الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك يتبن لك أن في الآية وجوها من الأداء وأنَّ في هذه الوجوه تناسبا مع السياق فإنَّ الآية معقودة لدعوة المسلم إلى أن يكون في عون أخيه وألا يكونَ إقراضُه له من وراء الانتفاع بما يأخذه منه بل الانتفاع بما يكتسبه من ثواب الله عز وجل ثمَّ بما يحققه للأمَّة من الشعور بالتآلف والتناصر،وهذا إذا شاع في أمَّة طهَّرها من كثير من الأدواء التى تنهك قواها وتهتك قوامها وتردي في مذلذة الفُرْقة والتناحُرش والتغافثلِ والتشاغُلِ عن الاعتناء بأحوال الإخوان،وذلك هو الدَّاء التى تؤتى منه الأُمَّة.
*****
إنَّ كلَّ عُنصرٍ من عناصر البيان ولا سيَّما البيانُ القرآنيُّ لذو أثر بليغ مجيد في بناء المعنى وتصويره وتحبيره، قد تخفى علينا نحن ملامح ذلك الأثر، ولكن هذا لايصح أن يكون مدعاة إلى نفي وجوده، ولو أنَّ المرءَ نفى كل ما لايرى لكان الأمر جدَّ خطيرٍ، إنَّ من رأس الإيمان في الإسلام الإيمان بالغيب، فوجب أن يقف المرء عند ما يعلم غير ناف وجود ما لايعلم.
***
الوقوف على ماجاء في هذه الآيات من قراءات هو من باب العلم النافع، والدراسة العربية تحتفى بمثل هذا، فكثرة القراءات في الآية فيه من فيوض المعانى مايعين العباد على أن يقوموا في رياض الطاعة، وأن تفتح أمامهم سبل القرب من خالقهم وليس كمثل التيسير المحكم بأصول العلم على العباد كَيْمَا لاتنفر نفس عن رحاب الطاعة
المَعْلم الثَّاني عشر.
تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة
"البقاعيّ" ذو عناية بالغة بتبيان مدلول مادة الكلمة القرآنية وصيغتها في بناء جملتها وبما يكشف تناسبها مع سياقها والمقصود من السورة وعلاقتها بأخواتها في بناء الجملة الذي يشكل عنده (النظم التركيبي) في السورة والذي يجعله لبنة في بناء (النظم الترتيبي) فيها..
ويُعنى بما يَعْتَري الكلمة القرآنية من التحوُّل الدَِّلالىّ من موروثها الاشتقاقي والتركيبي إلى ما تكتسبه من السياق الذي تقوم على لاحبه في السورة،وهذا المعلم من معالم منهاجه في تأويل بلاغة القرآن الكريم معلم وسيع لا يحيط به بحثٌ مُفرد من وفير ما جاء عنه فيه.
مادة الكلمة هي الحروف الأصلية التى تتكون منها الكلمة وتشترك فيها مع أقرانها وشقائقها، وهذه الحروف الأصلية تحمل في نفسها وفي طريقة ترتيبها ما تدلّ به على معنى من المعانى، ولعلماء العربية عناية بالغة بهذا، والنظريات اللغوية في هذا المجال متسعة عميقة ذاتُ دقائقَ ولطائفَ، وقد كان لـ"ابن جنىّ" و"ابن فارس" وآخرين فضل لايتوارى في هذا المجال.
والمراد بمدلول المادة ما ترثه الكلمة من أصولها التى كونتها، تحملُ هذا الميراث معها في مواقعها مازجة بعض المدلولات التى تكتسبها من روافد أخرى بها كمدلولات صورتها أومدلولات أدائها.
والكلمة في بيان العربية كالفرد في عالم الإنسان يحمل من أصول نسبه وجرثومته فيضًا من السمات والخصائص التي لايتخلى عنها ما بقيت الحياة في قيده أو بقيي هو في قيدها، ثُمّ تتنوع أفاعيله وما يمنح وما يمنع، وما يظهر وما يبطن وفقًا لما يرمي إليه ويؤم، وما يقوم فيه أويقام، فهو بليغ في فعله نازل على مقتضى أحواله وسياقات وجوده على تنوعها وتعددها كمثله الكلمة في بيان العربية بليغة بما تنزل عليه من مقتضيات الأحوال على تنوعها وتعددها، والسياقات على امتدادها وبعدها وقربها
إنّ عالم البيان في لسان العربية من عالم الإنسان في الجزيرة العربية يوم أن كانت عربية
ورحم الله زمانًا كان شربُه العزّة وطعامُه المنعة والنجدة لكلّ مستصرخ، ولباسه المجدُ المؤثلُ المصُونُ المُعَلّى
***..
منهج البقاعيّ قائم على استبصار معالم تناسب القرآن الكريم في كلماته وجمله وآياته ومعاقده وسوره، وهذا التناسب أساسه تحقق معنى جامع للمتناسبات، واستبصار هذا المعنى هوالمفتاح الذي يحقق للبقاعيّ ما يصبو إليه ، ذلك ما يبدو لمن يتابع التبصر في صنيعه.
وليس من شك في أنَّه لن يكون بمَُِلكى أن أُحيط بنَزيرٍ مما عُنِىَ به "البقاعيّ" في شأن تناسب مادة الكلمة مع السياق مدلولا ودلالة، غير أنِّى مجتهد في أنْ أقفَ عند ما يرسم منهجه ويكشف معالم حركته وما انتهى إليه في هذا.
- - -
لله السماء الحسنى، ولكل اسمٍ منها مدلوله ودلالته، ولكلّ منها موقعه الذي هو به أخصّ، وفقه البيان باسم من أسمائه الحسنى ومناسبة اصطفائه في سياقه من الفقه العَلِىّ، وكانت للبقاعيّ عناية بذلك.
من أسمائه الحسنى التي لم يتكرر ذكره في القرآن الكريم (البارئ) وقد يظن أنّه مرادف لاسمه (الخالق) أو (الفاطر) الذي تكرر ذكركُلٍّ في القرآن الكريم، بينا اسمه (الباري) لم يأت إلا في آيتين:
الأولى جاءت في موطن تعداد بعض أسمائه في آخر سُورة (الحشر)، والأخرى في سورة (البقرة- ي:54)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بَارِئِكُمْ فَقْتُلوا أنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)
ليس يخفى أن أصل المعنى في كلمة (خالق) إنما هو التقدير، بينما أصل المعنى في كلمة (بارئ) هو البراءة من النقص في الإيجاد والتقدير، ومزيد الامتنان يظهر في البيان بقوله (بارئ) ، فإذا ما كان السياق للتذكير بمزيد الفضل إغراءً بحسن الإقبال، فإنّ البيان باسمه (البارئ) أعظم تناسبًا مع السياق. يقول "البقاعيّ":..
" (وإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) العابد للعجلِ والساكت عنه
…
(ياقوم) وأكّد لعراقتهم في الجهل ِبعظيمِ ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى، فقال:(إنكم ظلمتم أنفسكم) ظلمّا تستحقون به العقوبة (باتخاذكم العجل) أي إلها من دون الله سبحانه وتعالى، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئًا ولمن هي أشرف منه، فأنزلتموها من رتبة عزّها بخضوعها لمولاها الذي لايذلُّ من والاه ولا يعزّ من عاداه إلى ذُلّها بخضوعها لمن هو دونكم أنتم
…
(فتوبوا إلى بارئكم) الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة.
وقال "الحرَالّيّ": "البارئ اسم قائم بمعنى البرء، وهو إصلاح المواد للتصوير، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفًّا وقميصًا، وكالذي يطحن القمح ويعجن الطين ليجعله خبزًا وفخارًا ونحو ذلك، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته. انتهى "
…
(فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) أي القادر على إعدامكم كما قدر على إيجادكم.
وفي التعبير بالبارئ ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان وترهيب بإيقاع الهوان.." (1)
في استحضار معنى (بارئ) ما يهزّ النفس الساعية إلى تدنيس ما فطره الله سبحانه وتعالى بريئًا من دنس الشرك به، وهذا ضرب من الإفساد، وليس أعظم إفسادًا ممن يفسد نفسه المفطورة على التوحيد البريئة من الشرك، فإنّ مثل هذا لايؤتمن على غيره، فمن خان نفسه التي بين جنبيه ولم يحفظها فإنّ خيانته غيره أشذُ وأنكلى.
وفي هذا تنفير لهذه الأمة المحمَّدية من أن تسلك مسالك الخائنين أنفسهم المدنسينها بالشرك
(1) - نظم الدرر:1/372- 373..
ورأسُ أولئك اليهود عليهم من الله سبحانه وتعالى ما يستحقون من اللعن والهوان والنكال في الدارين. (1)
إنَّ فقه مواقع الأسماء الحسني في البيان القرآنيّ من أعظم الفقه، فموقع الاسم فيه كاشف عن لطيف معانيه، وتدبُّر سياقه وموقعه ومناظرته بما قاربه في أصل معناه وسياق مواقعه مفتاح من مفاتيح فهم معاني الأسماء الحسني ذلك الفهم الذي أرى أنّه وجه من وجوه الإحصاء الذي حثَّ النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عليه (إنّ لله تسعة وتسعين اسمًا، مئة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنّة)(البخارى: التوحيد- فتح:13- 332)
(1) - ومما هو من الاستطراد غير العقيم تفريق "الطيبيّ" بين الأسماء الثلاثة (الخالق البارئ المصور)
" قال الطيبيّ: قيل إنّ الألفاظَ الثلاثة مترادفة، وهذا وهْمٌ، فإنّ الخالق من الخلق، وأصله التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهوإيجاد الشيء على غير مثال، كقوله تعالى " خلق السَّمواتِ والأرضِ "، وعلى التكوين كقوله تعالى: " خلق الإنسانَ من نّطفةٍ"0
والبارئُ من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إمَّا على سبيل التّفصِّي منه، وعليه قولهم: برء فلانٌ من مرضِهِ، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإمَّا على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة.
وقيل: البارئ الخالق البريءُ من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام.
والمصوِّرُ مبدِعُ صور المخْتَرَعَاتِ ومرتبها بحسب مقتضى الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال ومصوِّرُه في صورة يترتب عليها خواصُّه ويتمُّ بها كماله.
والثلاثة من صفات الفعل إلا إذا أُريدَ بالخالق المقدِّر، فيكون من صفات الذَات؛ لأنَّ مرجع التقدير إلى الإرادة، وعلى هذا فالتقدير يقع أولاً، ثُمّ الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانيا، ثُمّ التقدير بالتسوية يقع ثالثًا)) فتح الباري:13/333..
