المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مهمة في الأغوار - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٢

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ مهمة في الأغوار

5 -

‌ مهمة في الأغوار

(*)

نحن الآن في (شبكة متليلي - في شعامبا) وهي منطقة جبلية وصخرية تضم أربعة أودية متوازية مقفرة لا تنبت إلا باقات متناثرة من الأعشاب اليابسة، تنمو على جنبات الهضاب، وفوق المنحدرات الشمالية لهذه الأودية. وإلى الجنوب من هذه المنطقة، ظهرت هناك كثبان رملية تناثرت فوقها حزم من الأعشاب التي تنتمي إلى فصيلة نبات (الحلفا) والتي يطلق عليها اسم (الدرين). وكانت هذه الجنبات الصخرية تجف بواد صخري مقفر من الزرع والشجر. وكانت الفسحة ما بين الأودية تشكل مسطحا صخريا يختلف عرضه ما بين (25) و (35) كيلومترا.

نحن الآن، برفقة قافلة عائدة من (وادي زرقون) وقد تسلم قيادتها مجاهد (اسمه باحفص) واجبه الوصول بالقافلة إلى الولايتين الخامسة والأولى. وكانت هذه القافلة تضم (24) جملا محملا بالمواد التموينية والأسلحة والأدوية والذخائر - ومعظمها إيطالي المنشأ، تم جلبها من المملكة الليبية. ووصلت القافلة إلى مركز القيادة في (غوفافا) وذلك بعد أن أعطت عناصر الاستطلاع الذين

(*)

RECITS DE FEU- P.P. 194 - 202. PAR: DAHMAN RAMDAN.

ص: 186

كانوا يراقبون المنطقة من أعلى المرتفعات، كلمات التعارف. وما إن وصلت القافلة إلى المعسكر، حتى انصرفت الكتيبة التي كانت ترافق القافلة، وتفرقت هنا وهناك، لتحتل أمكنتها المخصصة لها في الخنادق والملاجىء. وتوجه قائد هذه الكتيبة لمقابلة المسؤول عن الثكنة (إبراهيم دهان) ليقدم له البريد الذي يحمله، وليرفع له تقريرا شفهيا عن تنفيذ المهمة، وعما توافر لديه من معلومات متعلقة بحالة طرق المواصلات، وحركة القوات الفرنسية في الإقليم. وقام المسؤول (إبراهيم دهان) في الوقت ذاته، بإبلاغ قائد الكتيبة عن حركة العدو في المنطقة، وقوات الدعم القادمة من (غرداية) و (الأغواط) و (ورقلة). بهدف دعم الفوج المتمركز في (متليلي). وقد تم السماح للكتيبة إثر هذه المقابلة بالانضمام إلى بقية الرجال لأخذ قسط من الراحة. وارتفع ضجيج الأصوات مختلطا بضحكات الرجال وقهقهتهم وهم يذكرون لإخوانهم قصة معركة (جبل فرنسا) التي خاضوها حديثا، والتي كانت أول وأضخم معركة من معارك الصحراء. وفي الوقت ذاته، انصرف أفراد الكتيبة التي رافقت قافلة الإمداد، للحديث عن رحلتهم، مع مناقشة نتائج معركة إخوانهم الكبرى. لقد كانت قيادة الكتيبة تجلس على موقد من الجمر وهي تحاول معرفة أهداف العدو. وأصدر القائد أمره إلى الكتيبة بمرافقة المجاهد الأخ (بوجمعة) للتوجه مسافة أربعين كيلومترا، حيث الطريق الذي يصل (متليلي) بقرية (غزيلات) الصغيرة، حيث توافرت معلومات تشير إلى توجه مركبات مثقلة بالحمولة إلى هذه القرية. وجاءت تقارير عديدة من عناصر الاستطلاع ذكرت أن القوات الفرنسية تحشد قواتها في ثكنة عسكرية تقع في (غزيلات).

