الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
فضائل الثوار
في تقرير عن (جيش التحرير الوطني الجزائري ومجاهديه)(1) ورد ما يلي: (يتمنع جيش التحرير بنظام محكم، إنه جيش منظم يرتدي جنوده زيا عسكريا موحدا، ولقد أقرت بهذا البلاغات الحكومية، ويحمل كل جندي منهم على كتفه الأيسر شارة تمثل العلم الجزائري، نقشت عليها عبارة: (جيش التحرير الوطني الجزائري) ويحمل على صدره علامة رسم عليها هلال ونجمة، وهذه الشارة تعطى للمتطوع عندما ينضم لصفوف الجيش - ولا ترى إلا قلة ممن يضعون على رؤوسهم (الشملة) أو (الزمالة). ولا يقتصر تنظيم الجيش على اللباس فحسب، بل إن كل جندي من جيش التحرير يتبع وحدة نظامية مرتبة ترتيبا واضحا من الجندي البسيط حتى القائد الأعلى، ومن الواجب أن يتقدم بجميع طلباته إلى رئيسه المباشر، وتهتم المنظمة العسكرية كذلك بكل ما يتعلق بعائلات الجنود، فتسجل جميع المعلومات التي تمكنها من إعانة تلك العائلات.
ومن الوجهة الحربية، فإن تنقلات الوحدات وهجماتها لا
(1) جريدة (المقاومة الجزائرية) 22 نيسان - أبريل -1957 ص 6 - 8 عن كتاب (شهادة ضابط فرنسي)
.
تجري إلا حسب التعليمات الواردة من الأعلى، من القيادة، وفقا لبرنامج يتفق عليه داخل المنطقة، أو باتصال مع المناطق الأخرى التي يتكون منها الوطن الجزائري. وأما طاعة الأوامر، فهي أمر مفروغ منه، ولم أر طوال إقامتي في صحبة الجنود من استخدم القيود - الأغلال - إلا على سبيل المزاح. ولا يعني ذلك أنه لا توجد قوانين عسكرية يعمل بها جيش التحرير، بل على العكس من ذلك، فإنه باستطاعة أي جندي أن يشرح بصفة معقولة وطبيعية النظم التي يخضع لها جيش التحرير، ومما يدل على ذلك، أن الحكم بالإعدام، لم ينفذ إلا مرتين في كامل الولاية، لمدة سنة كاملة. وقد نفذ في المرة الأولى بسبب التعدي على حرمة امرأة. وقد حكي لي أن الجندي الذي تفذ حكم الإعدام كان يبكي عندما رماه بالرصاص. ومن ذلك الحين، صار كل مدني يستطيع أن يؤوي الجندي في نفس البيت الذي تنام فيه بناته من غير تحرز أو خوف. أما في المرة الثانية فقد نفذ على جندي أضاع سلاحه: إذ أن الجيش لا يسمح لأي كان أن يفرط في سلاحه، بل يوصيه بتخبئة سلاحه إن هو أصيب بجراح بالغة تمنعه من حمله.
هذا، ويتمتع جيش التحرير بمصالح مختلفة، مثل (مصلحة الصحة) فكل وحدة عسكرية تضم ممرضا قادرا على إخراج الرصاص من الجرحى. ولدى كل جهة، أو ناحية، أطباء يعالجون الجرحى والمرضى، ويقومون في الوقت ذاته بتدريب الممرضات والممرضين، ولا يهملون مع ذلك الأهالي بل يأتونهم بأدوية لا تتوافر لدى الجيش الفرنسي. ومن مهام الأطباء، فحص المتطوعين الجدد، واتخاذ القرار بقبولهم ورفضهم، حسب حالتهم الصحية.
