وقد أحسنوا الاختبار، وما كان لمهاجر في سبيل الله أن يرتد على عقبيه.

وأما الذين في قلوبهم مرض، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين، ومن ضعف إيمان من الضعفاء في إيمانهم ولذا ارتد منهم من ارتد، وأظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنواء هذا على تفسير القبلة التي كانوا عليها ببيت المقدس.

ثانيهما - تفسيرها بالكعبة، فالمعنى على هذا: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وهي الكعبة قبل الهجرة، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار، وقد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون، وارتد بعض ضعقاء الإيمان، وبذلك كان التمحيص، وقد فسر بعضهم (كُنتَ عَلَيْهَا)، وهي الكعبة بمعنى صرت عليها، مثل قوله تعالى:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .)، أي صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس.

وإني أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب والأظهر، والتفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى وإنه لَا يحتاج إلى تأويل، ومن المقررات اللغوية أن ما لَا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل.

ولقول الله تعالى: (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي وإن كانت القبلة في تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لَا تزعزعها الرياح، ولا مكان فيها للشبهات التي يثيرها من لا يؤمنون.

ف " إن " هنا مخففة من " إنَّ " الثقيلة، والدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة، وهي لَا تدخل على " إنْ " إذا كانت نافية، وكانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل، وبعدها عمن اهتدى.

ص: 442

والله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما يبين أن الاختبار كبير لَا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات وتطيحه الشكوك؛ ولذلك أكد عظم الاختبار بـ " إن " المخففة من الثقيلة وبالفعل الماضي (كانت) وباللام.

بقى أن نشير إلى أمر لابد من بيانه، وهو قوله تعالى:(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) وهو: هل كان الله تعالى لَا يعلم من يتبع الرسول من غيره، وهو يحيط يكل شيء علما؟ ويجاب عن ذلك بجوابين:

أولهما - أن علم الله تعالى محيط بكل شيء، وهو يعلمه من قبل أن يقع، ومن بعد وقوعه ويعلمه واقعا، فذلك العلم لَا غيره هو الذي يظهر به الفعل ويستبين، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لَا يتبع، وليتبين الآثم من المطيع ومن يستمر على اتباعه ومن ينقلب على عقبيه.

والثاني - أن الضمير في (لِنَعْلَمَ) ليس لله وحده، ولكنه للجماعة المؤمنة والنبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى، وكون الله معهم لَا يستلزم أنه لَا يعلم، إنما الذي لا يعلم هم المؤمنون، فالاختبار وظهور الطائع المتبع، والعاصي المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين وهم داخلون في قوله تعالى:(لِنَعْلَمَ). والتعبير عن الأعلى، ويقصد من دونه كثير في اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا، فإن الاستيلاء الفعلي يكون من الجند لَا منه، وكأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة، وأحكمنا العمل، والذي عمل ونظم غيره.

وقد عبر سبحانه وتعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء وكشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم، وما كانوا مؤمنين بقوله تعالى:(مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) والعقب هو مؤخر القدم، والمرتد على عقبيه، هو الخارج عن الإسلام، وهذا التعبير (عَلَى عَقِبَيْهِ) استعارة تمثيلية، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذي دخل فيه أو أوشك أن يدخل الإيمان قلبه بحال المرتد إلى الوراء سائرا على عقبيه، سيرا مضطربا غير متماسك، فقد سجل عليه أنه رجع إلى الوراء بعد أن تقدم إلى الأمام، وأن رجوعه مضطرب بغير خطوات تسير بل على الأعقاب ينقلب، وهذا التشبيه على أساس أن الانقلاب بمعنى الرجوع إلى الوراء، بعد أن سار بضع خطوات إلى الأمام.

ص: 443

ويصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه في أسفل، وعقباه في موضع رأسه، وفي هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته وكل مقومات الإنسانية في نفسه.

وإن بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية، وخصوصا أن بعضهم قد مات، وصلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس، فشكا الأحياء منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لَا تضيع صلواتهم؛ ولذا قال تعالى:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ) والمراد من الإيمان هنا الصلاة، وعبر عن الصلاة بالإيمان؛ لأن الصلاة ركنه، وقوامه، فلا يعد الاعتقاد والإذعان إيمانًا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى، وإذا كان الاعتقاد به سلامة النفس والعقلِ، فالصلاة بها تأليف القلوب، وتطهيرها من الآثام، وقد قال تعالى:(إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" لا دين من غير صلاة "(1) فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها.

