الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
مواقف لا تنسى
(*)
تعتبر العدالة الفرنسية في الجزائر، أن كل جزائري هو إنسان (مشبوه) وأن كل مشبوه يجب أن يكون (مجرما). وأن كل مجرم يجب أن (يحاكم) وكل من يحاكم يجب أن (يعدم). وهذه هي المعادلة البسيطة التي سار على نهجها القضاء الفرنسي في الجزائر، طوال ليل الاستعمار عامة، وخلال مرحلة الثورة التحريرية منه بصورة خاصة.
كل جزائري مشبوه، هكذا بكل بساطة، ومن ثم فكان شيئا ملازما لهذا المنطق أن يرى أبناء الجزائر في كل يوم أعمال الاعتقالات الجماعية التي لا تفرق بين كبير أو صغير، بين رجل أو امرأة، بين غني وفقير، فكلهم جزائريون. وبمجرد أن يتم اعتقال المشبوه فإنه يقتل فورا، بتهمة محاولة الفرار، وهو إن لم يقتل في الحين، تسلط عليه عمليات التعذيب التي تنتهي (بالانتحار) أو (بالإعدام).
هكذا، اخترع رجال الشرطة (البوليس) ورجال الجيش من الفرنسيين ما عرف باسم (الاستجواب الانتحاري) ولم يكن من
(*) المرجع: جريدة (المقاومة الجزائرية) 20 أيار - مايو - 1958.
الغريب بعدها أن تسفر تلك التحقيقات - أو الاستنطاقات - عن اكتشاف قتل أربعة أو خمسة من المتهمين بارتكاب حادثة واحدة قام بتنفيذها رجل واحد وعندما يخرج المتهم - حيا - من أيدي المحققين (الشرطة أو الجيش) يحال إلى القضاة الفرنسيين، وقد يتخيل الإنسان أن المظالم قد انتهت عند هذا الحد، غير أن من يعرف (من هم القضاة؟) يدرك أن للقصة بقية.
إن القضاة هم فرنسيون قبل كل شيء، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، واجبهم الأول هو الدفاع عن النظام الاستعماري الفرنسي، أو ما يسمونه (الجزائر الفرنسية). فالقضاة يحاربون بأسلوبهم الخاص ضد المجاهدين الجزائريين. وليس هناك أي فارق عملي، من هذه الناحية، بين القاضي الفرنسي والجندي الفرنسي، إنهم جميعا يشكلون ما كان معروفا باسم (الجهاز الاستعماري). وإن الذين يتولون محاكمة الجزائريين (مجاهدين أو
مواطنين مدنيين) هم من الفرنسيين الذين ينظرون الى الجزائري نظرتهم إلى عدو قبل كل شيء، لا نظرتهم الى متهم بريء لا تجوز إدانته قبل ثبات التهمة عليه. ويكتفي معظم أولئك القضاة بالتصديق على تقارير تحقيقات الشرطة (البوليس) غير ملتفتين إلى أي احتجاج يصدر عن الجزائريين الأبرياء.
وبتطبيق قرار 17 آذار - مارس - 1956، بات من المحال على القاضي إجراء تحقيق أو بحث حقيقي، لأنه لم يعد أمام المتهم فرصة زمنية كافية لتكليف محام من أجل الدفاع عنه. أما في المحاكم العسكرية، فإن ضباط الجيش الفرنسي هم القضاة، أي ذات الضباط الذين يرتكبون الجرائم في كل يوم خلال (عمليات التطهير والتهدئة) حيث يقتلون كل يوم من يقع تحت نظرهم من
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحق
النساء والأطفال. وهؤلاء الضباط القضاة يعتبرون عملهم في المحاكم العسكرية - عندما يحاكمون أسراهم - هو استمرار لما يقومون به من أعمال الإبادة والتقتيل في البوادي والجبال والمدن.
