الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
التطور الثوري في الشمال القسنطيني
وصلت الثورة الجزائرية بعد انقضاء السنوات الأولى من الصراع المرير، إلى مرحلة متقدمة من التنظيم الشامل، وإذا كانت (الولاية الثانية - أو ولاية الشمال القسنطيني) هي إحدى ولايات الكفاح التي كان لها شرف السبق في التطور الثوري، فإنها بالمقابل قد تعرضت لقسط أكبر من ويلات الحرب. ولكن، وبالرغم من ذلك فقد أمكن للقيادة الثورية فيها، كما في غيرها، تجاوز كل المحن والمصائب، وإجراء التطور الضروري للتكيف مع الظروف المتجددة باستمرار. وقد يكون من المناسب ملاحظة ملامح ذلك التطور عبر ولايات الكفاح كلها، من خلال ما حدث (في الولاية الثانية)(1) من تطور.
إن تصور مدى ما بلغه جيش التحرير الوطني من التقدم، وما أمكن له إحرازه من انتصارات، هو أمر يتطلب بالضرورة العودة قليلا لاستقراء ملامح الأساليب التعبوية (التكتيكية) والتي طبقها الجيش الفرنسي في سنتي 1955 - 1956، ضمن إطاز محاولة
(1) من حديث مع قائد الولاية الثانية (علي الكافي - كولونيل) ونشرته مجلة (المجاهد) الجزائرية 16/ 4/ 1959.
القضاء على الثورة. ومن المعروف أن المرحلة الأولى من هذا التكتيك كانت تتمثل في نظام التربيعات (الكادرياج). وهو نظام يتلخص بإقامة مراكز عسكرية متعددة في مختلف الجهات التي انتشرت فيها الثورة، والمقصود من تلك المراكز هو محاصرة تحركات جيش التحرير الوطني، وخنق الجهاز التنظيمي الذي تقوم عليه حياة جيش التحرير في المشاتي والقرى ومحاولة القضاء على جميع العناصر المدنية والعسكرية العاملة في الثورة.
وبعد فشل هذه المحاولة، لجأ العدو إلى أسلوب جديد هو أسلوب (التجمعات) الذي يتلخص بإجلاء السكان المدنيين عن المناطق التي تتمركز فيها الثورة، وجميعهم في مراكز قرب الجيش الفرنسي، ومهدوا لهذه العمليات بمسألتين، أولاهما: إعلان المناطق المحرمة التي تشمل ثلثي مساحة (الشمال القسنطيني). وثانيتهما: تنظيم عمليات مسح كبرى (راتيساج) لنقل المدنيين وإجلائهم بالقوة عن مساكنهم، وخلال هذه العمليات كان الجيش الفرنسي يقتل أو يحمل معه جميع الحيوانات التي يصادفها في طريقه، كما يدمر جميع مصادر الحياة. وقد اضطر الجيش الفرنسي إلى اتخاذ هذه الطريقة بعد أن سيطرت الثورة على مناطق شاسعة، أصبح هو عاجزا عن الدخول إليها، وكان مقصوده من ذلك هو عزل جيش التحرير عن السكان، وحرمانه من الاتصال بهم، ومن العون والمؤونة التي يجدها عندهم، ريثما يقضي الطيران شيئا فشيئا على جيش التحرير. وقد توهم العدو أنه بهذه الطريقة قد قسم الأرض تقسيما طبيعيا بفصله الجبال عن السهول. وتوهم أنه وضع بذلك حاجزا حصينا بين جيش التحرير والسكان. لكن الذي غاب عن الجيش الفرنسي هو أن جيش التحرير الوطني
موجود في كل مكان. وأنه رغم إقامة (المناطق المحرمة) فإنه لم ينقطع أبدا عن سيل المعلومات التي كان يحتاج إليها، كما أنه لم يفتأ، رغم التجمعات من البقاء على اتصال دائم بالسكان، بل لقد تبين للجيش الفرنسي أن هذه المناطق المحرمة أصبحت خطرا عليه أكثر مما هي لفائدته، فقد قطعت عليه الاتصال بالمناطق المحرمة، وانقطع عن التزود بالمعلومات عن تحركات جيش التحرير، إذ لم يعد في اسطاعته إرسال جواسيسه وأعوانه إلى مناطق الثورة (المحررة) للتزود منها بالمعلومات عن تنقلات قوات جيش التحرير ونشاطها. لقد أراد العدو فصل الثورة عن قاعدتها الشعبية، فكانت النتيجة أن أصيب هو بالعزلة التامة، ولم يعد يعرف شيئا عن نشاط جيش التحرير، وأصبح من جراء ذلك في خوف دائم من الهجمات المفاجئة والكمائن المباغتة.