ولقد عبر سبحانه عن أن الله تعالى لَا يضيع الإيمان بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي ما كان من شأن الله تعالى، وسنته في الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين، ونفي الضياع يقتضي غيره والجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب، وإن الله تعالى لَا يضيع عمل عامل، فقد قال تعالت كلماته في استجابة دعاء الضارعين إليه:(فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منكم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثَى بَعْضكُم مِّن بَعْضٍ. . .)، وقال تعالى:(إِنَّا لَا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، فذلك شأن الله وما سَنَه، وهو العادل الحكيم.

وإنه لَا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر والنهي، فالذين صلوا على القبلة التي كانوا عليها كانوا طائعين، ولم يكونوا مخالفين عاصين، ولا عقوبة في طاعة.

(1) عن ابنِ عمرَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَا إِيمَانَ لمَنْ لَا أمانَةَ له، ولا صَلاةَ لمَنْ لَا طُهورَ له، ولا دينَ لمَنْ لا صَلاةَ لَهُ، إِنَّما مَوْضِعُ الصَّلاة مِنَ الدينِ كمَوْضِع الرَّأْسِ مِنَ الجَسَد ". [رواه الطبراني في الَأوسط والصغير وقال: تفرد به الحسين ابنَ الحكم الحِبْري. وانظر مجمع الزوائد (4161)].

ص: 444

وإن الله مع ما ذكر رؤوف رحيم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) الرأفة في معناها اللغوي أشد من الرحمة، أو أعلى منها، وإن هذين الوصفين من صفات الذات العلية أو من أسماء الله تعالى، وهما متغايران وإن لم يكونا متعارضين، بل هما في حقيقتهما متلازمان، فحيث كانت الرأفة كانت الرحمة لا محالة، فالله رحيم بعباده في غفران ذنوبهم، وفي نعمه عليهم ظاهرة وباطنة، وفى كشف الضر عنهم، وفي قبول توبتهم، وفي أنه منع اليأس من رحمته، وهكذا وسعت رحمة الله تعالى كل شيء، ولو كان في بعض الرحمة آلام، كقطع العضو المئوف ليسلم الباقي.

والرأفة في أن الله يريد توبة العاصي، ولا يريد به خسارا، وفي الهداية إلى الصراط المستقيم، فيعين من كتب عليه الخروج من الشقاء، وهكذا نجد الرحمة والرأفة متقاربتين، وإن كانتا متغايرتين كتغاير الأخ عن أخيه، وإن الرأفة رحمة صافية لَا ألم فيها، أما الرحمة فقد يكون فيها ألم كالرحمة بالمريض في أخذ الدواء المر. وقد أكد سبحانه وتعالى وصفه بالرأفة والرحمة بالوصف برءوف ورحيم، وبالجملة الاسمية وبالتأكيد بإن، وباللام. نضرع إلى الله تعالى أن يعمنا برحمته، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا، ويهدينا، إلى سواء الصراط، وأن يرحم المسلمين بالرجوع إليه.

* * *

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ

ص: 445

آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

* * *

بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم، وأن منهم أهل الكتاب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام، فكانت إجابة هذه الرغبة، وكان التحويل، والسفهاء قالوا ما قالوا، ولجَّ بنو إسرائيل في سفههم، وهم يعلمون أنه الحق، وهو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك:

ص: 446

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام؛ لأن الكعبة بناء إبراهيم، ولأن ملته هي ملة إبراهيم، ولأنه مثابة الناس وأمنهم، ولأنه مجتمع العرب، ومؤتلفهم، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا، ويرفعه رجاء، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها، وترضي العرب، ولا يكون فيها تابعا لبني إسرائيل، بل يولى وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنيياء.

فتقلب الوجه، هو الضراعة إلى الله تعالى لكي تكون القبلة هي البيت الحرام، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا، وراجيا أن ينزل قرآن بتحويل القبلة.

وقد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا، وخفضه خاضعا على رجاء نزول قرآن بالتحويل، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدُّم بالطلب على الله تعالى، والحق أن التقلب لرجاء الوحي وللضراعة إليه والدعاء، وليس في

ص: 446

ذلك تقدم على الله في طلب شرعه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام، فهو إذا دعا بذلك وتلصرع إنما يستنجز وعد الله تعالى، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك.

ولقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أي أن الله تعالى استجاب لرجاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه، وقوله:(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا، فالمعنى لنحطينك القبلة التي ترضاها، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها.

وقد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبي صلى الله عليه وسلم أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم، وتقدير القول: فوالذي يحلف به لَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، وهي الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، فلابد أن يتجهوا إلى بنيته.

