المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحرب في الولاية الثالثة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٢

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ الحرب في الولاية الثالثة

3 -

‌ الحرب في الولاية الثالثة

(*)

لا تمثل هذه الفقرة تقريرا رسميا عن الحرب في الولاية الثانية، وإنما هي مجرد عرض لمجموعة من الأحداث اشترك فيها أحد قدامى مجاهدي جيش التحرير الوطني (واسمه إبراهيم بربيج). غير أنها كافية لإعطاء فكرة واضحة عن طبيعة الحرب في هذه الولاية من (ولايات الكفاح). وقد ذكر المجاهد: إبراهيم بربيج قصة علاقته بالثورة فقال:

تعود علاقتي بجيش التحرير الوطني الجزائري، إلى تطوعي في الناحية الأولى من المنطقة الثالثة في الولاية الثانية. يوم (10 أيار - مايو - 1955). وجاء يوم الخميس، الأول من رمضان - سنة 1956 - حيث وجدنا أنفسنا في دوار (ولد جمعة) ناحية (كولو) فتناولنا طعام السحور، وكان عدد مجاهدينا في هذه الناحية يناهز

الأربعين مجاهدا يتولى قيادتهم الأخ (رباح اليوسف) من مواليد (ود زيناتي). وقررنا في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (الخميس) أن ننتقل إلى دوار (سيدي عاشور) في ناحية (كولو)

(*) REF. RECITS DE FEU (SNED،S.N.EL MOUDJAHED) ALGEE 1977.P.P. 160 - 169. PAR. BRAHIM BERBEDJ.

ص: 159

ذاتها. وشرعنا بالمسير على الفور، حتى وصلنا حدود قريتين تحملان اسمي (التاراس - و- أنمعة). وأردنا اجتياز الطريق. وعندئذ وصلنا ضجيج صاخب، فعرفنا فيه ضجيج العدو وصخبه، فتوقفنا على الفور، وأخدنا في نصب كمين. وما هي إلا فترة وجيزة حتى وصلت ثلاث عربات من عربات نقل الجند (كميونات) وانطلقت نيران الأسلحة طوال عشر دقائق تمت خلالها إبادة القوة الفرنسية إبادة كاملة. وقام المجاهدون بجمع الغنائم التي ضمت أربعة أسلحة أمريكية آلية (أوتوماتيكية) وجهازا لاسلكيا. بالإضافة إلى أسر جندي فرنسي، كما حصل المجاهدون على كميات من الأعتدة التي كانت محمولة في عربات النقل. ورجع المجاهدون سالمين غانمين ولما يصب أحد منهم بأذى.

وكان فرج المجاهدين كبيرا لنجاحهم في تنفيذ مهمة لم يسبقها أي إعداد أو تحصير، وإنما كانت عملية ساقتها إليهم الصدفة فقط. وما إن ابتعد مجاهدونا عن موقع الكمين حتى ظهرت الطائرات القاذفة، وأخذت في التحليق فوق المنطقة، وتوزيع قنابلها هنا، هناك على غير هدى، ودونما هدف محدد. أما بالنسبة للأسير الذي تم أخذه، فقد اقتيد إلى حد (بني تليلان)، حيث كان يعقد في هذه اللحظة بالذات مؤتمر على مستوى الولاية، في مكان يحمل اسم (مزرعة بو الأقمار) من ناحية (المليا) فسلمنا الأسير إلى المسؤولين الذين قرروا إطلاق سراحه، حتى يعود إلى وطنه (فرنسا). وحتى يؤكد لمواطنيه ما شاهده من تصميم الثوار على متابعة الجهاد واستعدادهم لذلك.

