المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا … ‌ ‌(100) تدل على نقض العهد بين طرفين، - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا … ‌ ‌(100) تدل على نقض العهد بين طرفين،

(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا

(100)

تدل على نقض العهد بين طرفين، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم، والعهد الذي يكون بين طرفين لَا ينقض إلا بتراضيهم، ولكنهم لَا يلتزمون بذلك، بل ينفردون بالنقض. أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم، وقال تعالى:(نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهمْ) النبذ الطرح والرمي، ومعناه في العهود، نبذ الوفاء وطرحه، من غير موجب ولا مراعاة ذمامٍ، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة، كما قال تعالى:(وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).

ونسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم، لأن الله العدل الحكيم لَا يقرر إلا ماهو عدل حكيم، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر، ولم يمنع وهو قادر على المنع؛ ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لَا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقوله:(بَلْ أَكْثَرهمْ لا يُؤْمِنونَ) فـ " بل " هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل، وهو أن أكثرهم فاضل، ومانع لهم من الشر، وذلك لقوله تعالى:(نَّبَذَهُ فَرِيقٌ منْهُمْ)، فبين سبحانه أن كثرتهم لَا يؤمن بالحق فقال تعالى:(أَكْثَرهمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فنفَى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لَا يؤمنون، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لَا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق. وإذا كانوا لا يؤمنون بكتاب الله تعالى الذي أنزل [منجها](1) إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم أيضا لَا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع ما كان منهم قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، وينبذون كتابه. ولذا قال الله تعالى:

(1) في الأصل [منجها] ولعله خطأ مطبعي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

ص: 334

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ

(101)

قوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللَّهِ) التعبير بـ لما دليل على أنهم كانوا يتوقعون مجيئه، وقد كانوا يتوقعون ذلك ويعرفونه ويستفتحون على الذين كفروا،

ص: 334

وعبر سبحانه بـ " رسول من عند الله " للإشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي أنعم عليهم بالنعم المتوالية، و " رسول " التنكير فيها للتعظيم، أي رسول بالغ أقصى درجات الفضل وقد اختاره الله تعالى.

وقد وصفه الله تعالى بأنه مصدق لما معهم، وتصديقه لما معهم من ناحيتين.

الناحية الأولى: أنه قد جاء بالتكليفات الكثيرة التي جاءت في المواثيق التي أخذها الله تعالى عليهم، والناحية الثانية أنه تصديق للبشارات التي جاءت بها كتبهم، وقد بشرت به في عدة نصوص منها، كما أشار القرآن الكريمِ في مثل قوله تعالى:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)،

ومثل قوله تعالى: (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كفَرُوا. . .).

هذا هو معنى التصديق، وليس التصديق الإقرار بصدق ما حرفوا وبدلوا حتى يقول ذلك الذين لَا يفهمون، فإن القرآن يفهم بعضه ببعض، وقد كفرهم، وسجل التحريف عليهم ولا يزالون يغيرون ويبدلون.

ولما جاءهم محمد - رسول الله - نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله أي طرحوه، وهو يدل على أنهم لم يأخذوا به، ونبذوا تعاليمه، وراءهم ظهريا، وعبر الله تعالى بالذين أوتوا الكتاب توبيخا لهم، وتنديدا بفعلهم فإنهم كانوا جديرين بأن يكونوا أول من يأخذ بالكتاب لَا أن ينبذوه ويجعلوه وراء ظهورهم، ودبر آذانهم. والكتاب الذي نبذوا تعاليمه وجعلوه وراء ظهورهم كما هو السياق يدل على أنه القرآن؛ لأنه هو الذي جاء به الرسول الكريم، الذي جاء به مصدقا لما معهم.

وقال بعض المفسرين: إن المراد بكتاب الله التوراة، أي أنهم نبذوا بشاراته بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، ونرى أن ذلك بعيد، ولم نجد ذكرًا للتوراة في هذا المقام، ولأن الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.

ص: 335