المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بطل من الأبطال - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٢

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ بطل من الأبطال

6 -

‌ بطل من الأبطال

(*)

تمتد سلسلة جبال (تراراس) من الحدود الجزائرية - المغربية وحتى الحد الفاصل (لوهران) وهي ترتفع مقفرة وموحشة لتطاول السماء الزرقاء المكفهرة بالغيوم السوداء والتي حملها معه شهر كانون الأول - ديسمبر - 1956. حيث أخذت هذه الغيوم بإسقاط مطرها الغزير، وكأنها تحاول غسل الجبال من ثياب الحداد السوداء التي كانت ترتديها باستمرار.

نظمت هذه المنطقة في إطار (الولاية الخامسة) التي تولى قيادتها البطل الشهير (لطفي - الذي استشهد في معارك حرب التحرير). وقسمت الولاية بدورها إلى مناطق، منها:(ولد بن راشد) حيث كان هناك دوار صغير يعشش في جوف قمع ضخم شكلته سلسلة الجبال ويمتد إلى المنطقة الأولى التي تولى قيادتها الملازم (سي بن الحسين - وهو اسم حركي). وكان الوصول إلى الدوار من الأمور المتناهية في صعوبتها، إذ لم يكن هناك أي طريق يصل إليه، أوحتى أي درب، وكل اتصال بهذا الدوار مرتبط بمسلك يتلوي كالأفعى عبر (فيلاوسين) المشهورة، ويسمح بالوصول إلى

(*) RECITS DE FEU. P.P. 289 - 297. PAR: HAMMOU- C HAIB.

ص: 203

مدينة (نيدروما). وهكذا لم تكن المنطقة إلا مجموعة من الصخور والثوار والجبال. إنها مكان يبتغيه كل حالم بالراحة، وكل محتاج للامداد من أبطال المجاهدين الميامين.

تولى مسؤولية الإدارة المدنية للمنطقة شاب حمل أصالة البطولة الثورية كابرا عن كابر، وعرف باسم (مجيدي الشيخ ولد الشيخ) والذي اجتذب اسمه اهتمام كل الشعب الجزائري، نظرا لما قدمه للثورة الجزائرية من خدمات يصعب وصفها، إذ بقيت هذه الخدمات مجهولة في معظمها، ولم يعرف منها إلا النذر اليسير.

أظهر (سي الشيخ) اهتمامه بالأمور السياسية وهو لا زال في مقتبل العمر. وقد أنهى دراسته للقرآن الكريم وحفظه له وهو لما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وأخذ في التهام ما ألفه الشيخ (بن باديس) وما كتبه. حتى إذا ما بلغ التاسعة عشرة من عمره، قرر التوجه إلى (فزان) لمتابعة دراسته في علوم (التفسير). وكان يلتقي ما بين فترة وأخرى برجل أثر فيه تأثيرا عميقا. نظرا لكونه عضوا في (رابطة العلماء). وما هي إلا أيام حتى أقبل (سي الشيخ) بحماسة وانضم إلى الحركة. واكتسب (سي أحمد دبوزا) بذلك شرف ضم رجل آخر إلى الحركة، ولكن أي رجل! لقد حدث ذلك في اللحظة التي انفجرت فيها الثورة الجزائرية المسلحة. وجاء (سي الشيخ) ليحتضن طريق الجهاد المقدس. وما هي إلا فترة قصيرة، حتى ارتفع بكفاءته إلى مستوى القيادة، وأصبح مسؤولا أولا عن إقليمه، تحت توجيه جبهة التحرير الوطني. وقام ضباط جيش التحرير الوطني بتسليمه كل الأعمال الإدارية، وحملوا له كل ما يستحقه من الاحترام. ونظر إليه ضباط الجيش الفرنسي نظرتهم إلى أكبر عدو لهم، واعتبروه عقبة يجب تدميرها بكل الوسائل.

