الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
أيام الجهاد
لقد حاول الاستعمار الفرنسي، باستمرار، إسدال ستار كثيف على الجزائر لعزلها عما يحيط بها، ولفصلها عن عالمها العربي الإسلامي، ومقابل ذلك، أقام - الاستعمار الفرنسي علاقات جديدة للجزائر تربطها بما كانوا يسمونه (أفريقيا الفرنسية). وقد نجح الاستعمار في ذلك، إلى حين، وكان نجاحه محدودا، إذ بقيت قنوات الاتصال مفتوحة ينقلها إلى العالم العربي -الإسلامي طليعة مجاهدة يحتل عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي ورابطة العلماء المرتبة الأولى فيها، ومقابل ذلك، كان العالم العربي- الإسلامي يحاول باستمرار أيضا، اختراق جدار العزلة الافرنسية، وليس هناك من ينسى تلك المناقشات التي كانت تدور في كل مقهى وفي كل مكان من فرنسا ذاتها كلما التقى جزائري بإنسان عربي مسلم من أبناء بلاد العالم العربي ولقد كان هذا التأثير المتبادل محدودا جدا، وكان ذلك يثير نوعا من التشاؤم في نفس الإنسان العربي بشأن مستقبل هذا القطر، العزيز على قلب كل إنسان عربي مسلم.
لم يكن من الغريب، بنتيجة ذلك، أن يستقبل العالم أنباء انفجار الثورة في الجزائر صبيحة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني -
1954 (يوم عيد جميع القديسين) بمزيج متناقض من المشاعر، التقى فيها اليأس بالرجاء، والقنوط بالأمل، فهل يمكن (للجزائر الفرنسية) كما كانوا يسمونها، أن ترفع صوتها بالتذمر والاحتجاج، بعد طول استكانة؟ وأسرع العالم العربي - الإسلامي، بجماهيره الواسعة، يحتضن الثورة بقلوب ملؤها الإيمان والثقة. ويتابع بعيون يقظة ما يحدث على ثرى الجزائر الطهور.
وحاولت فرنسا الاستمرار في سياستها لعزل الجزائر المجاهدة، بشتى الأساليب، وبمختلف الوسائل، غير أنه بات من المحال عليها إخفاء وهج الشمس الساطعة.
وأخذ العالم، شيئا بفشيئا، يخترق ببصره ستار الكتمان الفرنسي، وأقبل الباحثون عن المعرفة، أو الباحثون حتى عن المغامرة، وهم يستطلعون معالم هذا الأفق الجديد. وكان بعضهم موضوعيا، وحاول بعضهم الآخر تفسير ما يقع تحت بصره بمنظوره الخاص أو على أساس أفكار سلفية، غير أن هؤلاء وأولئك اتفقوا على حقيقة واحدة لم يكن باستطاعتهم إنكارها أو التنكر لها: هنا عالم جديد يظهر للوجود، وهو عالم يناقض كل ما هو معروف مما صنعته الأجهزة الاستعمارية الفرنسية.
من هذا العالم الجديد، توافرت المعلومات عن حقيقة المجاهدين، وعن حقيقة ما يتضمنه مفهوم الجهاد، وما تشمله أيام الجهاد من جلائل الأعمال، التى يضيق المجال، مهما كان متسعا، عن احتوائها والإحاطة بها، وإذن، فقد يكون التعرض لبعضها كافيا لتقديم صورة عنها. وقد جاء في (هذا المجال)(1)
(1) المرجع: شهادات حرب الجزائر كما شاهدوها (للكاتب داجنس نيهيتر) في صحيفة =
ما يلي:
(مضت ثلاث سنوات والمجاهدون الجزائريون يتابعون حربا ضارية لا هوادة فيها ضد فرنسا، والغاية من هذه الحرب هي تحرير الجزائر.
اجتزنا الحدود بعد أن عادت طائرات الاستطلاع الفرنسية إلى قواعدها فوق الشاطىء. كانت الحجارة تصر تحت الأحذية الثقيلة، وكانت البغال تتسلق المرتفعات، وكنا نبذل الجهد في سيرنا الصاعد، عبر الدروب الضيقة التي تسير ملتوية بين القمم المشجرة من الجبال الجزائرية. وكانت آخر أشعة الشمس تصل إلينا عبر الغبار المتعالي من الطريق. وكان يصل مسامعنا دوي المدافع من المراكز العسكرية الفرنسية الموجودة وراء الجبال. وهذا القصف هو الموسيقى الخالدة التي اعتادت أسماع (المجاهدين)(1) عليها كل مساء في تلك الجبال المشجرة من شرقي الجزائر. ولم تكن هذه اللوحة خالية مما هو خيالي، مثير، بشكل لا يوصف. إن الشعور بأننا نعيش في حرب، هو شعور لا زال بعيدا عنا، ولا بد من انقضاء أيام عديدة قبل أن نلمس هذا الشعور لمسا، عندما يفرض ذاته بسرعة ووحشية. إننا لن نشعر بذلك الشعور حقا حتى تأخذ القنابل الفرنسية بالانفجار بين صفوفنا
= (سفن اوستى) السويد - (دراسات ووثائق عن الجزائر والثورة الجزائرية - مصلحة النشر في جبهة التحرير الوطني) - مطبعة الأديب. وهي مجموعة مقالات في الأصل بدأت في الظهور اعتبارا من يوم 6/ 9/ 1957.