وإن هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى: (سَيَقول السُّفَهَاء. . .)؛ لأن تقدير قول السفهاء لَا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، كما نص القرآن الكريم.

وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) والفاء للتفريع عما قبلها، والوجه المراد به حقيقة الوجه؛ لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام، وقد يراد به الشخص كله]. ويكون الوجه المراد به الذات، والتعبير بالوجه غن الذات؛ لأنه الذي تكون به المواجهة، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان.

والشطر الناحية والاتجاه، والنحو، ولقد جاء في تفسير أبي السعود العمادي: وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء، ودار شطر، إذا كانت منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل.

ص: 447

ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارف الأرض ومغاربها، روي عن ابن عباس أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي "(1).

وقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إجابة لما رجاه، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا، وتشريفا، ولتبيين منزلته عند الله تعالى.

وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام، وليس بخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(وَحَيْثُ مَا كنتُمْ فَوَلُّوا وُجوهَكمْ شَطْرَهُ).

وقد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص، وإن كان لَا يدل عليه، فقد يفيد خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب، وعموم الناس، وعموم الأمكنة، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جاتب من جوانبها، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها، غير مستدبر لها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. . .)، وكان اليهود مبعث هذا التشكيك، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا. وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق:(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والضمير في قوله

(1) رواه البيهقي في سننه: باب من طلب باجتهاده الكعبة (2266) ج 2 ص 280. وانظر نصب الراية للزيلعي (52) ج 1 ص 253.

ص: 448

تعالى: (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ) قد يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر في الأنفس وفي العقول فكأنه حضور عقلي لَا يقل عن العود على مذكور، لأنه مبشر به في كتبهم، معلوم عند أحبارهم، ومعنى (أَنَّهُ الْحَقُّ) أي أن ما جاء به هو الحق، فليس فيما أتي به الباطل.

ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية، لَا من ناحية الحقائق المنزلة؛ ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحي الله تعالى، ورجحنا ذلك؛ لأنه في الموضوع، ولأن السياق البياني يتلاقى معه، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق، أو نحو هذا من البيان.

وإن ذلك هو الحق عندهم، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبي وجُدُودُه كانوا في " (اران)، وأن (فاران) هي بيت عبادة أولاد إسماعيل، و (فاران) هي مكة وما حولها.

وأكد الله تعالى علمهم بالحق فقال: (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة، وبالقصر بتعريف الطرفين، فهو الحق، ولا حق سواه، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم، وخلق الأرض كلها، وله مشارق الأرض ومغاربها، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي يختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته.

ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب، فقال تعالت كلماته:(وَمَا اللَّهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لَا يغفل عن أفعالهم من بث للشك، وغمز من القول، ومنهم ساخر بأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من عند ربه، فهم مراقبون في أعمالهم، وذنوبهم وآثامهم لَا تخفى عليه، و " هو آخذهم بها يوم القيامة.

ص: 449

إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت القدس، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، فليس ذلك لجهل منهم بالحق كما بينا، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغني الآيات والنذر، ولا تزيدهم البينات إلاخسارا؛ لذا قال تعالى:

ص: 450

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعوا قِبْلَتَكَ).

اللام في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ) هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط، وهو (مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي والذي يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكي يتبعوا قبلتك ما اتبعوها؛ لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل، بل هم معاندون مكابرون، لَا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارًا، ولقد قال تعالى:(بِكُلِّ آيَة)، أي لو جمعت الحجج كلها، ورميت بها، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا.

وقال المفسرون: إن الكلام السامي فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وكان موضع الإضمار، لأنهم ذكروا بهذا الاسم في الآية السابقة، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم، وإنغاض رءوسهم عن الحق وقد قاصت أماراته وأدلته مما بين أيديهم، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك.

ولقد قال الله تعالى بأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لَا يتبع قبلتهم، لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر، ولذا قال:(وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي أنت على الحق، ولست بتابع باطلهم، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم، وبضمير الخطاب وهو أنت، أي أنت بصفتك التي في علمهم، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون، وأكده أيضا بالباء في (بِتَابِعٍ) الدالة على استغراق النفي

ص: 450

وتأكيده، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقومه في اتباع القبلة تبعًا له وهم من ورائه وهو إمامهم.

كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية، ولقد روى إن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس، وقد كانوا يقولون: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكوِن صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرًا وخداعا، (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يشْعُرونَ).

وإنه في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد، لَا كما جاءت به نصوص عندهم، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها؛ لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها، لانتهاء دياناتهم، وبطلان ما هم عليه، بما فيها قبلتهم.

ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم: (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهمْ، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته، ويعاند الآخر، ويستكبر عن اتباع قبلته، فهم في عناد مستمر، وكلاهما يتبع هواه، ولا يتبع نصا جاء به دينه، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه اتباعا لنص، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد؛ ولذا قال تعالى:(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

أي لئن اتبعت ما يدعون إليه، وليس له مصدر ديني عندهم، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى، والأهواء جمع هوى، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم، إذ اتخذوا إلههم هواهم، ومن اتبع

ص: 451

هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة لَا من دين " اتبعوه، ولا من نصوص، بل هواهم، وليس كمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (1)، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم، وتبعًا لانحراف في نفوسهم.

لَئِنِ اللام فيها دالة على القسم، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط، وهو قوله تعالى منبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لَا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون (إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) ففي هذا تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإِتيان الهوى، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين.

وقوله تعالى: (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم، إذ معنى إذن، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع، فبسببه تكون من الظالمين، فوقوع (إذن) بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لَا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية. .

هذا وإن الكلام فرضي لَا واقعي، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه، فالمعنى: إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى، وهو عالم غير غافل أولا بإِن، وثانيا باللام، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى، وموافقة الآثمين في إثمهم، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال.

* * *

(1) عن أبِى هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُؤْمِن أحَدكُمْ حَتَّى يكون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ " أخْرَجَهُ الْحَسَن بْن سُفْيَان وَغَيْره، وَرِجَاله ثِقَات، وَقَدْ صَحَّحَهُ النَوَوِى فِى آخِر الأرْبَعِينَ. [فتح الباري: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم (6764)].

ص: 452

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

* * *

إن أهل الكتاب جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر القبلة، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه عليه الصلاة والسلام بقبلتهم، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له صلى الله عليه وسلم معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى:

ص: 453

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُئم الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة، فإن الإنسان لَا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لَا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم؛ فكذلك لَا يجهلون الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام، وهو ممن آمن من أهل الكتاب: أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لَا أدرى ما كان من أمه، والضمير في قوله (يَعْرِفُونَهُ) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما.

ص: 453

ومعرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم معرفة لرسالته، وما جاء به من حلال وحرام، وللأرض التي يبعث منها، ولقومه الأميين، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم:(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).

وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد صلى الله عليه وسلم قسمين: قسم آمن واهتدى، وقسم كابر وعاند فغوى؛ ولذلك قال:(وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه، وكانوا يستفتحون به على المشركين، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته، وأظهر في موضع الإضمار، فقال:(لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة، فهم يكتمون الحق، ومن يكتم الحق يكتم النور، ولابد من أن يظهر، ثم أكد فساد نفوسهم، فقال:(وَهُمْ يَعْلَمُون)، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ويعلمون نتائج ذلك الإثم، ولكنهم في غيٍّ دائم وضلال مستمر.

هذا شأن الذين يعلمون الحق ويكتمونه، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به، ويؤمن به، وقوله تعالى:(وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قد يشير إلى أن هناك من لَا يعلم، كما قال تعالى:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الحق.

وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجاور اليهود، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم؛ ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين، حتى لَا تجرهم المودة إلى أهوائهم، أو الشك فيما عندهم؛ ولذا قال تعالى:(الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

ص: 454

بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لَا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه، بعد هذا بين أن ما عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال:

ص: 455

(الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) أي الحق الجدير بالاتباع الذي لَا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لَا يتبع، فإن خالفت ما جاء من ربك، فقد خالفته إلى الظلم؛ لأن ماعداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك، وقوله:(مِن رَّبِّكَ) إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال.

وإذا كان الحق لَا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس، ووسوسة الشياطين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لَا ريب فيه فلا تكونن من الممترين. والامتراء التردد بين الشك واليقين، بحيث يعتريه دور يحس فيه باليقين ودور يحس بالشك الذي يناقض اليقين، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته، فمعنى الشك موجود، واحتمال الشك ولو من وجه ينافي العلم الجازم.

والنهي عن الامتراء نهي عن أن تدخل أسبابه النفس، وأمر باليقين الدائم ويقول بعض المفسرين: إنه أمر بالاحتياط والتوقي، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم، يبتدئ باستحسان ما عندهم، وأول الشر استحسانه، ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده.

وقال الله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، أي لَا تدخل في صفوف أهل الشك، وفي ذلك إيذان بأنه لو شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه، وغير متصور أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين في

ص: 455

أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، إنما هو أمر لأمته، بأن يحتاطوا لدينهم الحق، فيزودوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا، وبالقيام بالفرائض، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا، ولا يُبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وإن الله تعالى ينبهنا إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم، ولنا أعمالنا؛ ولذا قال تعالى:

ص: 456

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).

الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة، والتنكير في " لكل " دال على محذوف، والمعنى: لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها، وتبين الحق في هذه الجهات، ببينة الله وقبلته المختارة من بينها، وإن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات، أي تسارعوا متسابقين إليها، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح، وصلاة وصوم وزكاة، وتعاون على البر والتقوى، وهذا كقوله تعالى:(لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . .).

هذا على تفسير الوجهة بالقبلة، ويصِح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى:(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، وكقوله تعالى:(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67).

وإن المعنى على هذا: إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها، وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومنهاجهم، ولا نجادلهم، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات، أي كل ما هو فيه

ص: 456

خير في ذاته، وفيه نفع للناس والأنفس، وما فيه تطهير القلوب، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود.

وإنه بعد الاستباق إلى الخير، والاختلاف في الملة سيكون الحساب، والثواب والعقاب، وبيان الحق والباطل؛ ولذا قال:(أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأتِ بِكُمُ اللَّه جَمِيعًا) وأينما اسم شرط دال على المكان، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا.

والمعنى أنه في أي مكان كنتم لابد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال، ويحاسب كل على ما قدَّم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وإن هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار؛ فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير، وكان دينهم الحق، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل، ولجُّوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا.

وقوله تعالى: (يَأتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) فيه إشارة إلى أنها حياة لَا يجيئون إليها مختارين، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته:(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بإن والجملة الاسمية، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود، كل شيء في قدرته وفي سلطانه، وهو العزيز العليم.

* * *

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ

ص: 457

شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

* * *

تبين في الآيات السابقة اتباع القبلة في حال المقيمين، فبينت حيث يقيم النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت حيث يقيم المسلمون في الأماكن الإسلامية، كل في مكان إقامته، فقال فيما تلونا من قبل:(وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وفى النص السامي يبين أن القبلة لابد من الاتجاه إليها في السفر كما يجب الاتجاه إليها في حال الإقامة، فإذا خرج من مكان إقامته اتجه إليها، فلا تسقط فرضيتها في السفر؛ ولذا قال تعالى:

ص: 458

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)" من " هنا أي من أي مكان خرجت، وفي أي مكان حللت، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، أي ناحيته؛ إذ لَا فرق بين مكان ومكان ولا سفر ولا إقامة، فالاتجاه ضروري، أي أن السفر لَا يسوغّ ترك الاتجاه شطر البيت أي ناحيته ووجهته.

وذكر ذلك النص لتأكيد الاتجاه، وأنه شرط لصحة الصلاة دائم مستمر لَا فرق

بين سفر وحضر، ولا فرق بين راكب وراجل، ولقد روى الدارقطني عن أنس ابن مالك قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به "(1)، أي أنه كان يلاحظ دائما أن يكون ناحية القبلة.

وقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الفاء هنا في معنى جواب الشرط.

(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة: باب التطوع على الراحلة (1036) بلفظ: عن أنَس بْن مَالِكٍ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَافَرَ، فَأرَادَ انْ يتطوَّعَ، اسْتَقْبَلَ بِنَاقَته الْقبْلَةَ، فكثرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ ".

كما رواه أحمد (12635) في مسنده عن أنس قال، َ " كًانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا أرَادَ انْ يُصَلي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فكبَّرَ لِلصَّلاةِ ثُمَ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ "

ص: 458

وقد أكد الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام، فقال:(وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) والضمير يعود على تولية الوجه، وقد أثبت الله تعالى بهذا أنه الحق، وأكده بإن واللام، والجملة الاسمية، وإسناد هذا الحق لله تعالى، والتعبير عن الله جل جلاله للدلالة بربك للإشارة إلى أنه اقتضته تربيته لك، وقيامه على شئونك، وأنه سار على حكمته، ولأنه رأى تقلب وجهك في السماء، وإن ذلك الحق ثابت في كتبهم، فإنه ثابت في التوراة أن القبلة تتحول إلى فاران أي إلى مكة.

وبعد أن أكد سبحانه وتعالى وجوب الاتجاه إلى القبلة في السفر والإقامة - بيَّن سبحانه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تحت سلطان علمه وحكمته، وأنه رقيب على المؤمنين ليس بغافل عنهِم ليتحروا القبلة ويتعرفوها، ولا يصلوا إلا بعد هذا التحري فقال تعالت كلماته:(ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلونَ).