ولو أنّأ عمدنا إلى تدبر وتأويل أسماء الله الحسنى في الذكر الحكيم: موقعا ومدلولا ودلالة لكان لنا في ذلك من المعانى ما يفتقر كثير من أهل العلم استبصاره ووعيه، ولعلَّ الله عز وجل يسدد ويعين على شيءٍ من ذلك.
ومن هذا أيضًا أسماء القرآن الكريم، فقد جاء البيان باسم (الكتاب) والقرآن) و (الفرقان) ..إلخ ولكلّ موقعٌ ومدلولٌ ودلالةٌ، وقد كان للبقاعيّ تبعًا للحرالّي تأمّل لمدلولات تلك الأسماء ودلالاتها ومنازلها في سياق البيان وذلك مما يحمد النظر فيه في مواطنه من تفسيره.
***
ومما أفتقر إلى النظر فيه هنا تربية نفسٍ أمَّارة بغير ما ينفع قوله تعالى في سورة (الهمزة:1- 4) :
اصطفى البيان القرآنيّ الحكيم فعل النبذ:" ليُنْبَذَنَّ" واصطفى للنار اسمًا لم يأت إلا في هذه السورة من أنّ السياق هنا من بعد ما جاء في سورة (والعصر) سياق تثقيف النفس الأمارة بعظيم الترهيب من تلك الأفاعيل المحطِّمة بنيان الأمة والراغبة عمَّا به نجاتها من الخسر بحسن الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فيكشف " البقاعي" عما بين مدلول مادة هذا الفعل وهذا الاسم وسياقهما من تناسبٍ قائلا:
"
…
(لينْبذنّ) : أيْ ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هينٌ جدًا على كلِ طارحٍ، كما دلَّ عليْه التعبيرُ بالنبذ، وبالبناء للمفعول (في الحطمة) أي الطبقة من النار التى من شأنها أن تحطم أي تكسر وتهشم بشدة وعنف كلَّ ما طرحَ فيها، فيكون أخسرَ الخاسرين
وعبَّر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق.
قال الأستاذ "أبو الحسن الحرالّيّ ":..
" فلمعنى ما يختص بالحكم يسمى تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم، فيما يكون مواجهة، ومن نحو " الحطمة" فيما يكون جزاء لقوة قهر واستعداد بعدد، ونحوذلك في سائر أسمائها. "
وعظَّم شأنها بقوله: (وما أدراك "
…
"ما الحطمة"
…
"نار الله"
…
" الموقدة)
ولما وصف الهامز اللامز وصف الحاطم، فقال سبحانه وتعالى (التي) ولمَّا كان لايطلع على أحوال الشيء إلا من قِبَلِهِ علمًا قال (تطلع) اطلاعًا شديدًا (على الأفئدة) جمع فؤاد:
وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه، فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه، وتشتمل عليه اشتمالا بليغًا سُمي بذلك لشدة توقده.
وخصّ بالذكر؛ لأنه ألطف ما في البدن وأشده تألمًا بأدنى شيءٍ من الأذى ولأنه منشأُ العقائدِ الفاسدةِ وَمَعْدِنُ حب المال الذي هو منشأُ الفساد والضلال، وعنه تصدرالأفعال القبيحة " (1)
يلمح " البقاعي" تناسبًا عليًّا بين مدلول مادة الفعل" نبذ"والجرائم التىاقترفها أولئك الهمّاَزون اللمازون المستهترون في جمع المال، فكان عقابهم هوانًا عظيمًا وكراهية بالغة تتعادل مع ما كان منهم
وإذا ما نظرنا في المواضع التى أتت فيها مفردات هذه المادة في القرآن الكريم رأينا الغالب عليها ذلك المعنى مما يؤكد أنها تصطفى لإبرازه في السياق الذي ترد فيه:
(البقرة: 100، 101، آل عمران: 187، الأنفال: 58، القصص: 40، الذاريات: 40، القلم: 49)
وكذلك البيان عن النار باسم الحطمة الجاهر بمدلول التحطيم والتكسيرفي عنف فيه تناسب علِيٌّ مع السياق الذي جاءت فيه الآية
(1) - نظم الدرر:22 /346..
وهي من فرائد القرآن الكريم التى لم تتكرر فيه (1)
وإذا ما نظرنا في مدلول مفردات هذ المادة في القرآن الكريم رأينا الغالب عليها أيضًا ذلك المعنى مما يؤكد أنها تصطفى لإبرازه في السياق الذي ترد فيه (النمل:18، الزمر:21، الواقعة: 65، الحديد: 20)
وكانت إشارة" الحرالي" التى نقلها عنه" البقاعي" في شأن أسماء " النار" ومواقع البيان بكلِّ اسمٍ في القرآن الكريم إشارةً ماجدةً حاملةً كثيرًا من لطيف المعانى، وهذا يلفت نظرنا إلى أهمية الوقوف عند البيان بأسماء الجزاء على الطاعات والمعاصي وعلاقة ذلك بكل ما يقابله من كسب العباد إن خيرًا وإن شرًا، وفي هذا بيان من الله عز وجل لعباده أن جزاءهم من جنس أعمالهم، فعلى العبد أن يتخير الجزاء الذي يريد. وهذا يبرز عظيم مسئولية العبد على ما كسبت يداه.
ويضاف إلى الذي مضى من تناسب مدلول المادة للسياق ما أحدثه ذلك الاصطفاء من تناسب نغميّ بين: " همزة، لمزة، حطمة " وهذا التناغم ذو فاعلية في إبراز المعانى وتصويرها
والبقاعي كما رأيت ذو قدرة على إدراك منزلة اصطفاءالكلمات لمدلول مادتها المستحضر في قلب المتلقي الواقع الذي يثقف القرآن الكريم بإيقاعه في القلوب النفس الإنسانية، فتنفر من تلك الأفاعيل البغيضة فرار من ذلك الجزاء المهين، ولتعلم أن كل متكبر جبار سيلقى في الآخرة من الهوان ما يضارع تكبره وتجبره.
(1) - للقرآن الكريم فرائد لا تتكرر: كلمات: مادة وصيغة وموقعا ومدولا، وتراكيبَ وصورًا ومشاهدَ قصصيّة وأحكامًا شرعية.... جديرة بالتدبُّر والتأويل البياني. وإنّي ما أزال في طور الجمع لهذه الفرائد من البيان القرآنيّ الكريم أعدادًا لتدبرها وتأويلها تأويلا بيانيّا، ولعلّ الله يعين ويسدد ويتقبل
…
ولو أننا وضعنا كلمة " يُطْرَحَنَّ " موضع " ينبذن" في غير القرآن الكريم وكلمة " النار" موضع " الحطمة" لنبا بذلك السياق، ولافتقر البيان إلى كثير مما يؤدي ما هو مسوق إليه.
***
يصطفي القرآن الكريم كلمة في سياقٍ يُصوِّرُ بها ما يَضْطّرم في خبايا قوم يحكي عنهم مقالهم، فتكون الكلمة بما تصوره في سياقها الفاضحة لهم، يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا مقال المنافقين في سورة " الأحزاب":
لم تأت كلمة (يثرب) في غير هذه الاية وجاء ت كلمة" تثريب" وهي من مادتها في سورة (يوسف:92)
{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
يقول " البقاعي": " عدلُوا عن الاسم - الذي وسمها به النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا من المدينة وطيبة مع حسنه - إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديمًا مع احتمال قبحه باشتقاقه من " الثرب" الذي هو اللوم والتعنيف، إظهارًا للعدول عن الإسلام 0
قال في " الجمع بين العباب والمحكم": " ثرب عليه ثربًا وأثرابًا، بمعنى ثرب تثريبًا إذا لامه وعيره بذنبه وذكَّره به "(1)
فهذه الكلمة تحمل بمدول ماتها (ث - ر - ب) معنى التَّأنيبِ والتَّعيير بمعابة ما يومئُ إليه أولئك المنافقون من تعنيف القائمين لنصرة الإسلام ورسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(1) ? 1 - نظم الدرر: 15 /306..
وفي هذا العدول منهم عن الكلمة التى اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الكلمة البغيضة إيماء إلى دعوتهم إلى العدول عما دعا إليه صلى الله عليه وسلم إلى ما كان عليه أجدادهم، وهذا يصوِّرُ ما يَعْتلِجُ في صدورهم من النفاق، وقد صدق الله سبحانه وتعالى:{.... فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد:30)
فهذه الكلمة في سياق تثبيط المنافقين لعزائم المسلمين بالغة الأنس بمقامها، فهي الكلمة التى هي أخصُّ بذلك المعنى وأتمُّ له وأكشفُ عنه، وهي الفاضحة ما يجتهد المنافقون في كفره وستره
وفي ملاحظة "البقاعي" تلك الإشارة القرآنية نقضٌ ما يعيب به بعض المحدثين تراثنا أنَّ أصحابه في فقههم البيانيّ لايلاحظون مطابقة البيان الأحوال الداخلية التى تمر بها نفوس المتكلمين،، فيلتقطون الأسرار النفسية من بين ثنايا الأسرار اللغوية.
***
ويلمح " البقاعيُّ" في اصطفاء كلمة أخرى ما يكشف عن حقيقة عقول المنافقين في سياق السورة نفسها في قول الله جل جلاله:
{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلآّ قَلِيلاً) (الأحزاب:20)
جاء البيان بالفعل (يحسب) دون غيره من نحو " يظن "
لما بين الفعلين من فرق دلالي، ولما بين مدلول الفعل (يحسب) وسياقه هنا من تناسب جدِّ بديع، وهو في هذا يقول:..
" أخبر سبحانه وتعالى تحقيقًا لقوله الماضي في جُبْنِهم [الآية السابقة] أنَّ المانع الذي ذكره لم يزلْ من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقًا لذلك وجوابا لمن رُبَّما قال: قد ذهب الخوفُ فما لَهم ماسلَقُوا؟ (يحسبون) أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوفُ لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف (الأحزاب) وقد علمتم أنهم ذهبوا (لم يذهبوا) بل غابوا خداعًا.
وعبّر بالحسبان؛ لأنَّه - كما مضى عن" الحرالّي" في البقرة - ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له.
والظن فيما هو من المعلوم الماخوذ بالدليل والعلم.
قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان" (1)
إذا ما رجعنا لمواقع بيان القرآن الكريم بما جاء من مادة " حسب" و" ظن " ألفيناه مقيما كلمات " حسب" في سياق المذمَّة أو النهي عن قبيح أو إنكار وتوبيخ، أو مايدل على أنَّ ما وقع خطأ أو ضلال إشارة إلى حقيقة مدلول كلمات هذه المادة التى كشف عنها "البقاعيّ " تأثرًا بـ" الحرالّيّ "
أمَّا الفعل (ظنّ) فإنَّه في البيان القرآنيِّ قد يأتى في سياق الدلالة على أن ما وقع حق وصواب، وقد يقام مقام اليقين
…
- - -
ويقف أمام البيان بكلمة " مؤتفكات" في قول الله سبحانه وتعالى:
(1) ? 1 - نظم الدرر: 15 /321..
ويقول كاشفًا عن معالم التناسب البديع بين البيان بكلمة" المؤتفكات" وطبيعة فعل الكافرين من أمّة سيدنا " لوط "عليه السلام الذي كان مدلول كلمة " مؤتفكات" جزاء وفاقًا لفعلتهم النكراء، وطبيعة المنافقين الذين سياق الكلام لهم، فالآيات متتابعة من الآية الثانية والأربعين إلى آخر السورة للحديث عن المنافقين
يقول " البقاعيّ ":
{ولما قرر سبحانه وتعالى بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، أتبع ذلك بتخويفهم من مشابتهم فيما حلّ بالطوائف منهم، ملتفتًا إلى مقام الغيبة؛ لأنَّه أوقع في الهيبة، فقال مقررًا لخسارتهم:(ألم يأتهم) أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق (نبأ الذين من قبلهم) أي خبرهم العظيم الذي هو جديرٌ بالبحث عنه؛ ليعمل بما يقتضيه حين عصَوا رسلَنا، ثُمّ أبدل منه قوله (قَوْمِ نُوحٍ
…
وَعَادٍ
…
وَثَمُودَ
…
وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ
…
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ)
…
(والمؤتفكات) أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم.......
وعبر عنهم بـ" المؤتفكات"؛لأنَّ القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب، وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أنَّ أولئك لمَّا قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه.
ومادة " إفك" بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجلَ، فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفتته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء الملوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه، فهو إفك لذلك، والله أعلم " (1)
(1) - نظم الدرر: 8 / 540 - 543..
يبصر " البقاعيّ"الوشائج بين الموروث الدلالى لكلمة" مؤتفكات" وطبيعة السياق الخاصِّ والعامِّ للسورة، وأشار إلى خصوصية هذه الكلمة في دلالتها على حقيقة حال المنافقين الذين السياق لهم، وهي أيضًا تلقى في قلب المتلقي إدراكًا لما يبلغه النفاق من مقابح تنفر منها النفس السوية، فإذا ما كانت الفطرة نافرة من فعلة الكافرين من أمة سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام فإنَّ النِّفاق من باب هذه الفعلة، فالفطرة السوية والقلب المُعَافَى أشد نِفَارًا.
***
وإذا ما كان البيان القرآنيّ الكريم قائمًا على (التصريف البياني) فإنّ هذا التصريف يتضمن ما يعرف بمشتبه النظم وقد سبقت الإشارة إلي شيء منه وقد يتضمن اصريفًا في اختيار الكلمة من حيث مادتها في سياق،ويختار أخرى في سياق آخر، فلا يكون من مشتبه النظم لأنه ليس التصريف راجعا إلى نظم الكلمة بل إلى اختيارها هي من حيث مادتها أو صيغتها.
من ذلك ما تراه في قول الله تعالى في سورة"البقرة (ي:60) :
وفي سورة "الأعراف ") (ي:160)
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ..
جاء البيان كما ترى في سورة البقرة بقوله (انفجرت) وفي سورة الأعراف (انبجست) وغير خفيّ أنهما ليسا سواء في مدلولهما، فالانفجار أعظم من الانبجاس فما أثر السياق في اصطفاء كلّ كلمة في سياقها؟
يقول "البقاعي": " وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج من المحيط: هذا خروج يحيي، وذاك خروج يميت.
قال " الحرالّيّ ": الانفجار انبعاث وحي من شيءٍ مُوعَى أو كأنّه موعَى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه "انتهى
ولأنّ هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاثٌ مع انتشارٍ واتساعٍ وكثرةٍ.
ولمَّا لم يكُنْ سياق "الأعراف" للامتنان عبّر بالانبجاس الذي يدورمعناه على مجرد الظهور والنبوع" (1)
فالسياق هو الذي اقتضى اصطفاء الانفجار في سورة "البقرة" وهو الذي اقتضى اصطفاء الانبجاس في سورة" الاعراف"
وأنت إذا نظرت في دائرة السياق القريبة في سورة "البقرة" تجده قد بدأ من الآية الأربعين: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} بالامتنان على بني إسرائيل بذكر ما أفاض عليهم من النعم غير انّه لم يكن منهم إلا تماديا في الضلالة تنفيرًا للأمَة المحمدية من ان تقتدي بمنهاجهم وشرعتهم
أمَّا السياق القريب في سورة "الأعراف" فإنّه ظاهر في تصوير إسراع بني إسرائيل في الضلالة، تراه يبدأ بقوله سبحانه وتعالى:
فكان الأليق الأنسب بسياق آية سورة "البقرة" اصطفاء الكلمة الأدلّ على قوة الحدث (انفجرت) بخلاف سياق آية سورة "الأعراف"
***
(1) - نظم الدرر:1 /404..
ونقف معه في تأويل قول الله عز وجل في سورة الكهف (ي:77)
وقوله فيها (ي:82)
في الأولى قال (القرية) وفي الأخرى قال (المدينة) والمراد بهما بقعة واحدة، وليس من شك في أن من وراء اصطفاء القرية أولا مقتضِيًا غيرالمقتضِي الذي اصطفى كلمة (المدينة) في الأخرى
يلقى البقاعي بصيرته إلى السياق والغرض المنصوب له الكلام، وإلى مدول مادة كل كلمة من هاتين الكلمتين
يقول في الأولى (ي:77) :
" عبر عنها ـ هنا ـ بالقرية دون المدينة؛ لأنَّه أدلُّ على الذَّمِّ؛ لأنَّ مادة " قرأ" تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك
…
ثُمّ وصفها ليبين أنَّ لها مدخلا في لؤم أهلها بقوله تعالى "استطعما" وأظهر، ولم يضمر في قوله" أهلها" لأنَّ الاستطعام لبعض من أتوه، أو كلِّ من ألإتيان والاستطعام لبعضٍ، ولكنه غير متحد، وهذا هو الظاهر؛ لأنَّهُ هو الموافق للعادة " (1)
ثُمَّ يقول في الآية ألأُخرى (ي:82) :
(1) - نظم الدرر: 12 /114
" ولمَّا كانت القرية لاتنافي التسمية بالمدينة، وكان التعبير بالقرية أولاً أليقَ؛ لأنها مشتقة من معنى الجمع، فكان أليق بالذِّمِّ في ترك الضيافة؛ لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع، وبمحبتهم للجمع والإمساك، وكانت المدينة بمعنى الإقامة، فكان التعبير بها أليق؛ للإشارة إلى أنَّ الناس يقيمون فيها، فيتهدم الجدار، وهم مقيمون، فيأخذون الكنز"(1)
عمد"البقاعي"إلى النظر في ما تقوم عليه مادة كلٍّ من كلمتى: " القرية" و" المدينة" وما يراد من آية كلٍ، فأبصر تناسبًا بين مادة كلٍّ وسياقها ومقصودها: كلمة" قرية" تقوم على معنى الجمع، فالقاف والراء وما يثلثهما فيه معنى الجمع، وهذا ما يستحضر في قلب المتلقى معنى اجتماع أهلها، والآية جاءت في سياق إبراز أن أهل تلك البقعة متصفون بمذمة البخل والإعراض عن إكرام الضيفان، وأنهم مجمعون على مثل هذا، وهذا من أبلغ البخل؛ لأنَّ من يبخل والقوم في جمع كان بخله منفردًا أعظم، وفيه مذمَّة وهي أنّه ليس فيهم من ينهاهم عن تلك المذمَّة، وكأنَّها أضحت فيهم معروفًا غير مستنكر، وهذا من إحالة المنكر معروفًا، وإذا ما بلغت أمة ذلك، فهي الخواء من كلِّ فضل.
في اصطفاء هذه المادة تناسبٌ مع سياق الإبلاغ في ذمهم ويؤازر هذا البيان بقوله: " اسْتَطْعمَا أهلَها " وقوله" فأبوا أن يضيفوهما "
وكلمة" المدينة" تبرز معنى آخر هو أليق بالتعليل لإقامة الجدار: تدور أصول هذه الكلمة على معنى الإقامة، والآية جاءت في سياق بيان وجه ما فعل، وأنَّ العبد الصالح لو لم يقم الجدارلتهدم وساعد في إسراع تهدمه إقامة أولئك من حوله، فيكون عرْضَة انتهابه، فمعنى " الإقامة" الذي هو مركزمدلول مادة"مدن"هوالمتناسب مع وجه إقامة ذلك الجدار.
(1) - نظم الدرر: 12/122..
وكل ذلك يبرز وجهًا من المعنى العام للقصة، وأنَّ من وراء هذا العلم المكتسب علمًا أنفذ في باطن الحقائق، وأنَّ على كلِّ ذي علم أنْ يعلمَ أنَّ من فوق علمِه وإنْ تعاظم وتكاثر علمًا أسمى وأعظم
وهذا يتناسب مع المعنى العام لسورة " الكهف " وما استفتحت به من الحمد على نعمة العلم الذي به قوام البقاء النافع والقويم في هذه الحياة.