توافرت لنا فرصة في نهاية شهر تموز - يوليو - وبداية شهر آب - أغسطس - 1956 لعقد اجتماع على مستوى الولاية الثانية، وتم عقد

ص: 160

هذا الاجتماع في (دوار زبابرة) من مشتى (شكايل). وتقرر في هذا الاجتماع اختيار قطاع من القطاعات للقيام بعملية. وأسندت مهمة الاختيار للأخ المجاهد (حسين بوحاج) من (كولو). وعلى هذا الأساس، توجه المجاهدون إلى (الزيتونة) بهدف نصب كمين للعدو على الطريق ما بين (الزيتونة) و (الشريعة) - وقد عرف المجاهدون بأمر مرور ثلاث عربات نقل للجند إلى (كولو) فقرروا نصب كمين لها على طريق عودتها. غير أنه لم ترجع إلا عربتان من عربات النقل، أما العربة الثالثة (الكميون) والعربة الخفيفة (الجيب) فقد بقيتا في (كولو). فقرر أفراد الكمين عدم التعرض لمركبتي النقل (الكميونين)، وما إن حان موعد الظهيرة، حتى ظهرت عربة النقل (الكميون) والعربة الخفيقة (الجيب). وعندما وصلت المركبتان إلى منطقة الكمين، فتح المجاهدون نيرانهم، وتمكنت عربة النقل الكبرى من الفرار، بينما تمكنت نيران قوة الكمين من قتل ثلاثة ركاب كانوا يمتطون العربة وأخذ الرابع أسيرا، وكان هذا هو قائد القافلة والمسؤول عنها.

غنم المجاهدون بنتيجة هذا الكمين غنيمة هامة شملت كيسين (حقيبتين كبيرتين) تحتويان على وثائق ورسائل وحوالات، بالإضافة إلى مبلغ نقدي قدره (117) ألف فرنك - قديم -. واستولى المجاهدون أيضا على أربعة أسلحة آلية - أوتوماتيكية - (أمريكية). وانسحب المجاهدون ومعهم أسيرهم. غير أن الطيران الذي استنفرته القيادة الفرنسية أخذ في مطاردة قوة الكمين، ولكن من دون جدوى. وظن المجاهدون أن باستطاعتهم الابتعاد عن منطقة العملية، ولكن العدو قام بإقفال الطريق، وشرعت (17) طائرة قاذفه بإلقاء قنابلها لإعاقة المجاهدين ومنعهم من عبور النهر،

ص: 161

ولما كان الوادي الكبير في حالة فيضان، فقد أغرق بعض المجاهدين. وظهر واضحا أن الاشتباك مع العدو بات أمرا حتميا لا مفر منه. واستشهد أربعة من المجاهدين، وتكبد العدو بدوره بعض الخسائر، غير أن الحظ لم يبتسم للمجاهدين. - عموما - في هذه العملية.

لم تتمكن قوة المجاهدين من إعادة التجمع إلا في (بوزبوغ) حيث انطلقت منها إلى قرية (طاهر) بعد استراحة قصيرة، وأقامت في (بني حبيب). وقد أراد المجاهدون نصب كمين جديد في (الشقفة). غير أن وجود (9) وحدات من قوى البحرية حمل المجاهدين على تغيير خطتهم، والعدول عن رغبتهم. وتابع المجاهدون تنقلهم بين مشتى (ولد بوفيحا) ودوار (الولجة -كولو). وكان المجاهدون يجدون لأنفسهم فترة من الراحة عندما يستقرون في (جبال القطة) و (تازروت). لينتقلوا بعدها إلى (أحجار مفروه) و (دوار زكار). وكان تكتيك المجاهدين كله قائما على التحرك الدائم، وعدم الاستقرار، لتضليل العدو باسمرار. أثناء إقامة المجاهدين في (دوار زكار) توافرت لهم المعلومات، عن طريق شبكة استخباراتهم، بأن قافلة فرنسية من عربات النقل، قد خرجت من قرية (عين كشرة) متجهة نحو (كولو) أو (سكيكدة) بهدف نقل مواد تموينية وإمدادات على ما يعتقد. فقام المجاهدون بنصب كمين في (دوار زكار) واستخدموا أغصان الأشجار للتمويه، وساروا مسافة تسعة كيلومترات حتى وصلوا الموقع الذي تم اختياره للكمين فيما بين (عين قشرة) و (دراع الأشهب). وفي الساعة (1640) ظهرت القافلة الفرنسية وهي في طريق عودتها. وكان عددها (31) عربة نقل - كميون - بالإضافة إلى عشرة عربات كانت