(1)
استخدمت هنا كلمة (المجاهدين) بدلا من كلمة (العصاة) التي كان الكتاب الغربيون يسخدمونها متأثرين بالدعاية الفرنسية التي كانت تطلق على (المجاهدين) أسماء (العصاة) أو (الفلاقة) أو (المتمردين) الخ
…
أثناء الهجوم الذي شنه الجزائريون على إحدى القلاع الفرنسية. ولكن ما إن شرع الملازم الجزائري قائد القافلة الصاعدة عبر القمم، يروي لنا قصة آخر أيام المعركة، حشتى زال كل ما كان في نفوسنا من ذلك الشعور المثير. ولقد راح ذلك الملازم يروي لنا بهدوء، وبصوت متزن، جزءا من العنف والإرهاب والانتقام الفرنسي، من قرى الفلاحين، هذه القصة التي تبدو لا نهاية لها:
- لقد سقط أحد رجالنا في ساحة الشرف، أثناء هجومنا على قافلة، غير أن الخسائر الفرنسية كانت أفدح. فما كان من الفرنسيين إلا أن انتقموا من السكان، فدمروا - على عادتهم - دائما، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بمثل هذه التهمة الموجهة إلى الجيش الفرنسي فوق أرض الجزائر، ولقد جاءت أصوات مريرة أخرى، خارجة من الأكواخ التي يقيم فيها الفلاحون في الأودية لتضيف إلى هذه القصة فصولا جديدة كل مساء. أما أشد ما في الأمر فظاعة، فهو سماعك مثل هذه الأقوال، تلقى عليك من غير دعوة مسبقة، فتجعلك تشعر كل يوم بمزيد من الشكوك تدهم نفسك. فهل يمكن أن تقوم القوات الفرنسية بشن مثل هذه الحرب؟! ثم إن موجة الشكوك هذه لا تلبث حتى تتحول إلى قناعة ثابتة تجعلك تؤمن بصدق ما يقولون.
…
إن كل ما يسمى تعبا جسديا، وسيرا منهكا، وحرارة مرهقة أثناء النهار، وبردا لاذعا أثناء الليل، وغناء متواضعا، وحشرات تلصق بالجسم، إن كل ذلك لا يرهق النفس بقدر ما يرهقها ذلك الصراع النفساني الذي يدهم المرء ويهيمن على مشاعره. إنه صراع بين الثقة القديمة بفرنسا والعاطفة الجديدة التي يبعثها في
النفس هؤلاء الشهود الجدد، وأقوال (المجاهدين)، التي لا يمكن إهمالها لمجرد الرغبة الحمقاء التي يخلقها في النفس ذلك الصراع العاطفي الذي لا يتوقف يوما. وكيف يمكن أن يصح ما تزعمه الدعاية الفرنسية من أن (المجاهدين) يأتون بالسكان المدنيين ويرغمونهم - قسرا - على مساندة جيش التحرير الوطني؟! وكيف يصح ذلك ونحن نرى الأهلين يشكلون عند مرورنا بهم - عبر الوادي - جماعات تهلل للنصر. أو عندما أطبقت علي امرأة عجوز وراحت توسعني تقبيلا بحماسة لا توصف؟ كيف يصح ذلك ونحن نرى الفلاحين يرافقوننا خطوة خطوة، وقد حملوا جرارهم المليئة بالماء، وكل هدفهم تجديد الدعوة لنا حتى نعود لزيارتهم مرة أخرى؟ وقد يفكر المرء بأن مظاهر الإعجاب والثقة هذه كلها مفتعلة، مهيأة، موعز بها مسبقا، وتحت تأثير التهديد. ولكن الواقع هو أن المرارة التي يعرب بها سكان الأكواخ عن عواطفهم، وهم يتحدثون عن الفرنسيين، لا يمكن إلا أن تكون حجة دامغة صادرة عن عاطفة صادقة، غير مفتعلة.
لم يكن في وجه تلك المرأة العجوز - التي سبقت الإشارة إليها - شيء من الكذب أو الخداع، فقد فقدت كل شيء. وكانت دمومعها تنساب بسخاء وهي تتعلق بجواد الرئيس، وتتوسل إليه أن يصحبها معه إلى الجبال الأمينة القريبة من الحدود. فقبل عدة أيام، قامت المصفحات الفرنسية بحملة على المنطقة، وهاجم الجنود الفرنسيون بيتها، فلم يبقوا منه شيئا، وانتهبوا كل ما تملك، ودمروا البيت فبعد أن التحق ولدها بجيش التحرير الوطني، على أثر استياق الفرنسيين لأبيه تعرضت العجوز مرتين خلال أشهر قليلة للنهب والتدمير.
لم يوضع أحد في طريقي حتى يملي علي دعايته ويفرضها فرضا. إذ أن قوات (المجاهدين) لا تعتمد هذه الأساليب المعقدة. وجهاز دعايتها متناه في بساطته، وتقارير الجنود والضباط في موضوع الإرهاب الفرنسي ليست من ذلك النوع المعتاد، المدروس، الذي يهيأ ليلقى على مسامع الزوار، بل هي عبارة عن انفجارات غضب غير مفتعل. وصحيح أن هذا ليس سوى مظهر واحد من مظاهر حرب الجزائر. وأن بلوغ مركز (المجاهدين) أمر ممكن. وكذلك الانتقال من مركز إلى مركز، ما بين الحدود التونسية والمغربية. ولكن هذه العملية تتطلب أشهرا عديدة من مسير ليلي منهك، فضلا عما تنطوي عليه من أخطار. وحتى لو أني لم أزر سوى عشرات الجبال والأودية المجاورة للحدود التونسية، ولو افترضنا أن في الروايات التي سمعتها عن أعمال الخصم كثيرا من المبالغات وعديدا من النقاط القاتمة، وحتى لو أن (المجاهدين) يرتكبون فظائع ضد العرب الذين يخدمون المصالح الفرنسية بنشاط، حتى لو صح كل ذلك، فهل لي أن أشك في أن (المجاهدين) قد نالوا الثقة وهم يمثلون الغالبية العظمى من العرب الجزائريين، أو في أن الجيش الفرنسي يوسع، يوما فيوما، الهوة بين الطرفين المتنازعين ويزيد الحقد بوسائله العسكرية. إذن، فلماذا تكون الجبال والأودية مختلفة عما عداها من أرض الجزائر؟
أما أعمال التجنيد لجيش التحرير الوطني فهي واحدة في كل مكان فأبناء المنطقة يلتحقون بالجبال، ويتدربون على استخدام الأسلحة، ويصبحون جنودا ليلتحقوا بجيش التحرير الوطني. ويعتبر السكان أن جنود الجبل هم (جيش التحرير الحقيقي) أداة
النضال للظفر باسقلال الجزائر، القائمون على الجهاد، وفي المناقشات التي تجري مساء تحت سقوف الأكواخ، ضمن نطاق الأسر، ونهارا في ملاجىء الأودية، تعالج الوضع في الأشهر الستة الأخيرة. وقلما وصل إلى أسماع (المجاهدين) أصداء ما يتردد في فرنسا من احتجاجات أو انتقادات للأساليب الشريرة التي يطبقها الجيش الفرنسي في الجزائر.