ص: 204

لم يكن (شي الشيخ) إلا زهرة في مقتبل العمر، وبالرغم من ذلك، فقد عزف عن كل مباهج الحياة، وابتعد عن مسراتها. وآلى على نفسه أن يعيش للثورة، ولم يكن هناك ما يعادل شجاعته إلا إيمانه العميق بالله الواحد القهار، وبحتمية انتصار الثورة.

أقبلت عشية رأس السنة الجديدة في يوم 31 كانون الأول - ديسمبر - 1956، واستعد الاستعماريون للاحتفال بها كعادتهم: بالطعام والشراب والرقص والغناء، فيما كان يعيش الشعب الجزائري محنته تحت وطأة التعذيب الوحشي والضغط الذي لا يحتمل.

في هذا اليوم ذاته، كانت حلقة رهيبة تنغلق بصررة بطيئة وهي تحيط (بولد بن راشد). حيث انطلق مئات الجنود الاستعماريين من كافة المراكز العسكرية المجاورة: من (سيدي علي بن زمرة) و (نيدورما) و (سيدي المشكور) و (العين الكبيرة). وأخذوا في التقدم نحو الدوار المقفر من الرجال الذين شعروا بريح التحركات العسكرية لجنود الأعداء. فلجؤوا على عادتهم إلى (الكهف). وكان هذا الكهف عبارة عن مغارة ضخمة قد لا يوجد لها مثيل في الجزائر كلها. وهو يقع عند الحد الشرقي للدوار، حيث تمتد من هناك الحقول الزراعية لجبل (القرية) في وسط نباتات كثيفة للغاية. مما حمل على الاعتقاد بأنه من المحال الوصول إليه. ولهذا فقد أعد لإنقاذ آلاف الجنود المجاهدين. ولعله من الصعب تحديد اتساعه، غير أن الأمر المعروف هو أن الزائر يستطيع السير فيه طوال خمس ساعات من غير أن يتمكن من تحديد أبعاده، حتى أنه يستطيع إيواء ألفي شخص دون أن يضيق بهم.

***

ص: 205

وصلت القوات الفرنسية، ومرت من أمام الكهف، وتجاوزته إلى القرية، ولم يكن من الغريب ألا تكتشف القوات هذا الكهف أو تتوقف عنده، فتابعت تقدمها نحو (القرية). وهي تدفع أمامها رجلين من الفلاحين اعتقلتهما في الحقول. وكان (فرضي الهاشمي) هو الخفير المكلف بحراسة مدخل (الكهف) وقد تصادف وقوفه على بعد بضعة أمتار فقط من المدخل عندما مرت به القوات، فشعر بالخطر، وأراد الدخول لإنذار الرجال الذين لم يكن عددهم يزيد على ثمانية وسبعين رجلا. غير أن حركته جاءت متأخرة جدا. فقد وصلت مجموعة أخرى من المرتزقة وهي تتقدم من الجهة المقابلة، واعتقلته. وتمت صفقة (بيع) الكهف للأعداء. وتقدم دليل يلبس ثياب الجلادين فلا يظهر منه غير عينيه. وتولى قيادة الجنود نحو الكهف. وأثناء ذلك كان (البائس - فرضي) والفلاح الآخر، قد تورما لكثرة ما نزل بهما من الضرب. وأرغما تحت سيل المطر على حفر قبرهما استعدادا لإعدامهما. غير أن حدثا أنقذهما من الموت في تلك اللحظة، إذ وصل (اللواء ماسون) قائد الدرك - الجندرمة - في (ندروما) وهبط من طائرة عمودية - هيليكوبتر - على مسافة قريبة منهما، فشهد شهادة لمصلحتهما أهام الجنود المرتزقة. بينما تابع (الرجل المقنع) مهمته في قيادة المرتزقة إلى مدخل الكهف. وقام هؤلاء المرتزقة بدفع البائس (فرضي) أمامهم بعد أن أدخلوه في ثياب عسكرية. اعتقادا منهم أن ذلك هو تدبير احترازي للمرور من الشق الضيق الذي يشكل ممرا مجاورا للمنحدر السحيق، والذي لا يسمح بالمرور لأكثر من شخص واحد. وكانت الظلمة الحالكة مسيطرة على مدخل الكهف، وسقط (البائس فرضي) بغتة إذ أصابته رصاصة انطلقت من الداخل. وأصيب