ص: 162

تحمل مواطنين جزائريين. وما إن وصلت القافلة إلى موقع الكمين حتى غمرتها نيران المجاهدين، ولم يكن من الغريب على هؤلاء المجاهدين تدمير عربات القافلة كلها في دقائق قليلة، ولم تتمكن من النجاة إلا العربة الخفيفة (الجيب) والمدرعة التي كانت ترافق القافلة للحراسة. وحصل المجاهدون على غنيمة كبيرة شملت (22) مسدسا و (7) أجهزة لاسلكية، ومواد تموينية منها كميات من السكاكر والشوكولا. وعلى الأثر ظهرت ثمان طائرات قاذفة، لم تتأخر عن إلقاء حممها لتدمير المنازل المحيطة بالمنطقة وإحراق الغابات. وخشي المجاهدون من مطاردة العدو لهم، فتفرقوا على الفور، وتوجهت كل كتيبة إلى الإقليم الذي جاءت منه.

زج العدو بثقل قواته لمطاردة المجاهدين، فحشد (45) ألف جندي لتطويقهم، مع ما توافر لهؤلاء الجنود من دعم هائل كالطيران والمدرعات والمدفعية، غير أن العدو لم ينجح في الانتقام لقتلاه، فتوجه بانتقامه إلى المدنيين، ولم يكفه ذلك فأخذ في إحراق الغابات، وتدمير المنازل والبيوت وقتل الحيوانات (البهائم) وإتلاف الحدائق والممتلكات واستمر ذلك طوال خمسة عشر يوما. وكان انتقام العدو من المواطنين، ثقيلا، ومرهقا. برهن فيه المواطنون العزل من السلاح أنهم على العهد بهم، أقوياء بأنفسهم، تملؤهم ثقة لا تتزعزع بقدراتهم وبقوة جيشهم - جيش التحرير الوطني -.

تكونت قناعة لدى العدو بأن الثوار (العصاة أو الفلاقة) منتشرون في كل زاوية من زوايا المنازل، وعلى كل غصن من أغصان الأشجار، وفي مجرى كل نهر من الأنهار، وهكذا انطلق بعملية قصف مرعبة حيث أخدت طائراته بقصف كل الأقليم قصفا

ص: 163

وحشيا أصاب بصورة خاصة قرى (الملية) و (كولو) و (عين قشرة).

أصدرت القيادة أمرها في يوم 16 آب - أغسطس - 1957 إلى ناحية (سكيكدة) بتكليف (إبراهيم بربيج) بقيادة كتيبة من مائة وعشرة جنود يعاونه قادة الفصائل (سيد سعود من شكيكدة) و (محمود ناطور من بني زايد) و (بن عاشية) من (زبابرة - كولو). وذلك للاضطلاع بمهمة التوجه الى الشرق لجلب الأسلحة والإمدادات. وانطلقت الكتيبة من (بني زايد - ناحية كولو) واتجهت نحو (سكيكدة) حيث أجرت اتصالا مع المسؤول (محمد ناموس) الذي جهز الكتيبة باثنين من الأدلاء - الكشافة - كانا يعرفان الطريق معرفة جيدة. ومغادرت الكتيبة (سكيكدة) على طريق (بالو) متجاوزة قمم ومرتفعات جبل (لاليا) حتى وصلت مشتى (واديا). وقد استطاع العدو تقصي أثر هذه الكتيبة ومتابعتها على الرغم من كل تدابير الحيطة التي اتخذتها، وعلى الرغم من تحركها في الليل باستمرار. وقام المسؤول في (مشتى واديا) بإمداد الكتيبة بالأغذية والمواد التموينية، فاستأنقت الكتيبة مسيرها في الساعة (2100) من يون 23 آب - أغسطس - 1957.غير أنها ما لبثت أن اشتبكت بقوات العدو، فأمرها قائدها بالتفرق واللجوء إلى الغابة القريبة. غير أنها ما لبثت أن اشتبكت بقوات العدو، فأمرها قائدها بالتفرق واللجوء إلى الغابة القريبة. وفي اليوم التالي جاءت طائرات عمودية - هيليكوبتر - وهبطت في المكان الذي وقع فيه الاشتباك. وعرف المجاهدون عندئذ أنه سقط للعدو في منطقة الاشتباك أحد عشر قتيلا. ولما لم يعد هناك أثر للمجاهدين، فقد اقتنع العدو بأنهم قد غادروا الإقليم. فقام - كعادته - بعملية انتقامية من الدواوير

ص: 164

المجاورة. وفقد العدو كل أثر للكتيبة، ولم يتمكن من اكتشافهم على الرغم من استخدامه لطيران الاستطلاع.