أدرك قادة الجيش الفرنسي أنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة في الميدان العسكري. وكان شعورهم بالفشل قاسيا، فبحثوا لأنفسهم عن غطاء يسترون به هذه الهزيمة. فكان انقلاب (13 - أيار- مايو- 1958) والذي أزال (الجمهورية الرابعة) وجاء جمهورية ديغول (الخامسة). وحاولوا تصوير هذا الانقلاب على شكل انتصار سياسي كبير. وقد كنا نتوقع حدوث مثل هذا الانقلاب، ليس فقط لأنه يمثل التطور الطبيعي للأحداث منذ (6 شباط -فبراير - 1958) حيث وقع العدوان على الحدود التونسية (حادثة ساقية سيدي يوسف). ولكن لأننا كنا بالإضافة إلى ذلك على علم بالاتصال القائم بين غلاة المستعمرين وبين قادة الجيش الفرنسي. وقد كان هدف غلاة الاستعمار هو تأكيد استعدادهم لقلب كل حكومة تفكر بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني. وقد بدأت هذه
الاتصالات قبل (13 أيار- مايو) بزمن طريل، حيث عرضوا على (الجنرال ماسو) أن يعمل معهم على إعداد الجهاز الذي ينفذ الانقلاب، فرفض، فهددوه بالقتل، فقبل وخضع لهم، وعرضوا المسألة ذاتها على (الجنرال سالان) فرفض بدوره ولذلك حاولوا اغتياله في (حادث البازوكا الشهير- في أول سنة 1957). ورغم أن (سالان) لم يشترك معهم، فإن الاطارات العسكرية الكبيرة قد رضيت بهذا العمل لأن شعورها بمرارة الفشل العسكري جعلها تبحث، كما قلنا، عن تعويض لذلك، وتوجه مسؤولية خيبتها إلى الجهاز السياسي الفرنسي المتمثل في حكومات (الجمهورية الرابعة) والاستعداد لقلب هذا النظام (الفاسد) وهذا هو سر الالتحام الذي وقع في الماضي بين قادة الجيش الفرنسي وغلاة الاستعمار. كما أننا علمنا قبل (أيار مايو- 1958) أن (جاك سوستيل) له ضلع كبير في تهيئة الانقلاب، وأنه ينوي الحضور إلى الجزائر لقيادته وتنفيذه.
لقد شعر الجنود الفرنسيون بعد (13 أيار - مايو) بفرحة كبيرة، وراحوا يرقصون ويغنون ويشربون. لقد توهموا أنها نهاية الحرب، وأنه لم يبق أمامهم إلا العودة إلى بلادهم وعائلاتهم وذلك طبيعي. لقد أفهمهم قادتهم أن حكومات الجمهورية الرابعة هي المسؤولة عن هزائمهم، وعن استمرار الثورة، فكان من البدهي أن يتصوروا قرب نهاية الحرب بعد أن أسقطت الجمهورية الرابعة، وتم إبعاد رجالها السياسيين. ولكن لم يروع الجنود الفرنسيين بمثل ما روعوا عندما تسلموا تعليمات جديدة تحذرهم من التمادي بالمرح، وتحثهم على مواجهة جيش التحرير الوطني مرة أخرى، فكانت خيبة أمل الجنود الفرنسيين عاملا جديدا زاد من تدهور
روحهم المعنوية. ولئن زعم جهاز الدولة الفرنسية أن الفرنسيين كانوا كلهم كلمة واحدة يوم (13 أيار - مايو). فقد كنا نحن نعلم خلاف ذلك، إذ كنا على علم بوجود هيئات فرنسية تناهض (13 - أيار - مايو) وتقاوم رجاله.
