المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في - زهرة التفاسير - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في

ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا، وذلك كقولهم حرَّق الأرَّم (1) أي حكها حكا شديدًا.

هذا خبر عبادتهم العجل، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين، وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها. وقوله: واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان: إحداهما (وعدنا موسى)، والقراءة الأخرى:(واعدنا موسى)، وإن المواعدة لَا تكون إلا بين طرفين، وذلك بعيد عن الله تعالى، ولذا قيل إن معنى واعدنا ليس المفاعلة التي تكون بين طرفين، بل معناها وعدنا، وقد تستعمل: صيغة فاعل في غير معنى المفاعلة، كقولهم داويت العليل، وعالجت المريض، وعاقبت المجرم.

وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله.

توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله تعالى عليهم وعفا عنهم، وعدَّ الله تعالى ذلك عليهم نعمة، فقال تعالى:

(1) حرَّق الحديد حرقا: برده، يقال: حرقه بالمبرد. ويقال: هو يحرق عليه الأُرَّم: يحك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. [الوسيط - أرم - ح رق].

ص: 230

(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‌

(52)

أي أن هذه الجريمة الكبرى، وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفا عنها، والتعبير هنا بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي والبعد، لبيان بُعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى توَّاب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.

ص: 230

وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة، وهم كانوا في حال جهالة، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق، فكان العفو أدنى إليهم، لأنهم كانوا في فتنة.

وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانًا مبينا، ولكن التوبة تجبُّ ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا.

وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لَا من الله، والمعنى: عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لَا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لَا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، والله سميع عليم.

أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون (لَعَلَّكُمْ) في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى: لكي تشكروا، إن كنتم لَا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.

وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا، وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره، وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية؛ لأنهم ببعث

ص: 231