كان مما لاحظته أثناء مقامي في المناطق التي زرتها: أن جنود جيش التحرير يحترمون بكل دقة قوانين الحرب، والدليل على ذلك، ما شهد به أسيران من الجيش الفرنسي التقيت بهما، فقالا: خرجنا من مراكزنا لنأتي بالماء على البغال، ولكننا وقعنا في كمين، فيئسنا من الحياة، واعتقدنا أننا لن نرى فرنسا أبد الدهر. واليوم وجدتهما يعيشان بين المجاهدين، ويأكلان مما يأكلون ويطالعان الصحف، ويبعثان بالرسائل إلى عائلتيهما. وقد أكد لي المسؤولين في تلك الناحية أنهم كلما أغاروا على قرية لتدميرها، بادروا قبل كل شيء إلى إبعاد المدنيين. وقد سمعت من أفواه جنود عديدين أن قائد وحدتهم، أمرهم في بعض الكمائن بإيقاف إطلاق النار عندما شاهد سيارة مدنية في وسط قافلة عسكرية، وقال لهم:(لا ترموا المدنيين! لا ترموا المدنيين!).
ثم إن جيش التحرير الوطني، يعلم يقينا، أنه جيش وطني يجاهد من أجل الحصول على السيادة الوطنية لبلاده، ولست ترى وحدة لا تحمل العلم الجزائري المحمول على طرف بندقية الجنود. وإن كل وحدة من وحدات جيش التحرير الوطني (بوهران) لتهتز طربا للانتصارات التي تحرزها وحدة أخرى في مناطق (قسنطينة أو الجزائر) وإنها لتتألم أيضا عندما تبلغها ما تتعرض له (قبائل الأوراس) من التعذيب الذي يسلطه عليها الفرنسيون، ذلك أن كل مجاهد من مجاهدي جيش التحرير يدرك أنه لا معنى لجهاده اليومي إلا داخل إطار الجهاد الذي يخوضه مجاهد آخر في الطرف الثاني من القطر الجزائري، ولذلك، يتابع كل مجاهد تفاصيل العمليات التي تقع في الجزائر - العاصمة - أو في بلاد القبائل الكبرى أو في جبال الأوراس. هذا وتعمل معظم
الوحدات في الجهات التي تنتمي إليها، ولكن المجاهد من (بسكرة) أو من (قسنطينة) - على سبيل المثال - والذي فر من الجيش الاستعماري، والتحق أثناء المعارك بالمجاهدين، يجد بطبيعة الحال مكانه بصفوفهم، حتى لو كان ذلك بعيدا عن المنطقة التي ينتمي إليها. ويتغنى المجاهدون بأناشيد وطنية تربط بين كفاحهم من جبال (الأوراس) إلى جبال (تلمسان) ومن ذلك نشيدهم.
من بلادنا طلع صوت الأحرار
…
ينادينا للاستقلال
ينادينا للاستقلال
…
الاستقلال لوطننا
تضحيتنا للوطن خير من الحياة
…
أضحي بحياتي وبمالي عليه
يا بلادي يا بلادي
…
أنا لا أهوى سواك
قد سلا الشوق فؤادي
…
وتفانى في هواك
من جبالنا
نحن سور بك دائر
…
وجبال راسيات
نحن أباء الجزائر
…
أهل عزم وثبات
من جبالنا
نحن بالأرواح نفدي
…
كل جزء من ثراك
إننا أشبال أسد
…
فاصرفينا لعداك
من جبالنا
تظهر الوحدة والتلاحم بين الجيش والشعب كل يوم في الأقوال والأعمال، ويؤكد ذلك عمق ما يجمع بينهما من روابط اللغة والدين والأرض والعادات. ورغم جميع الكوارث والنكبات فإن الفلاح الجزائري لم يهمل أخلاقه الطيبة. ولم ينس تقاليده الأصيلة
التي اشتهرت بها الخيمة والمنزل في الجزائر. فصاحب الدار يقدم بنفسه للجنود الماء، ليغسلوا أيديهم ووجوههم في الصباح وقبل الأكل وبعده. ويعرض عليهم كذلك عند نزولهم عنده الشاي والقهوة. ولا يمكن أن تسمع في جيش التحرير كلمة نابية -بذيئة -. والكل ينادي الآخر بعبارة (يا أخي أو - يا صاحبي!). وهم يتذوقون حلاوة النوادر المضحكة ذاتها، ويستمتعون بالأغاني الشعبية التي توحي بها المعارك البطولية، وكثيرا ما يساهم الجنود في حراثة الأرض التي تركوا خدمتها مند ما يقارب السنتين.