ص: 206

الإبادة في كل مكان

ص: 207

الجندي الذي كان يتقدم خلفه بجراح قاتلة، وأخذ الآخرون في القتال - قتالا تراجعيا - وهم يبتعدون متسارعين. وسع اللاجئون إلى الكهف النقاش الدائر بين جند الأعداء - باللغة الفرنسية. فعرفوا أن العدو قد اكتشف كهفهم، ولم يبق عليهم إلا الاستعداد لبذل حياتهم بثمن مرتفع، وعدم الموت ميتة رخيصة، غير أنهم لم يكتشفوا وهم في الظلمة القاتمة بأنهم قد قتلوا على غير إرادة منهم واحدا من إخوانهم.

أخذت قوات الفرنسيين في تطويق الكهف، وإحكام الحصار حوله. وقال قائد العملية معبرا عن حقده الدفين:(سيخرج هؤلاء الكلاب من جحرهم عندما ينالهم الجوع والعطش).

هيمن على الكهف صمت ثقيل بعد تلك اللحظة القصيرة من الفوضى والاضطراب. فماذا تستطيع أن تفعله هذه الحفنة من المواطنين الجزائريين في مواجهة جيش كامل؟

لم يكن لدى (أصحاب الكهف) من الأسلحة سوى مسدس رشاش، ومسدس، وبارودتين (ماس - 36) وثلاثة بواريد صيد قديمة مع قليل من الذخيرة. أما بالنسبة للطعام والتموين فقد كان باستطاعتهم الاعتماد على كيس من التين المجفف، وكيسين من الشعيرية (كعك) وخمسة (بيدونات) من صفائح البترول. وكيس من الزيتون الجاف. وثلاثة صناديق من علب المحفوظات - كونسروة - مع قليل من الخبز، غير أنه لم يكن لديهم شيء من الماء. وقد أدرك هؤلاء الرجال الخطر الرهيب الذي يتهددهم، وهو الخطر الذي تصدى زعيمهم (سي الشيخ) لمجابهته عندما وقف بينهم، وقال لهم الكلمات التالية: (إخوتي الأحباء، إنكم تعرفون الموقف بكامله. فالعدو هنا، وأمامنا، في اعتقادي، ثلاثة

ص: 208

حلول: الأول: هو محاولة الخروج بالقوة، غير أنني أحب أن أقول لكم مسبقا بأننا سنسير في هذه المحاولة إلى موت محتم بسبب قلة الأسلحة المتوافرة بين أيدينا. والحل الثاني: هو الاستسلام للعدو. وعلينا أن نتوقع في هذه الحالة من عدونا أسوأ معاملة، وسنتعرض للتعذيب حتى الموت. غير أني استحلفكم أمام الله الالتزام بالصمت، وعلى هؤلاء الذين يقررون الاستسلام ألا يعطوا الخونة الأعداء أي اسم - غير اسمي أنا - وذلك حفاظا على حياة هؤلاء الرجال الذين تحتاجهم الثورة، وتريد بقاءهم على قيد الحياة. أما الحل الثالث: فهو البقاء في الكهف والدفاع عنه، ويجب علينا في هذه الحالة أن نبرهن على تصميمنا وحزمنا وشجاعتنا، وذلك بألا نسمح لأي واحد من هؤلاء المرتزقة بالوصول إلينا. وإننا إذ نقاوم فلدينا الأمل بأن يقوم إخواننا المجاهدون بمد يد المعونة إلينا، ومحاولة بذل الجهد لانقاذنا. ولقد سبق لي أن تحدثت مع صديق لي ذات يوم، وهو ضابط في جيش التحرير الوطني، فوعدني ببذل كل جهد مستطاع، والإسراع في القدوم لمساعدتنا إذا ما تعرضنا للحصار من قبل العدو. ولا أستطيع أن أؤكد حاليا مكان وجوده، ولكن هناك يقينا (مراسل) هو في طريقه الآن إليه لإعلامه بالموقف الذي نجابهه).