***
ومماعنى البقاعيّ بالنظر في تأويله وتدبر مناسبته لسياقه والمقصود من البيان الكلمات (سنة) و (عام) وحجة) و (حول) فهي كلمات يحسَلبُ أنها سواء في مدلولها، وقد جاءت من البيان القرآني في سياقات ومقاصد متنوعة
جاءت كلمة (سنة) سبع مرات مفردة، وإحدى عشرة مرة مجموعة (سنين) : (البقرة:96- المائدة: 26 - يونس: 5 – يوسف: 42 ، 47 – الإسراء: 12 – الكهف: 11 ، 25 – طه: 40 – الحج: 47 – المؤمنون: 112 - الشعراء: 18 ، 205 – العنكبوت: 14 – الروم:4 - السجدة: 5 – الأحقاف: 15 –المعارج: 4
وجات كلمة (عام) تسع مرات (البقرة:259-259-التوبة:28 -37-37-126 يوسف:49 العنكبوت:14 لقمان:14)
وكلمة (الحول) جاءت في آيتين من سورة البقرة:ي:233،240)
وكلمة (حجة) جاءت في آية القصص (ي:27)
والغالب عند أهل البيان أنَّ كلمة "سنة " أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه جدب وشدة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، يقال أسنت القوم أصابهم الجدب، كما يقول الراغب في " المفردات "
والبقاعيّ يشير في بعض المواضع إلى تلك الفروق من ذلك ما تراه عند تأويله قول الله عز وجل:
يقول: "....والسنة: أمد تمام دورة الشمس وتمام ثنتي عشرة دورة القمر - قاله الحرالي.
وهذا المعنى وإن كان موجودًا في الحول والعام والحجة غير أنّ مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فبلاغة القرآن الكريم لاتطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ.
فهذا السياق لمَّا كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أيّ حالة كانت علماً منهم بأنَّها ولو كانت أسوأ الأحوال خيرٌ لهم مما بعد الموت لتحقُّقِ شقائهم عبّر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان، أو ما منه الدَّوران الذي فيه كدّ وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر.
قال السهيلي في "الروض": وقد تسمى السنة دارًا في الخبر:
إنّ بين آدم عليه السلام ونوح عليه السلام ألف دار أي سنة
ثُمّ قال: فتأملْ هذا فإنّ العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح بابا من العلم بإعجازالقرآن، والله المستعان)) (1)
وفي قول الله سبحانه وتعالى:
ينظر وجه البيان أولاً بالسنة وآخرًا بالعام، فيقول:
"
…
عبّر بلفظ " سنة" ذمًا لأيام الكفر، وقال " إلا خمسين
…
عامًا" إشارة إلى أنَّ زمان حياته عليه السلام بعد غرقهم كان رغدًا واسعًا حسنا بإيمان المؤمنين وخصب الأرض"(2)
فأيام المجاهدة أيام معاناة من جهته فالأنسب بها كلمة (سنة) وأيام مذمة من جهة فِعَالِهِم: الكفرَ، فكذلك يناسبها كلمة "سنة"، بما تحمله من أصل مادتها الذي بينتُه من قبل
أمَّا مَا كان من بعد الطُّوفان بإغراق الكافرين ونجاة المؤمنين فهي أيام سعةٍ معنوية بالإيمان وسعةٍ حسيّة بخصب الأرض وكثرة النعم
(1) ? - نظم الدرر:2/63
(2)
? - السابق:14 /404..
وكأنّ البقاعيّ يذهبُ إلى أنّ الخمسين عامًا هي التي بقيها "نوح" عليه السلام من بعد الطوفان.
***
وجاء البيان بكلمة " حول" في قول الله جل جلاله:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَاّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233)
كلمة (حول) فيها معنى الانفصال والتَّغيِّير من نعت إلى نعت آخر، ومن هنا سميت الصِّفة المتغيرة حالا أي لايبقى على ما هو عليه بل يحول ويتغيَّير، والبقاعي يتدبَر معنى التحول في هذه الاية قائلا:
" ولمَّا ذكر الرضاع ذكر مدَّته، ولمّا كان المقصود مجرَّد تحوّل الزمان بفصوله الأربعة ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثنى عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة، وليس المراد الإشعار بمدح الزمان ولا ذمه ولا وصفه بضيقٍ ولا سعة عبّر بما يدلّ على مطلق التحوّل فقال (حولين)
…
وكأنّه مأخوذ مما له قوة التّحوّل " (1)
(1) ? - نظم الدرر:3 /330..
يعمد البقاعيّ إلى تبيانِ المقصودِ أوَّلاً بالآية وما ليس بالمقصود منها ثانيا، فيتبين له أنَّ القصد إلى معنى التَّحوُّلِ والتَّغيُّير الذي يطرأُ على الوليدِ بسبب الرضاعة، وهذان العامان هما من أكثر الأعوام التي يظهر فيها على الوليد تغير حاله في جميع مجالاتها الحسية والمعنوية، ولو أنك نظرت حاله عند ميلاده وحاله عند تمام فطامه لرأيت تحولا وتغيرًا لايتأتى لك أن ترى مثله في أي حولين يمران على الوليد من بعد، فهذه المدة هي أحق مدد عمره بمعنى التحول
وزيادة على هذا لا يراد الإشارة إلى نعت متعلق بالزمان الذي يقع فيه الإرضاع من سعة نعمة أوضيقها حتى لايفهم أن الحكم متعلق بتلك الصفة من سعة أو ضيق
وهذا من كمال حماية المستمع للبيان القرآني أن يفهم من البيان غير ما يراد منه، ومثل هذا عند فقهاء البيان من أصول البلاغة: ألا يؤتى السامع من سوء سوء إفهام الناطق (1)
***
وجاء البيان بكلمة (حول) في السورة نفسها (ي:240)
والبقاعيّ في هذه الآية لم يذكر شيئًا من عنده، مكتفيا بالنقل عن " الحرالّيّ " مبيّنا وجهًا من حكمة جعل عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا مستكملة بحول، وأنّ الآية ليس فيها نسخ ووجه الحكمة بجعل فاصلتها {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
***
وجاء البيان بكلمة "حجة" في آية من سورة القصص:
(1) ? – البيان والتبيين للجاحظ: 1 /87 - ت: هارون
(2)
- نظم الدرر: 3 /378 - 381
يبيّنُ البقاعيّ وجه التأكيد في (إنّي) ووجه البيان بكلمة (أنكحك) ووجه الإشارة بقوله: (هاتين) ، ووجه جعلها ثمانيَ حججٍ، ثُم ينظر في اصطفاء كلمة حجج دون غيرها من الكلمات المقاربة من نحو سنة أو عام أو حول فيقول:
" والتعبير بما هو من الحجّ الذي هو القصد تفاؤلا بأنَّها تكون من طيبها بمتابعة أمرالله سبحانه وتعالى وسعة رزقه وإفاضة النعمة ودفع النقمة أهلا لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كلّ واحدة منها إلى بيت الله الحرام "(1)
يستحضر "البقاعي" من مادة الكلمة (حجج) معنى القصد الذي هو الأساس القائم في تصرفاتها، وما اكتسبه هذا المعنى من الوضع الشرعي لكلمة (حج) وإغراء بأن يكون هذا مما يجتهد في القصد إليه والعناية به وأن يستعر أنَّه في هذه الثماني بمنزل الحاجِّ الرَّاغِبِ عن كلّ شأنه والراغب في ما هو حظ سيده لايشغله عنه شيءٌ من أمر نفسه أو أمرِ غير سيده، وأن تكون علاقته بالأشياء من حوله علاقة الحاج بما حوله في الحرم مسالمة لاتتناهى
ويستحضر أيضًا ما صحب هذا المعنى الشرعي من مدلولات تتقاذف في النفس من التفاؤل بالنعمة التي تلازمت مع الحج من دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وما يكون من نفي الفقر والبلاء.
وهو يشير إلي احتمال أن يكون في هذا اشتراطٌ بحمله إلى الحج كلّ عام من هذه الثماني
كذلك يتبين لك منهاج "البقاعي" في استشعار مدلولات الكلمة المكتسبة من ملابستها مضافة إلى ما هو منسول من جذرها الاشتقاقيّ وأصلها اللغوي الذي نبتت منه.
***
(1) – السابق:14 /269 - 270
وينظر البقاعي أيضًا في مناسبة اصطفاء كلمة" إبليس" لسياقها وكلمة" الشيطان" لسياقها وكلٌ منهما مراد به شيءٌ واحد.
في سورة: " البقرة" جاء البيان بكلمة " إبليس" في سياق الامتناع عن السجود (ي:34) وفي" الأعراف"(ي:11) والحجر (ي:31) والإسراء (ي: 61) وطه (ي:116)
وفي سياق إغواء آدم وحواء جاء البيان عنه نفسه بكلمة: " الشيطان" جاء في البقرة (ي:36) والأعراف" (ي:20) وطه (ي:120)
فهذان اسمان لذاتٍ واحدةٍ غيرَ أنَّ القرآن الكريم يصطفي كلَّ اسمٍ في سياق غير الذي يصطفي فيه الآخر وذلك لتناسب مدلول مادة كل كلمة سياق وُرودِها
ينقل " البقاعي" عند قوله سبحانه وتعالى:
عن " أبي الحسن الحَرَالِّيِّ" في هذا قوله:
" إبليس": "من الإبلاس، وهو انقطاعُ سبب الرجاء الذي يكون عن اليأس من حيثُ قطع ذلك السبب "(1)
وينقل عنه في قول الله عز وجل:
قوله: ((الشيطان: هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمى الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق
…
فهو من المعنيين مشتق كلفظ" إنسان" و" ملائكة)) (2)
لفظ الشيطان مشتق من أصلين أي منحوت منهما وهو مُسْتَرْضٍ هذا النَّهجَ في النَّحْتِ؛ لأنَّه يرى فيه جمعًا بين مدلولين في لفظ واحد يحصل من اجتماعهما تناسب عالٍ مع السياق والقصد، فيقول:
(1) – نظم الدرر:1 /256
(2)
– نظم الدرر:1 /287
((ذكر الحق سبحانه وتعالى الإزلال منه ـ أي عدو الله ـ باسم الشيطان لا باسمه؛ لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التى تقبل التلافي، ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم عليه السلام بالتوبة)) (1)
البيان بكلمة "إبليس " في سياق ترك السجود دال على ما هو آخذ بخناق عدو الله في هذا السياق من اليأس وقطع الرجاء في أن يكون من أهل التفضيل والقرب، فأوحى اصطفاء هذه الكلمة:" إبليس" في هذا السياق بالصورة الجوانية لإبليس عندما أمر بالسجود عند امتناعه مما أمكر به، وهذا يصور لنا عظيم العذاب الذي أقيم فيه عدو الله بهذا فيعين فقهُ هذا العبدَ على أن يعرفَ الدوافعَ التى تحمل عَدُوَّ الله على أنَّ يقف من أبناء آدم عليه السلام موقف العداء المُسْتَعر، فلا يأمن الإنسان له ولا يطمئن إلى ما يُغريه به من فتن الحياة الدنيا.