جاءت بعد ذلك (معركة الاستفتاء) لتشكل معركة سياسية كبيرة، استعد لها الفرنسيون عسكريا وسياسيا. وكان هدف الفرنسيين هو جمع الجزائريين بالقوة وإظهارهم في مظهر من رضي بالاستفتاء. لكن جيش التحرير الوطني كان قد استعد بدوره لمواجهة العدو في هذه المعركة، فعبأنا المناضلين في حملة مضادة للحملة الفرنسية، ووزعنا تعليمات خاصة إلى جميع المسؤولين لينسقوا أعمالهم. وأصدرنا نشرات خاصة لإيضاح حقيقة (حركة - 13 أيار - مايو) و (بالجنرال ديغول) و (مجازر 8 أيار- مايو - 1945) التي حدثت في عهد الجنرال (ديغول) وأصدرنا نشرات خاصة بالنساء، مع تكليف النساء المثقفات باللغة العربية، للاتصال بالنساء، وأن يشرحن لهن دور المرأة في مقاومة حملة الاستفتاء الفرنسية. وكنا في الميدان العسكري على استعداد أيضا لمواجهة العدو، ووعدنا جميع المدنيين بأنهم لن ينفذوا أوامر العدو. وحدثت منافسة بين سكان البوادي وسكان المدن، أيهم يكون أكثر التحاما مع الثورة، وتنفيذا لأوامرها، وأفسدنا جميع خطط الجيش الفرنسي الذي كان مقسما إلى فرق لحراسة الصناديق، وأخرى للدعاية بالأبواق، وأخرى لرد الهجمات المتوقعة. وقدر العدو اتساع الحملة التي نظمناها، فحاول مكتب الدعاية الفرنسي (المكتب الخامس) أن يرد علينا في نشرات خاصة، لكنها في الواقع لم تزد على أن أسهمت في نشر حججنا
وأقوالنا، إذ كانت تنقل فقرات من نشراتنا لترد عليها ردا متهافتا ضعيفا. ورغم أن العدو قد أجرى الاستفتاء في البوادي قبل الموعد الذي كان حدده، فإنه لم يجد أمامه إلا الفراغ، إذ أن سكان البوادي كانوا قد لجأوا إلى قواعدنا واحتموا فيها. أما سمكان المدن فقد أظهروا شجاعة كبيرة، رغم ألوان الإرهاب الفرنسي التي سلطت عليهم. وأحرزنا فعلا انتصارات سياسية وعسكرية هامة ; وخرجنا بنتيجة ملموسة، ازداد الشعب الجزائري فيها نضجا ووعيا.
لم نكن نتوقع بداهة أن تتحدث الصحافة الفرنسية عن هذه الانتصارات، فقد تعودت تلك الصحافة أن تعمل في خدمة الاستعمار - إلا أقلها - وأن تصمت عن ذكر الحقيقة حتى ولو كانت صارخة، فمن ذلك سكوتها عن الخيبة التي مني بها (ديغول) في زيارته الأولى للجزائر، وخصوصا عند مروره بمدينة (قسنطينة) ولم تتعرض ولو بكلمة واحدة للمظاهرة التي نظمها الجزائريون بعد خطابه، وفي نفس المكان، وهي مظاهرة ضمت الشبان والشابات وهم يهتفون (تحيا الجزائر) و (تحيا جبهة التحرير الوطني) و (يسقط سوستيل) كما صمتت الصحافة الاستعمارية عن الهجوم الذي قام به بعض الفدائيين على الحرس الخاص المرافق للجنرال (ليعود) في قلب مدينة (قسنطينة) أثناء مروره بين الحديقتين الواقعتين بين (ساحة لابريش) و (باب الوادي). وسكت أيضا عن الهجوم الذي قتل فيه ضابط وجرح اثنين من بين الضباط الذين كانوا ذاهبين من (الميلية) لمقابلة (ديغول).
لقد تصدى الفرنسيون (المستوطنون) للثورة منذ البداية، غير أن عداء هؤلاء للثورة ليس على درجة واحدة، ومن الممكن تقسيم
الأوروبيين - عامة - إلى قسمين: (الطبقة المتوسطة) وهذه لها موقفها السلبي سواء من حكومتنا أو الحكومة الفرنسية، وكل ما تأمله هذه الطبقة هو أن تحدث معجزة تحل (المشكلة الجزائرية) وقد أبدوا مخاوفهم من مستقبل الاستقلال أن يقضي على مصالحهم لأنهم يريدون البقاء في الجزائر. لكننا أفهمناهم بواسطة نشرات خاصة، وطمأناهم على مستقبلهم في الجزائر المستقلة. وهناك (غلاة الاستعمار) ورؤوس الفتنة الذين يريدون أن يمسكوا بأيديهم زمام الموقف السياسي في الجزائر وفي فرنسا، وهؤلاء تبينوا الآن أن آمالهم في (ديغول) قد تبخرت، وأغضتهم بعض تدابير (الجنرال ديغول) مثل الفصل بين السلطات المدنية والعسكرية، وإبعاد بعض القادة العسكريين المشتغلين بالسياسة، كما أغضبهم صمته عن (قضية الدمج). وقد فهموا من هذه التدابير أن (ديغول) يريد القضاء عليهم، ولذلك فهم يفكرون في انقلاب جديد، وفي مجابهة كل حكومة تريد التفاوض.