لقد كان ما قاله الشيخ في الواقع حقا وصدقا، وكان الضابط الذي أشار إليه في حديثه هو القائد (بن الحسين) الذي وعد بالتدخل مع جنوده لرفع الحصار فيما إذا نجح العدو باكتشاف الكهف أو تطويقه. غير أن (بن الحسين) كان في (وجده) بالمغرب عندما وقعت هذه الأحداث. فقد خاض في المرحلة السابقة معارك ضارية، انسحب بعدها إلى القيادة العامة، وانتقل منها إلى

ص: 209

الحدود، بهدف استعادة قوته والحصول على نصيبه من الراحة، هو ورجاله. وقد وصله الإنذار بتطويق العدو للكهف فشرع فورا بالتحرك، غير أنه لم يتمكن من الوصول في الوقت المناسب نظرا لبعد المسافة الشاسعة التي كانت تفصل بينه وبين موقع الكهف.

لقد اكتسب هذا الكهف شهرة واسعة بحكم تكوينه، فهو يبدأ بمدخل ضيق يشبه الدهليز، وهو عبارة عن ثغرة واسعة لها من العمق متران، تنتهي بصالة واسعة، صالة شكلتها الصخور على شكل موقد ضخم يتسع عدة أمتار من الأصداف الصخرية الحادة والمثقبة كالغربال. وهذا الموقد ليس في واقعه إلا ممرات تنتهي، أو تنفتح على عدد غير محدود من المغاور الصغرى المتداخلة بما يشبه التيه (المتاهة). وقد يضطر المرء أحيانا للزحف مسافة عشرة حتى خمسة عشر مترا من أجل الوصول إلى غرف أو صالات رحبة، حيث تضم هذه تجاويف (أنفاق) متعرجة تتصل بدهاليز كثيرة، لا تسمح للداخل بالخروج منها إلى غيرها. ولعل أكثر ما يثير المرء عند توغله في الكهف هو تكوين تلك الصخور في داخل الكهف. والتي هي عبارة عن صخور رخامية من (المرمر).

تلك هي المغاور التي لجأ إليها (سي الشيخ) وإخوانه، وكان أول عمل قام به هؤلاء المواطنون هو تنظيم الحراسة، وتعيين المناوبين بالتتابع. وبما أن المدخل إلى الكهف يقع في مقدمة دهليز لا يمكن رؤيته من الخارج، فقد تقرر تعيين مركز الحراسة في وسط هذا الدهليز، كما تقرر أيضا إيقاد ناز ضخمة في الليل للإضاءة،

ص: 210

ولمنع كل احتمال بالمباغتة، أما في النهار، فقد كانت بعض الأشعة المتسللة من الخارج، كافية لإضاءة الدهليز. وتأمين الفترة الكافية للإنذار من أي غدر محتمل.

انقضت الليلة الأولى بهدوء وسلام. وأشرق الفجر، والمطر ينهمر غزيرا فيما كانت الريح تضرب السيل المتدفق لتجعل منه قطعا من الطين (الوحل). وعاش الدوار مع الطبيعة الباكية، فالنساء في بيوتهن يبكين في صمت مصير رجالهم، ويترقبن انقضاء اللحظات بتخوف وحزن لا حدود لهما. وعادت ثلة من الأوغاد - الجنود - إلى القرية، فهذه هي اللحظة المناسبة لممارسة الضغط الوحشي على النساء والأطفال، وبدأت عملية تدمير بيوت القرية وإحراقها، مع تعذيب الشيوخ - الكهول - قبل اقتيادهم لمرافقه الجند. وكانت زوجة (سي الشيخ) تحمل ابنها البكر وهي في شهرها السابع. وعلى الرغم من ذلك، فإن وضعها الخاص لم يشفع لها، وتعرضت لما تعرضت له من التعذيب والإهانة والمعاملة السيئة.

