المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معركة في أكفادو الولاية الثالثة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٢

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ معركة في أكفادو الولاية الثالثة

2 -

‌ معركة في أكفادو الولاية الثالثة

(*)

تقرر عقد مؤتمر للقادة في غابة أكفادو يوم 25 تشرين الأول -أكتوبر - 1958 ليضم (العقيد سي عميروش) والمقدم (فاضل حميمي) و (سي الحسين) قائد المنطقة الأولى (القبائل الكبرى) والنقيب (سي مهند السيد) والملازم (سي عبد الحفيظ) الخ .. وغيرهم من قادة الولاية الثالثة. وقد وصل هؤلاء المسؤولين في عشية اليوم المقرر للاجتماع.

ما إن ظهرت شمس هذا اليوم على الأفق، في الصباح، حتى أخذت طائرة استطلاع في التحليق فوق الغابة، وتبعتها طائرة ثانية، فثالثة، وكانت كلها تحلق جيئة وذهابا فوق غابة أكفادو والدواوير المحيطة بها مثل:(طفرا) و (عيط منصور) و (بني أوغليس). وكان أحد الأفواج بقيادة (سي عميرا) قد اصطدم منذ الصباح المبكر بعناصر من القوات الفرنسية. ووصلت أسماعنا بضعة رشات من نيران المسدسات الرشاشة، فأصدر (سي عميروش) أوامره، وانتشرت السرايا في الغابة على شكل مجموعات صغرى لاحتلال

(*) REC ITS DE FEU (S.N EL MOUDJAHED) ALGER 1977. P.P. 115 - 118 PAR EI-HaDi OUGUERGOUZ.

ص: 151

كافة النقاط الاستراتيجية. ونشر الفرنسيون كافة قواتهم، غير أنهم عجزوا عن اختراق غابة (أكفادو).

كان القتال قد أصبح محتدما في (طفرا). فتوجهت سرية على الفور إلى أماكن الاشتباك بهدف تحرير إحدى سرايانا التي وجدت نفسها مطوقة، ومحاصرة، في قرية مجاورة. وكانت هذه السرية تضم الملازم (طاهر عميروش) أمين سر الولاية الثالثة والملقب (بالشوارب) وكذلك المقدم (حمامي - أو حميمي) التي جاء عوضا عن (عزرور تاغات). وكانت القمة العليا في الإقليم تهيمن على (وادي الصومام) وتهيمن على كافة تحركات قوات العدو. وكانت الطائرات القاذفة تمزق حجب السماء، وهي تقذف (النابالم) في كل مكان. وكان لا بد من إخلاء غابة (أكفادو) في الليل، إذ أن المعلومات المتوافرة والتي أمكن الحصول عليها في النهار، قد أكدت أن العدو يتابع دعم قواته وتعزيز مواقعه، حيث استمرت القوات الفرنسية في التدفق على (أديكار) و (تاوريرت - إيغيل) و (أسيف الحمام) و (عيط إيدجر) إلخ ..

وهكذا، فما إن هبط الليل، حتى تجمع جنودنا، وانتظموا في رتل أحادي، مع ترك مسافة كافية ما بين الجندي والجندي الذي يليه، وأخلينا الغابة، وأخذنا في اختراق مواقع العدو، ونحن متجهين إلى (بورت غويدون). غير أننا لم نكد نسير مسافة كيلومترين فقط داحل الغابة، حتى انطلقت أصوات رشتين من مسدس رشاش، وسقط الثلاثة جنود الذين كانوا يسيرون في المقدمة وهم يزمجرون لما أصابهم من جراح. وأصيب آخرون بجراح غير

قاتلة، غير أنهم باتوا عاجزين عن التقدم بسرعة. واستمر جند الأعداء الفرنسيين في إطلاق نيران مسدساتهم الرشاشة، فكانت