تابعت الكتيبة طريقها نحو (تانغوت) متبعة دروب جبل (دباغ). ودخلت في المنطقة الرابعة لدى وصولها الى قرية (الهوارة). فتابعت سيرها نحو (لاغرين) ثم سلكت الطريق ما بين (سوق أهراس) و (عين ساطور). وكانت القوات الفرنسية تعمل خلال هذه المرحلة على إقامة الحط العازل الشهير - على الحدود التونسية - والمعروف باسم (خط موريس). وسارت الكتيبة من (سوق أهراس) إلى (حمام أوشات) حيث عمل المجاهد - المسؤول - (عبد الرحمن بن سالم) فجهز الكتيبة بدليل آخر - كشاف - لمرافقه الكتيبة. ووصلت الكتيبة إلى (غارديماو) في يوم 5 أيلول - سبتمبر - 1957 حيث تم الاتصال عن المسؤول لتزويد الولاية الثانية بالسلاح والعتاد. وتسلمت الكتيبة الأسلحة المقررة، وكيسين من المواد الطبية، ثم شرعت في السير على طريق العودة في

اليوم الأول من تشرين الأول - أكتوبر - وذلك بعد أن انضمت كتيبة أخرى إلى الكتيبة السابقة كانت تحت قيادة (عز الدين) وكانت مقيمة في (تونس). ومعها (40) جنديا من منطقة (ساونا - المنطقة الرابعة من ناحية غلمة). وكان هؤلاء الأربعين جنديا هم بقايا كتيبة عملت تحت قيادة (جابوربي) وتكبدت خسائر فادحة حتى لم يبق إلا عشر قوتها.

وهكذا بات تحت قيادة (إبراهيم بربيج) قوة كتيبتين وأربعين جنديا - أو ما يقارب مائتين وثمانين مجاهدا - كلهم مسلحون ومعهم (45) بغلا لحمل الأسلحة والذخائر. وتوجهت هذه القافلة

ص: 165

نحو (عين سلطان) ثم إلى (كف أغراب - بني صلاح). ولم يكن في هذه الجبال إلا كتيبة واحدة من كتائب جيش التحرير الوطني تعمل تحت قيادة المجاهد (عمر شكاي) يساعده المجاهد (عوفي). ولم يكن لدى هذه الكتيبة من الأغذية والمواد التموينية ما تستطيع أن تقدمه لأفراد القافلة. وكان لا بد من الاكتفاء بشراء ما هو متوافر في القرية من الكعك. وقام المجاهد (عمر شكاي) بتكليف خمسة من المجاهدين لمرافقه القافلة وتوجيهها حتى الوصول بها إلى (خط موريس) وبات من السهل على القافلة بعد ذلك اجتياز هذا الخط والوصول إلى (لاغرين). عير أن العدو استطاع اكتشاف أمر القافلة، فوجه طيرانه لمطاردتها ومتابعة تحركها ونجحت القافلة في الوصول إلى غابة، واللجوء إليها. وانتقلت منها إلى (الهوارة) ثم إلى (الدباغ) و (دوار بو طيب) حيث وجدت الراحة فيه لمدة ثلاثة أيام، كان المطر يهطل خلالها من غير توقف. وما إن اعتدل المناخ، وتوقفت العاصفة، حتى استأنفت القافلة تحركها حتى وصلت (الغدير) مخترقة المنطقة بين (كاستونفيل) و (الهاروش) ثم وصلت إلى (كالو) بدون أن تتعرض لأية خسارة. وكان هذا النجاح سببا في تكليف قائد القافلة (إبراهيم بربيج) بالعودة لتنفيذ مهمة مماثلة.