إن معظم الناس، خارج الجزائر والعالم العربي، يستقون معلوماتهم - عن القتال - عن طريق باريس. والدعاية الفرنسية واسعة وبعيدة المدى، أما دعاية (المجاهدين) فبدائية أو ضعيفة. وإن من يتقبل الدعاية الفرنسية المبتذلة المتطرفة، فإنه لا يجرؤ -طبعا - على الذهاب إلى مناطق الثوار: فهم يتوقعون أن يذبحوا هناك بدافع التعصب العرقي أو الديني، وحتى لو أصم المرء أذنيه عن مثل هذه الأقوال - التي تروج لها الدعاية الفرنسية - فلا يسعه أن يلحظ شيئا من هذا عندما يصل إلى تونس. إن كل ذلك يتبدد في نظره عندما يتخذ طريقه السرية متجها نحو جبهة القتال. إن الفرنسيين يعتقدون أن جهاز جيش التحرير يفتقر إلى إدارة واعية، وتنظيم دقيق محكم، غير أن الذي يستطيع الحصول على رسالة توصية من أحد المفوضين في أوروبا، ثم يصل إلى تونس، ويأخذ بالبحث عن العنوان السري في ضواحي الأحياء العربية، إن من يتاح له ذلك، يقتنع فورا ببطلان الدعاية الرامية إلى الحط من شأن الجهاز الإداري للحركة التحررية الجزائرية.
ولحركة التحرير في تونس مركز، قد وافقت الحكومة التونسية ضمنا على إنشائه. وفي هذا المركز ترى طلابا يعملون على آلات كاتبة عربية وأوروبية، يكتبون بمختلف اللغات. وهناك، حيث
رجال الفكر هم قادة الحركة الوطنية، هؤلاء الرجال الذين تبلورت شخصياتهم في السجون الفرنسية خلال سنوات طويلة، يشرفون ويوجهون الحركة، فينقلون الأشخاص والمعدات، ويسيرونهم إلى الجيش في الجزائر. وفي قرية تونسية، بالقرب من الحدود الجزائرية، كانت هناك بعض المنازل التابعة لمنظمة التحرير الوطني الجزائرية. وهنا يلمس المرء أول دليل على كذب الدعاية الفرنسية، فهم يزعمون في باريس، كما يزعم فرنسيو الجزائر، بأن المجاهدين يفتقرون إلى نظام عسكري دائم بحيث لا يمكن تسميتهم منظمات مقاومة، بل عصابات من المتمردين غير النظاميين الذين يسيرون العمليات الحربية في (سبع الأرض الجزائرية). وفي غرفة من غرف هذه المنازل تجد جهازا مرسلا -لاسلكيا - يؤمن الاتصال مع مختلف المراكز الكبيرة الأخرى في الجزائر. وفي مراكز أخرى، أقيمت مستودعات للأسلحة، ونظمت أبنية يمكن للجنود الجرحى والمرضى أن يجدوا فيها جميع وسائل الراحة والعلاج. وفي هذه القرية، يمكن للمرء أن يلمس الدليل القاطع، على أن المجاهدين يملكون جيشا حديثا يضم (20 - 30) ألفا من المقاتلين.
…
لقد حصل مراسل صحيفة (سفن أوستي) السويدية، تصريحا بمرافقة قوة كانت متوجهة من (تونس) إلى (الجزائر). وقد وصف هذا المراسل تجربته بقوله:
(
…
اضطررت أن أرتدي ثياب المجاهدين العسكرية، غير أن رغبتي في وضع شارة العلم السويدي على ذراعي - كما نصحوني قبل حضوري - لاقت معارضة شديدة من المسؤولين في
هذا المركز، الذين أكدوا لي بأني لو تجولت في المنطقة بتلك الألوان لكنت هدفا صالحا للفرنسيين، ولوجدوا في ذلك حجة لاتهامنا. ووردت المعلومات قائلة أن الجبهة لم تكن (هادئة)، وأنه من الخطر اجتيازها ذلك المساء .. وفي صبيحة الغد، غادرنا القرية تحت حراسة عدد من الجنود بقيادة (النقيب سالم). وقد خلفنا وراءنا هذه الحرارة القاتلة، وركبنا ظهر مركبة نقل صغيرة -كميون - متجهين نحو الغرب. وبعد الظهيرة، بينما كانت السيارة تتوغل بنا وراء الحدود، طاردتنا طائرة استطلاع فرنسية، لم يكن باستطاعتها مهاجمتنا ما دمنا داخل الحدود التونسية، وكانت الطائرة تنتظر، بوضوح، فرصة مغادرتنا الأراضي التونسية، وتوغلنا عبر الجبال والوهاد المشجرة حتى تمطرنا بوابل من نيرانها. وكانت تلك المطاردة عبارة عن حرب إنهاك خسرتها الطائرة التي لا بد أنها غادرت إلى قاعدتها. وعندما غادرنا السيارة، وتوغلنا في الأرض الجزائرية، استقبلنا، في إحدى الغابات، ملازم قادنا على طول طريق يسير فوق سفح الجبل نحو الروابي الجزائرية العالية التي ترتفع حتى ألف متر. وهذه المنطقة التي تصفها التقارير الفرنسية بكل فخر أنها مناطق هادئة - أي أنها مطهرة من الثوار- ما هي في الواقع إلا منطقة خاضعة لجيش التحرير الوطني، حتى أن القوات الفرنسية لا تجرؤ على المخاطرة بالتوغل فيها إن لم يساندها الطيران وتدعمها المدفعية والقوات المدرعة!