ص: 152

رصاصاتهم تضيء كالشرر وسط ظلمة الغابة. واستخدم المجاهدون الأربطة الفردية لتضميد جراحهم وإيقاف نزفها. وتقدم المجاهدون لمساعدة إخوانهم الجرحى، فحملوهم إلى مكان مأمون، وتركوا معهم ممرضا للعناية بهم في ملجئهم، وأقام هؤلاء الجرحى ثلاثة أيام بلياليها في هذا الملجأ وهم محرومين تقريبا من الطعام والماء، حتى إذا ما جاء اليوم الرابع، وهو يوم 28 تشرين الأول - أكتوبر - انتهى الفرنسيون من عملية (المسح) أو (التمشيط) وكان من حسن حظ الجرحى أن العدو لم يتمكن من اكتشاف ملجئهم. وعاد المجاهدون فحملوا إخوانهم الجرحى إلى مركز قيادة الولاية الثالثة، حيث تجمع ستون من الجرحى تقريبا، وفي الليل نقل هؤلاء جميعا إلى مناطق مأمونة جدا، بهدف تقديم العناية الطبية اللازمة لهم، حتى تندمل جراحهم، ويستعيدوا قوتهم ويستأنفوا جهادهم. بدأت عملية نقل رتل الجرحى في الليل، غير أن هذا الرتل لما يبلغ الطريق العام حتى أنذره المراقبون ورجال الاستطلاع عن وجود كمين أقامه الفرنسيون. وبات لزاما إعادة هؤلاء الجرحى إلى القاعدة التي انطلقوا بهم منها. واستؤنفت محاولة الابتعاد بالجرحى في الليلة التالية، حيث استمر المسير لمدة ست ساعات أمكن الوصول

في نهايتها إلى قرية تقع بعد (أسيف الحمام). وأمضى الجرحى الستون يوما في هذه القرية، أشرف خلاله الطبيب (سي أحمد بن عبيد) على العناية بأمر الجرحى ومعالجتهم.

وصلت معلومات إلى القرية في الساعة الثانية من فجر اليوم التالي، تؤكد أن القوات الفرنسية في المنطقة قد تلقت المزيد من الدعم. وأنها في سبيلها لإجراء عملية مسح (تمشيط) ثانية. وهذا يعني بأن العدو قد اكتشف بأن جميع الإخوة المجاهدين قد انسحبوا

ص: 153

إلى هذه المنطقة وتجمعوا فيها. وصدر الأمر الإنذاري عن قيادة المجاهدين بالاستعداد لاستئناف التحرك. وعمل المجاهدون قبل كل شيء على إخلاء الجرحى ونقلهم إلى ملاجىء في الغابة. وقد تمت هذه العملية بينما كانت الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) تحلق فوق الغابة، الأمر الذي أرغم الجنود في مرات عديدة، على وضع الجرحى أرضا، فوق الدرب الضيق الذي يسير على حافة جرف سحيق، من أجل تجنب المراقبة الجوية. وهكذا إلى أن تم نقل الجرحى، في حين كانت قوات الاستعماريين تضرب في السهول وتكنس المنطقة كنسا طوال ثلاثة أيام، انتهت بعدها (عملية المسح - التمشيط). وانسحب الجنود الأعداء مرة أخرى، ولم يعثروا على أحد من الجرحى أو المجاهدين.

تطلبت العناية بالجرحى، وخاصة المصابين بالكسور منهم، إعادتهم إلى الطبيب المختص بالعظام (الطبيب سي أحمد بن عبيد) وذلك في اليوم الثاني مباشرة. ثم جرى بعد ذلك نقل الجرحى إلى ملجأ أمين جدا في قاع أحد الأودية، وكان يعمل فيه الطبيب (سي طيب) الاختصاصي بالعظام وقد أمضى بعض الجرحى في هذا الملجأ مدة ثلاثة أشهر (من شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1958 وحتى كانون الثاني - يناير - 1959). استرد خلالها المصابون والجرحى قوتهم والتحق الذين برئوا منهم من جراحهم بمركز قيادة الولاية الثالثة في إقليم (بو نمال) من (أسيف الحمام). وبعد شهرين من ذلك استشهد قائد الولاية (سي عميروش) أثناء توجهه إلى (تونس)(وكان ذلك في آذار - مارس - 1959) حيث لقي البطل مصرعه مع بعض المجاهدين في إقليم (بوسعده). وظنت القيادة الاستعمارية أن باستطاعتها استثمار هذا النصر للقضاء على

ص: 154

الثورة في الولاية الثالثة، فشجعت جنودها للقيام بحملة واسعة النطاق، وزجت قواتها فيها مع بداية شهر تموز - يوليو - 1959. حيث أرسلت بعض طائرات الاستطلاع لاكتشاف مواقع الثوار في غابة (أكفادوا). وما هي إلا نصف ساعة حتى وصلت الطائرات القاذفة، وجاءت على أثر ذلك ثلاث طائرات قامت بإنزال المظليين

في منطقة جرداء داخل غابة (أكفادو) فوق قرية (بني أوغليس).

وما إن وصل المظليون الأرض حتى استقبلهم سيل من النيران أحاط بهم من كل جانب. وابتعدت طائرات المظليين لتفسح المجال أمام الطائرات القاذفة التي جاءت لتحرث الأرض بنيرانها. وتفرق المجاهدون بسرعة بعد أن دمروا قوة العدو.