غادرت الكتيبة مجددا مقرها في (عين تايا) يوم 3 تشرين الثاني - نوفمبر - 1957 وتوجهت نحو جبل (دباغ) حيث اتصل قائدها بالمسؤول عن المنطقة الرابعة (محمد روح) الذي قدم لقائد الكتيبة عرضا بالمعلومات المتوافرة لديه عن حالة الطرق ومحاور

ص: 166

في الطريق نحو الهدف - المدفعية الثقيلة لدعم المجاهدين

ص: 167

المرور التي تصل إلى الشرق. كما وضع أربعة من الجنود الأدلاء الذين وجهوا الكتيبة حتى وصولها إلى (خط موريس) حيث وصلت الكتيبة إليه يوم 7 تشرين الثاني - نوفمبر -. وأقامت في جبل مجاور لمدة أربعة أيام، حيث انضم إليها ثلاثون جنديا - أرسلهم (محمد روح) وكلفه باصطحابهم إلى تونس.

قرر قائد الكتيبة عبور خط (موريس) يوم 11 تشرين الثاني - نوفمبر - وتجهزت الكتيبة لهذه الغاية برفش ومعول، ومقصين لقطع الأسلاك الشائكة ومجرفة. وكانت الساعة (2300) عندما وصلت الكتيبة إلى موضع يضم طريقا يستخدمه العدو للوصول إلى الجبال والتوغل فيها. وكان يتم إقفال هذا الطريق ليلا بسياج شائك يشبه زوجا من الأبواب. وتم قص الأسلاك عند الباب الأول، ثم أمكن اجتياز حقل الألغام، والوصول إلى الباب الثاني، وقص الحلقة الكبيرة التي توصده، وجاء بعد ذلك دور الخط المكهرب. حيث اجتاز المجاهدون الطريق زحفا من تحت الأسلاك الشائكة حتى تم الوصول إلى الطرف الثاني من (خط موريس). ووجد المجاهدون أنفسهم أمام واد كبير، تحيط به الحدائق المزروعة بأشجار التين. وشعرت القوات الفرنسية بوجود المجاهدين، واكتشفت أمر الثغرة التي مروا منها، فشرعت مدفعيتهم بالقصف على طرق مرور كتيبة المجاهدين، غير أن هؤلاء نجحوا في اللجوء إلى منطقة من جبال (بني صلاح) كانت متميزة بوعورتها الشديدة، وبصعوبة وصول العدو إليها.

قام قائد الكتيبة بعد يومين اثنين بإرسال مجاهدين بمهمة استطلاع المنطقة، ولكنهما لم يبتعد كثيرا حتى باغتهما العدو بالرمي

ص: 168

عليهما. فرجعا على الفور سالمين ولما يصابا بأذى. وظهر أنه لا بد من السير في الليل للإفادة من الظلمة بهدف الوصول إلى تونس. لا سيما وأن الوحدات الفرنسية قد انتشرت منذ خمسة عشر يوما في كل ناحية من نواحي الإقليم. وفي الوقت ذاته. كانت قدرة افراد الكتيبة قد استنزفت لبقائهم بتسعة أيام من غير طعام. ووصلت الكتيبة بعد يومين الى خط (شال) في قطاع (دار البيضا) غير بعيد عن (بوحجار). وحاولت الكتيبة في يومي 20 و21 تشرين الثاني - نوفمبر - القيام بعدد من المحاولات لعبور خط (شال) غير أن القوات الفرنسية تمكنت في كل مرة من إحباط المحاولة. وفي يوم 22 تشرين الثاني - نوفمبر - توجه قائد الكتيبة للقيام باستطلاع شخصي للمنطقة، وصعد إلى إحدى الهضاب المرتفعة حيث أمكن مشاهدة أحد الدواوير.

وعندها، قرر التوجه إلى (الدوار) وأمكن له إجراء اتصالات مع الأهلين، بعد صعاب كثيرة وبعد تجاوز عقبات صعبة. وعندما تم اكتساب ثقة الأهلين الذين تأكدوا من شخصيات المجاهدين، عملوا على تعريفهم بمجاهد كان قد وصل إلى الإقليم منذ أيام قليلة. وجاء هذا المجاهد إلى قائد الكتيبة الذي طلب إليه تأمين الطعام لأفراد الكتيبة الجياع والذين مضى عليهم اثني عشر يوما لم يذوقوا فيها أي نوع من أنواع الطعام. وجاء المجاهد بالطعام إلى هؤلاء الذين اصفرت وجوههم وباتوا وهم عاجزين حتى من الكلام.

