المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مهمة على موجات الأثير - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٢

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ مهمة على موجات الأثير

4 -

‌ مهمة على موجات الأثير

(1)

دخلت الثورة الجزائرية عامها السادس منذ يوم تفجرها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. وفي هذه الفترة، وصل الضغط الاستعماري ذروة اتساعه وقوته، وذلك كرد فعل على الهزائم المنكرة التي نزلت بساحة كبار قادة الحرب الفرنسيين. إذ أن ذكريات الكوارث التي رافقت الأعمال القتالية المتتالية، قد التصقت بأسماء أولئك الذين تم تكليفهم بتنفيذها، والذين صدمتهم المقاومة الضارية للمدافعين عن حريتهم.

لقد خاض المدافعون عن حريتهم الحرب، وجابهوا أضخم جهاز حربي استعماري عرفه القرن العشرين، حيث أنه ضم القدرة الضاربة الأمريكية، إلى جانب قدرة الغرب الاستعماري مجتمعه. وقد استرسل (الماكيافيليون - الاستعماريون) في مفاهيمهم، فأقاموا السدود المكهربة التي لم تتمكن من عزل الجزائر المجاهدة عن العالم الخارجي. وفشلت عبقرية الاستراتيجيين الاستعماريين في الوصول إلى هدفها. وأمام هذا الفشل المتكرر الذي أصاب كبرياء قادة الجيش الاستعماري بجراح عميقة، لم يبق أمام

(1) RECITS DE FEU. P.P. 188 - 193. PAR: MOHAMED ANDALOUSSI

ص: 174

الاستعماريين إلا الاستدارة نحو المواطنين المدنيين ليصبوا عليهم جام غضهم وانتقامهم، وليعرضوهم لأبشع أنواع الإذلال والتعذيب. فأقيمت (مراكز التجمع) و (معسكرات الحشد) و (السجون) و (المحاكم العسكرية العرفية) و (التجمعات القسرية - الإجبارية)(ونصبت المقاصل - جمع مقصلة) و (أبيحت الرذائل) و (انتهكت حرمات الأماكن المقدسة). وكان الهدف الاستعماري من ذلك كله هو حل الشعب الجزائري، وتفتيته، ومنعه من احتضان ثورته التي تولى قيادتها جيش التحرير الوطني، الذي بقي صامدا في وجه كل المخططات الاستعمارية، فأتعب الاستعماريين ولم يتعب.

لقد اكتسب الشعب الجزائري قناعاته من خلال معاناته لليل الاستعمار، وأصبحت لديه المنعة الكافية ضد السموم التي كانت تنفثها أجهزة استخبارات العدو، وفروع حربه النفسية، فأقبل على الانتظام في صفوف جبهة التحرير الوطني، سواء في المدن أو في القرى والسهول، وانصرف لدعم ثوار المدن (الماكي) وإمدادهم بالقدرة، ومساعدة شبكاتهم السرية، وحماية أعمال الفدائيين اليومية، أحيانا بطرائق سلبية، وأحيانا بحزم وصلابة، وأحيانا أيضا بشجاعة بطولية ونبل رائع في آن واحد خلال مجابهتهم للقمع الاستعماري. وبذلك عرفت العاصمة (الجزائر) وضواحيها نوعا من النشاط الذي لا يهدأ، وكان مجاهدو جبهة التحرير الوطني يتابعون ظهورهم على مسرح الأحداث في كل مكان وفي كل وقت، ويؤكدون وجودهم باستمرار، وفي كل المناسبات وذلك عن طريق ضرباتهم المباغتة والسريعة والقوية والتي كانت تترك أثرا نفسيا عميقا لدى الأصدقاء والأعداء على السواء. وقد ركزت المنطقة الرابعة من

ص: 175

الولاية الرابعة (الجزائر) كل جهودها ضمن هذا الاتجاه. وكان شهر حزيران - يونيو - 1960 - يقترب من نهايته، ولم يبق إلا أيام قليلة على قدوم اليوم المشؤوم (يوم 5 تموز - يوليو) الذي يثير في ذكراه السنوية كل مشاعر الحزن التي رافقت إنزال القوات الفرنسية على ثرى الجزائر سنة 1830. وفي هذه الذكرى كان الشعب الجزائري يحتفل بطريقته الخاصة: فيعلن الصيام، ويقيم الصلوات، ويدعو للجهاد وكانت هذه العبادات تتضمن كل المعاني التي تمسك بها شعبنا فحافظ بها على أصالته.

