المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

وأمَّا تقديمها في " آل عمران" مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال المعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدّنيا التي هي أمّ الأدناس" (1)

- - -

متشابه النظم وتأويله عند "البقاعيّ" في صحبة السياق والمقصود باب وسيع جدير بأن يكون مناط دراسة قائمة له لتقوم بنزيرٍ من حقّه، وفيما أشرت إليه ما يهدي إلى ذلك المعلم من معالم منهاج "البقاعيِّ" في تأويل البيان القرآنيّ الحكيم

المعلم الحادي عشر.

‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

كان من فضل اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ على عباده أن لم ينزل كتابه على وجه واحد من وجوه الترتيل التي يستنبط منها معانى الهدى، بل جاء التنزيل بوجوه عدَّة، كما هدت إلي ذلك السنة المطهَّرة:

"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"

(الشيخان: البخاري كتاب: فضائل القرآن، و "مسلم" كتاب: المسافرين ـ والنص له حديث0رقم:270/818)

وفي الباب نفسه روى مسلم عن أبي بن كعب أن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام، فقال ".... إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا (حديث:274/821)

أن في تعدد هذه القراءات فيضًا من رحمة التخفيف على هذه الأمة، وهو تخفيف غير مقصور على الأداء والتلاوة، وإن كان هذا أظهرها بل هو تخفيف في التكليف القائم من معانى الهدى المستنبطة من تلك القراءات فمن قرأ بحرف واستنبط منه معانى الهدى استنباطًا صحيحًا على وفق الأصول العلمية للاستنباط، فقد أصاب فكلها كافٍ شافٍ والحمد لله رب العالمين.

(1) - نظم الدرر: ج2 ص 161-162..

ص: 307

تعدد صور الأداء ليس تعدد عقيما من المقاصد التى نزل القرآن لها: إنباء العباد بمعاني الهدي التى يريدها الحق عز وجل بل كل صورة من صور الأداء المتواتر ذات عطاء من ضروب هذه المعاني المتكاثرة والتي لاتخلق على كثرة الرد، ومن ثم كان من التعبد الاستماع إلى القرآن الكريم

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعلَّكُمْ تُرْحمُونَ} (الأعراف 204)

فقد شرط لتحقق الرحمة شرطين: الاستماع والإنصات معا: الاستماع بالقاء السمع والاجتهاد في عدم التشاغل بشاعل كما تلوّح به صيغة الافتعال (استمعوا) والإنصات وهو ترك الكلام بالكلية حتى لايكون في أدنى صور الكلام ما شغل عن التلقى لما في الاستماع إليه من لطيف المعانى التى قد لايتمكن المرء من إدراكها إذا ما شغله شاغل من كلام وإن استمع معه.

وإذا ماكانت صور الأداء توقيفية فإن في كل صورة قامت في موضعها وسياقها ما يجعلها ذات تناسب وتناسج وتأخ وتناغ مع السياق الذي قامت فيه،وهذا ما يجعل الروايات تتعدد في أداء كلمة قرآنية في سياق بينما الكلمة نفسها في سياق آخر لاترد فيها إلا رواية واحدة مما دلَّ على أن السياق والقصد لهما علاقة وثيقة بتعدد صور الأداء أو توحدها، وهذا ما أرغب إلي النظر في تأويل البقاعي لمثل هذه الوجوه.

*****

من صور الأداء الإدغام والفك لكلمة ما من كلمات القرآن المجيد فالإدغام ذو وجه صوتي ماثل في إدخال صوت حرف في صوت حرف آخر، والفكّ مقابله

وعجيب أن يكون في صورة وأداء لفظ " الفك" إدغام فهذه المفارقة كأنَّ فيه إلاحة إلى أنه وإن كان الفك هو الأصل فإن الاعتداد بما يقتضيه التناسب الصوتي في هذا الذي هو أساس عظيم من أسس التناسب القرآني الكريم....

ص: 308

وقد كان لعلماء البلاغة العربية عناية جليلة بالتناسب الصوتي في أسفارهم البلاغة، ولاسيما المتأخرين الجاعلين ذلك التناسب الصوتي مقدمة فصاحة الخطاب التى هي أساس بلاغته، وهذا الوجه الصوتي: الإدغام والفك له في البيان القرآني وجه دلالي يتدبر البقاعي بعض صوره فيه:

جاءت كلمة (يَرْتَدّ) في سورة البقرة وفي سورة المائدة:

قال عز وجل في سورة "البقرة": {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)

وفي سورة "المائدة "{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:54)

في سورة البقرة (ي217) أجمع الرواة على قراءة فك الإدغام فيها (يرتدد) وولم يجمعوا على ذلك في سورة المائدة (ي:54)

في المائدة " قرأ نافع وأبوجعفر وابن عامر (من يرتدد) بفك الإدغام وقرأ بقية العشرة (يرتَدّ) بدال واحدة مشددة "(1)

(1) – المبسوط في القراءات العشر لابن مهران: ص 162 – ت: سبيع الحاكمي، والنشر في القراءات العشر:2/250

ص: 309

وليس يخفى أن اتفاق الرواة في آية البقرة إنما هو توقيف، لامواضعة، ومثله اختلاف الروايات بالفك والإدغام في المائدة توقيف.

ومن ثَمَّ كان عَلِيًّا النظر في مقتضي تعدد صورة الأداء في المائدة وتوحدها في سورة البقرة

يقول البقاعي في تدبر آية البقرة: " وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أنَّ الحبوط مشروط بالكفر ظاهرًا باللسان وباطنا بالقلب، فهو مُلِيحٌ بالعفوِ عن نطق اللسان مع طمانينة القلب.

وأشارت قراءة الإدغام في (المائدة) إلى أنَّ الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئنا " (1)

ويقول في سورة المائدة: " ولمَّا نهى عن موالاتهم وأخبر أنَّ فاعلها منهم نفى المجاز مصرحا بالمقصود، فقال مظهرا لنتيجة ما سبق (يا أيها الذين آمنوا) أي أقروا بالإيمان من يوالهم منكم هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأنَّ ذلك ترك الدين، فقال (من يرتد) ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر (منكم عن دينه........"(2)

آية البقرة في سياق الحكم بإحباط عمل المرتد عن الاسلام في الدنيا والآخرة، وهذا لايكون إلا لمن ارتد ظاهرًا باللسان وباطنا بالقلب، والآية قد نصت بالعبارة على الارتداد الباطنيّ بالقلب في قوله:(فيمت وهو كافر) فبقي الارتداد الظاهري فكان الأداء هو الدال عليه، فالفَكُّ لازم هنا لأن في الفَكِّ إظهارٌ وهو عملٌ لسانيٌّ مما يُلِيحُ إلى التناسب الدقيق في الإشارة.

ففي الآية جمع بين شرطي إحباط العمل بالردة: الردة ظاهرًا مدلولا عليها هنا بفك الإدغام والردة باطنا مدلولا عليه بالعبارة (فيمت وهو كافر)

وعجيب أن الردة الباطنة دل عليها بالعبارة، والردة الظاهرة دلَّ عليها بأداء العبارة (فك الإدغام)

(1) - نظم الدرر:3/232-233

(2)

- السابق:6/190-191..

ص: 310

وفي اشتراط الردة الباطنية لإحباط العمل والدلالة عليها بطريق العبارة فتح باب العفو لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان،فهو مما أكره على ارتداد ظاهري لم يجمع إليه ارتدادا باطنيا.

أما آية (المائدة) فقد كانت في سياق النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (الآية:51) وعدم الصبر على البلاء (الآية: 52) فجاءت الآية (54) مشيرة إلى أنَّ الله عز وجل قد يعاقب على الارتداد الباطني المشار إليه برواية (الإدغام) والارتداد الظاهري المشار إليه برواية (الإظهار) بالإتيان بقوم يحبهم ويحبونه، وهذا فيه من التهديد العظيم ما تنخلعُ له قلوب الفاقهين.