نفَى الله تعالى وجل جلاله عن نفسه الغفلة، أي أثبت العلم الكامل، بتأكيد نفي أن يقع فعل في الوجود على غير علم منه، باستغراق النفي، وبذكر لفظ الجلالة الذي يتصف بكل كمال، ويستحيل عليه أي نقص، وبالباء الدالة على استغراق النفي.

وإن هذا الكلام السامي قد يكون إنذارًا، ولكنه موجه إلى المؤمنين، وليس موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أن الخطاب كان باللفظ الدال على الجمع، (عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وقد أكد سبحانه وتعالى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتكراره، وذكر الأمر للمؤمنين أجمعين تعميما للأماكن، حيثما كانوا في سفر أو إقامة كما أشرنا، فقال تعالى:

ص: 459

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). وكان التكرار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم لتعدد أسفاره، وغزواته، وأن القبلة الاتجاه إليها شرط لصحة الصلاة في كل الأحوال إلا أن يكون ذلك في حال الخوف، وتكون صلاة الخوف، ولا يمكن الاتجاه إلى القبلة، إذ يستدبر العدو، فيأتي هم من حيث لَا يشعرون، وقد بين الله تعالى صلاة الخوف فقال تعالى: (وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم

ص: 459

مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103).

* * *

وقد تشير هذه النصوص الكريمة إلى أن استقبال القبلة إذا تعذر في حال الحرب جاز الاتجاه إلى غيرها من غير استدبار للضرورة والله تعالى هو الواقي.

وإن الله سبحانه وتعالى كرر طلب الاتجاه إلى البيت الحرام حيثما كانوا، ومن حيث خرجوا في سفرهم وفي مغازيهم، وكرر ذلك تأكيدا للطلب لكيلا يرتاب مرتاب، ولكي يكون حجة على الناس، ولا يكون لهم حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذا قال تعالى:(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي أكدنا الاتجاه إلى البيت من أجل ألا يكون للناس حجة في عدم العلم، ودليل عليكم في عدم تحويل القبلة إلى الكعبة، وأن يسيروا على القبلة التي كنتم عليها، وهي إلى بيت المقدس، والحجة هي التي يستدل بها المخالف، وذلك لأن اليهود والمنافقين لجُّوا في التساؤل والمناقشة وتوهين ذلك التحويل، فأكد الله تعالى التوجه إلى البيت الحرام، والحجة التي نفاها الله تعالى هي حجة عدم العلم فأكده.

وقد استثنى الله تعالى من الذين لَا تقوم لهم قائمة الذين ظلموا فقال: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهذا الاستثناء أهو استثناء متصل أم استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لقد قال الطبري: إنه استثناء متصل بمعنى أن الذين ظلموا لَا تنتفي حجتهم، وإن كانت واهية داحضة عند ربهم، وقال: المعنى لَا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا: " مَا وَلَّاهُم "، وقالوا: تحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لَا تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق، أي أنه لَا حجة عليكم إلا المماراة وما يحسبونه حججا. وهو أقوال واهية

ص: 460

تدل على ضعف الإيمان عند قائلها وأنهم يقولون ما لَا يؤمنون به، ويكون الذين ظلموا هم اليهود والمنافقون.

وقال بعضهم: إن الاستثناء منقطع، ويكون المعنى: لئلا يكون للناس حجة عليكم، لكن الذين ظلموا، لَا يقنعهم دليل ولا تعظهم حجة، بل إنهم يلجون في الباطل بأوهام باطلة، فلا تنتظر منهم أن يلزموا أنفسهم بدليل مهما كانت قوته؛ لأنهم معاندون جاحدون مكابرون.

ولذا قال: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) الخشية نوعان: خشية الله تعالى وهي طمأنينة في القلوب تبعث على التوقي مما يغضب الله تعالى، وهذه هي الخشية من الله تعالى وقد أمرنا بها، وأن تمتلئ قلوبنا بالاطمئنان مع التوقي مما يغضب الله.

والخشية الأخرى الخوف والفزع، وهي ما نهانا الله تعالى عنه، فنهى أن نخاف أو أن نفزع أو أن نتوقع الأذى من هؤلاء الظالمين، وأن نخشى الله تعالى فتمتلى نفوصنا بالاطمئنان والتقوى.

كان التأكيد للاتجاه إلى البيت الحرام لذلك، ولأمر جليل آخر، أشار إليه بقوله تعالى:(وَلأتِمَّ نعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي كانت القبلة لكيلا يكون للناس حجة عليكم.

(وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيكمْ)، إن نعم الله تعالى تتوالى على النبي ومن معه من المؤمنين ومن تمامها نعمة الاتجاه إلى الكعبة، إذ إنها تضمنت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان يقلب وجهه في السماء ليوليه قبلة يرضاها، ولما فيه من تشريف البيت الحرام، ولما فيه من إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، ولما فيه من تأليف للعرب، ولأن ذلك إيذان بفتح مكة وإزالة دولة الأوثان، وإقامة دعائم الإسلام، وتلك كبرى النعم.

وذكر الله تعالى أمرًا آخر، وهو جماع الأمور كلها، وسبيل الحق والإيمان وهو رجاء الهداية الكاملة، فهذا من طرقها (وَلَعَلَّكمْ تَهْتَدونَ) الرجاء من الناس لا من الله، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

* * *

ص: 461

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

* * *

ولى الله تعالى نبيه إلى الكعبة، تكريما للبيت وتشريفًا له ولبانيه، وأتم نعمته عليهم بالإيذان بإزالة الأصنام عنه، فعل الله تعالى ذلك لتتم الهداية كما أرسل رسولا منهم، ولذا قال تعالى:

ص: 462

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتنَا) وفي هذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه ألسلام، إذ قال تعالى في ذكر دعائه:(رَبًّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. .)، فكما أجاب دعاءه عليه السلام بجعله بلدا آمنا وأن يكون مثابة للناس وأمنًا أجاب دعاءه بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته.

يمن الله تعالى على العرب بأن جعل فيهم رسولا منهم ليقول مانًّا عليهم بذلك كما منَّ عليهم بجعل القبلة إلى الحرم الآمن الذي قدسوه وكرموه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل فيهم وهو منهم، كما قال تعالى:(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ).

فهو فيهم ومنهم، وهو أكثر تأليفا لقلوبهم. ورعاية لنفوسهم وهو الحق من ربهم كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ

). وتلاوة الآيات التي جاءت في قوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ)، تلاوة الآيات هنا أي القرآن بقراءته في ترتيل وفهم، وإدراك لمعانيه، وإجابة لأمره، واعتبار بقصصه، وذلك عبادة (وَيُعَلِّمُكُم الْكتَابَ) أي تعليمهم علم القرآن من بيان للصلاة والزكاة والحج والصوم وأحكام الأسرة،

ص: 462

وأحكام الحرب وما يحل فيها وما يحرم، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وآداب وأخلاق المسلم فهو مأدبة الله تعالى، وهو سجل المعجزات التي جاء بها الرسل من عهد نوح إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام.

والحكمة هي الشريعة، وما فيها من إصلاح بين الناس، وإقامة للعلاقة الإنسانية. وفسرها الشافعي بأنها السنة وقد بيناها عند ذكر قوله تعالى:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ. . .)، فارجع؛ إليها.

(وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهركم من أرجاس الجاهلية ومآثمها كوأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر بله عبادة الأوثان والأنصاب، وينمي فيهم قوة الخلق والشكيمة ويوجهها نحو مكارم الأخلاق.

وقال الله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) علمهم الله علما لم يكونوا يعلمونه من قبل؛ علمهم علم النبوة، وعلمهم علم البعث والنشور والقيامة والحساب، وعلمهم علوما تنفعهم في الحياة الدنيا، وتزودهم بالخير في الآخرة، وعلمهم مكارم الأخلاق وعلمهم تنظيم الدولة، وقيام حكم صالح يستظل في ظله البر والفاجر، وعلمهم العدالة والامتناع عن الظلم. . وأخيرا علمهم علم الإسلام، وقد جمعه تعالى في قوله جلت حكمته:(إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وجعل منهم دولة الإسلام الفاضلة التي لم تر الإنسانية لها نظيرا من يوم أن خلق السماوات والأرض.

بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب، وفي الإنسانية كلها، وإن ذلك يقتضي أن يشكر صاحب هذه النعم (وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. . .)

ولذلك قال تعالى:

ص: 463

(فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)، الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية، وهي ما يكون قبلها سببا لما بعدها، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط، ولا بترطيب القول بذكر

ص: 463

جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت، كما قال تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُم تَضرُّعًا وَخفْيَةً. . . .)، و (وَاذْكر رَّبَّكَ فِي نَفْسكَ تَضرُّعًا وَخِيفَةَ وَذونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)، وإن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم؛ اذكروني في كل حياتكم وفي قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة:(أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إليَّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليَّ ذراعا، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيت إليه هرولة، وقد أخرجه البخاري (1). وإن ذكر الله تعالى يكون في القلب، ويبدو في العمل].

فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله.