والبيان بكلمة" الشيطان" في سياق إغواء أبينا آدم عليه السلام دالٌّ على ما هو منتهٍ إليه جهادُه في إغواء أهل الطاعة:
إنَّ أثره لمتناه متلاشٍ في سرعة، فكل محاولة منه مع من كان متسمًا بالفقه لحاله وموقفه إنَّما مصيرُها الاحتراقُ، وكلُّ محاولةٍ من محاولات الإغراء محترقة بالتوبة النصوح إذا ما ثاب الإنسان إليها، وليس أخسر ممن يحترق جهاده العظيم في الإغواء بكلمة صادقة يقولها المرء يصوِّر بها ما يعتلج في صدره من الندم والمخافة.
(1) - السابق: 1 /288..
ويمكنك أن تستثمر مقالة " الحرالِّيِّ" فترى أن كلمة " إبليس" في دلالتها على " اليأس والتحير تشير إلى أنَّ عدوَّ الله في أوَّلِ أمره عندما أمر بالسجود كان حائرًا بين قياسات عقله وموازناته بين الطين والنار، ونداءات القلب بالتسليم للأمر الإلهي بالسجود، عاش أولاً في حيرة، ثُمَّ مال إلى صوت العقل وقياسه، فجهر قائلا: " أنا خيرٌ منه"، " أأسجد لمن خلقت طينًا"، أمَّا الملائكة فقد خضعت للتسليم المطلق لمراد الله عز وجل منها، ولم تقف موقف التحير الذي وقفه " إبليس"، فترتَّبَ على ما مال إليه " عدو الله" أن طرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وأحرق بغضبه تعالى عليه، فكان شيطانًا مدحورًا محروقًا بلعنة الله عز وجل (1)
ولعله ممَّا يقرب هذا أنَّ القرآنَ الكريم لا يطلق كلمة" إبليس" إلا على أول الشياطين وجودا وهو المأمور بالسجود.
ولو أنَّ كلمة" إبليس" استخدمت في سياق الإغواء والإغراء لكان في هذا اقناطًا عظيمًا لبنى آدم، ولكن فيض الرحمانية والرحيمية تجلى في اصطفاء كلمة " الشيطان " في هذا السياق.
وهذا من لطائف المعانى الإحسانية للقرآن الكريم التى لايلتفت إليها إلا أهل الإحسان في فقه بيان القرآن الكريم.
***
(1) - لعلّ في هذا عبرة لمن رغب في نتاج عقله ورغب عمَّا جاء به الوحي كتابا وسنة ورأى بقياساته أنّ استصلاح حاله بما ينتهي إليه تفكيره، تقديمًا للمصلحة المظنونة أو المتوهمة على ما استنبط من البيان العَلِيّ المعجز قرآنًا وسنة، ومنادة بأنَّ الشرع نزل لنا فهو لما نراه استصلاحا لحالنا، ولسنا مخلوقين للشرع نقصر على ما جاء وإن رأينا أنّه لايتواءم مع حالنا في عصرنا ومصرنا، وقد كثر المعتنقون لتلك الفلسفة في زماننا وديارنا، وتنادوا بأنهم زعماء التنوير..
مجمل القول هنا أنَّ الكلمة في سياقها لاتستمد مدلولها ووجه دلالته عليه من مادتها الاشتقاقية التى تولدت منها فحسب، بل هي تستمد ذلك من روافد عديدة، منها المادة، والصورة التى تكون عليها، وموقعها الذي تقع فيه، ومنهاج أدائها، بل ومذهب رسمها وكتابتها
…
إلخ
وهذه الروافد لايتعاند عطاؤها بل يتساند ويتفاعل، وقد يكون بعضُها أظهرَ وأكثرَ، ولكنَّه لاينفى عطاءَ الآخَرِ.
ولهذا فإنّه إذا ما كان " البقاعي" قد عُنى بِمَا بَيْن مدلول مادة الكلمة وسياقها والمغزى الذي ينصب له الكلام من تناسب وتناسج، فإنَّ له عنايةً أيضًا بمدلول صيغة الكلمة وهيئتها وتناسبه مع السياق والمقصد الذي يُقام الكلام من أجله، وهو باب وسيع فسيح، من أنَّ صيغ الكلمات وهيئاتها في العربية كثيرة بل متكاثرة، واستقصاءُ ذلك ووعيُه فوق ما تطيق النفسُ، وما يتسع له المقامُ، مما يقتضي اكتفاءً ببعضٍ غير قليل في تبيان منهاج " البقاعي " في تحقيق وتحرير القول في هذا بما يكشف عن بعضٍ من معالم الإعجاز البيان للقرآن الكريم
- - -
يتدبر البقاعى "المضارع" فى أوّل سورة البقرة:
{ألم * ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
فيقول: ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفا لهم، فقال:"الذين يؤمنون بالغيب"
…
"ويقيمون الصلاة"
…
"ومما رزقناهم..ينفقون".. والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقهم على الدوام.
قال "أبو حيان" وغيره فى قوله عز وجل فى سورة "الحج": {إن الذين كفروا ويصدون} المضارع قد لايلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار. إنتهى
…
وهذا مما لامحيد عنه، وإلا لم يشمل هذا فى هذه السورة "المدنية" من تخلق به قبل الهجرة، وقوله سبحانه وتعالى:{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: من الآية91) قاطع فى ذلك. " (1)
المضارع فى هذه الأفعال ملحوظ فيه معنى الحصول بعد أن لم يكن، ولذلك يشمل كل من وقع منه الفعل من قبل نزول الآية المدنية، وكل من يقع أو سيقع منه حتى قيام الساعة، ولم يؤت به وصفا، (المؤمنون – المقيمون – المنفقون) لإرادة الدلالة على التجدد الذى هو من خصائص الأفعال. والسياق سياق إبانة عمن يكون القرآن الكريم نافعا لهم، وهم المتقون صراطَ الغضوب عليهم وصراطَ الضالين وهؤلاء المتقون غير مقيد وجودهم بزمان معين فهذه الأفعال واقعة فى كل زمان يكون فيه المتقون، فكان الآنس به أن يأتى المضارع ليدل على ذلك الاستمرار، ولم يأت الماضى حتى لايتوهم أنَّ هذا خاص بمن وقعت منهم تلك الأفعال، أما غيرهم فلا، أو هم من دونهم فى اتقاء صراط المغضوب عليهم وصراط الضَّالّين ومن دونهم في الهداية بالقرآن الكريم، وذلك ما لايتناسب مع القصد الذى ترمى إليه الآيات فى مستهل سورة "البقرة".
***
أما المضارع فى قول الله سبحانه وتعالى:
فقد جاء على خلاف مقتضى الظاهر، فإن مقتضى الظاهر أن يقال: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل" لأن قوله (من قبل) دال على أن القتل المستنكر وقوعه قد كان من قبل الخطاب.
يتدبَّرُ البقاعىّ هذا قائلا:
(1) – نظم الدرر:1 /82 -83
((ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم، بقوله مثبتا الجار، لأن ذلك كان منهم فى بعض الأزمان الماضية (من قبل) . وفى صيغة "المضارع" تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة، ورمز إلى أنَّهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم، لأن التقدير: وتصرُّون على قتلهم من بعد، وفيه إيماءٌ إلى حرصهم على قتل النبى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا تحذيرا مهم
…
)) (1) .
فالبقاعى يرى فى البيان بالمضارع هنا فى صحبة القرينة الدَّالة على وقوع الحدث فى الزمن الماضى دلالة على إرادة تصوير بشاعة ماوقع من أسلافهم، وأنَّهم راضون به، غير منكرين له، وأنَّهم بهذا كمن يشارك فى إيقاعه، وأنَّهم إذا ماحانت لهم فرصة. لايتوقفون فى انتهازها، فلايمنعهم منها إلا عجزهم أوخوفهم، وكأنَّ فعلهم مع النبى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لن يقِلَّ عن فعل أسلافهم مع أنبيائهم عليهم السلام، ففعل أسلافهم كأنَّه قام بعينه وصورته ودرجته فيهم. وفى هذا البيان لحالهم للمسلمين مالايخفى على عاقل. غير أنّ المنتسبين إلى الإسلام وراثة من كبار السّاسة والمثقفين ودعاة التنوير وأبناء العهد الجديد ونشطاء السلام لايرون هذا، فهم - عند أنفسهم الأمارة بالسوء - أثقب نظرًا، وهم أحق بأن تسمع كلمتهم من كلّ ما يُستنبط بأليات فهم قديمة من بيان نزل من خمسة عشر قرنا لقوم أقاموا في كبد الصحراء!!!
***
وإذا ماكان المضارع (تقتلون) فى آية "البقرة" قد جاء فى صحبة قرينة دالة على وقوع القتل فى الزمن الماضى (من قبل) فإن المضارع قد يأتى معطوفا على فعل ماض ثم يعطف عليه ماض كما فى قوله سبحانه وتعالى:.
(1) - نظم الدرر:2 / 49..
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9)
الآية جاءت في صدر سورة " فاطر" التى " مقصودها: إثبات القدرة الكاملة لله سبحانه وتعالى اللازم منها تمام القدرة على البعث "(1)
وجاءت في سياق تأكيد الله سبحانه وتعالى انَّ ما وعد به من البعثِ والجزاءِ حَقٌ، لامِرْيَةَ فيهِ، ونهيهِ عنِ الوقوعِ في غُرورِ الدُّنيا والشّيطانِ:
جاء الفعل (تثير) المضارع معطوفا على الفعل (أرسل) وكان مقتضى الظاهر أن يقال: الله الذى أرسل الرياح فأثارت سحابا فسقناه.، أو: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا كما في سورة (الروم) : {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الروم:48)
لكنَّ البيان القرآنى هنا عدل عن ذلك فأوقع المضارع معطوفا على ماض (أرسل) ومعطوفا عليه ماض (سقناه) وذلك مرجعه إلى طبيعة الحدث: (الإثارة) وموقعه من القصد الذى ترمى إليه الآية (كذلك النشور) فهذا القصد غير حاضر في آية الروم (ي:48)، وإن كان فيما بعدها (ي:50)
يقول البقاعى مجليا وجه البيان بالمضارع:
(1) – نظم الدرر:16 /10
" ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه لابد من إيجاد ماوعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذِّب، وكان السبب فى الضلال المميت للقلوب الهوى الذى يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم، فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب فى السحاب المغطى السماء الأرض المحيى لميت الحبوب الهواءُ، وكان السبب الإتيان به فى وقت دون آخر دالاً على القدرة بالإختيار، قال عاطفا على جملة {إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} المبنى على النظر، وهو الإخرج من العدم مبينا لقدرته على ما وعد به (والله)
…
(الذى) ولما كان المراد الإيجاد من العدم عبر بالماضى مسنداً إليه، لأنَّه الفاعل الحقيقى، فقال:(أرسل الرياح) أى أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لاثابته كالأرض، وأسكنها مابين الخافقين لصلاح مكان الأرض.