ولو أن الرواية جاءت بوجه واحد من وجوه الأداء لكان في هذا أخلالٌ بشروط العقوبة: تحقيق الارتداد بأحد وجهين، فليست العقوبة متوقفة على اجتماع الشرطين معا في وقت واحد بل تحقيق أحدهما قد يترتب عليه العقاب: الإتيان بقوم يحبهم ويحبونه

وثَمَّ إشارة أخرى: الإدغام هنا مشير إلى أنَّ الصبر الذي لم يحرص عليه من تحدثت عنه الآية (52) إنّما هو أرفع درجة من الارتداد الظاهري باللسان.

علينا ملاحظة الفرق بين جواب الشرط في (البقرة) وجوابه في (المائدة) : في (البقرة) حبوط عمل وذلك قاتلٌ مُبِيرٌ، وفي (المائدة) تبدل وإحلال قوم مكان قوم، وهو وإن كان عند اهل العرفان عظيم إلا أنه من دون إحباط العمل، فكان المشير إلى شرط جواب الشرط في (المائدة) بطريق الأداء، وهي دلالة فيها شيء من خفاء لايفقهها كثير من الناس، وكان المشير إلى الشرط الرئيس لتحقق الجواب بطريق العبارة الصريحة.

وهذا فيه من ضروب التناسب ما فيه.

هذا ماكان "البقاعي" فانظر في صحبته ما قال شيخه "ابن الجزري " في النشرمعللا فك الادغام اتفاقا في البقرة بقوله:..

ص: 311

" لأن طول البقرة يقتضي الاطناب وزيادة الحرف من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى (ومن يشاقق الله ورسوله) في الأنفال (ي:13) كيف أجمع على فك إدغامه، وقوله (ومن يشاقق الله) في (الحشر:4) كيف أجمع على إدغامه، وذلك لتقارب المقامين من الإطناب والإيجار) (1)

ما قال "ابن الجزري" لو استقام للزم أن يكون كلّ شيء في البقرة على منهاج البسط، وألا يكون فيها إيجاز بحذف كلمة أو إيجاز قصر فكيف يعلل "ابن الجزريّ" نهجًا بيانيّا بنهج بياني هو مفتقر إلى التعليل مثله، طول البيان ليس مقتضيًا يوجه به وجه بياني فالمقتضِي يكون من ذات المعانى والمقاصد التي تساق السورة إليها، والأحوال التي تكتنف التنزيل.

*****

ومما أجمعت الرواية على أدائه في سورة على وجه واختلفت في أدائه في سورة أخرى الفعل (يرى) في قوله عز وجل:

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل:79)

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (الملك:19)

اختلفوا في قراءة (يروا) في (النحل) بالغيبة والخطاب واتفقوا على الغيبة في الملك:

" قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبوعمرو وعاصم والكسائي (ألم يروا

) بالياء

وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف (ألم تروا) بالتاء)) (2)

يذهب البقاعي في آية النحل إلى " أنّ الكلام وسياقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك "(3)

(1) - النشر في القراءات العشر:2 /255

(2)

- السابق:2/304، والمبسوط:225

(3)

- نظم الدرر ج 11 / 222..

ص: 312

وقال في سورة الملك: "أجمع القراء على القراءة هنا بالغيبة؛ لأنَّ السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل "(1)

لو نظرنا سياق آية النحل رأينا أنها جاءت في معرض تعدد النعم تدليلا وامتنانا، والامتنان على الأقل إنما هو للمقبل والمعرض، والآيات (70-72، 78 ،80-81) مؤكدة هذا

من قرأ بالخطاب لاحظ جانب المُقْبِلِ؛ لأنَّ النعم في الحقيقة إنما خلقت له (الأعراف:32) فهو مقدم لذلك، فليكن أداء الآية ملاحظا ذلك في بعض الوجوه

ومن قرأ بالغيبة لاحظ جانب التدليل الذي هو أساسا للمعرض كيما يقتنع من هذه الجهة فلاحظته قراءة الغيبة.

سياق آية النحل كما ترى محتمل الوجهين معا المقبل والمعرض فكانت الروايتان.

