المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: " للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: " للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح

تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: " للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح الضلالة عصفة، ثم تخفت " فهي إضاءة شديدة لهم، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون.

وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لَا يبصرون. وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن، وذلك كذب، فحال المنافق كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس، ولذلك لَا ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لَا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفَى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.

وعدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لَا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.

وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضَّلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغيرٍ، فَسُدت عليهم أبواب الحق لَا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه، ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:

ص: 144

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ

(18)

وإذا كانت لهم آذان فهم لَا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لَا ينطقون بها في حق قط.

ص: 144

وكانت هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة، ولكنها تشبيه صريح، إذ إن قوله تعالى:(صُم بُكْمٌ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: " هم " أو: المنافقون، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لَا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رءوسهم علوا واستكبارا (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة، والبينات الناصعة، لَا يستبصرون فلهم قلوب لَا يفقهون بها، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به، فهم كالبكم الذين لَا ينطقون، وهم لَا يبصرون وإن كانت لهم أعين.

وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لَا يرجعون، أي لَا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوفٌ عند الشر الذي وصلوا؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري: إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.

* * *

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

* * *

يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام - معروفة

ص: 145

مألوفة لديهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ). وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا، ولكن لم يستفيدوا، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة، والإشراق المحمدي، والجوار لأهل الحق. ولكن استمروا في ظلمتهم.

وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.

لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال، فقال:

ص: 146

(أوْ كَصَيبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ طلمَاتٌ. .) الآية. أو هنا عاطفة على قوله تعالى: (مَثَلُهمْ كَمَثَل الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. . .) أي أن مثلهم كمستوقد النار، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ويقول الزمخشري: إن " أو " أصلها للشك، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية، كقوله تعالى:(وَلا تطِعْ مِنْهمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل، والتسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار، وتصوير لحال المنافقين، فالأول يصورهم، ونور الحق بجوارهم، وهم يعيشون فيه بأجسامهم، وإن جافته قلوبهم، والثاني يصورهم، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء، ومن شأنه أن يحيي موات الأرض والنفوس، ولكنه لهم ظلمات، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين، وصواعق تنزل قارعة للأجسام، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال

ص: 146

إلى الهدى، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين، الأول يصور الحق كنور رأوه، ولم يهتدوا به، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق، فلم يرتدعوا به، فهم لم يهتدوا بنور هاد، ولم تردعهم النذر والآيات.

والصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فَيْعِل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صَيْوِبِ اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء كـ " سيِّد " و " ميّت "، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.

والسماء ما أظلك، ولماذا أسند إلى السماء، والمطر ينزل منها دائما؛ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين، أحدهما - أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لَا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا، وثانيهما - للإشارة إلى أنه يجيء من علٍ، فينصب انصبابا.

ووصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهي جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدُّجُنَة (1) الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذانهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.

وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرف.

(1) الدُجُنةُ من الغيم: المُطبقُ تطبيقًا، الريّانُ المظلِم، الذي ليس فيه مطر؛ يقال يومُ دَجْنٍ، ويوم دُجُنَّة، وكذلك الليلة على الوجهين، بالوصف والإضافة. (الصحاح - باب النون فصل الدال).

ص: 147

والرعد على ما هو مقرر " لآن مظهر من مظاهر الكهر باء التي أودعها الله تعالى في الأجسام، فبعض السحاب يحتوي على كهرباء تسمى موجبة، وأخرى تحتوي على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد، وصحب الاصطدام نور هو البرق، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق، فالمطر الصيب يكون فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في هذا المثل، ونرجع رجعة نتعرف فيها تفسير علماء الأثر للرعد والبرق والصواعق، وسنجد من بينهم من يقارب تفسيره لما تقرر في هذا العصر، ومن باعده.

فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال، سالَتْ اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال:" ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله "، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره السحاب إذا زجره، حتى ينتهي إلى حيث أُمِر "، قالوا: صدقت (1). وفسر ابن عباس - في رواية لا ندري مقدار صحتها - البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.

ولقد جاء في تفسير القرطبي: قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق مما ينقدح، من اصطكاكها. ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة، يتولد عنه صوت هو الرعد، ونور هو البرق.

وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة، فقال: والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق الذي يلمع من السحاب، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة، وإن لم يكن هو.

(1) رواه بهذا اللفظ - عن ابن عباس - الترمدى: كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الرعد (3042).

ص: 148

وهنا يجب أن نتكلم في الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكوِّن الرعد والبرق، فالخبر لم تروه الصحاح، ولم يروه إلا الترمذي، ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أُوِّلت، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها، فقد قال الغزالي: إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.

وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).

وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لَا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى:(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. . .)، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ. . .)، ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.

ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول: فإن قلت: إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فَلِمَ ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأنَّ السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.

ص: 149

وفى الحلية (1): إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف، وظنوا الظنون من هول ما يرون، وقوله تعالى:(حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوفا من الموت، فهي مفعول لأجله، والصواعق جمع صاعقة، وهي ما ينزل من السماء من نار، في الرعد والبرق.

وهنا يسأل سائل: هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع، والجواب عن ذلك، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمعوا صوت الصواعق والرعد - قد يدفع الموت.

فهم يفعلونه حذر الموت.

وقد بَيَّن سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى:(إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ. . .)، أي تهلكوا فمعن (وَاللَّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) أي هم في قبضته، إن أراد أهلكهم، كما قال تعالى:(وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

والمعنى على ذلك: إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لَا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.

(1) حلية الأولياء لأبي نُعيم.

ص: 150