هبطت طائرة عمودية - هيليكوبتر - في هذه اللحظة ذاتها، على بعد مائتي متر فقط من الكهف. ونزل منها ضباط يرافقهم بعض الجنود يحملون صناديق من الأعتدة. وتم على الفور تركيب محرك كهربائي، فيما كانت المعاول والمطارق تهاجم الصخور في محاولة لشق ثغرة عميقة تصلح لاستيعاب كمية كافية من المتفجرات بهدف توسيع مدخل الكهف. غير أن الصخر الأصم امتنع على المعاول، ولم يتمكن المهندسون من تفجير أكثر من شحنتين في اليوم الواحد. وفي الوقت ذاته، كان جند الاستعمار يدفعون باستمرار أنبوبا ضخما إلى مدخل الكهف. وكان هذا الأنبوب يتصل بنفاث قوي يدفع الغاز السام بهدف خنق المجاهدين اللاجئين إلى الكهف. وتراجع هؤلاء

ص: 211

المجاهدون نحو جوف الكهف، ولم يبق في مركزه إلا أولئك المكلفين بحراسة المدخل وحمايته والذين حافظوا على مراكزهم بالرغم من مئات القنابل اليدوية الهجومية وقنابل الغاز التي قذفت نحو الداخل طوال أيام الحصار. وبعد أيام ثلاثة، أصبح الجو مسمما حتى بات من الصعب تنفس الهواء واستنشاقه. وحتى بات الهواء المسموم بالغاز الخانق حارا وحارقا. وأخذ المجاهدون في التقيؤ مرة بعد المرة. كما أخذت تنتابهم حالات من الإغماء. وبالرغم من ذلك، فقد استمر المجاهدون في مقاومتهم، وأخذوا في استخدام قطع من النسيج - القماش - يبللونها من الصخور، ويضعونها أقنعة لحماية أنفسهم من تأثير الغاز الخانق. وبدأ العطش في تعذيب المجاهدين، والضغط على بطونهم. واحتمل المجاهدون معاناتهم ببذل جهد يزيد على قدرة احتمال البشر حتى لا يفقدوا وعيهم.

كان (شي الشيخ) خلال ذلك كله، يتنقل بحركة دائمة ليجلس إلى كل مجاهد من المجاهدين، وليحدثه بكلمات تناسب وتخفف من معاناته، وتدعم من شجاعته،) فيتلو ما يتيسر له من آيات (القرآن الكريم). ويحدث المجاهدين فيذكرهم بقصص الأنبياء وما احتملوه لأداء رسالاتهم، وما عاناه أتباعهم من الصابرين المؤمنين. ولا زال من نجى من الموت يتذكر حتى اليوم ذلك الموقف الذي وقفه (سي الشيخ) وهو موقف يصعب تصديقه لو لم يعشه من نجى بنفسه. فكيف استطاع (سي الشيخ) الصمود والمحافظة على قوته. حتى يبقى واقفا كالطود؟ ألم يقف وحده، وكأنه عصبة من الرجال، في مجابهته للعدو طوال أكثر من يومين، متيقظا لأية محاولة قد يقدم عليها جند العدو للاقتراب من الكهف؟. - إنها قوة الإيمان التي لا تقهر.

