الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)
المعلم الأول
تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم
لكلِّ كتاب ذي قّدْرٍ في بيان البشر غايةٌ يساق البيانُ فيه إليها ومقصودٌ أعظمُ يُؤمّ إليه، وأحقُّ الكتب بذلك ما كان بيانًا من الله عز وجل إلى عباده بل فضله في هذا على كتب العباد كفضل الله تعالى على عباده، وأحقّ كتبِ الله سبحانه وتعالى قاطبة بهذا كتابُه الكريمُ المنزّلُ على عبده ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكتاب الخاتم المُنزَّل على النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم إلى خير أمَّة أخرجت للناس، وهو الكتاب الذي جعل بيانه معجزة من أنزل عليه، ولم يجعل كتابٌ من قبله بيانُه معجزة من أنزل عليه، فكان جديرًا بأن يكون كل ما فيه من الإعجاز المُبْلِسُ للعالمين أجمعين.
يبيّن "البقاعيَّ" في تاويله سورة " الفاتحة " وبيانه مقصودها الأعظم: " أنَّ المقصود من إرسال الرسلِ، وإنزالِ الكتبِ نصبُ الشرائعِ، والمقصود من نصبِ الشرائع جمع الخلق على الحقّ، والمقصود من جمعهم تعرِيفُهُم المَلكَ وبما يُراضيه، وهو مقصود القرآن، الذي انتظمته " الفاتحة " بالقصد الأول، ولن يكونَ ذلك إلا بما ذكرعلمًا وعملا "(1)
وهو يقرر مثل هذا في مواطن عديدة من تفسيره يبين فيها المقصود الأعظم من إنزال القرآن الكريم.
(1) - نظم الدرر: ج1ص 22
والحقّ أن القرآن الكريم نفسه لم يدع لنا الاجتهاد في تحرير مقصوده الأعظم استنباطًا، فنتفاوت في تحريره، بل قرَّر لنا ذلك في آيات كثيرة، فإن للقرآن الكريم حديثا عن نفسه ليس كمثله حديث أحد من العالمين، فمن أراد أن يعلم حقيقة القرآن الكريم ورسالته ومنزلته وفضله، فليس عليه إلا أن يستجمع في سمعه وبصره وقلبه الآيات التي تتحدث عن القرآن الكريم، وينسقها مستحضرًا سياقاتها التي تقوم فيها في سورها ، فإنَّ في هذا من الكشف ما فيه، فخير الحديث عن القرآن الكريم هو حديث القرآن المجيد نفسه، ثُمَّ من بعده حديث النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، وجميل أن يعمد عامد إلى جمع الحديثين: حديث القرآن الكريم والسنة عن القرآن العظيم في وعاء بحث تحليليّ تأويليّ.
ومن رحيمية الله جل جلاله أو رحمانيته أنَّه إذا ماكان مستفتحًا سورة (أم الكتاب: الفاتحة) بالحديث عن نفسه معلنا استحقاقه الحمد ، ومعلما عباده كيف يحمدوه، مبرزًا لهم خمسة أسماء من أسمائه الحسنى: اسم الذات وأربع صفات من صفات كماله العَلِيّة: الله - ربِّ العالمين ، الرحمن ،الرحيم، مالك يوم الدين ، فإنَّه جل جلاله يستفتح أول تفصيله {أم الكتاب} بسورة {البقرة} مستهلا بيانه بالحديث عن القرآن الكريم:
{ذَلِك الكِتابُ لارَيبَ فِيه هُدى للمتَّقين} (البقرة:1-2)
وإذا ماكان جل جلاله قد نسق اسمه وصفاته الحسنى نسقا دالا على عظيم ارتباطها واعتلاقها، فاستغنت عن ناسق لسانيّ (حرف عطف) فجاءت متتابعة غير معطوفة (الله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) فإنه سبحانه وتعالى أيضًا نسق حديثه عن القرآن العظيم نسقا تتابع فيه النعوت على نحو لامحلّ فيه لعاطِفٍ، فهي نعوت يتناسل ثانيها من أولها ، وثالثها من ثانيها
الحق عز وجل قد أعلن في مفتتح تفصيل البيان المجمل في سورة الفاتحة أن القرآن الكريم هو الكتاب البعيد المنزلة العليِّ القدر الذي لا قِبَلَ لأحد أن يستشرف إلى اللحوق به ، وهو القائم الشاهد الذي لايغيب بما أشار إليه اصطفاء اسم الإشارة للبعيد (ذلك) وكأنَّ في هذا إشارة إلى الصراط المستقيم المطلوب الهداية إليه في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال ذلك الصرط المستقيم الذي تطلبون الهداية إليه هو (الكتاب) وبما أشار إليه التعريف باللام (الكتاب) واصطفاء كلمة (كتاب) الدالة على الجمع من جهة وعلى القضاء والحتم والتوثيق من أخرى ، فهو البيان الجامع الموثَّق المحتوم الذي لايتأتى لأحدٍ من العباد أن ينقض بما أبرمه، فهذه معانٍ مكنونة في اصطفاء كلمة (كتاب) دون ذكر أو قرآنٍ، في هذا السياق، فلم يقل ذلك الذكر أو ذلك القرآن.
وأعلن أنَّ ذلك الكتاب البعيد الشأن العليَّ القدر هو أيضًا بعيد كلَّ البعد عن أن يكون محلا للريب أو أن يكون أهلا لأنْ يرتاب فيه مرتابٌ يقوم ارتيابه من شيء في ما يرتاب فيه أمَّا أولئك الذين يرتابون فيما ليس فيه ما يُغْرِى بريب، بل يسقطون ما اعتمل في صدورهم من الريب على ما هو العليّ المنزه عن مثل ذلك فإنه لا اعتداد بمثلهم
وكأنَّ في هذا هداية وتعليمأ للأمَّة ألا تعتد بكل ما تتقاذفه الألسنة من أقوال بل عليها أن تتحقق وأن تتثبت، وهذا الذي أفاده قوله (لاريب) فيه إلاحة وإيماء جاء البيان عنه إفصاحا في قول الله سبحانه وتعالى:
فقوله (لا ريب فيه) ليس نفيًا للريب ولكنه نفي لما يمكن أن يحسِبَ حاسبٌ ما أنّه مما يُرتاب ذو ريبٍ فيه، وهذا من الإبلاغ في النفي، وفي هذا بشرى لكلّ من أراد أن يقف من القرآن الكريم موقفًا موضوعيا علميًّا في طور بحثه عن الحقّ أنه ما عليه إلا أن يلتزم بالأصول العلمية المقررة في البحث عن الحقِّ والبحث فيه، فلينظر ماذا يرى؟ وما الذي ينتهى إليه؟
لن ينتهي إلا إلى حقيقة الحقائق: أن هذا المنزَّل على عبد الله ورسوله محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ليس إلا الكتاب العلىَّ القدرالذي ليس كمثله كتاب وأنه المنزه عن أن يكون فيه ما يصحُّ أنْ يكون محلا للريب
وفي هذا - أيضًا - تعليم للأمّة أن لا تخشي من أن يسعى ساعٍ إلى ما يطلقون عليه في الثقافات الإنسانية الدراسات النقدية القائمة على منهاج الشك في كل الموروثات والمسلَّمات السلفية، فإن مثل تلك الدراسات إذا ما التزمت بالموضوعية العلمية والتزمت بأصول النظر وبالتحقيق العلمي، فلن ينتهي الأمر إلا إلى الإذعان والإعلان بأنَّ القرآن الكريم إنِّما هو الكتاب الكامل الذي لايقوله إلا رب العالمين سبحانه وتعالى، كل ُّ ما هنالك أن يلتزم الساعون إلى تلك الدراسات بأن يكونوا متخلقين بأخلاق العلماء الموضوعين
وأعلنَ الحقُّ عز وجل من بعد هذا أنَّ ذلك الكتاب العليَّ المنزَّه عن أنْ يكون محلا لريب مرتابٍ يعتدُّ أحدٌ بريبه إنَّما هو كتابٌ نازلٌ لأنْ يكون هدى للمتقين كلّ مامُنَي به غيرهم المذكورون في رأس المعنى من سورة الفاتحة: المغضوب عليهم والضالون
منهاج هذين الفريقين في البحث عن الصراط المستقيم هو المنهاج الجدير بالاتقاء، والإعراض عنه والفرار منه، فمن أخذ نفسه بأن لا يسلك سبيلهم في البحث عنه، فإنَّه بهذه التقوى واجد في القرآن الكريم هدايته إلى ما يسعى إليه ويبحث عنه
بهذا يبين لنا الحقُّ جل جلاله أن القرآن الكريم مقصوده الأعظم دلالة العباد على الصراط المستقيم إلى معرفة ربهم وخالقهم وما يرضاه منهم، فيأخذوا به، وما لا يرضاه منهم، فيجتنبوا
المهم أنَّ في تبيان هذا المقصود وتحقيقه وتحريره وتعيينه معيارًا لكلَّ من سعى إلى تاويل كلمة أو جملة أو آية أو معقد أو سورة من القرآن الكريم: أن يكون في تأويله هذا ما يتجلى فيه منهاج القرآن الكريم في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكلُّ تأويلٍ لايتحققُ به ذاك فليس من الاجتهاد في استنباط المعنى القرآنّي الكريم استباطًا علميًّا محررًا من شوائب الغفلة والزيف والضلالة والتدليس
وإذا ماكان للقرآن المجيد مقصودٌ أعظم تتناسل المعاني منه فإنَّ الله عز وجل من فيض رحيميته قد جعل القرآن العظيم سورًا تتفاوت في عدد آياتها وطولها، وجعل كلّ سورة من آيات وجعل الآيات جملا، فهو جل جلاله أحكمه ثُمّ فصَّله، وذلك وجه من وجوه المعنى القرآني في قوله سبحانه وتعالى في مستفتح تلاوة سورة " هود":
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1)
ومن ثَمَّ فإنَّا نرى البيان القرآنيّ قد فصِّلَ إلى سور، والسورإلى معاقد (فصول) والمعاقد إلى آيات والآيات - غالبًا- إلى جمل.
والعلائق فيما بين هذه علائق تناسب وتناسل بكلّ ما تحمله هاتان الكلمتان: تناسب وتناسل من دقيق المعنى وجليله
الجنس البشري في عالم الخلق مكونا من قبائل وشعوب، وكانت القبيلة مكونة من بطون والبطون من أسر والأسر من أفراد وكان الفرد مكونا من أعضاء متلاحمة، وهذا ماأراد الله سبحانه وتعالى بالجنس البشري قدرًا أن يكونوا عليه في تناسبهم وتناسلهم، وإن كان كثير منهم في حركة سلوكهم على غير ما أراد الله تعالى منهم تلكيفا، فنَظرُنا إلى ماأراد الله سبحانه وتعالى بهم:(قدره) إذ هم جميعًا عبيده لا ما أراد منهم (تكليفه) إذ قليل منهم عباده: كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، إذا ما كان هذا فهل لنا أن نقول تقريبًا لا تصويرًا:
إن السورة في البيان القرآني كالقبلية، وكلّ سورة مكونة من معاقد هي كالبطون للقبيلة، وكل معقد مكون من آيات هو كالأسر للبطن، وكلّ آية من جمل هي كالأفراد للأسرة، وكل جملة من كلمات هي كالأعضاء بالنسبة للفرد في بناء جسده:
منزل الكلمة من الجملة منزل العضو من الفرد
ومنزل الجملة من الآية منزل الفرد من الأسرة
ومنزل الآية من المعقد منزل الأسرة من البطن
ومنزل المعقد من السورة منزل البطن من القبيلة
ومنزل السورة من القرآن منزل القبيلة من الجنس البشري
هذا من عالم الخلق، والقرآن الكريم من عالم الأمر
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (لأعراف: من الآية54)
للجنس البشري أب يتناسل منه وينتسب إليه وللبيان القرآني الكريم مقصود أعظم تتناسل منه المعاني القرآنية وتنتسب إليه.
إنْ هو إلا تقريب لا تصوير، إذ كيف يصور ما هو من عالم الأمر بمامن عالم الخلق؟
المقصود الأعظم للقرآن العظيم هو الذي على أساسه القويم كانت
سنة اختيار الكلمة في نظم الجملة
وسنة نظم الجملة من الكلمات المختارة
وسنة نظم الآية من هذه الجملة
وسنة نظم المَعْقد من هذه الآيات
وسنة نظم السورة من هذه المعاقد