وسياق (المُلك) للعرض وحده وللرد على المكذبين (الآيات:15وما بعدها) فهو سياق لايحتمل توجيه الخطاب في هذه الآية، ولأنها أيضا لم تأت لتهديد المعرضين كسابقتها ولاحقتها بل لبيان أن من يخسف بالجبارين بسلطان القهر يملك القدرة على أن يمسك الطير الضعيف بفيض رحمته فلا يقع

ومن ثَمَّ كان التعبير في آية الملك بقوله (إلا الرحمن) بينما في آية النحل (ما يمسكهن إلا الله) .

****

وننظر في آية أخرى اقتبس البقاعي فيها تأويل صورة الأداء من الحرالّىّ ولكنَّه لم يضف إليه شيئا وكان بملكه أن يفعل، مما يبن لنا وجها من منهجه في هذا

قال عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280)

في قوله (عسرة) قراءتان (بضم السين وبإسكانها) ، وفي (ميسره) قراءة بضم السين وقراءة بفتحها وقراءة بضم السين وكسر الهاء المشبعة 0

يقول " ابن مهران": " قرا أبو جعفر وحده (وإن كان ذو عسرة) بضم السين، وقرأ الباقون (عسْرة) ساكنة السين

(1) - السابق: ج20 /242..

ص: 313

قرأ نافع (فنظرة إلى ميسرة) بضم السين، وروى "زيد" عن يعقوب (إلى ميسرة) بضم السين وكسر الهاء مشبعة، وقرأ الباقون (إلى ميسرة) بفتح السين" (1)

في الاية وجوه من الأداء، وكل وجه له فيض من المعنى المتناسب مع السياق المديد والقصد الوسيع الذي يجمع الأمة فيمنح كل ذي درجة شيئا من عطائه، يقول البقاعي مقتبسا من "الحرالى":

" لما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنَّه قيل هذا حكم الموسر (وإن كان) أي وجد من المَدِنِينَ (ذو عسرة) لايقدر على الأداء في هذا الوقت (فنظرة) أي فعليكم نظرة له

قال "الحرالى": وهو التأخير المرتقب نجازه (إلى ميسرة) إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم.

وقرأ نافع وحمزة بضم السين. قال "الحرالي" إنباء عن استيلاء اليسر وهو أوسع النظرتين

والباقون بالفتح إنباءٌ عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة. انتهى " (2)

نظر البقاعي تبعا للحرالى إلى دلالة ضم السين من (ميسرة) فاستشعر من صوتها القوى الإشارة إلى تمام يسر المعسر، فتكون دعوة إلى أن يكون إنظاره حتى يكتمل يسره

ونظر إلى دلالة فتح السين منها فاستشعر من صوتها الإشارة إلى توسط اليسر من أن الفتحة أضعف من الضمة، ففي أحوال صوت حركة الكلمة إشارة إلى أحوال المعنى نفسه وعلاقته بمن له البيان

أي الإنظارين للمعسر طاعة إلا أنَّ أدناهما حق لازم على كلّ مسلم وأعلاهما فضل يقوم له وبه أهل الإحسان، ومن كان إلى الأعلى المشار إليه بالضم كان افضل توبة مما كان منه من إقراضه بنفع هو عين الربا المقيت الممحوق.

فقراءة الفتح لأهل أول أسنان الإيمان (الذين آمنوا)، وقراءة الضَّمّ لمن علاهم في أسنان الإيمان: المؤمنون....المحسنون

(1) - المبسوط في القراءات العشر:137، والنشر:2/136

(2)

- نظم الدرر: 4 /140- 141..

ص: 314

تنوّع المعانى بتنوع القراءات فيه وفاء بمنازل ومقامات الطاعة فليس أهل الطاعة سواء في منازلهم منها، فمن القراءات ما يصور معنى إحسانيا متساميا على ما صورته قراءة أخرى من المعاني الجمهورية التي هي هدى للناس وللذين آمنوا فكلها كاف شاف كلّ ذي منزل ومقام من مقامات القرب المتصاعدة

وفي الآية وجوه من الأداء في (عسرة) بضم السين وبإسكانها، ومن وراء كل وجه معنى قائم في السياق إلى القصد الذي ترمي إليه الآية الكريمة

استشعر في قراءة ضم السين من (عسُرة) ملاحظة حال من كان عسرُهُ شديدًا فحقُّه لامحالة إنظاره بمقدار عسره، فإن زال كان لصاحب الدين مطالبته.

وفي إسكان السين من (عسْرة) ملاحظة لحال من كان عسره خفيفا فحقه أن ينظر أيضا على قدره ولايحرم من الإنظار ' ولو جاءت الرواية بضم السين وحدها لكان في هذا حرمان من كان عسره يسيرًا من رحمة الإنظار، وفي إنظار ذي العسر اليسير تربية وتدريب على التخلق بالرحمة والإحسان والتفضل.

وفي قوله (نظرة) وجوه من الأداء بعضها ليس من القراءات العشر:

قرأ الجمهور (فنظرة) بكسر (الظاء) فهو خبر محذوف أي فالواجب نظرة

وقرأ الحسن ومجاهد والضحاك (فنظْرة) بسكون (الظاء) وهي من تخفيف (نظرة) وهي على لغة في تميم: يقولون في كلِمة: كلْمة.

وكأنّ في هذه الآية تخفيفا على صاحب المال من وجه وترغيبا له في الإنظار من وجه وإيحاء له أنَّ الإنظارَ إنَّما هو خفيفٌ فلا يحسَِب أنَّ في دعوته إليه إثقالا عليه

قراءة كسر (الظاء) فيها إلاحة إلى أن يكون الإنظار تاما قويا مستوليا على حال المعسر، وأن يتمكَّن صاحب المال من تحقيق هذا الواجب: الإنظار، وهذا فيه تربية على الإحسان والإتقان والتنفيس على ذوي الحاجة والعسر..

ص: 315

وفي إسكان الظاء معنى إباحة أن يكون الإنظار على قدر الإعسار دون فضل، وإلاحة إلى أنه ليس بالعسير تحقيقه على صاحب المال، فهي قراءة ناظرة لحال صاحب المال من وجهين، وجه هو من حقه ووجه فيه نفع له بالتربية والإغراء والتحريض على ألا يستثقل الإنظار فإنَّه خفيف وإنْ طال أمده. فأهل الهمم العالية يلمحون في إسكان الظاء إغراء لهم بالتحمّل وتصويرا لهم أنَّ ذلك غير عسير عليهم بل هو في حقيقته خفيف بما كان من تخفيف صوت وسط الكلمة. (ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء:59)

وأهل الهمة الدانية ينظرون إلى أنَّ في الإسكان إشارة إلى حقهم في ألَاّ يكونَ الإنظار بالغا تمام كمال زوال الإعسار.

كلٌّ يقرأ في وجه الأداء ما يليق به (واتَّبِعُوا أحْسَنَ ما انْزِلَ إليْكُم من رَّبِّكُم)(الزمر:55)

وفي الكلمة قراءة أخرى: قرأ عطاء بن أبي رباح (فناظرُهُ) بالألف: اسم فاعل، والهاء ضمير مضاف إلى اسم الفاعل أيْ فمن أنظر المدين فهو إلى ميسرة.

في هذه القراءة إشارة إلى البشرى بأنَّ من يُنظر المَدين المُعْسر فإنَّ حاله وأمره كلَّه بسبب من لإنظاره له يكون إلى ميسره.

ففي هذا مجاوبة لما جاء به بيان النبوة:

"

ومن فرَّج عن مُسلمٍ فرَّج الله عَنْه كُرْبَةً مِنْ كُرُباتِ يومِ القِيامةِ " (متفق عليه: البخاري: المظالم،ومسلم البر)

وقراءة رابعة فيها: قرأ عطاء أيضًا (فناظرْه) بإسكان الراء على أنه فعل أمر علىمعنى فياسِرْهُ وسامِحْهُ إلى وقت الإنظار، فهو من المناظرة أي المسامحة والمداناة، وليس من المناظرة بمعنى المحاجة والمجادلة..

ص: 316