ص: 212

أقبل صباح يوم 7 كانون الثاني - يناير - 1957 وقد مضى على الحصار ثمانية أيام. ولا زال المجاهدون في ملجئهم من الكهف، ولا زال الموقف خارج الكهف كما كان عليه. غير أن قوة المجاهدين قد استنزفت وأصابهم التسمم، فاضطجعوا جميعا وهم في حالة من الإغماء، وظهر واضحا أنهم اقتربوا من حافة الموت. وجلس (سي الشيخ) إلى صديقه الوفي ومعاونه (رباح شايب) وإلى بعض إخوته المجاهدين الذين أمكن لهم حتى الآن المحافظة على تماسكهم وتجلدهم وصحوهم. وفي هذه الجلسة، أخرج (سي الشيخ) من محفظته ثلاثة ملايين فرنك فرنسي (ثلاثين ألف دينار جزائري حاليا) كما أخرج مجموعة من الوثائق والرسائل وبطاقة هويته الشخصية وذلك من أجل إحراقها جميعا. وكان هذا المبلغ من المال قد تجمع من اشتراكات مجاهدي الإقليم ثم عمل على تحطيم مسدسه الرشاش على كتلة الصخور، وكذلك فعل بمسدسه وببقية الأسلحة التي تجمعت في الكهف، حتى أنه حطم ساعة يده. لقد أراد عدم تسليم شيء من الغنائم للعدو. ثم توجه لإيقاظ أخيه (بن عمار) والذي كان تلميذه في الوقت ذاته، وطلب إليه أن يتزوج زوجته (رحمه) في حالة استشهاده، وتبني الولد الذي ستلده زوجته. ثم نهض فصلى بالجماعة، وتوسل إلى من بقي في حالة من الصحو الخروج لمقابلة العدو، وشرح حالة الإغماء التي أصابت اللاجئين إلى الكهف. وقال لهم:(عليكم عدم الاهتمام بأمري، أو الانشغال بمصري. قولوا لهم بشأني كل ماترونه مناسبا لإنقاذكم. أما بالنسبة لي، فإنهم لن يحلموا برؤيتي حيا، إنني سأقتل واحدا منهم وسأموت).

***

ص: 213

على هذا خرجت المجموعة الأولى من الرجال، ولكن ما إن صنعتهم نسمات الهواء النقية حتى فقدوا وعيهم وسقطوا على الأرض، فأيقظتهم من إغماءتهم ضربات أقدام الجنود الأوغاد المشتركة مع ضربات أخماص - أعقاب - بنادقهم. وجرت مناقشة قصيرة بين المرتزقة الفرنسيين قرروا بعدها استخدام الأسرى كستار للحماية واقتحموا بهم الزوايا الأمامية من الكهف، فعثروا على كافة الرجال تقريبا. وتم إخلاء رجال المقاومة من غير مقاومة، فيما كان هدير الرعد في السماء يقصف بصورة مرعبة. واستعاد كل رجل من الرجال وعيه، ورجعت إليه أفكاره بتأثير صدمة الرعد، ومياه الأمطار التي مسحت وجوه المعذبين فأنعشتها وأعادت إليها حيويتها. وعندها أخذ المرتزقة المجرمون في إطلاق عنانهم لممارسة وحشيتهم. فبدؤوا باقتياد الرجال ودفعهم نحو الطرف المرتفع من الكهف، وانطلقوا يضربونهم بقسوة فوق الأرض المتموجة. وتطورت النوبة الجنونية - الهستيرية - لهؤلاء الأوغاد الأنذال فقذفوا بالأسرى داخل حفر عميقة تم إعدادها لهذه الغاية، فغاص الأسرى بالوحل حتى لم يعد يظهر إلا رؤوسهم المعروضة لسيل المطر، وشهدت السماء ما فعله جند الاستعمار الذين أخذوا يمتعون أنظارهم بهذا المشهد الغريب، ويشفون غليل حقدهم من مجاهدي شعب صابر. ولم يتوقف جند الاستعمار عن ممارساتهم، إلا للتأكد من شخصية كل واحد من الأسرى. وإذ ذاك تبين لهم غياب الشخص الأول الذي يريدونه ويبحثون عنه:(الثائر - أو الفلاقة - سي الشيخ). وأرسلت برقية فورية: (لا زال هناك شخص في الكهف) وأسرع أفراد زمرة من القتلة لينذروه بأنه: إذا لم يخرج خلال ربع ساعة، فسيعملون على إعدام كافة رفاقه. ولم يكن باستطاعة (سي الشيخ) احتمال

ص: 214

هذه المسؤولية، فأسرع بالخروج من ملجئه. ووقف على عتبة عرينه، شامخا، وعلى بعد أمتار فقط من الضابط الذي وقف في انتظاره.