ص: 187

شكلت الكتيبة دورية لتنفيذ هذه المهمة، وانطلق أفرادها ركوبا بأعلى الجمال، وبمسافة مائتي متر تفصل كل فرد عن الآخر. وكان عدد أفراد هذه الدورية ثلاثة مجاهدين فقط، هم (سي بوجمعة) وهو قائد فصيلة ومحارب قديم اشترك في حرب الهند الصينية، واقتصر تسليحه على مسدس رشاش وقنبلتين يدويتين. و (سي الأخصر) وهو من الأنصار - مسبل - انضم إلى قوات المجاهدين حديثا. و (دهمان رمضان) وهو من الأنصار أيضا، غير أنه مضى عليه وقت طويل في الجهاد مع قوات جيش التحرير - أكثر من عام - ولم يكن الاثنان الأخيران يحملان من السلاح إلا السكين المعروفة باسم (بوسعدي) وهي سكين معروفة تماما لدى أبناء الصحراء.

هبط الليل على الصحراء، ووصلت الدورية إلى مكان يحمل اسم (ساقلات الدريك) حيث ظهر لها سرير الوادي والطريق الصاعد نحو أعالي الهضبة، فعقل أفراد الدورية جمالهم، وتابعوا طريقهم سيرا على الأقدام. وإذ ذاك ظهر لهم بصورة مباغتة. وعلى البعد، ضوء يبهر الأبصار، وأنذر (سي بو جمعة) رفيقيه بقوله:(لقد وصلت قافلة من المركبات) وأمرهما باتباعه، ثم حدد لكل واحد منهما موقعه وهو يقول لهما: اعملا على عد المركبات، وتحديد نوعها، وحاولا معرفة ما تحمله. وما لبث صوت هدير المحركات أن تزايد اقترابا شيئا فشيئا. وتمركز أفراد الدورية في مخابئهم. وأخذت عربات النقل (الكميونات) في تسلق المرتفع وهي تزمجر وتزأر. وكان قلب كل فرد من أفراد الدورية يخفق بشدة متزايدة مع اقتراب العربات ومرورها من أمامه. لا سيما وأنها كانت المرة الأولى بالنسبة للمجاهد (دهمان رمضان) حيث يجد نفسه على مسافة قريبة جدا من هذه العربات الكبيرة (الكميونات)

ص: 188

فأخذه نوع من الفزع، وارتفع صوت الطنين في أذنيه، وتدفق العرق غزيرا من ظهره وثنايا جسمه، وكاد يرتفع صوته بالصراخ عندما مرت به ناقلة نصف مجنزرة كادت تلامس جسده.

وانقضت لحظة متطاولة بعد مرور المركبة الأخيرة، وأطلق (سي بوجمعة) صرخة حادة أيقظ بها رفيقيه من ذهولهما، فأسرعا إليه وقدما إليه تقريرهما الشفهي وهما يرتجفان خوفا من أن يتضمن تقريرها شيئا من الخطأ: كانت القافلة مكونة من (17) عربة نقل - كميون - بينها (14) مثقلة بحمولتها من الذخائر والمواد التموينية والجنود. وكانت هذه القافلة محمية في مقدمتها بدبابة ومدرعتين خفيفتين، مع مدرعة وسط القافلة وأخرى في مؤخرة القافلة. ثم جلس أفراد الدورية لفترة قصيرة، ثم قال (سي بو جمعة) بغتة لرفيقيه:(هيا بنا! فلنخرج!). غير أن ضوءا يخطف الأبصار، قطع عليهم أنفاسهم، وأرغمهم على الجلوس في أمكنتهم. وتقدم (رئيس الدورية - سي بوجمعة) خطوات، ثم قال لرفيقيه:(إنهما مركبتان: سيارة خفيفة (جيب) وسيارة نقل (كميون)). وأمسك بمسدسه الرشاش بغتة وهو يقول: (سنهاجمهما) وتذكر بأن رفيقيه لا يحملان السلاح، فأخرج قنبلتيه اليدويتين، وأعطاهما لرفيقيه، وشرح لهما كيف يستخدمانهما. وأظهر لهما المكان المناسب لوقوفهما، وشرح لهما بهدوء تام، ومرات متتالية، ما يجب عليهما عمله لتنفيذ المهمة وأخيرا قال لهما بلهجة جافة وحازمة:(عليكما بعد إلقاء القنبلتين الصعود إلى المرتفعات، فإذا ما سمعتما صياح ديك، فانضما إلي).