أما (المعمرون) فيعرف كل واحد، أننا عندما هاجمنا مزارعهم في أول الأمر، جعلوا في كل مزرعة مركزا عسكريا لحمايتهم وحراسة ممتلكاتهم، لكن على أثر انقلاب (13 أيار - مايو) انسحب الجيش الفرنسي من بعض المزارع، ونتج عن ذلك أن فقد المعمرون ثقتهم في جيشهم، ولذلك احتجوا على الجيش والحكومة. وسبب انسحاب الجيش الفرنسي أن جيش التحرير قد تمركز تمركزا قويا وأصبح يشكل خطرا كبيرا على المراكز العسكرية الفرنسية ذاتها، ومما يجدر تسجيله هو أن اتصال المدنيين الفرنسيين بجيش التحرير قد كثر وتعدد في المدة الأخيرة، وأصبحوا يدفعون اشتراكاتهم طوعا كبقية الجزائريين، من غير أن يفرض عليهم أحد
ذلك. وعلى كل حال، فليس المدنيون الفرنسيون هم وحدهم المنقسمون على أنفسهم، بل إن العسكريين بدورهم منقسمون وممزقون أيضا. فهناك العسكريون الخلص - إذا جاز التعبير - وهناك العسكريون الذين يمارسون العمل السياسي. وقد وزعنا منشورات عديدة على الجنود الفرنسيين شرحنا فيها طبيعة المعركة التي نقوم بها. وقد أثرت فيهم تلك المنشورات حتى أن بعض الضباط أظهروا سخطهم وثاروا على قادتهم فزج بهم في السجون. كما وجهنا عنايتنا واهتمامنا الى (فرق القوم والحركة) ووزعنا عليهم منشورات عديدة، حتى صاروا ينضمون إلينا أكثر من ذي قبل، ومن المعروف أن نظام (رجال الحركة) يعتمد على المتطوعين الذين يعملون في دواويرهم، ويتم تسليحهم لمحاربة جيش التحرير، أي أن القيادة الفرنسية لا تنقلهم الى أماكن أخرى عندما تريد، كما تفعل مع بقية الجنود، كما أنها تدفع لهم رواتب وأجورا مرتفعة جدا. لكن لما كثرت عمليات انضمامهم إلينا أجبرتهم القيادة الفرنسية على التنقل من دواويرهم، وصارت تدفع لهم رواتب وأجورا مساوية لبقية الجنود. وأفاد جهاز إعلامنا - دعايتنا - من هذه المعاملة الجديدة (لرجال القوم والحركة) فوجه الدعوة إليهم من أجل الالتحاق بقواتنا. ولقت هذه الدعوة الاستجابة المناسبة.
جاءت بعد ذلك مناسبة تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فكان أول عيد يحتفل به الشعب منذ قيام الثورة، ونظمت الاجتماعات، وأقيمت الأفراح، ورفعت الرايات الجزائرية على رؤوس الجبال، وبقيت هناك أكثر من عشرين يوما. وأطلقتا المدافع إعلانا لهذا الحدث التاريخي. وقد كان تشكيل الحكومة الجزائرية عاملا هاما في تكتل قوى الشعب الجزائري،
والتفافها حول (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني). ومنذ إعلان تشكيل الحكومة ونحن نتلقى البيانات المتعددة من مجالس الشعب، وهي تؤكد لنا ولاء الشعب لحكومته، ومبايعته لها، مع المطالبة بالسلاح وبالطائرات، ومن طرائف ما سجلناه أن إحدى الرسائل التي وصلتنا كانت تقول:(أعطونا طائرات، حتى لو لم يكن لدينا وقود لها، لتسييرها، فإننا مستعدون لدفعها بأيدينا).
وخلاصة القول، فإن الثورة الجزائرية ما انفكت تسير في اتجاه تصاعدي، ففي الميدان العسكري تمكنا من تدعيم أجهزتنا العسكرية رغم المحاولات الفرنسية العديدة لإضعافنا، مثل إقامة الخطين المكهربين على الحدود التونسية والمغربية، كما حاول الفرنسيون أن يجرونا إلى المعارك الكبرى دائما، لكننا لم نقع في الفخ، ورحنا نواصل حربنا كما نريد نحن، بأسلوب يجمع بين حرب العصابات والحرب التقليدية، وبذلك تمكنا من المحافظة على قواتنا في نفس الوقت الذي كبدنا فيه العدو خسائر فادحة. واستطعنا في الفترة الأخيرة إقامة معامل خاصة لصنع الألغام ووسائل التدمير في كامل الولاية. وقد أصبحت هذه المصانع تثشكل خطرا جديدا على العدو، إذ أمكن بفضلها تدمير خط مواصلات (قسنطينة - الجزائر) وخط (قسنطينة - سكيكدة - عنابة) كما أمكن لنا بفضل وسائل التدمير هذه، تدمير محاور الاتصال وعزل قسنطينة عن العالم عزلا كاملا طوال ثلاثة أيام وحرمانها من الكهرباء والماء والمخابرات الهاتفية، وهذا ميدان لم يكن العدو متضررا به كثيرا قبل هذه المدة.