قررت قيادة جبهة التحرير الوطني - وجيش التحرير الوطني، إعطاء هذه المناسبة بعدا نفسيا خاصا. وصدرت الأوامر بذلك.

كانت المنطقة الأولى قد أقامت مقر قيادتها في بناء قديم يتكون من طابق واحد، ويقع عند أقصى الطرف الغربي من الجسر الذي يجتاز المدينة - عند الحراش -. ولم يكن هذا المبنى أكثر من مهجع يضم مجموعة من الغرف البائسة، الفقيرة، التي يتكوم فيها كل مساء عدد من العمال الذين يسحقهم عملهم في المصانع المجاورة والمزارع القريبة. وكان هناك درج صغير تحيط به الجدران ينتهي إلى دهليز طويل ومظلم. وكانت الروائح الكريهة المنبعثة من دورات المياه، والظلمة المهيمنة على المكان، من الظواهر الكافية لإعطاء فكرة عما كانت تعانيه كتلة العمال الجزائريين من البؤس والشقاء. وكان هناك باب كبير قديم - نخر - ينفتح على مصراعيه ليطل على غرفة واسعة مطلية جدرانها بالكلس، وتضيئها نافذة واحدة، يحميها من الخارج باب شبك خشبي مخلع. وأما أثاث الغرفة فكان يشتمل على صف من الكراسي قد نضدت على امتداد طول الغرفة، وهناك طاولة مصنوعة صناعة بدائية قد احتلت عرض الغرفة حتى يتم

ص: 176

استخدامها كمكتب للعمل. وقد غطت الجدران بألواح من مختلف الأشكال والألوان التي تمثل المصطلحات والرموز المستخدمة على الطرق - كشارات لسائقي السيارات ولتنظيم المرور -. وكان عشرات الرجال يترددون على هذه الغرفة طوال النهار، حيث كان يجلس في نهايتها رجل متوسط العمر يستند إلى الطاولة بمرفقيه. وكان هذا الرجل متوسط الطول (مربوع القامة) تشع من عينيه نظرات معبرة ونشطة، تعكس حماسة صاحبها وهو يتحدث باستمرار مع زواره حيث ينجز لهم ما يطلبونه من الأعمال بطريقة محببة وهو يمارس دوره باعتباره مدربا لقيادة السيارات (السواقة). وكان بعض تلاميذه يتابعون التدريب، في حين كان آخرون ينتظرون دورهم وهم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم. وكان باستطاعة الواقف إلى النافدة المطلة على الشارع أن يرى محطة للوقود، توقفت فيها مجموعة من المركبات (السيارات) المعدة للتدريب (وقد كتب عليها - مدرسة قيادة السيارات).

وكانت هناك مسطبة لمقهى يتاخم هذه المحطة وقد ارتفعت فيها الأشجار التي أظلت بظلها مجموعة من الطاولات وقد جلس حول كل واحدة منها رجلين أو ثلاثة من الزبن (الزبائن أو الرواد). وضمن هذا المثلث، حيث لم يكن لا السائقين ولا السابلة - المارة - يعيرون انتباها لما يدور حولهم بسبب حركة المرور الكثيفة والتي لم تكن لتتوقف أو تهدأ في أي وقت من الأوقات، ضمن هذا المثلث اختارت المنطقة الأولى إقامة قيادتها تحت غطاء (مدرسة تدريب قيادة السيارات - السواقة) وكان سائقو السيارات، ورواد المقهى وزبن محطة الوقود وطلاب التدريب يعملون جميعا بتنسيق تام وتعاون مذهل. وكانت حركة مستأجري المهجع في غدوهم وإيابهم تقدم