ترك رفيقيه وهما جاثيان على ركبتيهما، ومضى يزحف كالثعبان على الطريق. ووصلت المركبة الأولى (سيارة الجيب)

ص: 189

إلى بداية الطريق الصاعد، وأخذت في تسلقه بيسر وسهولة. في حين كانت المركبة الثانية - الكميون - تصعد بعناء، حتى كاد ضجيج المحرك يهدد بالانفجار. وفي هذه الفترة كان الوجيب قد عاد قويا إلى قلب (دهمان رمضان) من جديد، واصطكت ركبتاه، ومرت من أمامه سيارة الجيب وتجاوزته، ووصله صوت رفيقه وهو يحذره بصوت منخفض ويقول له:(إن عربة النقل - الكميون - تقترب) وأثناء ذلك، كانت سبابة يده اليسرى ممسكة بحلقة القنبلة اليدوية بينما كانت أصابع يده اليمنى تحيط بأخاديد القنبلة وتشد عليها بقوة. ومزقت وحشة الليل بغتة صرخة حادة:(الله أكبر) وتبعتها أصوات الرصاصات المنطلقة من المسدس الرشاش. واهتز الرجلان وكأنهما استفاقا من ذهولهما، وقذفا بقنبلتيهما وهما يصرخان بدورهما (الله أكبر) وانبطحا أرضا. غير أن رأس (دهمان رمضان) اصطدم بصخرة كبيرة وهو ينبطح فأصابه ما يشبه الدوار والإغماء، غير أن أصوات الانفجارين وما تبع ذلك من ضجيح دفعه للوقوف حتى يعود للسقوط من جديد. وجمع كل قوته، ونهض بغتة فانضم إلى رفيقه الذي كان يتقدمه. ووصل الاثنان إلى المرتفع، فعادا وانبطحا أرضا. وقد التصق رأس كل واحد منهما بالأرض. ووصلهما بعد ثوان (صياح الديك) فأيقظهما وأوقفهما، ودفعهما إلى الركض حتى الطريق، ثم توقفا ليبحثا في وسط الظلمة عن رئيسهما ورفيقهما الذي ناداهما للمرة الثانية من جوف الوادي، فتدحرجا على منحدر الوادي، وانضما إليه.

كان بوجمعة ممسكا بيده بمصباح كهربائي، وهو يفتش عربة النقل الكبيرة - الكميون - والتي هوت من ارتفاع ثلاثيق مترا فتحطمت، واختلط حديدها بزجاجها المهشم، مصطبغا بلون

ص: 190

الدماء، كما التصقت الألبسة باللحم، ولم يكن بالامكان متابعة النظر في هذا المشهد. إذ تصاعد إلى حلق كل من المجاهدين شعور بالحاجة للتقيؤ، وفعلا ذلك مرات متتالية. بينما كان (سي بوجمعة) يتابع التفتيش، فأخذ بارودة السائق (وهي بارودة ماس - 36) وأعطاها إلى (دهمان رمضان) ومعها نطاق يحمل الذخيرة. وظهر نور شاحب أصفر يبشر بظهور القمر على خط الأفق. وإذ ذاك التمعت على سطح الأرض علب المحفوظات (الكونسروة) المتناثرة، وكذلك الرزم والصناديق المنتشرة هنا وهناك، وكانت بعض الصناديق لا تزال سليمة وقد قذفت بها عربة النقل أثناء سقوطها وانقلابها على مجنبتها. وجرى بعد ذلك تفتيش العربة الخفيفة - الجيب - فتم استخراج مسدس رشاش ومزودة تحتوي على ثمانية مخازن محشوة بالرصاص، أعطاها (سي بوجمعة) إلى رفيقه (سي الأخضر). وبعد ذلك استدار (سي بوجمعة) حول العربة، ودفع الضابط القتيل وانتزع منه نطاقه الذي كان يعلق فيه مسدسه. ومضى مبتعدا عن رفيقيه اللذين قاما بجمع الأسلحة وحملا قربة ماء وبعض المعجنات (كاتو) والشوكولا. وابتعد قليلا عن المكان واضطجعا أرضا وأخذا في تجربة سلاحهما واختباره وهما يفكران بأمر مهمتهما، حتى إذا ما انقضت عليهما ساعة من الزمن وهما صامتان، قام أحدهما بقطع حبل الصمت وهو يقول لرفيقه:(ما أجمل ضوء القمر، لقد تغيرت ظلال الأشياء، غير أن (سي بوجمعة) قد تأخر، وأخذت أشعر تجاهه بالقلق).