فتناول المجاهدون ما سدوا به رمقهم، واستراحوا قليلا، وبعدها جلس قائد الكتيبة إلى المجاهد - ابن الإقليم - يستوضحه عن الموقف في الإقليم، وعن المعلومات المتوافرة في موضوع تشكيلات القوات الفرنسية وانتشارها في المنطقة. وأفاد المجاهد

ص: 169

بأن قوات العدو منتشرة في كل مكان، ونتيجة لذلك فإنه من المحال عبور الخط المكهرب (خط شال) غير أن هناك بعض الأمل بتحقيق النجاح في العبور من جهة (الدوار) ولو أن هذا العبور سيتم قريبا من مواقع العدو.

وقررت قيادة الكتيبة بذل المحاولة في مساء اليوم ذاته لإجراء العبور. ولكن ما إن وصلت الكتيبة إلى جوار خط الأسلاك الشائكة حتى واجهت دبابتين معاديتين كانتا تقفان على بعد عشرين مترا فقط من النقطة التي وصل إليها أفراد الكتيبة، والذين التصقوا بالأرض، منبطحين على ثراها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى سارت إحدى الدبابتين متخذة طريقها نحو الدوار، في حين أطفأت الدبابة الثانية أضواءها، وبقيت متمركزة في موقعها، ومحركها مستمر في دورانه. ومكث مجاهدو الكتيبة في مواقعهم ينتظرون انصراف الدبابة الثانية وابتعادها حتى أزفت الساعة الثالثة صباحا، وعندها قرر قائد الكتيبة الإقدام على احتمال مخاطر المجازفة، فتقدم إلى السلك المكهرب، وأمكن له قطعه، وتبعه أفراد الكتيبة الذين شقوا طريقهم زحفا عبر حقول الألغام. وأمكن للمجاهدين عبور المنطقة الخطرة من غير أن يثيروا انتباه سدنة الدبابة. غير أن العدو أخذ في إطلاق الشهب المضيئة ولما يبتعد المجاهدون بأكثر من خمسمائة متر، وأخذت المدفعية في إطلاق قنابلها على الموضع الذي كان يتمركز فيه أفراد الكتيبة قبل قليل، والذي اضطروا إلى أن يتركوا فيه بعض ثيابهم.

وتابع المجاهدون طريقهم حتى وصلوا إلى (واشتاتا) حيث التقوا بالمجاهد (وارثي الأخضر) والذي استقبلهم، وقدم لهم

ص: 170

القهوة، وأمن العناية للمجاهدين الذين أصيبوا بجراح أثناء عبور منطقة الأسلاك الشائكة

وأخيرا وصلت الكتيبة إلى المنطقة التي كان يتولى قيادتها المجاهد (عبد الرحمن بن سالم) وذلك في ظهر يوم 23 تشرين الثاني - نوفمبر - 1958، وكان قد مضى على الكتيبة أحد عشر شهرا من المسير. وكانت المنطقة تضم أربعة آلاف جندي مجاهد استقبلوا إخوانهم أفراد الكتيبة استقبالا حارا أنساهم كل المشاق والمتاعب والمعاناة مما تعرضوا له في رحلتهم الصعبة. وعمل القائد (عبد الرحمن بن سالم) فورا على تخصيص مكان منعزل للكتيبة، وأوصى قائدها بتجنب الحديث عن الصعوبات التي جابهتها الكتيبة أثناء عبورها للحواجز المختلفة، حفاظا على الروح المعنوية لبقية الجنود المجاهدين الموجودين في المنطقة (داخل الحدود التونسية). وأمضت الكتيبة فترة من الراحة، تم بعدها استدعاء قائد الكتيبة لمقابلة مسؤول المنطقة من أجل الحصول عن المعلومات الضرورية المتعلقة بخطوط الفرنسيين. وقد أبدى مسؤول المنطقة إعجابه برجال الكتيبة، وما تحلوا به من الفضائل الحربية، وما أظهروه من الصبر والتصميم.