وهكذا اجتزنا الحدود التي كانت على زعم الفرنسيين، قلعة (ومقفلة). وفي ساعة متأخرة من المساء بلغنا الأكواخ المغطاة بأوراق الأشجار، وهناك كانت مكبرات الصوت ترسل موسيقى عربية تمتزج بدوي المدافع وراء الجبال. وفجأة، بدد ظلام الليل
نور تعشو له الأبصار، فوق رؤوسنا. ولم تمض ثانية واحدة حتى صم آذاننا صوت انفجار قنبلة يدوية .. وبعد حين كان هجوم المجاهدين قد انتهى وأعطى الرئيس أمره بالانسحاب عبر الروابي، على إيقاع انفجارات القنابل. ولم يكن هجوم المجاهدين على مركز العدو قد استغرق أكثر من خمس دقائق، غير أنها فترة رهيبة على قصرها، كانت القنابل التي ألقيت على القلعة تمزق سكون الليل، بينما شرعت في الرد عليها الأسلحة الآلية الثقيلة للقوات الفرنسية، فترسم بقذائفها أقواسا مضيئة في الليل. ولم يكن يسمع في الأسفل سوى صراخ الفرنسيين ونداءاتهم من الخنادق والتحصينات.
كان هجوما كغيره من الهجمات، معركة بلغت خلال دقائق الذروة المرتجاة التي استعد المجاهدون لبلوغها خلال أيام عديدة ولقد بدأت العملية بنشيد السير لجنود تملؤهم الحماسة، ولا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، ثم انتهت بانسحاب منهك عبر مجاري الأنهار المظلمة، متعثرين بالحجارة، ومتسلقين الروابي الرملية، مع العدو والانبطاح على الأرض، تبعا لإيقاع رمي مدفعية الفرسيين.
كان الأمر فوريا، وقد تم إبلاغه من غير إنذار. فقد أدخل ضابط صف رأسه من باب الكوخ وأخبرنا أنه ينبغي لنا مغادرة الجبال والإسراع إلى الأودية .. إن الأمر بالعملية قد صدر ولا ريب، من المقر العام بدقة، وكنا خلال النهار قد تناقشنا حول إمكانية مرافقتهم كمراقب في عملية ليلية أو في كمين ضد قافلة فرنسية في وضح النهار، غير أن الفرص لم تكن كثيرة وكان ضابط مرح من فوج آخر قد دعاني لحضور معركة كبرى حقيقية،
سلسلة من عمليات سوف تضطر الفرنسيين إلى زج (20 - 30) ألف مقاتل ضد جبال الشرق الجزائري، وتعطي للمجاهدين إمكانيات هائلة لشن هجمات مضادة وكمائن. وهذا يعني أني سوف أضطر إلى البقاء بين المقاومين مدة أطول مما كنت أعتقد وأتوقع. ولما كان الأمر غير المنتظر قد وصل، فقد قطع المجال على كل جدل أو نقاش. وغادر القسم الأكبر من الجماعة الأكواخ ليشكلوا حملة طويلة تسير في اتجاه الأودية، عبر الدروب الضيقة. ولم يكن الجنود يحملون معهم إلا الأسلحة والأعتدة الضرورية.
مررنا خلال مسيرنا أمام مجموعة من أكواخ الفلاحين، فرأينا جماعة من الصبية في أسمال بالية، أخذوا في تحيتنا تحية عسكرية وأوشكنا أن نسحق من قبل الفلاحين المتكأكئين حولنا في الظلام الذي يوشك أن يدلهم. وتبادل الجميع التحيات .. فكان الفلاحون يصافحون كل جندي بدوره. وكانت الأيدي تلتقي ثم ترفع إلى القلوب، مع تبادل كلمات (السلام عليكم). وأحيانا كان الفلاحون يضعون أيديهم على أكتاف الجنود أو الضباط، ويقبلونهم على الخدين، ويتبادلون معهم بعض الكلمات، ثم ينتقلون إلى الشخص التالي. وتوقف الركب بعد عدة ساعات. وكانت النار تلتمع في أسفل الوادي حيث يتجمع الفلاحون. وكانت تلك غاية المرحلة الأولى. واستخرجت من الأكواخ أغطية ووسائد، كما بسحر ساحر، وسرعان ما تحلق حول الجنود رجال ونساء، وقد حملوا صحافا كبيرة عليها أقداح وأباريق القهوة المحلاة بالسكر. وبين وقت وآخر، كان يظهر قوم آخرون، تحدوهم الحماسة ذاتها، وحب الضيافة ذاته، وهم يحملون القهوة والعنب والتفاح.
استفقنا في الصباح على أزيز أولى طائرات الاستطلاع لهذا اليوم. ومرة أخرى، وجدنا أنفسنا محاطين بالفلاحين ذوي الوجوه التي لوحتها الشمس، وقد حملوا أقداح القهوة وعلب المحفوظات، وظلت الجماعة قابعة في الأكواخ طوال فترة قبل الظهيرة، ولكنهم شرعوا عند العصر، بتحميل الرشاشات على البغال، وفئة بعد فئة، اختفوا وراء الضفة الجافة من النهر، ها قد بدأ المسير نحو الهدف. وبعد ساعات من السير السريع، ابتعدنا عن الأكواخ المنخفضة المعلقة على المنحدر، والروابي الممتدة القاحلة، وأصبحت الأكواخ أندر وجودا - ولكن اهتمام السكان كان متعاظما أبدا، أيد ممدودة تتقدم منا دائما، فوق الروابي، إلى اليمين وإلى اليسار. أما في الأمام، فقد انحدر قرص الشمس إلى ما وراء الأفق، فيما كانت طائرة إفرنسية ترسم في السماء دوائر واسعة. وتوقفت الجماعة الصغيرة من الأنصار (المسبلين) وهي تنتظر هبوط الظلام، واختفاء الطائرة المعادية. وبدد الصمت صوت الضابط: هنالك أمامنا توجد (قلعة لامي) وفيها فوج فرنسي وحامية مؤلفة من (800) رجل، هذا هو هدفنا.
لم يبق الآن بيننا وبين القلعة أي شخص مدني، فقد طرد الفرنسيون كل السكان، وأجبروهم على سكنى القرية بدعوى حمايتها من الهجوم. ولم نلبث حتى مضينا إلى المرحلة الأخيرة، ولم يعد أحد يغني أو يتكلم. فكان المرء لا يسمع في الظلام الدامس، سوى لهاث الرجال ووقع أحذيتهم على الأرض أو فوق حصى الجداول. وكانت المدفعية الفرنسية قد صمتت، ولكن أنوار القرية والحصن الفرنسي كانت تبدو وكأنها الضباب الخفيف المنتشر على المرتفعات، واجتزنا الكيلومتر الأخير عبر مرتفعات
تملؤها الحفر والأشواك وتغطيها الصخور الضخمة التي أحرقتها حرارة الشمس. وخرج من الوادي شعاع من نور، وتقدم فوق الروابي، وتوقف الركب متحفزا في الترقب بينما راحت أعمدة النور المنطلق من الكشافات تجوب الأرض على بعد عشرين مترا منا، تدنو تارة وتختفي أخرى. وبعد دقائق قليلة وصلنا إلى القمة، وقد بدت على بعد ستمائة متر تحتنا القلعة والقرية والأنوار. وكان شبح الرئيس يروح ويغدو فوق القمة. وكانت مدافع الهاون والأسلحة الآلية - الأوتوماتيكية - قد اتخذت أماكنها، والجنود المزودون بالبنادق الرشاشة والرشاشات قد تفرقوا فوق قمم الهضاب.
كانت الساعة قد أشارت إلى العاشرة عندما انطلقت الرصاصة الأولى، وفتح (المجاهدون) النار من كل أسلحتهم دفعة واحدة، واطفئت الأنوار في القرية والقلعة. ولكن وميض القذائف، وقنابل الهاون، كانت تنير جدران التحصينات، والأسلاك الشائكة. وما هي إلا دقائق مرت بسرعة، حتى أعقب الضجيح صمت غريب. وصدر الأمر بالتراجع والانسحاب. وانطلق الجميع يطوون الأرض ويتسلقون المرتفعات مبتعدين عن القلعة. وهنا بدأت مدفعية العدو في القصف على غير هدى، وحدث انفجار بالقرب منا، وانبطح الجميع على الأرض لينهضوا بعد ثوان قليلة، وتكرر ذلك مرات عديدة. وبدأنا نشعر بالتعب والإعياء. حتى بلغنا نهرا، وأصبحت
هناك رابية على الأقل تفصل بيننا وبين العدو، وتحول الركض إلى سير وئيد تحت أوامر الملازم المطمئنة: لا يجرؤ الفرنسيون على الوصول إلى هنا، لذلك فنحن سادة الموقف.
وصلنا في الساعة الثانية صباحا إلى إحدى المزارع البيضاء،
وجاءنا القوم يحملون إلينا الماء والخبز وحساء شديد اللذع وفرشا من القش، وأغطية، حملها فلاحون صامتون، ثم حملوا إلينا شايا بدون سكر، كأنه أحضر بسحر ساحر. وجلسوا القرفصاء قربنا بينما كنا نأكل، وكان الصمت يزداد ثقلا لحظة بعد أخرى، وأقام ابن المزارع حراسة حولنا، فكان نور المصباح الزيتي ينير قسمات وجهه الشاحب، والصارم.
…
إنهم يتكلمون عن الحرب فقط، ولا يحلمون إلا بالحرب، ولا يستطيعون، أو بالأحرى لا يريدون الابتعاد عن مثل هذا الجو، فذكرياتهم ليست سوى معارك. أما ما كان من أمرهم قبل إطلاق الرصاصة الأولى للثورة، من شؤون عائلية أو حياتية، فلا يتردد على ألسنتهم إلا نادرا. ومعظم مجاهدي الجبال يقيمون دونهم جدرانا، فلا يريدون الاتصال بعائلاتهم، ويتناسون كل شيء عن هذه العائلات، كل هذا يفعلونه حتى لا يخونوا الجهاد الذي يضطلعون به، والذي يعدون أنفسهم للاضطلاع به سنوات وسنوات.
وكان يوم آخر، مثله كمثل بقية الأيام، مضى علينا في الجبال المشجرة، كان الجنود جالسين جماعات تحت ظلال الأغصان، بين أشعة الشمس المتسربة منها. وذهبت الدوريات تتفقد الطرق التي مهدتها الأقدام، وجماعات صغيرة أخرى كانت تعود من نوبتها في الحراسة. أما في الليل فكانت جماعات من الجنود تبتعد عن الأكواخ، لتقيم الصلاة، وأكد بعض الجزد أنهم يقومون بواجباتهم الدينية كاملة فيصلون في اليوم خمس مرات. وجاء جنود آحرون يحملون زجاجات وعلب صغيرة فيها ماء من غدير يكاد
يكون جافا. وقد تعلموا بسرعة كيف يضعون منديلا على فوهة الزجاجة لتصفية الماء وتخليصه من القاذورات التي تعطيه طعما أو لونا خاصا. وما أن يفرغون من تسوية أمورهم في الصباح حتى يتجمعوا حول مائدة طويلة مصنوعة من جذوع الأشجار، فلا يجلس أحدهم إلا بعد أن يصافح الآخرين أو يقبلهم على وجوههم.
جلس أحدهم يضرب على الآلة الكاتبة تقريرا عن الفوج باللغة الفرنسية إلى القيادة العامة، وكان يجلس في الهواء الطلق، ويتمتم باللغة العربية. ولم يكن من الصعب معرفة اتجاه الحديث، وأنه يدور عن الحرب، ذلك أن الضباط المجاهدين يستعملون الأعداد والشارات للأسلحة الفرنسية وبدأ أحدهم يتكلم الفرنسية، وكان يصف المدفعية العدوة بكثير من الدقة والتفصيل. فلا يترك شاردة إلا ويذكرها. ولا شك أنه درس في مدرسة فرنسية، وكراهيته لمعلميه غير محدودة. قال: لقد حاربت في صفوف الجيش الفرنسي في فيرتنام (الهند الصينية) وكنت في (ديان بيان فو) ولم نكن نحن الجزائريين، في المرحلة الأخيرة من الحرب، لنطلق النار على الأعداء. فجيش (فييت مينه) كان يحارب في سبيل حرية بلاده. وما كان للمعاقل الفرنسية أن تسقط لو أننا استبسلنا في الدفاع عنها. وأخذ ضابط آخر طرف الحديث: لقد قضى خمس سنوات في مزارع الأرز في دلتا الهند الصينية الجنوبية ومع ذلك، فقد احتجز أكثر من ستة أشهر بعد الهدنة، ويؤ كد هذا الضابط أن الفرنسيين رفضوا في البداية السماح له بالعودة إلى وطنه - الجزائر - لعلمهم أن جميع أفراد عائلته قد التحقوا بقوات جيش التحرير، ولكنهم في النهاية اضطروا للسماح له
بالرجوع إلى بلده فهرب بالطبع من الجيش فور وصوله إلى الوطن.
وهكذا استمر الحديث ساعات طويلة وهو يدور عن الحرب. وكانوا يتحدثون عن الفرنسيين بمرارة لما يقومون به من تدمير للقرى الآمنة، ولما يمارسونه من تعذيب للسكان المدنيين الذين سقط منها آلاف الضحايا البريئة، علاوة على المعتقلين في معسكرات الأسرى والذين يزيد عددهم في المعتقلات على مائتي ألف، في تلك الفترة، وكانوا يؤكدون لي أن فرنسا سوف تخسر الحرب، وأن الثورة سوف تربحها مهما بلغ حجم الجيوش التي ترسلها
حكومة باريس إلى الخطوط الأمامية، وبالرغم من الموقف اللامبالي أو المساعدات التي تقدمها الدول الغربية، فإن ثقة المجاهدين بالنصر هي ثقة راسخة لا تتزعزع.
بعد القيلولة، في أيام الانتظار والراحة، كنا ننزل نحو الوادي متخذين طرقات من الوعورة بحيث نضطر إلى التمسك بالشجيرات خشية السقوط. وبلغنا بعض الأكواخ، حيث يقيم اللاجئون الذين جاؤوا من وسط الجزائر باتجاه الشرق نحو الحدود التونسية، حيث يجدون الأمن. وبينما ينصرف الضباط الى توزيع الألبسة والنقود، على الرجال والنساء، يجلس الجنود يتجاذبون أطراف الحديث مع المدنيين، ويبدو أنهم يتجنبون الأطفال، وأخذني جندي ضيق الوجه، عصبي القسمات، نحو شجرة أوتنا بظلها، بحيث لا يسمعنا أحد، وأسر إلي بقوله: أنه كان يعمل قبل اليوم داخل الحدود التونسية، في إحدى القواعد الكائنة في مدينة تونسية، وجاءته ذات يوم امرأة جريح وقالت له إنها فقدت كل شيء، أسرتها وبيتها أثناء غارة فرنسية شنت على القرية. وتابع الجندي: لن أنساها أبدا، وددت لو آخذ بندقية، وأخرج إلى المدينة التونسية،
وأقتل كل من أصدفه من الفرنسيين فيها. ولكن حسنا كنت في تونس، والأوروبيون هناك لم تبق جنسيتهم فرنسية، بل تونسية.
وقد يكون بعضهم بريئا مما يرتكبه الفرنسيون في الشمال الأفريقي في السنوات الأخيرة. وصمت الجندي ثم إنه أضاف: هذا ما يصعب احتماله، وتصعب رؤيته، فإن الكثيرين منا يرهقهم أن يتذكروا ما حدث، وما يمكن أن يحدث لعائلاتنا في القرى التي يسيطر عليها الفرنسيون أو يهاجمونها، ولهذا تجدنا نتجنب كل ذكرى، وكل اتصال بعائلاتنا. ولعل هذا هو الذي يحملنا على تجنب الاختلاط بالأطفال هنا واللعب معهم.
اتجهنا عند الغسق نحو المرتفعات، حيث توجد أكواخنا المصنوعة من أغصان الشجر. وحملوا إلينا الطعام فوق موائد، وكان مؤلفا من خبز ضخم، وطبق كبير من البصل، وسلطات وبندورة (طماطم) وبطاطا مقلية، وقطع من لحم الدجاج، وماء يمازجه عصير بعض الفواكه. ويمكن للمرء هنا الاحتفاظ بشعوره بالسلم والطمأنينة والفرح، في وسط الطبيعة الخلابة، لو كان باستطاعته أن يصم أذنيه عن هدير عربات نقل الجند الفرنسية (الكميونات) الآتية من وراء الجبل، وعن هدير طائرات الاستطلاع، وإذا عميت عيناه عن رؤية بريق الأسلحة في الخنادق، حيث يرتاح الجنود الجزائريون، وإذا لم يعر المرء سمعه لأحاديث الشهود المريرة، وطلبات العون والنجدة والحماية الصادرة عن الفلاحين ضد الحملة القادمة من الشمال.
وقد روت لي المرأة العجوز التي دعتني لتناول قدح من القهوة، فحدثتني بهدوء عما حدث قبل شهر: حيث اجتازت الدبابات الفرنسية مجاري المياه، وبدأت القنابل تتساقط بين
الأكواخ، وعام الرعب القرى المحروقة، وهرب السكان إلى الجبال. ولكن كل الناس لم يستطيعوا الهرب. ولم يتمكن أحد الرجال من النجاة من القنابل، واثنان آخران أخذا أسرين فأعدمهما الفرنسيون رميا بالرصاص. وما أن تبددت سحب الدخان والغبار، وانكفأت الدبابات عائدة إلى الشمال، حتى عاد سكان الوادي ليبحثوا عما كان (بيوتا) لهم من قبل - وشرعوا ينبشون بين الرماد لاستخراج الحجارة، ووضع أساسات جديدة. ولقد اختطف الفرنسيون زوج المرأة العجوز، وانتهبوا كل ما كانت قد ادخرته لأيام العسرة. لم يقدني أحد لسماع شهادة هذه العجوز، فليس ثمة وجود هنا لرجال الدعاية المحتالين.
ويبقى أقوى من كل الشهود والخرائب، أيدي أولئك الفلاحين التي تتشبث بأسلحة الجنود: ورد الفعل عند الأطفال. وقد حدث لي أكثر من مرة أني عندما كنت أنزل بين تجمعات أكواخ الفلاحين أن ألتقي بأطفال يصرخون ذعرا وهم يختفون بين ظلام الأكواخ. وعندما يأخذ اليأس مني كل مأخذ، أصحب معي أحد الجنود،
وأبحث عنهم لأهدىء من روعهم، وأوضح لهم موقفي. وكان يكفي الطفل أن يراني بصحبة أحد الجنود حتى يتخلى عن كل خوف أو وجل، بل إن خوفه ينقلب إلى حب استطلاع مثير للسلوى. وأما تفسير خوف الأطفال فإنه مبني - يقينا - على تصورهم لأول وهلة أن وجهي الغريب هذا لا بد أن يكون وجها فرنسيا. وهكذا عشنا أياما، قام خلالها المجاهدون بشن هجوم على قلعة فرنسية.
قمنا بزيارة كوخ لا يختلف البتة عن بقية الأكواخ المحيطة به ما خلا علما أبيض وأخضر يتوسطه الهلال والنجمة، وهو علم جبهة
التحرير. كان البيت مستطيلا، وهو ذو أسس حجرية مستديرة، وثمة أوتاد متينة تشكل واجهته وحوامل سقفه، وكان السقف مؤلفا من أغصان ضخمة تعلوها أخرى أرق وفوقها طبقة من قشر الشجر. ولم تكن المسامير مستعملة في هذا البناء، إنما حلت الجبال محلها ، وكان القسم الأكبر من الأرض مغطى بسجادة ذات ألوان عديدة، واصطفت وسائد ضخمة على طول الجدران. ودخل فلاح يحمل قطعة ضخمة من الخبز، ويبلغ هذا الخبز ضخامة دولاب الطاحون، وهو يؤكل دائما طريا ساخنا. وكان فلاح آخر يتبعه بإبريق فيه حليب، وثالث يحمل سلطة البصل. وأبدا كانت تشع في عيونهم تلك النظرة المرحبة، وتمتد أيديهم بالمصافحة الحارة أو العناق والقبل على الخدين. وهم ينظرون إلى كل غريب نظرتهم إلى (أخ - ضيف) - وفي إحدى زوايا الكوخ كانت تقوم مائدة مطلية باللون الأخضر الفاتح وقد نقشت عليها حروف عربية إنها آيات قرآنية كتبت لتكون درسا لطفل. ولكن أمدا طويلا قد مضى دون أن يستطيع أحد نقل هذا اللوح، ويضعه أمام أي طفل، ويشير إلى الحروف المتداخلة ليلقنه إياها. أما كتاب التمارين فكان مهجورا وقد علاه الغبار. وفي زاوية أخرى من الظل - في الكوخ - كانت بعض النسوة قد جلسن القرفصاء حول القدر، كن يلقين بالدقيق في القدر ويقطعن لحما. وثمة طفل مريض يصرخ وهو يلتصق بظهر أمه، بينما لاذت الأخريات بالصمت، ورحن يلاحقننا بأنظارهن. وهناك أيضا، أربعة أطفال في الخامسة تقريبا يرتدون الثياب البالية، لم أرهم يلعبون أبدا. وهذه - كما أذكر - يسمونها تصرفات ما يسمى - بالأطفال الشيوخ - الذين ينطوون على أنفسهم في صمت ووجوم.
بعد الظهر، غادرنا الوادي بشيوخه ونسائه وأطفاله، وكانت القرية خالية من الشباب، فالجميع قد قصدوا الجبال وحملوا السلاح. وكانت هذه آخر مرحلة في المسير إلى القلعة، وليلة الهجوم قد أزفت. ولم تمض عدة دقائق حتى لحق بنا فتى في الرابعة عشر ورجل آخر متقدم في السن يتبع الفتى باستمرار، وكان الفتى يحمل بندقية آلية - أوتوماتيكية - أغلب الظن أنه غنمها من جندي جريح، وتقدم من الرئيس: انه يريد الذهاب مع المجاهدين الثوار، والانضواء تحت لواء الجيش. وتقدم الرجل المسن هو الآخر، ولا يكاد يشعر به أحد، وصافح الرئيس، وعانق ابنه على الخدين. واستدار، وعاد، من غير أن ينطق ولو بكلمة واحدة. وقد خفضت جميع الأنظار. وران صمت ثقيل، ولحظت أني لم أكن الوحيد الذي ينظر إلى المنحدر والأشجار. ولكني لم أر الفتى أثناء سيرنا الليلي، ولا شك أن الرئيس قد أرسله إلى القاعدة ليتدرب.
خاض المجاهدون معركتهم - ضد القلعة الفرنسية - بنجاح رائع، كعادتهم، واتخذوا بعد ذلك طريق العودة عبر أودية أخرى. حتى إذا ما وصل الجميع إلى مجموعة من الأكواخ، وقف الرئيس خطيبا، فألقى كلاما حادا وجه فيه اللوم إلى رجل لأنه لم يرسل ابنه المريض إلى المركز الصحي للمجاهدين، والقريب من الحدود، ومضى (الرئيس) يتدفق كالسيل في حديثه الموجه إلى الفلاحين، وأظهر استجابته لطلباتهم بالمساعدة، كما أنه أرشدهم إلى الملاجىء الأمينة المنظمة في كل المنطقة، ونصحهم باللجوء إليها في حال حدوث حملات فرنسية. وفي قرية ثالثة، قام ضابط من المجاهدين بتوزيع مساعدات عائلية وأقمشة. فكان كل فرد
يوقع على الإيصال، ومعظمهم ببصمة إبهامه على السجل. وكلما بلغنا مجموعة من الأكواخ، انبرى لنا مكانها يحملون الماء في الأوعية والسطول. وكانوا أول ما يسعفون الجنود المرضى، المحمولين على البغال. فيصبون الماء على أعناقهم. ويقدمون لهم الأكواب ليشربوا. وكان كل شيء يسير سيره الطبيعي، من غير ضجة ولا ضوضاء. ثم وصلنا في ساعة متأخرة من الليل إلى مقر القيادة، وكان عبارة عن كوخ غير مكتمل البناء، يقع في سفح الجبل، وأخذنا في الاستعداد للنوم، حيث رقد بجانبي أحد الضباط، وأخذ يحدثني بصوت خافت على الحد بين الحرب والإرهاب:
إننا نحصل على الطعام وغير الطعام من السكان. ونحن نمضي النهار في الأكواخ، إنه شعبنا ونحن جيشه، بل إخوته وأولاده أغلب الأحيان. ولكن هل يصح هذا ليكون ذريعة للغارات الجوية والقصف المدفعي والمذابح التي يقوم بها الفرنسيون؟ وهل هذا ما يسميه الفرنسيون (التهدئة)؟ وصمت. وطال الصمت. ورحنا في نوم عميق.
…
قال لي ضابط وهو يقدم لي مجموعة أوراق مكتوبة على الآلة الكاتبة: (هذا هو الإنذار الأخير)! ثم استمر في تقليب عدد من المغلفات كانت موضوعة فوق محفظة. وكانت تلك الأوراق عبارة عن رسالة موجهة إلى موظف عربي في مدينة صغيرة تبعد بضعة عشر كيلومترا عن الكوخ الذي كنا نطلب فيه مأوى لنا من حرارة الشمس. وكانت الرسالة تدعو الأخ المواطن بعبارات أنيقة، وبأسلوب فيه لف ودوران أن يدير ظهره إلى الفرنسيين ويغادر مركزه حيث يعمل
لحساب الأعداء. فإذا رفض، عندئذ يحكم عليه بالموت. وخلال عدة أيام تصل الرسالة إلى (الخائن) وسوف يرى شارة (الإنذار الأخير) على الزاوية اليسرى من المغلف (الظرف) فيفهم المقصود رغم لهجة الرسالة المطمئنة وختامها الرقيق، مع الإخلاص والاحترام. وسوف يعلم أنه إذا لم يخضع للتهديد، اجتمعت هيئة من المحلفين تحت علم الثورة، وكلفت ثلاثة رجال بتنفيذ الحكم الذي تصدره، وتكون مهمتهم مطاردة المحكوم عليه ليلا ونهارا. ووضع الضابط ربطة المغلفات بهدوء، وكانت تناهز اثني عشر مغلفا، في محفظته. ثم تابع حديثه مع رئيسه بهدوء - باللغة العربية - وبعد بضع دقائق حمل محفظته واختفى. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الضابط. لقد جاء من السهل ولا شك، من الجانب الآخر للجبل. ونظر إلى الرئيس، وقدم لي النار لأشعل لفافة التبغ (السيكارة) وأجاب على سؤالي:(كلا! إننا لم ننفذ أي حكم في قطاعي، غير أنه سبق لنا أن حاكمنا وصفينا بعض الخونة والجواسيس).
وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها، بشكل مباشر ومؤثر شهود الحرب الأخرى. معركة (المجاهدين) بالقنابل اليدوية والمسدسات والمدي- السكاكين - في المناطق الواقعة تحت المراقبة الفرنسية جزئيا أو كليا. وقلما يتحدثون في المجال عن هذه المعارك - غير أني التقيت برجال آخرين من جيش التحرير الوطني الجزائري ومن أنصاره الذين أعطوا تفصيلات عن (المغاوير -الفدائيين) وعن (فرق الانتحار) وعن (الإرهاب في المدن).
وتصف الدعاية الفرنسية الأعمال التي تستخدم فيها القنابل اليدوية بأنها تعبير عن (التعطش إلى الدماء)، وأنها أعمال (وحشية غير
انضباطية) غير أن المجاهدين يدافعون عن ذلك قائلين: إنه تنفيذ لأحكام (محكمة عسكرية). فالعرب الذين يتعاونون مع الأعداء، ويرفضون الإصغاء إلى الإنذارات، يحكمون بالخيانة، والتعاون مع العدو، وهذا يستدعي حكم الموت. وأكد لي رجل سياسي من (المجاهدين): بأنهم لا يطلبون إلى هؤلاء تبديل موقفهم ومساندة منظماتهم، بل مجرد التخلي عن خدماتهم في المؤسسات الفرنسية. والبقاء دون أي نشاط. فإذا كان هذا ما يسمونه -الإرهاب - فليكن. وإن المرء ليجد مثيلا لهذا في تصفية الذين يتعاونون مع الاحتلال الألماني في السويد، وكان يشرف على ذلك عدد من منظمات المقاومة في بلدان عديدة من أوروبا الغربية، خلال الحرب العالمية الثانية.
…
تسمى الجماعات التي تعمل في مدنها أو مناطقها (الفدائيين). ويتناقل الناس قصصا فريدة عن معارك هؤلاء الفدائيين. فإذا ما لقي أحد هذه الجماعة حتفه متأثرا بالتعذيب الذي يلقاه على يد الجنود الفرنسيين، تسلل أفراد الجماعة ليلا إلى مراكز العدو، إلى حيث يوجد المسؤول عن قتل زميلهم، ويختفوا بعد أن يذبحوا العشرات من الجنود الفرنسيين. وتطرق الآذان قصص هؤلاء الفدائيين فقد جاء تقرير يقول إن أحد الأسرى من المجاهدين، يكاد أن يتكلم ويبوح بالأسرار تحت وطأة التعذيب الهائل. فما كان من الضابط إلا أن أرسل أحد عشر متطوعا لقتل رفيق السجين. ولم يعد من الأحد عشر سوى واحد فقط. والفدائي جندي نموذجي، والفقرات الأربع الأولى من القسم الذي يلفظه الفداني بالغة الروعة.
1 -
إن من يضعف أمام العدو يستحق الموت.
2 -
يجب على الفدائي أن يهتم بنظافة جسمه.
3 -
لا ينبغي للفدائي إهمال فروض الصلاة.
4 -
يجب على الفدائي إطاعة أوامر القيادة العليا إطاعة عمياء.
والمعروف أن هؤلاء الفدائيين لا يشهرون السلاح في وجه الخونة العرب فحسب، بل إنهم يتصدون للجنود والشرطة الفرنسيين ممن يمارسون أعمال العنف التي تؤدي إلى موت الجزائريين. وكذلك ضد عشرات ألوف المزارعين الفرنسيين أو من يسمونهم (بالمعمرين). والكراهية التي يكنها المجاهدون (للمعمرين) كراهية عميقة تلمس آثارها ليلا ونهارا في الجبال، ويروي هؤلاء المجاهدون قصصا مريعة عن وحشية المزارعين الفرنسيين (المعمرين) في معاملتهم للعرب الذين يعملون لديهم. وعن الأجور الضئيلة التي يتقاضونها والظلم الذي يتعرضون له. وكان يوجد في الجيش الفرنسي فرق كاملة مؤلفة من أولئك (المعمرين) غير أن السلطات الفرنسية عملت في سنة 1956 على حل هذه الفرق لما لمسته من قوة متناهية تجاه المواطنين المدنيين الجزائريين.