لم تكن مرابط الجمال بعيدة عن المكان، وهيمن خوف من اصطدام رئيس الدورية بالعدو، الأمر الذي أخر وصوله. وكان لا بد من العودة إلى مركز القيادة قبل الفجر، حتى يتم تجنب كل طارىء

ص: 191

مشؤوم، وحتى يتم الوصول بالإمدادات - الغنائم - وهي في حالة سليمة. ونهض (دهمان رمضان) من مكانه، وتنكب بندقيته، وسحب مغلاقها نحو الخلف، وأدخل طلقة في حجرة الانفجار الفارغة، وأعاد المغلاق، وأحكم رتاجه، فيما كان رفيقه يتابعه بنظره متظاهرا باللامبالاة. غير أن (دهمان) بادره بقوله: إني ذاهب لإلقاء نظرة إلى الوادي. وأنا لا أشعر بالارتياح. فإذا لم أعد، أو لم أتمكن من الرجوع، حتى ظهور الفجر، فموعدنا في مركز القيادة، على أمل اللقاء هناك).

وهنا قرر (سي الأخضر) مرافقة (دهمان) وعدم تركه ليذهب وحده. وانطلق الاثنان يهبطان المنحدر بيسر وسهولة. وكانا يتناوبان التقدم، حيث يتوقف أحدهما مراقبا بينما يسير الآخر لمسافة عشرين مترا، يتوقف بعدها حتى يلحق به رفيقه ويتقدمه عشرين مترا أخرى وهكذا

إر أن وصلا أسفل المنحدر فشاهدا أشباح عشرة من الجمال الواقفة وهي تأكل حزم الأعشاب القليلة في الوادي. وانبطح الإثنان على كثبان رملي. وتساءلا عن سر وجود هذه الإبل في هذا المكان؟ وعما إذا كانت تابعة للواء الهجانة (المهريين) الأعداء؟ وأرسل (دهمان) عواء يشبه صوت (ابن آوى) ثم أتبع ذلك بعد فترة قصيرة بصوت مماثل، وكرر ذلك ثالثة، غير أنه ما من أحد أجابه. فكان لا بد من إجراء استطلاع لمعرفة أصحاب الجمال. وتقدم الرجلان بحذر وهما يقفان عند كل خطوة، حتى وصلهما صوت وشوشات وهمسات قادمة من اتجاه يسارهما، فاتجها نحو مصدر الصوت ليتوقفا بغتة إذ وقع نظرهما على خيمة (كندية) تتربع على المرتفع المقابل لهما. ونظر كل إلى صاحبه نظرة التساؤل: إنهم من (القوم) - فلماذا لم يتدخلوا عندما وقع الاشتباك - لعلهم لم

ص: 192

المجاهدون يقاتلون في أصعب الظروف

ص: 193

يتبينوا بوضوح مصدر الصوت. فتوقفوا في هذا الوادي منتظرين الفجر للقيام ببحثهم وتفتيشهم؟ وظهرت للرجلين مرة أخرى ضرورة العودة بسرعة للوصول إلى مركز القيادة لتقديم تقرير عن كل ما أمكن لهما مشاهدته واكتشافه.

وفي هذه الثانية، وقع أحد الرجلين بقدمه على طبق من النحاس، فتصاعد ضجيج الأقداح التي كانت متربعة على الطبق النحاسي وهي تتدحرج. وانطلق النور من مصباح يدوي متجها نحو الرجلين. ونهض ثلاثة من الرجال، وهم يقولون بصوت واحد:(من هناك). ولدى سماع الصوت، أطلق الرجلان نيرانهما. وصرخ الرجال الثلاثة وهم يسقطون صرعى مضرجين بدمائهم. وعلى البعد، تردد الرصاص المنطلق من مسدس رشاش وهو يمزق بصداه وحشة الليل وظلمته. وشعر الرجلان بفرحة تهز كيانهما، إن ربهما (سي بو جمعة) لا زال حرا وهو على قيد الحياة. فانطلقا للبحث عنه، واللقاء به، ومضت ساعات من البحث من غير جدوى، حتى كأن الثلاثة كانوا يلعبون لعبة (الاستغماية) بين الكثبان الرملية، فيما كان صفير الرياح، وزئير رصاص، يمزق سكون الفضاء. وأصاب الفزع خمسين جملا، واهتاجها، فمضت تضرب في الوادي جيئة وذهابا. وظهرت بغتة

إلى يمين الرجلين (دهمان رمضان) و (سي الأخضر) مجموعة من عربات النقل - الكميونات - وعربات نصف المجنزرة، وهي تهبط المنحدر، وعندها شعر الرجلان بأن ضوء النهار قد اقترب. وصرخ (دهمان رمضان) برفيقه:(فلننسحب). وتسلقا الهضبة، ومضيا في سيرهما على خط الذرى.