انتقلت الكتيبة بعد أيام قليلة إلى (أمليز) بهدف ممارسة التدريب على الأسلحة الحديثة. واستمر تدريب الكتيبة طوال أربعة أشهر (من كانون الثاني - ديسمبر - وحتى آذار - مارس 1959) حيث ضمت الكتيبة إلى كتائب أخرى في إطار تنظيم (فوج) يحمل اسم (الفوج الحادي عشر) - ونقل الفوج إلى (عين دراهم) حيث تمركز في (العيون) وكلف بمهمة العمل على تدمير خطوط الأسلاك الشائكة التي كانت فرنسا قد أقامتها على الحدود التونسية. والتعرض للحامية المدافعة عنها.

ص: 171

ويمكن بعد ذلك التعرض لنماذج من بعض هذه العمليات. مثل تلك المعروفة (بعملية العامري) والتي نفذتها مجموعة انطلقت من (عين دارهم) مستخدمة عربات النقل الكبرى - الكميونات - حتى حدود (غار ديماو) حيث ترجل المجاهدون، وتابعوا طريقهم سيرا على الأقدام حتى وصلوا (ودزين) حيث (مقر الفوج 39). وتولى

عندها قائد الفوج (عبد الرحمن بن سالم) إدارة العملية. فجمع المجاهدين جميعا، وشرح لهم طبيعة المهمة، والهدف من تنفيذها ممثلا (بتحرير مواطني منطقة العامري من ضغوط العدو). وقام المجاهدون بتنفيذ المهمة بدقة وإحكام، ولم يتمكن العدو من الصمود أو المقاومة، وقتل عدد كبير من أفراد العدو، وهرب الآخرون. وتم تدمير المعسكر القائم في (العامري) وتحرير المحتجزين فيه والاستيلاء على كمية من الأسلحة والأموال. ولقد تميز القتال بضراوته وشدته الأمر الذي أدى إلى استشهاد عدد من المجاهدين وأصيب آخرون بجراح. ونقل سكان قرية (العامري) إلى قرية (دشرات المجاهد) والتي لا زالت قائمة حتى اليوم. وقد استخدمت في هذه المعركة بعض الأسلحة الثقيلة، مثل الصواريخ، ومدافع الهاون.

ويمكن أيضا الاشارة إلى (الفوج 17) الذي تمركز في (عين الزانة) التي تعرضت لقصف كثيف قامت به ست طائرات قاذفة (ب 26) اعتبارا من الساعة (530) يوم 10 تموز - يوليو - 1960 وأدى الى استشهاد بعض المجاهدين.

وكذلك ما قام به (الفوج 56) الذي نظم هجوما على (عين الكرمة - بوجيلات صنهاجة) خلال شهر شباط - فبراير - 1962 وبدأ

ص: 172

تنفيذه يوم 6 آذار - مارس - 1962 حيث تم الانقضاض على مجموعة القرى المنتشرة على امتداد الحدود الجزائرية - التونسية وقد استمرت هذه المعركة من مساء يوم 6 - آذار - مارس - وحتى يوم 17 منه، وتلقى فيها العدو درسا قاسيا لا ينسى من قبل مجاهدي جيش التحرير الذي استخدم كل الأسلحة الحديثة، بما فيها المدفعية والصواريخ ومدافع البازوكا. وتلقت قوات المجاهدين أمرا يوم 17 آذار - مارس - بفك الاشتباك، وإيقاف إطلاق النار. وفي يوم 18 آذار - مارس - 1962، تلقى المجاهدون أمرا بحفر الحفر لوضع الصواري (جمع صاري) والتي سترتفع عليها أعلام الجزائر عالية خفاقة. ونفذ المجاهدون ذلك، وفي الساعة (1200) من يوم 19 آذار - مارس - قام المجاهدون بتنظيم عرض لقواتهم استمر نصف ساعة، تحت سمع العدو وبصره (بعد أن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ لدى الجانبين).

دخل المجاهدون (عين الكرمة) يوم 6 تموز - يوليو - واحتفلوا فيها بعيد الاستقلال. وكان هذا العيد مناسبة لإحياء ذكرى شهداء المجاهدين الأبرار الذين مهروا راية البلاد بدمهم الطاهر.

***

ص: 173