ولما كانت أثارتها تتجدد كلَّما أراد أن يسقىَ أرضًا، قال مسندا إلى الرياح؛ لأنَّها السبب، معبرا بالمضارع حكاية للحال، لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة.
وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة للسامع على ذلك، وحثا له على تدبره وتصوره (فتثير) أى بتحريكه لها إذا أراد (سحابا) أى أنه أجرى سبحانه وتعالى سنته أن تظهر حكمته بالتدريج، ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث وكان التعبير بالمضارع يَرُدُّ التَّعَنُّتَ عبر بالمضارع.
ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان التفت عن الغيبة، وجعله فى مظهر العظمة، فقال (فسقناه) أى السحاب، معبرا بالماضى تنبيها على أن كلَّ سوق كان بعد إثارتها فى الماضى والمستقبل منه وحده أو بواسطة من إقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودلَّ على أنَّه لافرق بين البعد والقرب بحرف الغاية، فقال (إلى بلدٍ ميّتٍ) .
ولما كان السبب فى الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال: {فأحيينا به الأرض} ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذى هم به مكذبون قال رافعا للمجاز بكل تقدير وموضحا كل الإيضاح للتصوير: (بعد موتها
…
كذلك
…
النشور) (1) .
لاحظ "البقاعِيّ" دلالة المضارع على تصوير الحدث، وإقامته بين عينى المخاطب كأنَّه يقع، فلا يحجزه عن التبصر فيه والاعتبار إلا حاجز من نفسه
وجاء البيان بالمضارع فى الفعل الذى حدثه فى الكون أدلّ على وقوع البعث الذى السياق له وهو حدث الإثارة (فتثير) وهذه الإثارة مثلها إثارة الموتى من أجداثهم، فمن أثار سحابا ليحيى به أرضا ميتة قادر على إثارة الموتى من قبورهم فى تلك الأرض، فكان المضارع هنا هو القادر على تحقيق القصد، وكان هو الأنس بالسياق، ولم يمنع من إقامته فى مقامه أن سبقه ماض وتبعه ماض، فالتناسق الشكلى العقيم لايدفع عن العناية بإقامة التناسق الدلالى النبيل الكريم.
ليس المهم إذن أنْ نقولَ إنَّ المضارع يصوّر الحدث ويستحضره بين ناظرىْ المخاطب، ولكنَّ الأهمَّ هو إدراك التناسق بين السياق والقصد والفعل المُصْطَفَى ليكون العدولُ فيه من الماضى إلى المضارع، فليس كل فعل من أفعال الآية بالصَّالح لأنْ يقعَ فيه ذلك العدولُ من الماضى إلى المضارع، بل المرجع فى هذا إلى طبيعة حدث هذا الفعل وعلاقته بالسياق والقصد المنصوب له الكلام.
(1) – نظم الدرر: ج 16 / 16 -17
ومن البيِّنِ أنَّ بعضَ البلاغِيينَ يجعلُ مثلَ هذا التَّصريف البيانِيّ القائم على العُدُولِ من"الماضي" في (أرسلَ الرياحَ) إلى"المضارع" في (فتثير سحابًا) من قبيل الالتفات الذي هو من شجاعة العربية، ولايقصرُ "الالتفات" على التصرف في أنواع " الضمير" المتحدة المرجع على ما عليه جمهور البلاغيين. وممن يعُدُّ مثلَ هذه الآية من "الالتفات" " الضياء بن الأثير" (ت:637هـ) في " المثل السائر "، وقد فصّل القول في منهاجه في كتابي {قراءة في المثل السَّائر}
***
ويتدبر"البقاعى" موقع "المضارع" بين اسمى فاعلين فى قول الحق عز وجل
يشير إلى أن معنى (فالق الحب والنوى) فاطره وشاقه عن الزرع والنبات، وعبَّر بذلك، لأنَّ الشئ قبل وجوده كان معدوما والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة، فإذا أخرج من العدم المحض والفناء الصرف، فكانَّه بحسب التخيل والتوهم سبق ذلك العدم " (1)
ففلق الحب والنوى إنَّما هو ضربٌ من الإحياء أى إخراج حى من ميت، لأنَّ فى النبات نموًّا، ومن هنا " فسر الحق عز وجل معنى الفلق وبينه، إشارة إلى الإعتناء به وقتا بعد وقت، بقوله "يخرج" على سبيل التجديد والاستمرار تثبيتا لأمر البعث (الحي
…
من الميت)
…
ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها؛ لئلا يتوهم - لو كان لا يخرج عن الشئ إلا مثله - أن الفاعل الطبيعة والخاصية، عطف على فالق زيادة فى البيان قوله معبرا باسم الفاعل الدال على الثبات، لأنه لا منازعه لهم فيه، فلم تدع الحاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد (وخرج الميت
…
من الحى) (2)
(1) - نظم الدرر: 7 /194
(2)
- السابق: 7 /198..
المضارع فى:: (يخرج الحى) يكشف عن حقيقة قوله: (فالق) ، وفى البيان بالمضارع هنا تناسب مع السياق الخاص بالآية، وهو البعث، كما لايخفى، ومع السياق العام، والمقصود الأعظم لسورة "الأنعام" وهو الإيجاد الأول، والحمد لله عليه، فجمع بين الإيجادين: الأول تصريحاً، والثانى تلميحاً، وفى الوقت نفسه يتناسب البيان بالمضارع فى "يخرج الحى" مع طبيعة حركة وتجدّد وتنوّع الحدث، فلما انكشف بهذا معنى (فالق) عدل إلى اسم الفاعل (مخرج) فعطفه على اسم الفاعل (فالق) والبيان باسم الفاعل فى (مخرج الميت) يتناسب أيضا مع طبيعة المُخْرَجِ:"الميت" فهو ثابتٌ لايتحرك، ومنقضٍ لايتجدد، كما أنَّه يتناسب مع حال المخاطبين، فهم ليسوا بحاجة إلى استحضار ذلك الحدث فى عيونهم بالمضارع، لينفذ إلى قلوبهم إن اعتبروا؛ لأنهم لاينكرونه حتى يأتى البيان بالمضارع معلنا أنَّ من قَدِر على ماترى أبصاركم يقدر على ماتخبرون به صدقا وحقا ومن ثم كان البيان باسم الفاعل (مخرج الميت) وعطفه على اسم الفاعل نظيرة (فالق) لاعلى المضارع قبله (يخرج الحى) .
***
ما مضى جاء "المضارع" فى صحبة "اسم فاعل"، وقد يأتى "المضارع" فى صحبة "اسم مفعول" كما فى قول الله سبحانه وتعالى:
{اصْبِرْ عَلَى ما يَقُولُونَ واذْكُر عَبْدَنا داودَ ذا الأَيْدِ إنَّهُ أوَّابٌ * إنَّا سَخَّرْنا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعَشِىِّ والإشْراقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وشَدَدْنَا مُلْكَهُ وأتَيْنَاه الحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ" (ص:17-20)
جعل تسبيح الجبال فى صورة "المضارع"(يسبحن) وحشر الطير فى صورة اسم المفعول (محشورة) وفى هذا تناسب وتآخ مع السياق والمقصود منه وطبيعة الحدث فى كل وفاعله ومفعوله، يقول البقاعى:
" لما كان وجود التسبيح من الجبال شيئا فشيئا أعجب، لأنهما جماد عبر بالفعل المضارع، فقال مصورا لتلك الحال معبرا بضمير الإناث إشارة إلى أنَّها بعد مالها من الصلابة صارت فى غاية اللين والرخاوة يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه الصوت الآخر، لأنَّ ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده "يسبحن" ولم يقل مسبحة أو تسبح؛ لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد يشكل الأمر فى بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافًا، وأن يكون حالا بمعنى أنَّهنَّ يَنْقَدْنَ له بالتسبيح قولا وحالا انقياد المختار المطيع له
ولما كان فى سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذى إلف إلى ماألفه مع أنَّه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال:"بالعشىّ" أى تقوية للعامل وتذكيرًا للغافل، ولما كان فى سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال:"والإشراق" أى وقت ارتفاع الشمس عند انتشار عند الناس، وليس الإشراق طلوع الشمس، وانما هو صفاؤها وضوؤها، وشروقها طلوعها....
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له أتبعها أخفها وأكثرها انتقالا، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات، لأنَّه أدلُّ على القدرة، فقال معبرا باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنَّها فى شدة الاجتماع كأنَّها شئٌ واحِدٌ ذكر حالها فى وصف صالح للواحد وجعله مؤنثا إشارة إلى ماتقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصريف الأحكام "والطير" أى سخرناها له حال كونها "محشورة" أى مجموعة إليه كُرْهًا من كل جانب دفعة واحدة بما دلَّ عليه التعبير بالاسم دون الفعل، وهو أدلُّ على القدرة، وهى أشدُّ نفرة من قومك وأعسر ضَبْطًا منهم
…
" كل" أي كل واحد من الجبال والطير " له أوَّاب" أي رجَّاعٌ؛ لأجل "داود" عليه السلام خاصة عن مألوفه، لابمعنى آخر مما ألفته، فكلَّما رجع هو عن حكمه، وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير
وجعل الخبر مفردًا [اي أواب] إشارة إلى أنها في الطواعية في التأديب قد بلغت الغاية حتى كأنَّها الشيء الواحد
ولم يجعل مؤنثًا إشارة إلى شدة زَجَلِهَا بالتأديب وعظمته، والإفراد ـ أيضًا ـ يفيد الحكم على كلِّ فردٍ، ولو جمع لطَرَقَهُ احتمال أن الحكم على المجمع بقيد المجموع، فكأنَّ داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كلّ منهما إذا أمره بالتسبيح، وكلّ من تحقق بحاله ساعده كلّ شيءٍ – قاله القشيري
ففى هذا إشارة إلى النبى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا بأنَّا متى شئنا جعلنا قومك معك فى التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنَّا جعلناهم كذلك لتروِّض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالا، وعلوا ورفعة وكمالا إلى غير ذلك من الحكم التى لاتسعها العقول. ولاتيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك، فإنهم لايَعْدُونَ أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة أو الطير نفرة وطيشا وخفة، فمتى شئنا جعاناهم لك مثل ماجعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون" (1)
(1) – نظم الدرر: 16 /351 - 354
السياق الذى تحدَّرت فيه هذه الآيات للتدليل على كمال القدرة والهيمنة المطلقة لله سبحانه وتعالى على الأكوان: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (صّ:3) إلى آخر الآيات، وفى عطف قوله (اذكر عبدنا داود....) على "اصبر" دلالة على أنَّ فى قصة "داود" عليه السلام مايؤكد طلاقة القدرة والهيمنة، ولذلك اصطفيت هذه القصة فى هذا الموقع من السياق، واصطفيت هذه الأحداث من قصص داود عليه السلام هنا لما لها من عظيم التناسب والتناسج مع السياق، وهذا من علم التناسب القرآنى بمكان رفيع.