***

ص: 194

انحدر الرجلان إلى الوادي، وإذ ذاك استقبلهما صفير الرصاص وهو يحرث الهواء من فوق رأسهما، فاستدارا إلى الخلف، ووقع بصرهما فورا على ناقلة مدرعة - نصف مجنزرة - وهي تقف إلى جوار تلك التي تم تدميرها في الليل. فانبطح الرجلان أرضا، وما كادا يفعلان ذلك حتى جاءت رصاصات مدفع رشاش لتحرث الأرض من أمامهما. ونهض الرجلان، وأسرعا بالسير عدوا طوال ربع ساعة، وربما أكثر، حتى صارت أقدامهما تصدم بعضها بعضا لشدة ما أصابها من الإعياء، وحتى غرقت ثيابهما بمياه عرقهما، وكاد صدريهما يتمزقان، ووصل قلباهما إلى حلقاهما. ونظر كل واحد منهما إلى الآخر للحظة قصيرة، وجلسا أرضا وقد أسندا ظهريهما إلى صخرة ضخمة. وبللا شفاههما بما أمكن لهما تجميعه من اللعاب في فمهما. وطلب (دهمان رمضان) من رفيقه إعطاءه قربة الماء لتناول جرعة منها. فنظر إليه رفيقه (سي الأخضر) ثم خفص من بصره وهو يجيبه على سؤاله:(لقد تركتها في مكانها). وتبع ذلك صمت ثقيل، هو صمت الموت البطيء من العطش. لقد كانت مدينة (متليلي) تقع إلى يمينهم، وفيها الماء والراحة في مئات الملاجىء، غير أن الوصول إليها عبر الطريق المكشوف - الأجرد - يعني الموت الحتمي. أما إلى يسارهما فكان (الحماد) حيث قبور الظمأ وفيها الموت الحتمي أيضا. حيث يمكن تحديد مكانهما واكتشاف أمرهما بسهولة. وظهر لهما أن الموت يتربص بهما في كل مكان، ولم يبق عليهما إلا اختيار الميتة التي يرغبان فيها حتى ينالا ميتة مشرفة تليق باسم (المجاهد). فنهضا وسارا متجهين نحو (متليلي) ولم يتوقفا إلا بعد سير ساعة من الزمن، عندما كان يقترب منهما صوت هادر لمحرك آلية (مركبة) تسير في اتجاههما.

ص: 195

أسرع الرجلان باللجوء إلى كهف أسعفهما وجوده بالقرب منهما. وعادا صاعدين بعد أن ابتعد الصوت عنهما، ونظر (دهمان رمضان) إلى رفيقه (سي الأخضر) فوجد أن عصبة رأسه (الشيش أو العمة) مصطبغة بالدماء، فنظر إليه نظرات ذاهلة، فقال له (سي الأخضر) متسائلا:(ماذا بك؟) والتقت نظراتهما، ثم عاد (دهمان رمضان) بنظره إلى عصبة الرأس، وقال لرفيقه:(هل أنت جريح؟) وهتف هذا: كلا. ووضع يده على عصبته وسحبها، فظهر له أنها غارقة بالدماء. وعندها عاد فنظر إلى رفيقه من جديد، وقد جحظت عيناه. وأخذ (دهمان رمضان) من رفيقه عصبة رأسه وأعاد طيها مخفيا جلطات الدم المتخثرة، فيما كانت قطرات كبيرة من الدم تنساب على كتف رفيقه. وظهر أن رصاصة قد أصابت جلد الرأس ومزقته بشدة. فأخرج (دهمان رمضان) عودا كان يحمله وسحقه بين حجرين وصنع منه ضمادا ضاغطا عصب به رأس رفيقه. واستأنف الرجلان مسيرهما. وعندها ظهرت لهما طائرة عمودية (هيليكوبتر) وهي تحلق فوق رأسيهما، وترسم في الفضاء دوائر واسعة هنا، وهناك، ثم تنقض مقتربة من الأرض لتعاود ارتفاعها من جديد. وهكذا. فما كان من (دهمان رمضان) إلا أن قال لرفيقه:(لا تتحرك! قف، فأية حركة ستودي بنا!). وأكملت الطائرة العمودية جولتها خلال عشرة دقائق، ثم قامت بجولة أخيرة، وهي تبتعد نحو الجنوب لتختفي وراء الأفق. وقال (دهمان رمضان) محدثا رفيقه:(هيا بنا! فالوحدات الآلية - الميكانيكية - للعدو تبحث عنا، وكذلك تفعل قوات المهريين (الهجانة) وهي تقتص أثرنا. ولم يعد لدينا ما يكفي من الوقت، إذ يجب علينا الوصول إلى الأغوار قبل هبوط الظلام، لا

ص: 196

سيما وأن العدو يركز بحثه في اتجاه الإقليم الصحراوي - حيث الحماد).

تابع الرجلان طريقهما بخطوات متسارعة، ونسي (سي الأخضر) ألم جرحه، وأخذ عصف الريح يشتد أكثر فأكثر، وكانت عقارب الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر (1400). وبدأت قوة الريح في التعاظم حتى أنها أعاقت تقدم الرجلين وقاومته، - كما كانت الرمال التي تحملها الريح تشكل سياطا تصفع الرجلين صفعا مؤلما. وتزايدت صعوبة التقدم وأصبحت أكثر إرهاقا فانحنى الرجلان وانكمشا في محاولة لإنقاص سطح المقاومة. وقال (سي الأخضر) لرفيقه (ستنقذنا هذه العاصفة إذ أنها ستجعل من الصعب البحث عنا. فصبرا!). وتبع ذلك صمت قطعه بعد ذلك (دهمان رمضان) بقوله:(الحمد لله، ها قد وصلنا الأغوار!) ، وأشرق وجه (سي الأخصر) للحظة قصيرة غير أن ابتسامته ما لبثت أن غاضت خلف سحابة من الحزن. وأخذ الرجلان في تسلق المرتفع الصخري وقد اقتلعا بعض الشجيرات لاستخدامها في التمويه. وظهر لهما فرن نصف متهدم وقد بني بالجص فرفع الإثنان ما به من الرماد، ودخلاه، ورفعا ما معهما من الشجيرات فوق رأسهما. لقد أصبح الطريق إلى (الغولة) و (ورقلة) وراءهما، أما الطريق إلى (متليلي) فلم يكن يبتعد عنهما بأكثر من ثمانمائة متر، وهو يمتد من أمامهما. وكان يظهر لهما على البعد المطار والطريق المؤدي إلى (غرداية). ووقف (سي الأخضر) وقال لرفيقه:(لم تعد لدي قدرة على الاحتمال، فرأسي يكاد ينفجر، لم أعد أحتمل، وإذا كان لا بد من الانتهاء، فلتكن نهاية مجيدة). غير أنه لم يكد ينهي قوله، حتى ارتفع صخب يصم الآذان، وظهرت قافلة من عربات النقل -

ص: 197

الكميونات - وهي تسير متجهة نحو (متليلي). وجذب (دهمان رمضان) رفيقه من ذراعه، وقال له:(انظر! إلى أين تريد الخروج، وماذا تستطيع أن تفعل بمسدسك في مواجهة مئات الجنود؟) غير أنه لم يقتنع بما قاله رفيقه؛ فحاول الوقوف، وجذبه رفيقه مرة أخرى وهو يقول له:(هل جننت؟). وأجاب (سي الأخضر) رفيقه وهو ينظر إلى الأفق البعيد: (لم يعد باستطاعتي البقاء هنا، إنني أختنق، فلنضع نهاية لذلك مرة واحدة وإلى الأبد). ودفع بيده شجرات التمويه، وأسرع خارجا. كانت القافلة بعيدة عنه، ونظر إليه رفيقه (دهمان رمضان) وهو يمضي نحو الطريق، وقد أصابه نوع من الجمود فلم تصدر عنه أية حركة، وتابع ببصره رفيقه حتى وصل إلى ارتفاع الطريق.