وبما أن جيش التحرير يضم أغلبية ساحقة من أهالي البادية، فإنه يشتهر بذات الصفات التي اشتهروا بها، وأبرزها: الصبر والصمود والبساطة. ويملك معظم الجنود قطعا صغيرة من الأرض كانوا يعملون فيها بأيديهم، ومنهم من كان يعمل عند المعمرين، من غير أن يكون له مورد رزق آخر. ولذلك، فإن جيش التحرير يضم جماعة ممن تطوعوا للحرب في (الهند الصينية) للحصول على مورد للرزق.
وأما سكان المدن، فيمثلهم في جيش التحرير أولئك العمال الذين عاشوا طويلا في فرنسا، وأولئك الطلاب الذين كانوا في معاهد الجزائر أو فرنسا، والتحقوا بالجبال. وكذلك الأطباء الذين هجروا مراكزهم وانضموا الى الجيش كجنود. والحقيقة هي أن العناوين ليست هي المقياس في الاضطلاع بالمسؤوليات، إنما هي الكفاءات، ولذلك فإنه كثيرا ما يكون قائد الوحدة عاملا أو فلاحا بسيطا كونه الكفاح والجهاد.
إن جيش التحرير الوطني الجزائري هو جيش ثوري، ومعنى ذلك أنه يتكون في معظمه من الشبان الذين يدفعهم الإيمان،
وتربطهم أواصر الأخوة. ومن هؤلاء الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين سنة، يتخرج الضباط والقادة العسكريون والمسؤولون الحربيون من بين المئات والألوف من المواطنين الجزائريين الذين تقول فيهم أغنية شعبية:
(إن شباب اليوم شابت رؤوسهم)
غير أنهم احتفظوا بالرغم من ذلك، بحيويتهم وابتسامتهم وإيمانهم بالمستقبل، وقد لمست عمق هذا الإيمان في مناسبات كثيرة، وهو الأمر الذي تبرزه محادثة أجريتها مع أحد المجاهدين، حيث قال لي ببساطة: هل يحسب المستعمرون أن أولئك الذين صعدوا إلى الجبال سوف ينزلون منها، قبل أن يحصلوا على الاستقلال، ولو فرضنا أنه لم يبق بالجزائر إلا امرأة واحدة، إلا امرأة عمياء، فإنها لن تتردد في حمل السلاح والكفاح من أجل وطننا. ولو فرضنا أن تلك المرأة قد استشهدت بدورها أثناء اضطلاعها بواجبها، فإن الجزائر كلها، الجزائر التي أبيد أهلها وأحرقت غاباتها سوف تثور حجارتها على المستعمر الطاغية).