السياق كما قلت للدلالة على كمال القدرة والهيمنة الإلهية المطلقة على الأكوان كلها، والذى يتناسب مع هذا السياق إنما هو إبراز حدث التسبيح من الجبال فى صورة التجديد والحدوث الاستمرارى، ذلك أن صدوره منها مرة واحدة دليل بيِّنٌ على القدرة والهيمنة، فكيف حين يكون متجددا مستمرا؟!
أليس ذلك إعلاءً للتدليل على كمال القدرة والهيمنة وإعجازها؟
والذى أعطاها ذلك إنَّما هو المضارع المسند إلى الجبال المعبر عنها بضمير إناث، ويتناسب أيضا مع السياق إذ يوحى بغاية اللين والخضوع، وهى أجمد جامد وأقسى قاس، كما أبرز "البقاعى" تناسب البيان بالعشى والإشراق وتناسب ماعليه النظم فى تسبحن دون تسبح أو مسبحة.
أما حدث الحشر فإبرازه فى صورة اسم المفعول هو الذى يتجاوب مع السياق أولا، ومع طبيعة الحدث ثانيا وطبيعة الطير ثالثا، فالقدرة على الحشر تكتمل حين يكون الحشر دفعة واحدة
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان:28)
ويعليه إذا ماكان المحشور من شأنه الخفة والنفور كالطير.
وبديع أن كان إبراز الحدث فى صورة اسم مشتق يزيده أن كان اسم مفعول الذى لا يكون فعله إلا مبنيا لما لم يسم فاعله، ليفهم أن فاعل ذلك لن يكون إلا الله عز وجل، وليفهم أن الطير كأنَّها من شدة الهيمنة عليها تسعى بنفسها، فتحشر، ومن ثم أسند الحدث لها، فدلَّ هذا على أنَّ من قدر على هذا فهو أقدر على حشر من هم أقل نفرة من الطير، وفى هذا تدليل على البعث والحشر العظيم، وسياق البعث فى هذه السُّورة سياق عريض وسبيل مُلَحَّبٌ.
السياق – إذن – وطبيعة الحدث وفاعله أو مفعوله هو المستوجب صيغة معينة لكلِّ عنصر، وأنَّ كلَّ عنصر فى البيان خاضع لهيمنة مبدأ موحد وروح واحد هو السياق والمقصود الأعظم.
وقد رايت البقاعي يتلبث عند كثير من مدلولات هيئة الكلمة القرآنية ويتدبر تناسب وجوه هذه الهيئة مع السياق والقصد، وكأنَّه ناظر في هذا إلى مقالة الإمام " عبد القاهر ":
" لايكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسًا ما، وأن تصفها وصفًا مجملا، وتقول فيها قولاً مُرسلاً، بل لاتكون من معرفتها في شيء حتى تفصِّلَ القول وتحصّل، وتضع اليد على الخصائص التى تعرضُ في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئًا شيئًا، وتكون معرفتك معرفة الصَّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيطٍ من الإبريسم الذي في الديباج، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المُقَطَّعِ، وكلّ آجرَّةٍ من الآجرِّ الذي في البناء البديعِ "(1)
***
(1) – دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني:
الذي مضى كان نظرا في صيغة الفعل المضارع والماضي المجرد، أو الذي ليس لمجرده استعمال أوغلبة استعمال في معناه، فلم يكن البيان بالمجرد عدولا عن المزيد لأمر منظور في التجرد والزيادة، ولم أغفل النظر فيما صاحب هذين الفعلين من صيغ أفعال وأسماء كان يَجْمُلُ حسن التدبُّر على أن توفَّى في هذا المقام حقَّها من تدبُّر التناسب، فلا يكون هذا من قبيل الخلط البغيض ، فإنَّ التبصر فيه إنَّما كان غيرَ مسوقٍ إليه سوقًا رئيسًا بل هو من مستتبعات النظر.
وبنا حاجة إلى أن تكون لنا من بعد هذا محاولة لتدبر البيان بالفعل المضارع والماضي المزيد المنظور إلى صيغة الزيادة فيه وتناسب مدلولها مع السياق والقصد المسوق له الكلام
يتوقف" البقاعي" متدبرًا البيان القرآني الكريم بصيغة الفعل المجرد (فعل) في باب الصالحات، وبصيغة الفعل (افتعل) في باب السيئات في قول الله سبحانه وتعالى:(البقرة: من الآية286)
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}
…
يقول البقاعي: " لها" أي خاصًا بها " ما كسبت" وذكر الفعل مجردًا في الخير إيماءً إلى أنّه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه، ولو مع الكسل بل ومجرد نيته.
قال" الحَرَالَّيُّ": وصيغة " فعل" مجردة تعبر عن أدنى الكسب، فلذلك من همَّ بحسنةٍ، فلم يعملها كتبت له حسنة 0 انتهى
" وعليها" أي بخصوصها " ما اكسبت " فشرط في الشَّرِّ صيغة الافتعال الدَّالة على الاعتمال إشارة إلى أنَّ من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها، وإلى أنَّ الإثم لايكتب إلا مع التصميم والعزم القوي الذي إنْ كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط، فلذلك من هم بسيئةٍ، فلم يعملْها لم تكتبْ عليه. وربَّما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام " (1)
***
ويقول في قول الله سبحانه وتعالى:
(1) - نظم الدرر:4 /177..
" وصيغة الافتعال من " كسب " تستعمل في الذّنب إشارة إلى أنَّ الاثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قويّ صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط
وتجرد في " الخير " إشارة إلى أنّ الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته" (1)
ويبقى النظر في قول البقاعي: " وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام " وهو قول عَلِيٌّ:
لم يأت الجمع بين " كسب" و" اكتسب" في غير هذه الآية الكريمة، والذي هو غالب اتيان الفعل المجرد:" كسب " مفردًا مرادًا به الخير حينًا ومرادًا به الشرُّ حينًا آخر.
مادة: " ك - س - ب " جاءت سبعًا وستين مرة، كان للفعل المجرد منها " ثنتين وستين " مرة، وكان للفعل المزيد " اكتسب""خمس " مرات
الفعل المجرد جاء حديثًا عما هو سيئة في مواضع منها قوله عز وجل:
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:81)
وغير ذلك كثير، وهو صريح في البيان عن اتيان السوء بالفعل المجرد" كسب"
وجاء الفعل " اكتسب" مفردًا مع السوء، كما في قوله تعالى:
(1) - السابق:13 /223..
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11)
أما قول الله جل جلاله في سورة النساء (ي:32)
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)
فليس الفعل المزيد هنا متمحضًا للخير أو الشر، بل هو جامع لهما.
والبقاعي لم يبين وجه مناسبة البيان بصيغة " افتعل" للسياق والقصد في سورة " النساء" ولكنه اكتفى بقوله:
" ولمَّا نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل، وهما من أعمال الجوارح ليصير الظاهر طاهرًا عن المعاصي الوخيمة، نهى عن التمنى الذي هو مقدمة الأكل؛ ليكون نهيًا عن الأكل بطرق الأولى.... والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال:{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أيْ في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء....أو بالقوة العملية كالعفة.....أو الفضائل البدنية كالصحة
…
أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء.....
ولما نهى سبحانه وتعالى عن ذلك علَّله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب
…
فقال مشيرًا إلى أنَّه لاينال أحد جميع ما يؤمل (للرجال نصيب) أي قد فرغ من تقديره، فهو بحيث لايزيد ولا ينقص، وبيَّن سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال:(مما اكتسبوا) أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح
…
" (1)
اكتفى كما ترى ببيان دلالة هذه الصيغة على التكلف والاعتمال، من غير أن يبيّن لنا وجه مناسبتها للسياق والقصد المنصوب له الكلام
***
ويبصر " البقاعي" في صيغة " افتعل" داخلاً عليها النهي ما لايبصره في غيرها، كما في قوله تعالى في سورة (المائدة:51) :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
…
جاءت هذه الآية الكريمة في سياق التنفير من التلبس بشيءٍ من الولاء لمن كان على غير ما يرضي الحق عز وجل، وقد بالغت الآيات السابقة عليها في ذلك التنفير الذي تنخلع منه قلوب الفاقهين فرقًا من التلبس بشيْ منه، وإنْ كان أهل الضلالة ممن على أبصارهم غشاوة يؤذِّنون فينا صباح مساء بفرية التآخي الإنساني على اختلاف العقائد، واختصاص عبدة العجل وأهل الصليب بمزيد من الاعتناء بذلك التآخى وهم لايحملون في ظلمات صدورهم إلا البغض والحنق والحقد على كل مسلم
(1) ? 1 – نظم الدرر:5 /262
يقول البقاعي: " ولما بيّن عنادهم وأنّ عداوتهم لأهل هذا الدين التى حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة، نهى من اتَّسم بالإيمان عن موالتهم؛ لأنّه لايفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل، فقال {يأيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، ولمَّا كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم، أشار إلى ذلك بصيغة " الافتعال "، فقال:{لاتتخذوا} أي أنّ ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه، فكيف وهو لايكون إلا ببذل الجهد {اليهود والنصارى أولياء} أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه، وترجون منهم مثل ذلك، وهم أكثر الناس استخفافًا بكم وازدراء لكم
…
" (1) .