وفي تلك اللحظة، ارتفع ضجيج طائرة عمودية - هيليكوبتر - كانت تتجه نحو المطار وما إن سمع (سي الأخضر) صوتها حتى استدار نحوها، ورفع رأسه، وأمسك صدمه بيده، واجتاز الطريق عدوا - ركضا -. ورأته الطائرة، واقتربت منه، ولم يعد باستطاعة (دهمان رمضان) الانتظار في مكانه، فنهض وتنكب بندقيته، ووقف منتظرا. وانطلقت رصاصتان، فأسرعت الطائرة العمودية بالصعود إلى الفضاء، ثم عادت للهجوم. وأسرع (دهمان رمضان) لمغادرة الفرن، متجها وهو يركض نحو هضبة لا تبتعد عنه بأكثر من خمسين مترا. وقذف بنفسه في أخدود شكلته مياه ساقية أثناء سيرها بين (غورين من الأغوار). واقترب هدير محرك الطائرة العمودية، وإذ ذاك انفجرت دفعة جديدة من الطلقات التي أطلقها (سي الأخضر) من مسدسه على الطائرة. وتبع ذلك مزيد من اطلاق النار استمر لعشرة دقائق. وعرف (دهمان رمضان) وهو في مخبئه نتيجة

ص: 198

الاشتباك. فانسابت قطرات كبيرة من العرق على جبينه، واجتاحت كيانه نوبة من الضيق الشديد كادت تخنقه. وانطلقت صيحة من بين شفتيه. وتدحرجت قطرات من الدموع على خديه. فيما كانت الطائرة العمودية تتابع جولاتها ذهابا وإيابا مستفيدة من بقية ضوء النهار. وشعر (دهمان رمضان) بنوع من اللامبالاة، فلم يعد يهتم بما يحيط به من أخطار، لقد كانت دموعه لفقد رفيقه تدفعه نحو التهور.

سمع (دهمان رمضان) وهو لا زال في مكانه من الساقية، ضجيج محركات المركبات - السيارات - وهي ترتفع وتهبط حتى كأنها محاريث قوية جاءت لتقلب عالي الأرض سافلها، ولم تكن هذه المركبات بعيدة عن مكمن المجاهد (دهمان) الذي عرف بأن القوات الاستعمارية قد انتشرت في مواقعها بهدف تمشيط المنطقة. بمذراة دقيقة، الأمر الذي سيمكنها من إلقاء القبض عليه. فقال لنفسه:(يجب عدم تمكينهم من إلقاء القبض عليك حيا!) لقد كان يعرف ما تعنيه كلمة (الأسير) من تعذيب وتشويه وآلام. فتحسس سلاحه، لقد كان مخزن البارودة فارغا إلا من طلقة واحدة. وبسط يده إلى مزودته، وأفرغها، فلم يجد فيها غير ثماني طلقات، وهذا كل شيء. فأي أسلوب تعبوي - تكتيكي - يستطيع استخدامه؟. إن عليه مغادرة هذا المكان، للوصول إلى (متليلي) قبل هبوط الظلام، فإذا لم يتمكن من ذلك، فإنه لن يستطيع رؤيتها أبدا. وعليه أيضا الاقتصاد في استخدامه لذخيرته، بحيث أن كل طلقة يجب أن تصيب هدفها. وكل طلقة تصرع عدوا. ويجب الاستعداد لاستقابل الموت عندما لا تبقى إلا طلقة واحدة. وها هو جندي فرنسي يقترب

ص: 199

من (دهمان) الذي أمسك سكينه وغرسها في جنب عدوه، وصرخ هذا صرخة حادة، وسقط صريعا، وأمسك (دهمان) بسلاحه وانطلقت رصاصة؛ فأصابه ألم حاد دفعه للصراخ: لقد احترقت. وأصابه مغص أليم حمله على الجمود في مكانه. غير أنه ما لبث أن أفاق من ذهوله، ونظر فيما حوله، فرأى شبحا يتقدم نحوه.