وعندما يتحدث المجاهدون فيما بينهم عن مشاريعهم في المستقبل، فإنهم لا يقولون مثلا:(في اليوم الذي يقف فيه القتال) وإنما يقولون: (في يوم الاستقلال). هذا وإن المسؤولين لا يتم تعيينهم في مواقع المسؤولية تبعا لكفاءتهم العسكرية والقيادية فحسب، وإنما تراعى زيادة على ذلك أقدميتهم في العمل الثوري قبل اندلاع الثورة، ولا يحتمل القائد أثناء التدريب أي تقصير أو تهاون، ولا يقبل أية مخالفة أو تمرد على الأوامر، ولكن شرفه لا يسمح له في الوقت ذاته بإهانة الجندي أو التصغير من شأنه. إذ أنه يعتبر كل واحد نفسه أنه مجاهد يؤدي
واجبه وفقا لعزته وكرامته. وإن أشد ما كانوا يبغضون في الجيش الافرنسي إقدامه على ضربهم وإهانتهم. ولهذا فإن الاحترام يسود علاقاتهم. وتعتمد الأخوة التي تؤلف بين قلوبهم على المساواة التامة فيما بينهم، وعلى الشعور العميق بالصداقة، والبساطة التي تتصف بها علاقة الجندي بقائده، فهم يأكلون من طعام واحد، وينامون على حصير واحد، ويتصدون لأخطار واحدة. وإن أسخف الأكاذيب التي ترددها الدعاية الاستعمارية هي ما يرمون به القادة من التهرب من مواجهة الأخطار، وتعريض الجنود لها. وقد قال لي أحد المسؤولين:(إن حياتي ليست ذات أهمية تفوق أهمية حياة أي مجاهد آخر، طالب مثلي أو فلاح أو عامل). وفعلا فقد استشهد هذا المسؤول في أول معركة، وهذا برهان على صدق قوله، كما يكفي لتأكيد هذا القول ما يردده الجميع، قادة وجنود، بقولهم:(إن الشعب أعز علينا من عيوننا، وإننا لنفتخر به).
وأعترف أنني لم أتمكن من التجول في مجموع الجهات التي تقع تحت نفوذ جبهة التحرير الوطني، ولكن شاهدت كثيرا من البراهين والدلائل التي تؤكد أن جبهة التحرير الوطني وجيشها يسيطران على مناطق واسعة جدا من الوطن الجزائري. فهذا مسؤول حضر من منطقة الجزائر أو قسنطينة أو الجنوب، وهذا جرح أوتي به من مكان بعيد، وهذا جندي فر من الجيش الفرنسي من نقطة بعيدة عن النقطة التي يوجد بها الآن. ولاحظت أثناء تنقلاتي بين الدواوير والمداشر أن الجيش حاضر في كل مكان، وأن نفوذ الجبهة موجود في كل موضع، وقد صرح لي مسؤول قائلا: (إننا لا نريد إظهار قوتنا إذا كان في ذلك ضرر للشعب،
ولهذا تجدنا نوصي المواطنين بالامتثال إلى عمليات - إعلان الولاء - التي تنظمها السلطات الفرنسية حتى لا يكونوا عرضة لقمع لا فائدة منه). وهذا ما جعل نظام الجبهة يختفي أحيانا في الظاهر فقط، في جهات كاملة، وبالعكس من ذلك، فإن الإدارة الفرنسية أصبحت معدومة في الواقع.
وهكذا، نرى السكان المدنيين يعيشون بصفة سرية في جزائر مستقلة، يديرها جزائريون وفقا لتجاربهم الخاصة، نعم، إن السلطات الاستعمارية لا زالت تفرض الضرائب على الأهالي في الجهات التي تتمركز فيها قواتها، ولكن سجلات الأحوال المدنية فارغة، إذ صار المواطنون يسجلون مواليدهم لدى الإدارة الجزائرية، ويحتكمون إلى محاكمهم الشعبية في جميع المنازعات المتعلقة بالأملاك والإرث والطلاق، الذي لم يعد فيه للزوج التصرف المطلق. كما أن الإدارة الجزائرية تحمع الضرائب، من غير أن تفرض على الأهالي مبالغ باهظة على نحو ما كان يفعله المستعمرون، فكل فرد يدفع ما هو مناسب لوضعه، حتى المعمرون الذين صاروا يعترفون بنفوذ إدارة الجبهة باتوا يقدمون الضرائب لجبهة التحرير الوطني. وتتحمل الإدارة الأهلية مقابل ذلك أعباء نفقات عائلات المجاهدين والمنفيين والمسجونين والمبعدين والشهداء من الجنود والمدنيين وحتى عائلات الخونة الذين أعدموا. وقد قضى جيش التحرير على أبغض ممثل الإدارة الاستعمارية مثل (الشنابط) و (القياد) الذين عوضوا بضباط الشؤون الأهلية. وإذا بقي قائد في منصبه من غير أن يستقيل، فذلك لأنه متفق مع الجبهة ومتعاون معها.
إن الجبهة منظمة شعبية، تضم في صفوفها كل مواطن، ولا
المرأة المسلمة - صمود في مواجهة الاستعمار
ترفض من صفوفها إلا أولئك الذين اشتهروا بتواطئهم مع الاستعمار، وهي قبل كل شيء منظمة الشعب التي تعمل لتحقيق التحرير الوطني، ولكل فرد منها مسؤوليته:(إذ إن الشعب هو العين التي يرى بها جيش التحرير، وإن جيش التحرير هو عمدة الشعب). هذا ما قاله لي أحد المجاهدين. وفعلا، فإن وحدات جيش التحرير لا تستطيع العيش بدون تأييد الأهالي لها، فهي تجد عندهم السلامة وحفظ أسرار التنقلات والمأوى والمأكل والمساعدة في تأدية العمليات الضخمة مثل تلك التي سمحت في صيف سنة 1957 بقطع مائة كيلو متر من الأسلاك الشائكة وتدميرها في ليلة واحدة على الحدود المغربية ويشكل المواطنون، بالنسبة إلى جيش التحرير، جيشا آخر من العيون والحرس الذين يراقبون تحركات العدو، ويكشفون عملاء الاستعمار. فتجد مثلا الراعي الصغير الذي لا يتجاوز عمره الخمس سنوات، يرد على كل من يسأله عن حركات المجاهدين بقوله:(إني لا أعرف اللغة العربية) وهو يقول ذلك بالعربية، ثم يمضي لشأنه مرفوع الرأس. وقد تحدث في بعض الأحيان مناقشة بين العسكرين والمدنيين ولكن ذلك لا يؤدي إلى أي اصطدام بين الفريقين، إذ أن لكل منهما أن يحل مشاكله أمام الهيئة المشتركة من الجبهة والجيش. وتقوم الإدارة الجزائرية، باستمرار، بإدخال تطورات عميقة على نظام العيش في البوادي. وهي تكتفي في كل مرحلة، بتطبيق المباديء التي تسمح لها بتكتيل الشعب وتوجيهه نحو هدف واحد. وقد نجحت الجبهة في الوصول إلى هذا الهدف، إذ لم يعد هناك أثر للمنازعات التي كان يغذيها الاستعماريون، وأصبح باستطاعة المجاهد أن يأتي من جهة بعيدة ليأخذ مكانه في خيمة، أو تحت سقف، قبيلة أخرى، ويجلس بين أفرادها، وهو
جالس بين أهله وإخوانه، إنه جزائري. فكيف نسمي هذا الجهاد؟ ..
إننا نسميه (ظهور العدالة). إن هذه الحرب هي من نوع الحروب التي تنطوي على معنى أن الانتصار الذي سوف يتحقق، سيكون نتيجة انتصار قوة على أخرى، وسيكون خاتمة تطور وتحسن ثورة عسكرية وسياسية ومادية. والدليل على ذلك أن الثورة التي بدأ بها عشرات المجاهدين لا يمتلكون أكثر من بنادق للصيد. ولم تمض عليهم إلا سنة واحدة حتى صاروا آلافا من المجاهدين، يقاتلون بأسلحة عصرية، ويسيطرون على مناطق واسعة. ولم توجد قبل ذلك إلا بعض الخلايا الثورية السرية التي باتت بعد ذلك تشكل منظمة شعبية تقود الكفاح، وليست هذه النتائج كلها إلا مرحلة من مراحل الثورة. أما النتيجة الأخيرة، فسوف تظهر في المستقبل، وقد عبر عن ذلك مجاهد فلاح في هذه الكلمات:(لقد حرثنا الأرض، وبذرنا، وما تراه اليوم ليس إلا نبتة أولى، أما الحصاد فموعده الغد).