إن القاضي الذي يحترم إنسانيته، يطلب الأدلة والبراهين، أما قضاة فرنسا فيكتفون باعترافات انتزعت تحت ظروف التعذيب الوحشي، أو بشهادات تفتقر كثيرا إلى الدقة والموضوعية وهي أقرب إلى الشك منها إلى اليقين. ولهذا تراهم يلفظون أحكامهم كأنها طلقات نارية يقذف بها رجل معتوه:(الأشغال الشاقة)(الإعدام)
…
لقد تعاون رجال فرنسا وقوانينها على أن يبرزوا محاكمة الجزائريين على شكل انتقام ساقط يغذيه حقد أعمى. وأمام انتشار الجهاد الوطني، صار قانون العقوبات الفرنسي غير كاف. فصدرت قوانين أخرى - خاصة - بهدف القضاء على الكفاح الوطني الجبار. وكانت أبرز ظاهرة تميزت بها التشريعات الفرنسية الصادرة هي (ظاهرة العنصرية البغيضة). فقد حرم شعب كامل من الحرية الفردية، ومن جميع وسائل الدفاع، لأن هدف التشريع الفرنسي لم يكن لمعاقبة المجرمين، وإنما من أجل اعتقال المواطنين وتعذيبهم وإبادتهم بوتيرة متصاعدة يوما بعد يوم. ولهذا وجدنا مشرعي فرنسا قد أصدروا القوانين التي يمكن لأجهزتهم الاستعمارية في الجزائر الاعتماد عليها، والاستناد اليها، لزيادة المظالم، لا من أجل إنقاصها.
هكذا، استمرت أحكام الإعدام في الصدور على الوطنيين الجزائريين المسلمين، وهكذا، كان ينفذ فيهم حكم الإعدام ضمن ساحات سجون الجزائر. وإن الذين شاهدوا أولئك الأبطال، وهم
يجاهدون في صفوف جيش التحرير الوطني، وفي تشكيلات الفدائيين، لن ينسوا ما شاهدوه أبدا، إذ احتفظ الأبطال ببطولتهم حتى وهم في سجونهم، وتحت رحمة جلاديهم في مجالس محاكماتهم.
لم يكن أولئك الأبطال يفكرون بالدفاع عن أنفسهم، عندما يقعوا أسرى في قبضة عدوهم، بل إنهم كانوا يقفون بكل إباء الثوار، وشمم الأبطال، فيوجهون التهم لأعدائهم، تعبيرا عن إيمانهم العميق بعدالة قضيتهم، ومثال ذلك، موقف المجاهد (ببوش) الذي قدم إلى محكمة القوات المسلحة في عاصمة الجزائر - في شهر آب - اغسطس - 1955. فوجه إلى أعضاء المحكمة الكلمة التالية:
(إنني لست متمردا، ولست خارجا على القانون. إنني جزائري، حمل السلاح لتحرير بلاده وتحرير إخوانه من السيطرة ومن الاستعمار الذي أثقل كاهلهم منذ أكثر من قرن، أما الخارجون على القانون، وأما المجرمون، فهم أولئك الذين يضطهدون ويقتلون شعبا يعد عشرة ملايين نسمة، يريد حريته واستقلاله. إن أعداء الشعب هم الذين تحاربهم جهة التحرير الوطني ويحاربهم جيش التحرير الوطني. وبصفتي جنديا في جيش التحرير الوطني فإنني أشعر أن واجبي هو في الجهاد من أجل تحرير الوطن واستقلاله).
لقد كانت تلك اللهجة النبيلة والصريحة، هي الطابع الثابت في مواقف جميع الأبطال الذين أعدموا.
ومقابل ذلك، كان الطابع الذي اتسم به القضاة الفرنيسون في
مواجهة المجاهدين، لتجسيم الجريمة ضدهم، فهو ترديد تلك النغمة البائسة: (إن فرنسا قد شيدت المدارس وشقت الطرقات، وأقامت المستشفيات الخ
…
).
ولكن (ببوش) وجميع إخوانه، ممن حكم عليهم بالاعدام في (وهران) وفي العاصمة (الجزائر) وفي (قسنطينة) كانوا يجيبون على تلك النغمة البائسة بذكر الوقائع الثابتة، فيقولون بأن الجزائريين كانوا منذ سنة (1830) يعيشون تحت حكم المظالم والاضطهاد والإرهاب، وينكرون جميع أنواع المهانة التي تسلطها الإدارة الفرنسية على ملايين الرجال - مع الإشارة إلى أن كل ما تزعمه فرنسا من إنجازات لم يكن إلا لمصلحة الاستعماريين (الكولون) ومستوطنيهم، وقلة قليلة من أتباعهم ومأجوريهم -. وفي بعض الأحيان، كان أحد أولئك القضاة، ينهض ليستخدم لغة الوعيد والتهديد، وأعصابه تغلي من الغضب، فيقابله بطل المقاومة، بهدوء واتزان، ويشير اليه بإصبع الاتهام الثابت ضد جهاز الحكم المسلط على الوطن الجزائري بأكمله. وعندما يعجز القاضي عن مقارعة الحجة بالحجة، والرد على البرهان بالبرهان، يضيق صدره، فلا يجد ما يعبر به عن مأزقه إلا بأن يسرع فيصدر حكم الإعدام.
لقد كانت أحكام الإعدام تصدر على شكل قائمة، وقائمة في إثر قائمة، وكانت الصحافة الاستعمارية تتباهى وهي تصدر على صفحاتها الأولى تلك القوائم، ومنها على سبيل المثال تلك التي نشرتها (صحيفة فرنسية)(1). والتي تم فيها الإعلان عن إعدام
(1) صحيفة (أوربسرفاتور) 14 شباط - فبراير - 1957.
(16)
جزائريا خلال أسبوع واحد. وضمت تلك القائمه (قائمة الشرف) التالية أسماؤهم:
اسم الشهيد .......... تاريخ إعدامه .......... مركز إعدامه
1 -
أحمد ناصر الدين .......... 13/ 12/ 1956 .......... قسنطينة
2 -
حجاج بشير بن شريف .......... 3/ 1/ 1957 .......... قسنطينة
3 -
محمد سعايديه .......... 3/ 1/ 1957
…
.......... قسنطينة
4 -
حميدة طرفاية .......... 4/ 2/ 1957
…
.......... قسنطينة
5 -
السعيد لعوبي .......... 4/ 2/ 1957
…
.......... قسنطينة
6 -
حميد بن محمد .......... 4/ 2/ 1957
…
.......... قسنطينة
7 -
محمدالأخنش .......... 12/ 2/ 1957
…
.......... الجزائر
8 -
محمد النوري .......... 12/ 2/ 1957
…
.......... الجزائر
9 -
محمد الصالح العياشي .......... 14/ 2/ 1957 ......... قسنطينة
10 -
عمر بن الزائدي .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة
11 -
فرحات بن بلقاسم عريف .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة
12 -
علاوة بومليحة .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة
13 -
أحمد عمور .......... 15/ 2/ 1957
…
.......... وهران
14 -
محمد بن الرزقي مزيرع .......... 20/ 3/ 1957 .......... الجزائر
15 -
صالح بو الكروة .......... 22/ 3/ 1957 .......... قسنطينة
16 -
بلقاسم مارد .......... 22/ 3/ 1957 .......... قسنطينة
17 -
محمد الشوقي .......... 4/ 3/ 1957 .......... قسنطينة
18 -
بدجار فرحات بن بلقاسم .......... 12/ 4/ 1957 .......... قسنطينة
وبذلك، بقيت السجون المأهولة في الجزائر وفي فرنسا من أكثر مناطق العالم نشاطا وحيوية. ولا يكون المعتقل في هذه السجون وحده أبدا، وإنما يبقى على اتصال دائم بالثورة. وها هي الأخت
المجاهدة (زهراء ظريف)(1) المحكوم عليها بعشرين سنة من الأشغال الشاقة، تدلي بشهادة خالدة تصف فيها أعمال الإعدام في سجن (بربروس) فتقول:(إنك لا تسمع في حي المحكوم عليهم بالاعدام إلا نداءات: (الله أكبر) و (النشيد الوطني) و (التضحية من أجل الوطن هي خير من الحياة). وتصدر هذه النداءات عن الذين يقادون الى الموت. كما تصدر عن بقية المعتقلين، فتنتقل من مكان قريب إلى مكان أبعد منه، حتى تعم جميع الأحياء في الساعة الرابعة صباحا. وترافق أصوات النساء في الحي الأقرب، وحتى مكان التضحية، إخواننا الذين يقادون الى الموت. وتستمر هذه الأصوات في مرافقتهم حتى مدافنهم. وفي الوقت الذي يحتل فيه الحرس الجمهوري المعابر والدروب، تتعلق النسوة المعتقلات بحديد النوافذ وترفضن إلا أن تنشدن الأناشيد الوطنية التي نموت من أجلها، وتأبين إلا تسمعنها لضحايا العدوان الاستعماري. وكانت رغبتنا كلها هي إشعار إخواننا بأننا نعيش معهم حتى النهاية - إننا نعيش في (سجن بربروس) ونحن في حالة من الفزع الدائم بنتيجة هذه الإعدامات المتجددة في ليلتين أو ثلاثة من كل شهر، حيث تهوي المقصلة لتبتر أعناق إخواننا، تلك المقصلة التي انتشرت في الجزائر كلها: من العاصمة إلى قسنطينة وإلى وهران - ونحن نحصي برهبة تواريخ عودة استخدام المقصلة في السجن الذي نحن فيه ولم يتغير شيء، على الرغم من الوعود الكثيرة. فإخواننا ما زالوا يستشهدون دائما، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا كرامتنا).
(1) المرجع: نشرة تحمل عنوان: (الجمهورية الجزائرية - وزارة الداخلية - نشرة داخلية - نوفمبر - 1961 ص 14).