وأثناء ذلك هبت عاصفة قوية حملت معها الرمال والغبار والحصى، فأعاقت الرؤية. فما كان من (دهمان) إلا أن أغمض إحدى عينيه حتى يستطيع النظر بصورة أفضل، ورأى شبحا ثانيا، فثالثا، فرابعا. وكان أفراد دورية العدو يتجهون نحوه. ونسي في هذه اللحظة كل شيء، وانتابته موجة من الحمى فقال لنفسه:(يجب أن أصرعهم جميعا!). وأمسك بندقيته، وتنكبها، وسدد نحو الشبح الأول، وأطلق رصاصته التي مزقت العتمة، وهوى الجندي وهو يطلق صيحة الموت، وتدحرج مرتين على نفسه واستقر جثة هامدة. وخيم الصمت لثوان قليلة، بدأ بعدها صليل الأسلحة. وانطلقت رصاصات مرت من فوق رأس (دهمان) وضاعت في المرتفعات وعاد الصمت من جديد. وظهر شبح إلى جوار (دهمان) الذي لقم سلاحه وأطلق رصاصته بسرعة مذهلة، وأطلق الشبح صراخا وهو يسقط على ظهره. وجاء الرد في هذه المرة سريعا، إذ انطلقت نيران رشاش من الهضبة المقابلة، واختلطت أصوات الضجيج، وأخذت النيران تنطلق من الهضبتين المتقابلتين. وإذن فقد وقع (دهمان) بين نارين. فقرر هذا الانسحاب والوصول إلى المرتفعات حيث يمكن له بلوغ نقطة أكثر ارتفاعا من ذروتي الهضبتين، وبحيث يمكن له أيضا تكبيد العدو خسائر أكبر، حتى لا يموت رخيصا.

ص: 200

اشتدت حميا المعركة بين الهضبتين، وامتد اللهيب إلى كافة المرتفعات. وابتسم (دهمان) وراودته رغبة في الضحك بصراخ مرتفع، فما أجمل أن يقتتل جند الجيش الاستعماري فيما بينهم؟ وفكر (دهمان) بإنقاذ نفسه، والوصول إلى غايته بأسرع ما يمكن، متجنبا كل صدام مشؤوم، أو الإصابة برصاصة طائشة. فأخذ يتقدم في الاتجاه المضاد، وبدأ هبوطه على امتداد الساقية. سار المجاهد (دهمان) طويلا، وهو محني الظهر قدر المستطاع، حتى نال منه الإعياء كل منال والتمع برق في السماء، مبشرا باقتراب هطول المطر، وشعر (دهمان) بثقل في قدميه، وبدوار في رأسه، فانبطح على صدره، وقال لنفسه بصوت خافت:(لم يعد ينقصني إلا النوم، ولا زالت - متليلي - تبعد مسافة خمسة عشر كيلومترا وهذا ما يتطلب السير لمدة أربعة وحتى خمسة ساعات) فقرر البحث عن ملجأ يقضي فيه الليل، قبل أن يحاول الوصول إلى المدينة في اليوم التالي. وعثر على ثغرة تتسع لشخص واحد على أن ينام وهو مثني القدمين. ولم يكن هذا الملجأ بالمكان المريح، غير أن الموقف لم يكن يحتمل خيارا آخر. فزج (دهمان) نفسه بالثغرة، محاولا أن يتحسس بأصابعه جوف الثغرة، إذ لم يتمكن من دخولها إلا بنصف جسمه. وزاد من سوء الموقف هطول المطر بغزارة. ولمست أصابع (دهمان) صخرة صخمة حاول زحزحتها بجميع يديه، غير أن جهوده عجزت عن تحقيق الهدف. وكرر (دهمان) محاولته مرات عديدة، حتى بلله العرق، وأخيرا اكتفى بوضع صف من الحجارة أوصد بها فتحة الثغرة. ووضع بارودته جانبا، وتمدد أرضا وهو يشعر بالراحة، فيما كان يصيخ بسمعه لأصوات المطر وهو يقرع بحباته الكبيرة الصخور الصامدة. وانصرف تفكيره عن المعركة، واجتاحه شعور

ص: 201

بالأمن، فراح في نوم عميق.

استفاق (دهمان) على ثغاء قطع من الأغنام، وشعر أنه مصاب (بالحمى). إذ كانت قطرات من العرق البارد تنساب على صدغيه، وقلبه يخفق بقوة، مع صعوبة في التنفس. وأقبل راعي الأغنام فقدم الماء لهذا البائس، واستعلم منه عما يجري في المنطقة. وكلفه بإبلاغ (سي طيب بن عبد القادر) عن مكانه. وأصبح باستطاعته أخيرا الوصول إلى (قسمة شاعمبا). وانتهت بذلك مهمته. وكان لا بد له من الراحة قبل إرساله في مهمة جديدة.

ص: 202