ص: 177

الغطاء المناسب للمناضلين الفدائيين الذين كانوا يترددون على هذا المكان لتقديم تقاريرهم عن إنجازهم لمهماتهم وواجباتهم، ولتلقي معلومات جديدة. وقد فرضت قيود دقيقة، وأنظمة محكمة، سمحت للطلاب المزيفين بالتحرك بحرية تامة في وسط الطلاب الحقيقيين الذين جاؤوا للتدريب على قيادة السيارات والحصول على الإجازات التي تسمح لهم بممارسة العمل في قيادة السيارات فيؤمنون بذلك الغطاء الذي يستر عمل المنظمة السرية، حيث كان أعضاء المنظمة يضطلعون بإنجاز كافة الأعمال، وتنفيذ مختلف المهمات، في كل يوم، وبنجاح تام، وبعيدا عن كل الشبهات.

كانت الساعة (1600) من يوم 28 حزيران - يونيو - 1960 عندما توقفت سيارة من سيارات التدريب على القيادة أمام مبنى بلدية (ود - سمار) الملحقة بالحراش. وكان هذا المبنى الإداري يضم (صندوق البريد) للمنظمة السرية، والجهاز العصبي لاتصالات الفدائيين وكان موظفو هذا المركز يمارسون عملهم بطريقة دقيقة لا تترك مجالا للشك أو الشكوى، وهم يؤدون واجباتهم الوظيفية تحت مراقبة المسؤولين من مدنيين وعسكريين

وكانت هيئة الموظفين المذكورة تستفيد من غطاء عملها الرسمي، لتساعد منظمات الفدائيين السرية في تحرير الرسائل والمحافظة عليها وتوزيعها. وكان السعاة (راكبي الدراجات النارية) والذين تحمل دراجاتهم لوحات (مدينة الجزائر) يؤدون متطلبات الخدمات الإدارية، فيخترقون الأحياء المجاورة لاكتشاف كل نشاط تقوم به القوات الفرنسية، ونقل أوامر جبهة التحرير الوطني وتوجيهاتها إلى الثوار (الماكي) في مراكزهم المجاورة. وكان المركز الإداري - للبلدية - يعمل علاوة على ذلك في تنظيم الأمور الاجتماعية، فيساعد الأرامل واليتامى من

ص: 178

نساء الشهداء وأبناءهم، ويرعى أسر المجاهدين الذين أودعتهم السلطات الاستعمارية في السجون. وعلى الرغم من قيام ضباط الحرس المتحرك، وضباط المظليين، والمسؤولين في البلدية، وعلى الرغم أيضا من تعيين ضباط من (مكاتب الشؤون الأهلية - الساس) في قلب هذا المركز البلدي. فإن الموظفين فيه استمروا في ممارسة عملهم، ولم تضعف إرادتهم، وبصورة خاصة إثنان منهم كانا على معرفة تامة بكافة أسرار المنظمة السرية للفدائيين. وكانا يمتلكان قدرا من الشجاعة البطولية مكنتها من متابعة دورهما دون توقف، ودون خوف من الزيارات المباغتة التي كان يقوم بها المسؤولون الفرنسيون من مدنيين وعسكريين.

لا زالت عربة (تدريب السواقة) متوقفة أمام مبنى البلدية. وقد أشار سائقها إلى موظف يعمل في المركز واسمه (محمد الأندلسي). فاستأذن هذا رفاقه بالخروج متذرعا بحجة الذهاب لتلقي درس في قيادة السيارة حدد موعده في هذه الساعة. وصعد إلى جانب السائق، المدرب، وانطلقت السيارة على الفور، وما إن وصلت إلى الطريق العام، بعيدا عن أنظار الفضوليين، حتى قام السائق بإبلاغ (محمد الأندلسي) أمر قيادة جبهة التحرير الوطني التي كلفته باغتنام مناسبة اليوم الخامس من تموز - يوليو - للقيام بعمل مثير له أثر نفسي بعيد.

لقد أراد المسؤولن استخدام الأسلحة النفسية التي كان يستخدمها العدو ذاته ولكن بطريقة أكثر فاعلية وأكبر تأثيرا. ولم يكن

ص: 179

لديهم في هذا المجال إلا القليل من الوسائط المادية - الأعتدة - غير أنهم كانوا يمتلكون بالمقابل عناصر مؤهلة ولديها كفاءة عالية جدا بالإضافة إلى إيمان عميق بشرعية خوضها للصراع. وكانت الصدمة المتوخاة من هذه المهمة تحتل مرتبة عالية من الأهمية، وهي تتطلب الابتعاد عن (الحراش) للمثول في صباح اليوم التالي إلى المكان المحدد، وهو أحدث مقهى في العاصمة (مقهى لوداميا) الواقع عند عقدة الشوارع الرئيسية في المدينة. وقد تطاولت تلك الليلة على المكلف بتنفيذ المهمة (محمد الأندلسي) حتى اعتقد أن فجرها لن يطلع عليه، وقد زاد من قلقه إدراكه لما تتطلبه المهمة من خيال خصب ومن اختيار للوسائل التي لا زال من الصعب عليه اختيارها واستخدامها. المهم في الأمر، هو أن (الأندلسي) قد وصل في الموعد المحدد، فوجد من ينتظره وقد جلس إلى طاولة في زاوية من المقهى. فتم تبادل شارات التعارف من مسافات بعيدة، وتقدم (الأندلسي) فجلس إلى جوار أخيه الفدائي، وبدأ الحديث بينهما على الفور. وكان (الأندلسي) يتحرق شوقا لمعرفة كافة التفاصيل المتعلقة بمهمته المقبلة.

كان التنظيم السري للعدو، والذي عرف فيما بعد باسم (التنظيم السري للجيش الفرنسي - واس) قد نفذ بعض العمليات من هذا النوع وها هم الفدائيون يتحركون على أرضه الخاصة ويسخدمون أجهزته وترتيباته ذاتها. وكانت الإدارة الفرنسية تعمل على نقل صلاة الجمعة بالتناوب، مرة من مسجد أتباع (مالك - أو المالكيين) ومرة من مسجد أتباع (أبو حنيفة - أو الحنفيين) محاولة بذلك الوقوف موقف الحياد من المذهبين

ص: 180

الدينيين. وكانت عملية نقل الصلاة تذاع على موجات الأثير بالبث المباشر على موجات راديو الجزائر (أو ما كان يسمى محطة فرنسا

الخامسة).

وكانت الترتيبات الفنية تنتقل نوبا، لتتفرع مرة إلى (المسجد الكبير) ومرة إلى (مسجد الصيادين) وكان موقع المسجد الكبير يشكل مصيدة حقيقية لكل عمل فدائي، لأن كافة المحاور المؤدية إليه تنتهي إما إلى حصون القيادة البحرية، أو إلى التحصينات المتاخمة للبحر، الأمر الذي كان يفرض تجنب القيام بأي عمل في هذا المسجد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد كان لا بد من تكليف فدائي آخر للعمل من أجل القيام بعمل مماثل بهدف تضليل العدو إذا ما استنفر فواته.

كان مسجد (الصيادين) بالمقابل يضمن توافر كل المتطلبات الضرورية للانسحاب بسهولة، إذ كانت تجاوره شوارع فرعية عديدة يمكن استخدامها للتفرق في كل اتجاه بعد تنفيذ العملية. وتمت دراسة المهمة بأدق تفاصيلها، ووضع مخطط تنفيذها في زاوية المقهى، وتحت مراقبة رجال الشرطة والدوريات العسكرية التي كانت تتجول باستمرار على الرصيفين المجاورين للشارع. وتم وضع نص البيان - باللغة العربية - ليصار إلى توزيعه على أوسع نطاق ممكن، وفي كافة شوارع العاصمة. وقد تولى الفدائيون تنفيذ هذا الجانب من المهمة. أما الجانب الآخر فتمثل بالمهمة التي قضت بقراءة نسخة من هذا البيان وإذاعته على موجات الأثير (من إذاعة فرنسا الخامسة). وذلك أثناء نقل صلاة يوم الجمعة. وتضمن نص البيان دعوة من (جبهة التحرير الوطني) إلى الشعب الجزائري، لإعلان الإضراب العام في ذكرى اليوم المشؤوم الذي احتلت فيه

ص: 181

فرنسا الجزائر. وللتأكيد على التزام الشعب الجزائري بتأييده (لجبهة التحرير الوطني) ووقوفه مع (جيش التحرير الوطني).

جرت بعد ذلك مناقشة مخطط التنفيذ، فتقرر تكليف زمرة من بعض الفدائيين، واجبها إثارة الفوضى والاضطراب في وسط العسكريين الفرنسيين الذين كانوا يحيطون بمنطقة الجامع (المسجد). ومن واجب هذه الزمرة أيضا مراقبة كافة أبواب المجد بهدف منع كل عملية هروب من داخل المسجد إلى خارجه. وكان الأمر الذي تلقته الزمرة بهذا الصدد دقيقا وحازما؛ تيسير دخول المصلين إلى المسجد ومنعهم من الخروج. وفي الوقت

ذاته نظمت مجموعة أخرى من الفدائيين - زمرة - واجبها الإشراف على التنفيذ وتشكيل نوع من القيادة للعملية. ولم يبق بعد هذا الإجراء إلا قيام المنفذ (محمد الأندلسي) بدخول المسجد، وتلاوة بيان الجبهة.

قام (محمد الأندلسي) في الموعد المحدد بوداع عائلته وداعا مؤثرا، غير أن هذا التأثر لم يصل إلى حد الانتقاص من البهجة التي كانت تعمر قلب (محمد الأندلسي) باحتمال انضمامه إلى قافلة الشهداء. وقد باتت أمنية الأعداد الكبرى من جماهير الجزائريين هي طلب الشهادة، وبلوغها، دفاعا عن كل موطىء قدم من الأرض

التي دنسها الفرنسيون، والتي أقسم الجزائريون على تطهيرها بسيل غزير من الدماء الزكية الطاهرة. وخرج (محمد الأندلسي) من منزله، وقد حمل معه كيسا صغيرا علقه على كتفه، ووضع فيه جلبابا (غندورة) وعمامة تشكل كفنا، وآلة حلاقة آلية - ميكانيكية ثم مضى في طريقه حذرا وسط ثكنة عسكرية شملت كل شوارع المدينة، ودخل شارعا فرعيا طويلا ظهر لامتداده أنه لن ينتهي. وكانت الرغبة

ص: 182

المحتدمة في نفس (محمد الأندلسي) تدفعه لاستشارة ساعته في كل ثانية، غير أنه امتنع عن الاستجابة لرغبته حتى لا يجذب الانتباه إليه. وأخيرا ظهرت له مئذنة الجامع، شامخة بكبرياء، تمثل كل الحضارة .. الإسلامية، وهزت جسد (محمد الأندلسي) رعدة قوية لرؤيتها، وأدرك أنه وصل إلى هدفه، فمضى بخطى ثابته، وهبط درجات المدخل المؤدي إلى الباب الكبير للجامع (المسجد). وتبادل - سرا - التحية مع زمرة الفدائيين - الأخوة - الذين كانوا يستندون إلى (الدرابزوق) وظهرت عليه علامات الارتياح لما شعر به من احترام لتدابير الحيطة الهادفة للمحافظة على سرية العملية. واتجه مباشرة وهو يتوغل داخل المسجد إلى المكان المخصص للوضوء، حيث كان يصطف إلى يساره نسق من دورات المياه (المراحيض). ودخل (محمد الأندلسي) الى دورة من دورات المياه، وأوصد مغلاق الباب، وأخرج من كيسه آلة الحلاقة، فحلق ذقنه، وأصبح بلا لحية - كما خلع (شاربه) الذي جهد في منزله على وضعه بعناية فائقة في موضعه، حتى بات مميزا لملامح حامله في نظر أولئك الذين رأوه داخلا إلى المسجد، أو هؤلاء الذين عرفوه عن قرب أو عن بعد. ثم خلع بنطاله وارتدى الجلباب (الغندورة) ووضع العمة على رأسه فاكتمل بذلك تنكره. وكان هناك صوت أجش لرجل يشرح بعض الأحاديث النبوية الشريفة، يرتفع من الطابق الأسفل للمسجد، في حين كانت أصوات عصبة من المتسولين ترتفع على صوت المحدث وتقاطعه. وكان منظر هذه العصبة من المتسولين تمثل جرحا في جملة الجراح النازفة التي خلفها الاستعمار الفرنسي المرعب في جسد الأمة الجزائرية.

انتهى (محمد الأندلسي) من الوضوء، وصعد درجات السلم

ص: 183

المؤدي إلى ساحة المصلى الفسيحة. وكان المؤمتون المصلون قد اصطفوا أنساقا متراصة ينتظرون موعد الخطبة والصلاة. ولم يكن الوصول إلى المحراب سهلا وسط هذا الزحام، إذ كان لا بد من تجاوز كل هذا الجمع الحاشد. وأمكن تجاوز الصعوبات والوصول الى الهدف، مع تقديم آلاف الأعذار للمصلين المؤمنين الذين كانوا يصوبون نظراتهم المتسائلة الى هذا الذي سار مخترقا صفوفهم على غير ما جرت عليه - العادة، حتى وصل إلى جوار المحراب، واختار مكانا لجلوسه. وأخذ في إعداد نفسه للعمل في اللحظة المؤاتية. وكان صمت المصلين وخشوعهم كافيا لإثارة مختلف المشاعر. ولم يعد يشعر الفدائي (محمد الأندلسي) إلا وجيب دقات قلبه، وإلا بإيقاع رقاص الساعة المعلقة فوق المحراب.

لم يكن من المسموح به الوقوع في أي خطأ، إذ أن أي حركة في غير محلها كافية لإثارة الشكوك، وتعريض الشبكة بكاملها لخطر الدمار. وكان المنفذ الرئيسي (محمد الأندلسي) يحمل أكبر قسط من المسؤولية، ولهذا فقد انصرف بتفكير. كله نحو إنجاز المهمة بنجاح تام، ولم تنتابه، ولو للحظة واحدة، فكرة عما قد يتعرض له، وكان جل اهتمامه هو تنفيذ الواجب الذي أخذ على عاتقه مسؤوليته ونتائجه وبينما كان (الأندلسي) مستنفرا لكل أعصابه، متحفزا، ارتفع صوت الإمام وهو يمسك بمكبر الصوت:(الله أكبر) - وقفز (الأندلسي) واختطف من يده (المكبر). وانطلق في حديثه: (باسم جبهة التحرير الوطني، وباسم جيش التحرير الوطني ..) واستمر في إلقاء البيان، من غير أن يعارضه الشيخ الإمام أو يقاطعه، وكان جمهور المصلين يستقبل فقرات البيان بهتاف مجلجل كارعد، في حين كانت زغاريد المسلمات (اليويو) ترتفع

ص: 184

من سدة النساء، فتزيد من حدة الهياج ومن شدة الحماسة. وانتهى البيان، وتدافعت جموع المصلين لتحيط (بممثل جبهة التحرير) وهي ترفع الهتاف الذي كان يتصاعد إلى عنان السماء. وتدافع جمهور المسلمين كالموج المتلاطم. حتى أن (محمد الأندلسي) لم يجد طريقه إلا بصعوبة. وأمكن له تغيير ثيابه، والعودة إلى ثيابه الاعتيادية والوصول إلى الشارع بعد عناء كبير ومشقة لا توصف. فاتجه إلى مقهى أوروبي. حيث التقطته عربة (التدريب على السواقة).

ص: 185