مضى شهر تموز - يوليو - 1959 والمجاهدون يشتبكون مع قوات العدو في كل مكان، في الجبال والسهول، في القرى والأودية. لقد عملت قوات الاستعماريين على فرض حصار محكم حول الولاية الثالثة بكاملها. وكان المجاهدون بالمقابل يسيطرون سيطرة تامة على كافة النقاط الاستراتيجية. وتلقى المجاهدون أمرا من القيادة العليا: الانتقال إلى (وادي الصومام) والتمركز على مقربة من الطريق العام والمواقع الحصينة المتاخمة له. وتم تنفيذ هذا الأمر على الفور. وبذلك بقي الجنود الفرنسيون في الجبل، واستقر المجاهدون في الوادي.

ما إن مضت أيام قليلة على التمركز الجديد حتى أصدرت القيادة العليا أوامر جديدة طلبت فيها إلى المجاهدين التفرق بمجموعات صغرى وتجنب أي اشتباك مع قوات العدو التي باتت تحتل كل الجبال، وتنتشر في كل القرى، وهي تنشر الرعب والدمار في أوساط المدنيين العزل من السلاح، والمجردين من كل وسائل المقاومة.

ص: 155

أحد ضحايا النابالم المدنيين

ص: 156

ومضت صحافة العدو وهي تعلن في كل يوم أنه قد تم قتل (كذا) من الثوار، وأسر عدد (كذا) منهم، وأنه قد تم تطهير الجبال من المقاومة. وقد عانى المجاهدون خلال هذه الفترة كل أنواع المشاق، وتعرضوا لكل أشكال المصاعب، حتى أن بعضهم اضطر لأكل الضفادع التي كان يصطادها من الأنهار (ومنهم على سبيل المثال المعروف بلقب - باش آغا - واسمه سي العرب من توجا - ظهرة بجاية). وفقد المجاهدون كل ما كانوا يختزنونه من المواد التموينية، واستنزفت قدرتهم.

وأخيرا، وصلتهم أوامر أكيادة بالتوجه إلى قرى معينة لتأمين إمداداتهم وموادهم التموينية وكان لا بد من تنفيذ هذه المهمة مع غروب الشمس. وقد قامت إحدى الزمر بالتوجه إلى قرية في دوار (غيط منصو) في سفح (جبل أكفادو). وتوجهت إلى منزل اتخذته ملجأ لها، وأرسلت أحد أفرادها (علي مزعورة) للاتصال برئيس القرية، ووضع آخر للحراسة والمراقبة، وما هي إلا لحظات حتى دخل المراقب (الحارس) وقال لأفراد الزمرة بأن أخوهم (علي مزعورة) قد وقع أسيرا في قبضة الجنود الفرنسيين، وأن عليهم مغادرة المنزل فورا، إذ أن القوات الفرنسية لا تبعد عن الملجأ بأكثر من عشرين حتى ثلاثين مترا. وما إن غادر أفراد الزمرة القرية، حتى انطلق شهاب في اتجاههم أضاء السماء فوقهم، وتبعته شهب أخرى. وتبع ذلك أيضا إطلاق النار من رشيش (24 - 29). ولم يخرج المجاهدون من مهمتهم بنتيجة تزيد على فقدهم لأخيهم (علي مزعورة) الذي أخذه الفرنسيون للتحقيق معه، حيث تعرض لشتى أنواع التعذيب طوال أسبوع كامل. حملوه بعده إلى غابة (أكفادو) وقتلوه بواسطة قنبلة يدوية

.

ص: 157

ظنت القوات الفرنسية أنها أنجزت مهمتها، وقضت على الثوار في الولاية الثالثة، وأخذت في الانسحاب منها مع نهاية شهر تموز - يوليو - 1959. وأصدرت القيادة في جيش التحرير أوامرها إلى المجاهدين بالعودة إلى نصب الكمائن. فتمركز فوج بين (أقبو) و (بجاية) غير بعيد عن الطريق العام، وفي ضواحي (أغز - أمقران). ووصلت قافلة فرنسية إلى موقع الكمين، فغمرتها نيران المجاهدين، وقتل عدد كبير من الجنود الفرنسيين، وجرح آخرون. واستشهد مجاهدان على أرض ساحة الشرف - واستمر الصراع. وعرف العدو والصديق أن الولاية الثالثة ما زالت ثائرة، وأن عمليات (التمشيط والتطهير) لم تنل من صمودها.

ص: 158