وبفضل تعاظم هذه القدرة العسكرية، تمكنا من تدعيم بقية
أجهزتنا الثورية، فقد أنشأنا اللجان القضائية المكلفة بالفصل في الخلافات (النزاعات) بين المدنيين على أسس الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأغلب أعضاء هذه اللجان من ذوي الثقافة العربية وهذه اللجان القضائية تتصل بنشرات خاصة تحدد لها البنود القانونية. كما أنشأنا اللجان الخيرية التي تتولى جمع الأموال وتوزيعها على الفقراء، وتنظيم اللجان الاحتياطية التي تشرف على توجيه المجتمع وإرشاده، ولدينا مستشفيات متعددة، وقد أنشأنا أيضا مدارس لتعليم اللغة العربية في كامل أنحاء الولاية. مع تنظيم مدارس لإعداد الأطر (الكادرات) السياسية والعسكرية. ومدرسة لتخريج الممرضين يشرف عليها دكتور في الطب.
…
لقد أدرك الفرنسيون مبلغ إحكام نظامنا، وعرفوا مدى دقته، وعلى هذا الأساس فقد حاولوا التسلل إلينا عن طريق آخر، هو طريق التفرقة بين جيش التحرير وحكومته، فزعموا أن الحكومة الجزائرية لا تسيطر على الداخل، وانطلاقا من هذا الزعم اتصل بنا قائد فرقة من (قسنطينة). وعرض علينا أن نطلق سراح أسيرين فرنسيين كانا بين أيدينا، وأن نعين له أسيرين من أسرانا يطلق سراحهما مقابل ذلك، وأدركنا هدف هذه المحاولة، وهو التمهيد لايجاد اتصالات محلية، وتعزيز فكرتهم القائلة بأن الحكومة الجزائرية لا تسيطر على الموقف داخل الجزائر. ولذلك كان جوابنا ما يلي:
(إن لنا مسؤولين سياسيين، ولكم حكومتكم، فما عليكم الا أن تتصلوا بحكومتكم، وتطلبوا منها الاتصال بحكومتنا لتسوية هذه المسألة).
لقد استشهد في الفترة الأخيرة القائدان (عميروش - مارس -آذار- 1959) و (حواس). وعلى اثر ذلك، انطلقت أبواق الدعاية الاستعمارية لتقول بأن غيابهما عن ساحة الصراع سيضعف الثورة في ولاية (قسنطينة). أو (الولاية الثانية). والحقيقة المعروفة هي أن ثورتنا ثورة شعبية، إنها لم تقم أبدا على الأشخاص بل هي ثورة يشارك الشعب كله في صنعها، ولذلك فهي لن تتوقف أبدا باستشهاد أحد أبطالها وقادتها. ولقد استشهد أبطال كثيرون، كان غيابهم عنا خسارة حقيقية لنا، لكن ذلك لم يؤثر أبدا على سير الجهاد، بل إن استشهاد كل واحد من القادة كان يزيد الآخرين حماسة للقيام بالواجب والجد في العمل طلبا لإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر. ولا أدل على الطابع الشعبي الذي تتسم به ثورتنا، أننا لم نصطدم حتى الآن بأية مشكلة في تجنيد المجاهدين لدعم قوة جيش التحرير الوطني. مع العلم أننا لا نقبل إلا المتطوعين، وبشرط أن يكونوا قد عملوا في صفوف الثورة من قبل، وبشرط آخر هو أن يكون من المحال عليهم الاستمرار في البقاء ضمن المدن.
وإذن، فدع الفرنسيين في ثرثرتهم وهذيهم يغرقون، إذ أن الواقع الجبار بالجزائر أبلغ من كل دعاية، وهذا الواقع نحن الذين نمسك بزمامه، ونحن الذين نوجهه. أجل، إن جيش التحرير الوطني هو الذي يسيطر على الموقف بحق، وهو الذي يختار ميادين المعارك كما يريد هو لا كما يريد الجيش الفرنسي. وتلك هي الحقيقة في بساطتها التي لا تحتاج الى أي تنميق أو تزويق.
تقضي الرجولة أن نمد جسومنا
…
جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا