المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

ومن البيّن أن العناية بتدبُّر وتأويل علاقة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها إنّما هو كالعناية بتدبر وتأويل علاقة مقاصد السور المتتالية ببعضها، وكالعناية بافتتاح القرآن العظيم بسورة "الفاتحة" مبنيٌ على الإيمان بأن ترتيب السور في السياق الترتيلي الذي هو بين دفتى المصحف الذي عليه الأمة جمعاء إنما هو مظهر من مظاهر إعجازه البياني، وأنَّ تناسبه المعجز ليس بالمحصور في تناسب نظمه التركيبي الماثل في بناء الجملة بل هو أيضًأ متحقق على كماله في نظمه الترتيبي الماثل في علاقات الجمل بعضها ببعض في بناء المعقد وعلاقات المعاقد بعضها ببعض في بناء السورة وعلاقات السور بعضها ببعض في بناء البيان القرآني العظيم كلّه مفتتحا بسورة "الفاتحة " ومختتما بسرورة "الناس"

***

‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

..

"البقاعي" يصرح في مفتتح تفسيره سورة"آل عمران" برأي "أبي الحسن ألحرَالّيّ" المتمثل في أنَّ ترتيب بعض السور على ما هو عليه بين أيدينا بين دفتى المصحف إنما هو توفيق:

" قال "الحراليّ" مشيرًا إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنّه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارًا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السُّورِيِّ في مقررهذا الكتاب: هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره.."(1)

البقاعيّ كما ترى هنا مصرّح بصحة القول بأنَّ ترتيب السور إنّما هو باجتهاد الصحابة

ولعلّ الحرَّالي والبقاعيّ من بعده وجمع من العلماء من قبلهما في ذهابهم إلى القول بالاجتهاد من الصحابة في ترتيب بعض السور مثابتهم أو برهانهم ما روي من حديث "يزيد الفارسي" عن "ابن عباس" رضي الله عنهما 0

(1) – نظم الدرر:4/199

ص: 172

روى "الترمذيّ" رضي الله عنه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهل بن يوسف قالوا حدثنا عوف بن أبي جميلة حدثنا يزيد الفارسي حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما قال:

قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتموها في السبع الطول ما حملكم على ذلك؟

فقال "عثمان" رضي الله عنه: كان رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا،وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن،وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ، فوضعتها في السبع الطول ".

قال أبو عيسى هذا حديث حسن

لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال هو يزيد بن هرمز ويزيد الرقاشي هو يزيد بن أبان الرقاشي ولم يدرك ابن عباس رضي الله عنه إنما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه وكلاهما من أهل البصرة ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي

(الجامع الصحيح لأبي عيسى الترمزي: كتاب: تفسير القرآن - سورة التوبة - حديث:3086)

وهذا فيه نظر نافذ:

ص: 173

الحديث رواه "أحمد" رضي الله عنه في مسنده و"الترمزي" رضي الله عنه في جامعه الصحيح عن " يزيد الفارسي متفردًا به ،و"يزيد الفارسي" هذا ذكره "البخاري" رضي الله عنه في الضعفاء، وهو كما ترى غير متيقن اسمه ونسبه (1)

فإذا ما كان هذا حال من تفرد برواية هذا الحديث فكيف يظن به أنّه مما يمكن أن يؤخذ بما فيه ولاسيما في أمر يتعلق بتبليغ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؟

كيف يحسِب حاسبٌ أنَّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا يمكن أن يدع إبلاغ الصحابة شيئا من القرآن الكريم وإن كان ذلك الشيء من أمر ترتيب سور القرآن الكريم؟

إنّ في الاستدلال بهذا الحديث ما لايطمئنّ إلىالقول به أو ترجيح ما فيه أوظنه ظنًا.

ولست بالدافع هذا الاستدلال من أنَّه استدلال بحديث آحاد بل من أنَّ راويه: " يزيد الفارسي" ليس بذاك، ولو أنَّه كان ذا منزلة عند الأئمة لكُّنَّا أول الخاضعين.

المعجب في الأمر أنّ " الحرالّي" يقول في المذهب الذي ذكرته لك من قبل " أنّه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارًا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السُّورِيِّ...."

فلا ندري كيف كان ذلك الإقرار؟

وما وجه أن يدع الله سبحانه وتعالى مثل هذا لعباده وإنْ كانوا صحابة نبيه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؟

(1) - يذهب العلامة " احمد محمد شاكر" في تعليقه على مسند الإمام أحمد إلى أنَّ حديث يزيد الفارسي ضعيق جدصا بل لاأصل له، وذكر ما ما جاء في بعض نسخ " الترمزي" من انّح حسن صحيح فإنّ كلمة " صحيح" ليست صحيحة، وهي زيادة من الناسخ في بعض النسخ، وقد أفاض الشيخ أحمد شاكر في توهين ذلك الحديث وتقرير أنّه لاأصل له 0

مسند الإمام أحمد ت: أحمد شاكر ج 1 ص329

ص: 174

فإن قيل: إن هذا كمثل ما كان من شأن الأذان ومن شأن موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو أمر مدفوع بأن ذلك كان في زمن الوحي فكان الإقرار معلوما بإقرار النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا الذي إقراره من إقرار الوحي لامحالة فيكون مآل الأمر أنه سنة نبوية سبيلها الإقرار.

والذي يقول به "الحرالّي" من اقرار الله سبحانه وتعالى اجتهاد الصحابة في ترتيب سور القرآن الكريم إنما هو أمر كائن على زعمه من بعد انقضاء الوحي، فكيف كان العلم بإقرار الله سبحانه وتعالى ما كان من اجتهاد الصحابة في هذا؟

لو أنَّ "الحرالّيّ " أراد بقوله" باجتهاد الصحابة " اجتهادهم في ترتيبه جمعا بين دفتى المصحف كمثل ما كان جمعا في صدر النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ثم صدور أصحابه رضوان الله عليهم لكان أمرًا غير مدفوع عندنا

أمَّا أنّ النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة لا يقوم ترتيب سور القرآن الحكيم في صدورهم على النحو الذي هو قائم بين دفتي المصحف الذي بين أيدينا، فهذا امرٌ هو المدفوع عندنا.

وأنت حين تتابع "البقاعيّ" في تفسيره تجده مصرحا في مواضع منه بما يدلّ دلالة بيّنة جليّة على أن ترتيب السور إنما هو وجه من إعجازه الذي هو من منزله جل جلاله

في مفتتح تأويله سورة "النساء" يقرر أنها من أواخر ما نزل، ويذكرما رواه البخاري في فضائل القرآن من صحيحه من أنّ عراقيًا سأل أمَّ المؤمنين " عائشة " الصديقة رضي الله عنها فقال: " أيّ الكفن خير؟ قالت: ويحك، وما يضرك؟

ص: 175

قال ياأم المؤمنين أريني مُصحفَك. قالت: لم؟ قال: لعلِّى أؤلف القرآن عليه؛ لأنّه يُقرأُ غير مؤلف. قالت: وما يضُرُّك أيَّهُ قرأت قَبْلُ. إنّما نزل أوَّل ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيءٍ: لاتشربوا الخمر لقالوا: لاندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لاتزنوا لقالوا: لاندع الزنا أبدا.

لقد نزل بمكة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا وإنّي لجاريةٌ ألْعبُ:

{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم والسَّاعَةُ أدْهَى وَأمرّ) (القمر:46)

وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.

قال: فأخرجت له المُصحف، فأملت عليه آيَ السّورةِ"

ويعلّق "البقاعيّ" على هذا بقوله:

"وقد عَنَتْ بهذا رضي الله عنها أنّ القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقًا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان، ثُمّ رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال كمانشاهده من هذا الكتاب البديع المثال البعيد المنال "(1)

تعليقه هذا قائم من أنَّ أم المؤمنين أشارت إلى أمرين:

الأول: ناظر إلى مراعاة حال الأمة حين نزول الآيات، فكان النزول كالدواء لما حلَّ من أدواء فكان نزولا مطابقا لحال الأمة وواقع حركتها في تأسيس الأمة المسلمة

والآخر: ناظر إلى مراعاة حال المعنى والإعجاز البياني، فتنزل كلّ آية في سياق ترتيلها منزلها المحَقِّقِ لها كمالَ إعجازها البيانيّ بما تنتجه مع ما قبلها وما بعدها من معاني الهدى إلى الصراط المستقيم

وكان حريًّا بالبقاعي أن يتدبر هذا الخبر:

(1) - نظم الدرر:5/170

ص: 176

سؤال العراقي وقوله: " فإنه يقرأ غير مؤلف" دالٌ دلالة بينة على أن مناط الطلب هو الوقوف على ترتيب السور وتأليفها وليس ترتيب الآيات، فإن ترتيب الآيات لم يثبت أنّ مسلما واحدًا يجرؤ على أن يقرأ آيات القرآن الكريم على وفق ترتيب نزولها تعبدًا ولا سيّما في الصلاة، ولكن الذي يمكن أن يقع أن يقرأ مسلم سورة قبل سورة

وجواب أم المؤمنين رضي الله عنها دال على أنَّها دلته على أنّه لايقع عليه ضرر أي ضررٌ يخرجه من مقام الطاعة لله رب العالمين أو يلبس عليه فقه المعنى الجمهوري الإيمانيّ إذا ما قرآ سورة قبل سورة أخرى، وإن كانت المؤخرة سابقة في الترتيب النزولي أو الترتيب الترتيلي، فإنَّ المعاني المأخوذة من فقه ترتيب السور معانٍ إحسانية تعلو المعاني الجمهورية الإيمانية، فقالت له رضي الله عنها:

" وما يضُرُّك أيَّهُ قرأت قَبْل"ُ أي في سياق ترتيب السور، وليس في سياق ترتيب الآيات؛ لأنَّه لاريب أنَّه إذا ما قرأ آية من قبل التي هي قبلها في نسق التلاوة سيقع عليه ضرر عظيم في فقه المعنى الجمهوري الإيماني الذي هو هدى للناس.

ثُمَّ قالت له:إنّما نزل أوَّل ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام"

فهذا منها دال دلالة بينة على أن النزول كان على وفق ما يقتضيه منهاج التربية والتثقيف النفسيِّ والقلبيِّ للأمة والأخذ بأيدي النَّاس إلى ما هو اليسير عليهم والتصاعد بهم في مدارج الطاعة والقرب:

" ولو نزل أوّل شيءٍ: لاتشربوا الخمر لقالوا: لاندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لاتزنوا لقالوا: لاندع الزنا أبدا"

ص: 177

فإذا ما كان هذا منظورًا فيه إلى حال الأمة من قبل أن يثوب الناس إلى الإسلام ويرسخ في قلوبهم، فإن الأمر يقتضي مراعاة مقتضى الحال الذي انتهى إليه الناس من رسوخ الإسلام في قلوبهم، فيكون للقرآن الكريم ترتيبه الذي يراعي مقتضي حال آخرى غير التي راعها الترتيب النزولي.

ولكن يبقى أمر وهو أنَّ "العراقي" سأل عن تأليف السور وليس تأليف الآيات في السورة ونهاية الخبر تقول:

" فأخرجت له المُصحف، فأملت عليه آيَ السّورةِ "

وفي رواية (آي السور)

مقتضى الظاهر أن يقول الخبر: فأخرجت له المُصحف، فأملت عليه تأليف السور، وليس آيَ السورة، فليس تأليف آي السورة هو مناط مساءلة، فما الوجه في هذا؟

يقول "ابن حجر " في فتح الباري:

" الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه

فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان.

ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف.

وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له: " وما يضرك أيَّه قرأت قبل "

ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث: فأملت عليه أي السور" أي آيات كل سورة كأنْ تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية الأولى كذا الثانية

الخ

وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري وقد اعتنى أئمة القرَّاء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم " (1)

والذي قاله " ابن حجر " ليس فيه غناء أو شفاء

(1) - فتح الباري لابن حجر:9/32

ص: 178

والذي يبدو لي في صنيع " أم المؤمنين: عائشة " رضي الله تعالى عنها في إملائها آي السورة أو السور إنَّما هو من قبيل أسلوب الحكيم النازع إلى لفت انتباه السائل إلى ما هو أولى به أن يسأل عنه، فكأنها تشير إلي العراقيّ أنَّ الذي هو أولى بمثلك أن تعنى بتأليف آيات السورة، فأنت أو مثلك أحوج إلى ذلك من أن ينازع غيره في تأليف السور، وحتى لايتخذ العراقيّ صنيعها سببا في مجادلة أو مجالدة الآخذين بترتيب مصحف " ابن مسعود " أو مصحف " أبيّ بن كعب "، فيقف في وجه الآخر وفي يده نسخة من مصحف أم المؤمنين، وهي من هي، فيحتدم التجادل، وذلك من حكمتها في درء الفتنة وغلق باب المجادلة فيما لايليق بالأمة التنازع فيه وهي مهمومة حينذاك بما هو أهم من ذلك

ويحسن أنْ نستمع في هذا إلى كلمة " أبي سليمان حمد الخطابيّ (ت388) في هذه المسألة:

" والقدر الذي يحتاج إلى ذكره هنا هو أنْ يُعلم أنّ القرآن كان مجموعًا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ومؤلفا هذا التأليف الذي نشاهده وقرؤه، فلم يقع فيه تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان إلا سورة "براءة" كانت من أواخر ما نزل من القرآن لم يبين رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا موضعها من التأليف حتى خرج من الدنيا، فقرنها الصحابة بالأنفال.

وبيان ذلك في خبر "ابن عباس" قال: " قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما ولم تجعلوا بينهما سطرا فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتموهما في السبع الطوال؟ .....

(الحديث (الترمذي: التفسير حديث: 3086)

ص: 179

قلت: هذا يدلك على أنّ الجمع كان حاصلاً والتأليف أيام حياة رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا كان موجودًا....

وقد ثبت أنّ أربعة من الصحابة كانوا جمعوا القرآن كله في زمان رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

وقد كان لهم في ذلك شركاء من الصحابة وإن كان هؤلاء أشدّ اشتهارًا به وأكثر تجريدًا للعناية بقراءته.....

جمع القرآن كان متقدما لزمان أبي بكر رضي الله عنه،وإنما جمع "أبو بكر" القرآن في الصحف والقراطيس وحوّلَه إلى ما بين الدّفتين شهرًا له وإذاعة في زمانه وتخليدًا لرسمه مستأنف الزمان، وكان قبل في الأكتاف ورقاع الأدم والعسب وصفايح الحجارة ونحوها مما كانت تكتب العرب فيه من الظروف.

ويشبه أن تكون العلَّة في ترك النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا جمع القرآن في مُصحفٍ واحد كما فعله من بعده من الصحابة أن النَّسخ كان قد يرد على المنزل منه فيرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته كما يرفع بعض أحكامه.....

ص: 180

فلو كان قد جمع بين الدفتين كله وسارت به الركبان وتناقلته الأيدي في البقاع والبلدان ثم قد نسخ بعضه ورفعت تلاوته لأدَّى ذلك إلى اختلاف أمر الدين ووجود الزيادة والنقصان فيه، وأوشك أنْ تنتقض به الدَّعوة، وتتفرق فيه الكلمة، وأن يجد الملحدون السبيل إلى الطعن عليه والتشكيك فيه، فأبقاه الله سبحانه وتعالى على الجملة التي أنزل عليها من التفريق في ظروفِه وحفظه من التبديل والتغيير إلى أنْ ختم الدين بوفاة رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، ثُمّ قيض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعَهُ بين الدفتين، ويسّرلهم حصرَه كلَّه باتفاق من إملاء الصحابة وإجماعٍ من آرائهم حين لم يكن بقي للنسخ منه مرتقب، ولا شيء من أحكامه متعقب " (1)

(1) - أعلام الحيث في شرح صحيح البخاري لآبي سليمان الخطابي: ج3 ص1852 -1858 - ت: محمد سعد أل سعود - ط: جامعة أم القرى - 1409

ص: 181

هذادالٌّ من أبي سليمان الخطّابيِّ على أن جمع القرآن الكريم في الصدور مرتبا آياته وسوره قائم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا، ومبين وجه تأخير جمعه على ذلك النحو بين دفتي مُصحف، ووجه قيام الصحابة بجعل جمعه كذلك في الصدور زمن النبوة مضموما إليه جمعه بين دفتين، فكان الجمعان توثيقًا وتحقيقا مخافة أن يزول الجمع الأول بزوال الصدور التي جمعته حين استحر القتل بكثير منهم جهادًا في سبيل الله سبحانه وتعالى، فما فعله الصحابة من الجمع لم يكن أكثر من استنساخ الجمع القائم في الصدور ليكون بين دفتي مصحف، وهذا شأنه شأن الوراقين الذين ينسخون الكتاب من النسخة الأم التي أبدعها ورتَّبها وألف بين أجزائها مؤلف الكتاب في عالم اهل العلم، فلا يكون من الورَّاق إلا أن ينقله من النسخة الأم التي خطها مؤلفها كما هي إلى نسخ أخرى متعددة، غير أن النسخة الأم هنا في شأن القرآن الكريم كانت الصدور المحفوظة بالإيمان والمحفوظ ما بها من القرآن الكريم بحفظ منزله سبحانه وتعالى على عبده ونبيه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

{إنَّا نحنُ نزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَه لحَافِظُونَ} (الحجر:9)

ص: 182

وأنت إذ تنظر في بيان هذه الآية الجليلة لا تجدها قائمة من جملة واحدة مخبر فيها عن المسند إليه بخبرين معطوف ثانيهما على أولهما بل قائما من جملتين عطفت الثانية على الأولي، وبنيت كلٌّ منهما على المسند إليه المؤكد المدلول عليه بنون العظمة (إنّا) مع توكيده في الأولى المخبرة عن الله سبحانه وتعالى بتفرد الإنزال بقوله (نحن) من دون الثانية المخبرة عن الله سبحانه وتعالى باختصاص حفظه بالذكر الحكيم ففي كلّ اختصاص: في الأولى اختص نفسه بإنزله، فلم ينزل القرآن الكريم غيره، فهو من قصر الصفة على الموصوف: قصر إنزال القرآن الكريم عليه سبحانه وتعالى

وفي الأخرى قصر حفظه تعالى على القرآن الكريم أي ما تكفلنا بحفظ كتاب مما أنزلنا من الكتب السماوية إلا بحفظ الذكر الحكيم، أي أنَّ قصر حفظه على كونه واقعا على القرآن الكريم دون غيره، فهو على منهاج " ما استمعت إلا لمحمدِ " فهو من قصر الموصوف على الصفة، فاجتمع للقرآن الكريم أمران:

الأول أنه لم ينزله غير الله سبحانه وتعالى

والآخر: أنه المخصوص بحفظ الله سبحانه وتعالى له من دون غيره من الكتب السماوية السابقة عليه التى منيت بالتحريف على أيدي أتباع من أنزلت عليهم.

ص: 183

وفي هذا إشارة إلى المفارقة العظيمة بين حال أصحاب وأتباع النبي سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مع القرآن الكريم الذي نزل علي نبيهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وحال التابعين للأنبياء والمرسلين وموقفهم من الكتب التي أنزلت عليهم إليهم: صحابة النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا كانوا آلات تأكيد حفظ ذلك الكتاب وعصمته من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. وأمة الأنبياء السابقين كانت سببا في التحريف والتبديل والتغيير بالزيادة والنقصان. فانظر فضل الله سبحانه وتعالى على أتباع حبيبه محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

وهذا يؤكد تقرير أن حفظ القرآن الكريم من أدنى تغيير بتقديم أوتأخير لآية أو سورة إنِّما هو من الله سبحانه وتعالى وأنَّ ما كان من فضل أجراه الله سبحانه وتعالى على أيدي صحابة عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إنما هو متمثل في أن جعلهم آلات إظهار الحفظ في وعاء آخر مضموما إلى الوعاء السابق:

الحفظ بين دفتي المصحف ضميمة إلى الحفظ في الصدور.

مجمل الأمر في هذا: أنَّ ترتيب السور بين دفتي المصحف على النحو الذي هو بين أيدينا والذي سيبقى كذلك إلى قيام الساعة هوهو الذي كان قائما في صدرالنبي سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وحيا من الله تعالى، وفي صدور أصحابه رضوان الله عليهم تلقيا من النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وليس اجتهادًا، وأن في هذا الترتيب من آيات الإعجاز البياني ما في تركيب آياته في السورة الواحدة، بل وما في تركيب كلمات الآية الواحدة من الإعجاز البياني العظيم المجيد.

ص: 184