وقف (سي الشيخ) وهو يتأمل بنظره هؤلاء الذين جاؤوا من عالم غريب ليمارسوا ما أطلقوا عليه اسم (تهدئة البلاد). لقد جاؤوا من بلاد يزعمون أنها (بلاد متحضرة) و (بلاد متمدنة) تمثل القوة فأين تكمن هذه القوة؟ وهل من القوة التعامل بوحشية مع النساء والأطفال، ومع الشيوخ والأسرى المجردين من كل سلاح؟ أية قوة برهن عليها هذا العالم النذل الجبان؟ فهل تكمن القوة فقط في كتلة هذه الدبابات الضخمة والمنتشرة في كل مكان ومعها أسراب طائراتها ومدفعيتها؟ كلا: إن القوة، كل القوة، هي تلك القدرة الكامنة في الإيمان، وبالثقة العميقة في الشعب. وتابع (سي الشيخ) التجول بنظراته الحارقة وهو يتأمل تلك الجموع من الخونة، ثم تقدم قليلا وفتشه الضابط تفتيشا دقيقا، ثم سأله عن الأسلحة، فأجاب الشيخ:(ليت لدي أيه قطعة سلاح. لقد دمرتها) وصاح به الضابط: (هيا عد، وهات ما بقي منها).

رجع (سي الشيخ) إلى المتاهة (التيه). وفي هذه اللحظة قرر يقينا المجازفة، فإما أن يكسب حريته وإما أن يموت دونها. وأخذ في انتظار اللحظة المناسبة وهو في ظلمة دهليز الكهف، متحفزا لاغتنام أول بادرة. وجاءته الفرصة غير المتوقعة، فقد تم استدعاء الضابط الذي كان ينتظره من قبل قائده الواقف مع بقية الأسرى. ولم يبق هناك غير جندي وقف منتظرا خروج الأسير من الكهف. وانزلق (سي الشيخ) برفق نحو المخرج، واندفع من الفتحة بسرعة مذهلة، وضرب الجندي على كتفه ضربة أفقدته توازنه، وقفز من

ص: 215

فوق صخرة مرتفعة، فسقط أربعة أمتار ليستقر فوق قمة الأشجار الكثيفة، وصرخ الجندي الذي تلقى الضربة، فأسرع لتلبية صراخه نفر من الجند المتعطشين للدماء وقد ساد الصخب والضجيج فيما بينهم. وبقي (سي الشيخ) مختبئا وقد حمته الأشجار من أنظار المراقبين والمستطلعين. ولم يكن باستطاعته الخروج من الغيضة الآن إلا تحت مراقبة العدو، ولا زال أمامه ثلث الجبل الذي يجب عليه أن يجتازه حتى يبتعد عن منطقة الخطر. ولم يبق أمامه إلا حل واحد للخروج من مأزقه: محاولة الوصول إلى الوادي الواقع تحته، حيث يمكنه بعد ذلك السير لاجتياز الحقول الطينية بصورة حتمية، واذا ما أمكن اكتشاف أمره عندها، فسيكون قد ابتعد مسافة لا تقل عن ثلاثمائة متر. وخلال هذه الفترة كانت هناك زمرتان من جند العدو قد انطلقتا بأقصى سرعة لهما للإمساك يمجنبتي الجبل، وقطع كل طريق للانسحاب.

وقفز (سي الشيخ) بغتة، وانطلق مسرعا - كالصاروخ - فاجتاز آخر غيضة من الغياض، وتابع مساره باندفاع مذهل في طريقه نحو السلامة، غير أنه كان باستطاعة الواقفين على مرتفعات الجبل مراقبة كل حركة، وكان الأسرى يبتهلون الله في سرهم بأن ينقذ شيخهم، ويتابعون تقدمه عبر حقول الطين وقلوبهم تخفق بشدة. وانطلقت بغتة نيران متصلة؛ وتدحرج الهارب، وأخذ يتلوى من الألم، غير أنه حاول الوقوف من جديد، فعاجلته نيران انصبت عليه كالسيل، فأغرقته ومزقت جسده. لقد استشهد (سي الشيخ). وخسر الشعب الجزائري باستشهاده مجاهدا من أفضل أبنائه المجاهدين، كما فقدت الثورة بطلا من أبطالها الذين يحق لها أن تفخر بهم على الأيام.

ص: 216

استقر جسد البطل (سي الشيخ) فوق أرض الحقول، وأحاط به قتلته وهم ينظرون إليه بحزن وأسف، لقد أرادوه حيا حتى ينفثوا فيه بعض حقدهم الأسود، غير أنه لم يمكنهم من إشفاء غليلهم ونيل مبتغاهم. وها هي حبات المطر، تأتي لتغسل له وجهه، وتكشف عن بيانه الناصع والذي كان يعبر، وهو في جموده، عن تحد مشوب بالاحتقار لهؤلاء الجنود الذين جاؤوا من العالم الغريب. وما لبث (نبلاء التهدئة) حتى انسحبوا تاركين (الشهيد) في وسط الحقول، والتحقوا بقافلة الأسرى للبدء بتنفيذ مذبحتهم، فصفوا خمسة من الأسرى أمام رفاقهم، وقتلوهم بسيل من رصاصهم، وكانوا يعتزمون متابعة العملية عندما وصلتهم الأوامر بالعودة إلى الثكنات، فتقرر نقل الأسرى إلى سجون (العين الكبيرة). وعند الاقتراب من أحد المنحدرات، اقترب الجنود من بعض أسراهم، وأقنعوهم بإنقاذ أنفسهم عن طريق محاولة الفرار، وتجربة حظهم. وأسرع أربعة من هؤلاء الأسرى في عدوهم يسابقون الريح، غير أنهم لم يبتعدوا أكثر من أمتار قليلة عندما حصدهم سيل من الرصاص، فسقط ثلاثة على الفور، وتمكن المجاهد (مجيدي حسين) من الفرار وحده، بعد أن أصابته جراح عميقة في فخذه، وأمكن له الاختفاء في ملجأ يصعب اكتشافه في غيضة من الغياض. وقد بحث الجند الفرنسيون طويلا في محاولة للعثور عليه غير أن محاولتهم باءت بالفشل (وعاد هذا المجاهد فالتحق بقوات جيش التحرير الوطني عندما شفيت جراحه).

وصلت قافلة الأسرى إلى سجن (العين الكبيرة) مع هبوط الظلام. ولم يسمح لهم بالحصول على أي فرصة للراحة، حيث بدأت على الفور عملية تعريضهم للتعذيب الوحشي على أيدي

ص: 217

جلاديهم الأعداء. وعلى الرغم من ذلك، فلم يحصل الجلادون من أسراهم على أية معلومات من تلك التي أوصدت دونها صدور المجاهدين.

علمت والدة (سي الشيخ) بمصرع ابنها وهي في (نيد روما). وكانت مثلها كمثل بقية السكان، قد غادرت الدوار، تاركة أرضها وثروتها. فاتخذت المرأة العجوز قرارها بالسير عبر دروب (فيلاوسين) الضيقة حتى ترى جسد ابنها الحبيب، وتودعه الوداع الأخير، مهما كلفها ذلك من جهد وعناء. وأمكن لها الوصول إلى (الدوار) ثم إلى المكان الذي استشهد فيه البطل. فرأت بأن الفلاحين في (عين فارو) وهو الدوار الذي يبعد مسافة أربعة كيلومترات عن (ولد بن راشد) قد قاموا بواجبهم الديني بعد ابتعاد الأوغاد، ودفنوا جثته.

مضى عام على ذلك. وفي يوم 3 آذار - مارس - 1958، على وجه التحديد، تلقت هذه المرأة الشجاعة صدمة جديدة. فقد أقدم القتلة على اغتيال زوجها، بذات الرصاص الذي قتلوا فيه ابنها، وذلك في وسط مدينة (نيد روما) ومعه سبعة من رفاقه. وكان ذلك بعد مضي ثلاثة أشهر من قصف دوار (ولد بن راشد). وهو القصف الذي أزال هذا الدوار من عالم الوجود.

ص: 218