وكل أعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله، وكل عمل لَا يعمل إلا لحب الله تعالى، فالصانع في مصنعه، والزارع في مزرعته]. . والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع.

الناس يكون ذاكرًا لله تعالى، وإن المؤمن لَا يفرغ قلبه من ذكره، إذا قام بحق الله تعالى، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).

(1) البخاري: كتاب التوحيد - باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه (6856) ومسلم: الذكر والدعاء (4732).

ص: 464

إن ذكر الله تعالى هو الخير كله، روى ابن ماجه أن أعرابيا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال: " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل "(1).

وإن أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى، ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر:(وَاشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ) وهنا نجد الشكر تعدى باللام وقد قال الفراء: إن ذلك هو الأفصح، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني.

وشكر العبد لله تعالى؛ الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدى على حق غيره، وألا يؤذي، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني. .

وشكر نعمة الرِّجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم.

وإن شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها، ولقد قال تعالى:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر، وهو الطاعات، والأخذ بالهدى المحمدي، فقد نهى عن الكفر فقال:(وَلا تَكْفُرُون) والنهي عن الكفر معطوف على قوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي) يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما قى قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ. . .)

ويكون معنى كفر الله تعالى عدم ذكره، وعدم معرفة حقيقة نعمه، ولكن الظاهر أن المراد النهي عن الكفر المطلق، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى. وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر.

* * *

(1) رواه ابن ماجه: الأدب - فضل الذكر (3793) عن عبد الله بن بسر، وبنحوه عند الترمذي: الدعوات - فضل الذكر (3375) وأحمد: مسند الشاميين - حديث عبد الله بن يسر (17245).

ص: 465

أول الجهاد جهاد النفس

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

* * *

اتجه المسلمون بأمر الله تعالى إلى البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وقد اتجهوا إليه في الصلاة إيذانا بإبعاده عن الشرك، وأن تحيط به الأوثان، وقد أشار سبحانه وتعالى بأنه سيكون الفتح، وأنه سيكون في حوزة أهل التوحيد، وأنه من بعد سيكون يأس الشيطان من أن يعبد في الأرض المباركة، وقد كان البيت الحرام في أيدي المشركين ولا يخرجون منه إلا بجهاد لإخراج أعداء الله من بيت الله، أو لجعل كلمة الله تعالى العليا في بيته، وإنه بالتحقيق ثبت بالتقريب أن تحويل القبلة كان في الليلة الخامسة عشرة من شعبان، وكان ابتداء يوم الفرقان لغزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان، فكان بين التحويل ويوم الفرقان شهر واحد.

ولذلك جاءت الدعوة إلى الجهاد، عقب تحويل القبلة، وأول الجهاد جهاد النفس، فجهاد النفس قبل امتشاق الحسام في الميدان، وجهاد النفس بتعويدها الصبر

ص: 466

وقمع الأهواء والشهوات والاتجاه إلى الله تعالى؛ ولذا ابتدأ به فقال تعالى:

ص: 467

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) استعينوا في أموركم، وفي استجابة أوامر ربكم والأخذ بأحكام دينكم وإعداد العدة للقاء عدوكم، فمجاهدة النفس مقدمة على جهاد العدو، بل هي عدته وقوته.

والصبر ضبط النفس والاستيلاء عليها، وهو يتنوع بتنوع موضوعه، فهناك صبر على منازعة الأهواء والشهوات لتعميمها والاستيلاء عليها بجعل الشهوة أَمَةً للعقل ليست مسيطرة عليه، ولا مسيرة للنفس، وهناك صبر لأداء الطاعات والقيام بالواجبات فإن ذلك يحتاج إلى عزم قوي لَا يكل ولا يمل، وهناك صبر على لغو القول من الناس، واستهزاء السفهاء، وتهكم ذوي الأهواء، وهناك صبر بالإقامة مع الضعفاء وقد قال الله تعالى فيه:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .).

وهناك صبر عند المصائب في الدنيا فلا يفزع ولا يجزع ويعلم أن الصبر فيه أجر وأن الجزع فيه وزر، وهناك صبر عند لقاء الأعداء ولعله نتيجة لصفة الصبر وتشعبها في كل النواحي التي ذكرناها.

والصبر خير كله، وهو أول صفات المؤمنين، ومن الصبر ألا يكفر عند النعمة وألا ييئس عند النقمة، ولقد قال تعالى:(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).

ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن صهيب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له "(1) فالصبر كله خير، وهو عدة الإيمان والأخلاق، وبناء المجتمع الصالح، وهو أقوى عدة للجهاد.

(1) رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق (5318)، وبنحوه رواه أحمد والدارمي.

ص: 467