ولقد قضى الجزائريون وقتا طويلا لتحقيق وحدتهم، وهذه الوحدة الملموسة هي أساس قوتهم. وهذا ما عبر عنه فلاح مجاهد أيضا بقوله:(كان الشعب ينتظر بلهفة أكثر من لهفة الجائع الذي يترقب نضح الثمار حتى يسد بها رمقه). إن الاستعمار يمثل لنا سلسلة من المصائب التي حملها معه المعمرون والإدارة الفرنسية، ولم يكن لنا حول أمام هذه الإدارة سوى الرشوة نعطيها للموظفين كلما اضطررنا إليها. إني فقير الحال، ولست أملك إلا قطعة صغيرة من الأرض أحرثها وأعيش من زرعها. وكلما أقبل الشناء ذهبت إلى الغابة لأقطع شيئا من الحطب، وأصنع منه كمية من
الفحم، وإذا عثر علي حارس الغابة، فإنه يفتك مني الفحم والبغل، وحينئذ أجد نفسي مضطرا إلى شراء بغلتي ودفع غرامة مالية تتراوح بين الخمسين والمائة ألف فرنك، هكذا كنا نعيش. أما المعمر، فإنه لا يشبع من ضم أراض جديدة الى ممتلكاته وهو لا ينفك يحتال على الفلاحين البؤساء مثلي ليأخذ أراضيهم. وبما أنني أجهل
القراءة والكتابة، باللغتين العربية والفرنسية، فإنه تمكن من تغليطي ببعض الأوراق المزيفة، وهكذا سلبت مني أرضي. وبحثت عن أرض أستأجرها - أكتريها - ولكن الأرض باهظة الثمن ولم تبق لي إلا وسيلة واحدة أرتزق منها وهي العمل على الطرقات وتكسير الحجارة. وليس ذلك بالعمل السهل، إذ أن الشرط الأول لتحصل على هذا العمل هو دفع ألف فرنك إلى القائد هذا إن رضي بها وحتى ذلك العمل لم يدم طويلا، فاضطررت عندئذ إلى طلب العمل عند المعمر الذي افتك مني أرضي. والمعمر لا يدفع الأجور إلا حسب مشيئته. وإذا اشتكينا، فإنه يهددنا بالفصل عن العمل، أو يرمي بنا في السجن، وبذلك نضطر للخضوع لشروطه حتى لا تبقى عائلاتنا طعمة للجوع. وفي النهاية، لا يبقي لنا الاستعمار، وأجهزته من إداريين ومعمرين، إلا زوجاتنا وأولادنا.
وهذا ما كان يضطر الجزائريين إلى بيع أجسادهم عن طريق الانخراط في القوات الفرنسية العاملة في الهند الصينية. وهكذا فإن الاستعمار وأجهزته ومن يمثله باتوا في نظر الشعب: (أبغض مخلوقات الله على الأرض).
إن مجاهدي الجزائر لا يعتبرون في ثورتهم المشاكل المحلية فحسب، وإنما أصبحوا ينظرون إلى وطنهم بجميع ما يشتمل عليه من ثروات معدنية، وأرض خصبة وغابات رائعة، ولهذا فإنهم لا
يهدفون إلا لشيء واحد هو تحرير الوطن بكامله فهم مقتنعون بأن الاستقلال هو الضمان الوحيد لتمكين الشعب من السيطرة على توجيه مصيره. وكثيرا ما سمعت الجزائريين يؤكدون أن اليوم الذي يقبلون فيه إصلاحات (لاكوست) سيكون نهاية الحياة في الجزائر، إذ أن الشعب الجزائري يريد حكومة منبثقة عن الشعب تكون مسؤولة أمامه. وإذا ما أراد المعمرون البقاء في الجزائر، والعيش فيها، فما عليهم إلا أن يخضعوا لسلطة جزائرية. وأكد لي أحد المسؤولين موقف الثورة بقوله:
(إننا نحارب من أجل التحرير الوطني، وإن جهادنا لا يقوم على التعصب العرقي - العربي - ضد الأوروبيين، أو التعصب الإسلامي ضد المسيحيين).
وقد أكدت مشاهداتي ومحادثاتي صحة هذا التصريح. وما على (السيد سوستيل) إلا أن يزور الثوار إذا ما أراد أن يتحقق من وجود شبح (التعصب العربي). وإذا كان هناك تعصب فإن الفرنسيين هم السبب في تكوينه، إذ أن المجاهدين لم يكونوا أبدا لينشغلوا بظاهرة التعصب لولا العدوان الفرنسي. وليس أدل على عدم تعصب الجزائريين من معاملتهم للأسرى الفرنسيين معاملة طيبة، وكذلك فرار الجنود من الجيش الفرنسي، وهم يعلمون يقينا أن أفرادا أوروبيين، وحتى يهودا، يخوضون الحرب داخل إطار جبهة التحرير من أجل تحقيق هدف واحد. وإذا ما كان يجهل ذلك، فإنه سيجد من يخبره به، وكثيرا ما سمعتهم يقولون لبعضهم:(تذكر يا أخي، أن هناك أجانب يكافحون إلى جانبنا). وإذا تناقش المجاهدون في مسألة الإصلاح الزراعي، فإنهم يتفقون على أن ذلك مبدأ يجب على الحكومة الجزائرية أن تطبقه في
المستقبل على كبار الملاكين سواء كانوا أوروبيين أو مسلمين.
لقد لاحظت أن كثيرا من جنود جيش التحرير متأثرون شديد التأثر بالدين الإسلامي. ولهذا فإنك تجدهم متصفين بأخلاق أوصى بها القرآن الكريم، سواء في معاملاتهم للجار أو في معاملتهم للأمير والعدو. فهم يدركون أعمق الإدراك مشاعر التضحية والأخوة والكرامة الإنسانية، واحترام الآخرين والعدالة
…
وأخيرا فهذه رسالة، في جملة (وثائق الثورة) تظهر الروح الحقيقية لمجاهدي الثورة:
الجمهورية الجزائرية.
الولاية (1) - المنطقة (1) الناحية (4) القسمة (2).
إخواني الأعزاء رجال لجنة الشعب رقم (2) أحييكم وشعبكم وأرضكم وسماءكم، شاكرا جميلكم على الرسالة التي وجهتموها إلي، مخبرين إياي على حياتكم في تاريخ اليوم، معلنين لي رغبتكم للقيام بزيارتكم، وإني أبتهل الله الكريم أن يمنحني فرصة التقابل معكم، سواء في هذه الدنيا التي نجاهد فيها، أو في الآخرة التي سنحيا مرة أخرى فيها.
أيها السادة! إن الاستعمار إذا خرج من مقركم الحالي، بكل قواه، فهو ما زال في وطنكم، وفي بلدان تجاوركم. وعليه يمكنني أن أقول لكم جميعا، اليوم يجب عليكم أن تحتفظوا بأنفسكم من جهته أكثر ولا تغتروا بأنه بعيد عنكم، هو والخونة
الذين يبغضونكم وما زالوا في تتبع آثاركم. فعليكم بهزيمتهم دائما، لتبقوا وشعبكم دائما منتصرين. فإلى الأمام، ولشعبكم مني ومن كل المواطنين هنا أحر التحية وأزكى السلام.
(الإمضاء: أخوكم في الجهاد عبد القادر)
في 20/ 6/ 1961م.