البقاعي ناظر هنا إلى جبلَّة الإنسان السَّويِّ، وأنَّه مفطورٌ على أن يمنح ولاءه لمن كان من قومه القائمين لنصرته ظالما أو مظلوما وأنَّ ذلك حين يأتى منه إبلاء غيرهم فإنّه لايكون منطلقًا من معدن فطرته وجبلته، بل هو المتكلف المتعمل لذلك والحامل نفسه على أن تأتي ما ليس لها به أن تقاربه من غير دربة وممارسة، إنَّه حين يفعل تلك الموالاة لمن يناصب قومه العداء إنَّما يصمُّ أذنيه ويوصد أبواب قلبه أمام نداء الفطرة ونداء الوحي الكريم، فيتجاوز بصنيعه هذا حواجز عديدة، وهذا ما توحي به صيغة الافتعال التى جاء فيها الفعل المنهي عنه مما أعطى النهى قوة ووكادة، وزاده - فيما أراه - ما في مادة الفعل من إشارة إلى القوة في إيقاع الموالاة، فإن مادة " أخذ" آتية للدلالة على قوة الفعل وأن صاحبه إنما يجتهد في إيقاعه أو أنَّ أثرَه جدُّ عظيم بليغ، وهذا ما أنت مدركه في أفعال هذه المادة في البيان القرآني الكريم، فتآذر مدلول الصيغة والمادة على عظيم تصوير النهي في هذه الآية.
(1) - نظم الدرر:6 / 186..
ويقف عند آية من بعدها تؤكِّد ذلك المعنى القائم في ذلك النهي الجليل، يقول الحق عز وجل في سورة (المائدة:57) :
فهذا من تصريف معانى البيان القرآني الكريم ترسيخًا للمعنى الرئيس في القلوب وتوجيها إلى معانى آخرى جديرة بالملاحظة.
يقول البقاعي: " ولمّا نبه سبحانه وتعالى على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه وتعالى أنتج ذلك قطعًا قوله منبهًا على علل أخرى موجها للبراءة منهم {يأيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أنّ من يواليهم يجاهد عقله على ذلك اتباعًا لهواه، فقال {لاتتخذوا الذين اتخذوا} أي بغاية الجدّ والاجتهاد منهم " دينكم..هزوًا ولعبًا...." (1)
ففي الآية السابقه كان فيها المناداة بقوله" بعضهم أولياء بعض" وكأنّ فيه إغراءَ الذين آمنوا ألَاّ يكونوا دونهم في هذا فلا بدَّ أنْ يكون الذين آمنوا بعضهم أولياء بعض لاأولياء غيرهم، ولهذا أردف هذا الإغراء بالترهيب والتنفير بقوله {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وهذه لايطيقها من في قلبه ذرة من إيمان، لأن فيها إعلانًا بانتفائه من جماعة الذين آمنوا وارتكاسه في هاوية اليهود والنصارى
(1) – نظم الدرر: 6 /194
وفي النهي الثاني جاء قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا ولعِبًا} إحماءً لهم وحملا على أن يتخذوا موقفً الغيرة والأنفة من أن تكون لهم مودَّة مع من يقف من الإسلام موقف الهُزء واللعب، فلو أنَّك طلبت ذلك ممن فيه ذرة من عقل من المنتسبين إلى الإسلام أن يرتضى بصداقة من يستهزئ بالإسلام لاعتصم وأبي أن يكون منه ذلك، فكم من موغلٍ في عصيانه لايرضي بأن يمسَّ مشرك دينَه بهزء، وإن كان هو الغارق في الخروج على هديه وشريعته، فتعريف المفعول به باسم الموصول:
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا ولعِبًا} فيه من الإبلاغ في التنفير من الفعل المنهى عنه ما فيه.
***
من الصيغ التى كثر مجيء الفعل عليها في البيان القرآنيِّ الكريم صيغة (تفعَّل) بتضعيف العين و (تفاعل) ، فيلتفت البقاعي إلى استبصار تناسب كلِّ مع السياق الذي تقوم فيه والقصد الذي يساق البيان بعبارتها إليه
يتدبر قول الله سبحانه وتعالى: {عَبَسَ وتَوَلَّى * أنْ جَاءَهُ الأعْمَى}
فيرى في هذا البيان بالفعل (تولَّى) بصيغته تلك إبلاغًا في التكريم والملاطفة لسيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، فيقول:
"
…
آذن بمدحه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا بأنَّ ذلك [أي العبوس والتولي] خلاف ما طبعه عليه سبحانه وتعالى من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله (وتولَّى) أي كلف صلى الله عليه وسلم نفسه الإعراض عنه رجاء أن يُسْلِمَ أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم، فيتأيَّدُ بهم الإسلام، ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله سبحانه وتعالى؛ لأجل (أن جاءه الأعمى) " (1)
(1) ? 1 - نظم الدرر:21 / 250 -251..
أبان " البقاعي" مدلول صيغة (تولى) ، وأنَّه وإن يكن في (عبس) ما يوحي ظاهره بمخالفة الأولى، فإن في صيغة (تولى) إيذانا بالمدح الكاشف عمَّا جُبِلَ عليه رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، فإنَّ في الاقتران بين الفعلين وكلٌّ منهما بصيغة دالٌّ على المقام العَلِيِّ الذي كان عليه النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، فهذا التولى لم يك منه صلى الله عليه وسلم على منهاج فطرته بل كان الحامل نفسه على أن تفعل ذلك حرصًا على ما فيه صالح الإسلام أولا وصالح " ابن أم مكتوم " رضي الله عنه ثانيًا، ثم صالح أولئك الصناديد ثالثًا
ومما يزيد المعنى انكشافًا ما جاء من البيان عن فعل التصدي لهؤلاء الصناديد بقوله جل جلاله: {وَأمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأنْتَ لَه تَصَدَّى}
يقول: " ولما ذكر العبوس والتولي عنه، فأفهما ضدهما لمن كان مقبلا عليهم، بيَّنَ ذلك، فقال:{أمَّا من استغنى} أي طلب الغنى وهو المال والثروة، فوجده، وإن لم يخش، ولم يجيء إليك {فأنت له تصدّى} أي تتعرضُ بالإقبال عليه والاجتهاد في وعظه رجاء إسلامه وإسلام اتباعه بإسلامه
…
وأشار بحذف "تاء" التفعل في قراءة الجماعة وإدغامها في قراءة " نافع" و" ابن كثير" إلى أنَّ ذلك كان على وجه خفيف، كما هي عادة العقلاء...." (1)
(1) ? 1 - السابق: 21 /252
هذا الاصطفاء لمادة الفعل، ثُمَّ لصيغته، ثمَّ لأدائها على وجهين: الحذف والإدغام فيه من الإشارة إلى عظيم التكريم للنبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا والمدح له بالحرص البليغ على الدعوة وشأنها والنصح لقومه ومحبته الخير للناس كافة وإن كانوا ممن اجتهد في إيذائه، وكل هذا يتناسب مع السياق العام للسورة القائم بمعانى التكريم والمدح العظيم، فهو مدح في صورة معاتبة
وهذا من البقاعيّ إبلاغ في تحليل وتأويل عناصر البيان القرآني على نحو يجعل من منهاجه جديرا بأن يكون نبراسًا يهتدى به في مذاهب التحليل البيانيّ لضروب الإبداع الأدبيّ شعرًا ونثرا ومن قبله البيان العَلِيّ المعجز قرآنا وسنة
ويتصدى لصيغة الفعل (تزكى) وتناسبها مع السياق قائلا:
" ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة، بيَّن له أنَّهُ سالمٌ من ذلك، فقال عز وجل:{وَمَا..عَلَيْكَ..أَلآ يَزّكَّى} أصلاً ورأسًا ولو أدنى تزَكٍّ - بما أشار إليه الإدغام - إن عليك إلا البلاغ
ويجوز أن يكون استفهامًا أيْ: وأيّ شيءٍ يكون عليك في عدم تَزَكِّيهِ، وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول" (1)
في صيغة (تزكّى: تفعَّل) إشارة إلى أن هذا التزكي لن يكون من ذلك المتصدى له النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، مما يهيؤه لأن يدع الإبلاغ في التصدي له فيحمل نفسه فوق ما هي مكلفة به
وقد كان البقاعي مبصرًا وجه الاستفهام في هذه الجملة وتناغيه أيضًا مع دلالة النفي على هذا الإشفاق على النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(1) - نظم الدرر:21 / 255..
ويقف " البقاعي" عند البيان بالفعل (تلهى: تفعل) وما بين مدلول مادته وصيغته وما اعتراها من حذف والسياق والقصد الأعظم من السورة من التناسب البياني البديع، فيقول:
" ولمَّا ذكر المستغنى ذكر مقابله، فقال عز وجل:{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي خاصّةً في ذلك المجلس؛ لكونه في الحاصل (تلهى) أي تتشاغل؛ لأجل أولئك الأشراف
…
تشاغلا خفيفًا بما أشار إليه حذف" التاء"
من لهى عنه كرضِيَ: إذا سلي وغفل وترك
وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لافائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة، وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم " (1)
حذف " التاء" من صيغة " التفعل" في الفعل (تلهى) فلم يقل (تتلهى) وتقديم الجار والمجرور (عنه) دالان دلالة باهرة على أنَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ما كان منه إلا مع ذلك المعاتب في شأنه، وأنه ما كان ليفعل لولا حرصه على ما فيه الصالح الأعلى بمقاديره البشرية، فحذفُ " التاء" آيةٌ على أنَّ هذا الفعل غيرُ متمكِّنٍ فيه ولا مستهترٍ في إيقاعه
وبديع أنْ كان الحذف لحرف معنى له الصدارة في صيغته، فهذا موحٍ بفقد الفعل الخاصة الدلالية لهذه الصيغة فكان فيه فارقٌ بين تلهى النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وتلهى غيره
(1) - نظم الدرر:21 / 255 -256
وكانت التفاتته إلى وجه اصفاء مادة (لهى) دون (شغل) وأنه - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - ما باشر بذلك شيئًا من اللهو الذي اعتاده الآخرون، بل هو قائمٌ بما فيه صالح الدعوة، ولكنَّ القرآن الكريم صور هذه العناية بدعوة أولئك الصناديد بصورة اللهو نظرًا إلى عقباها لانظرًا إلى حال فاعلها، وهذا فيه عظيم مذمَّة وهجو بليغ لأُولئك الصناديد، ومُآذنة بأنَّ كلَّ مجاهدة مع أمثالهم في دعوتهم إلى الإسلام لن تؤتي ثمارها وأنَّ عقباها عقبى التلهى، فإذا ما لامست تلك الكلمة سمْع النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا استراح قلبه من مخافة أن يكون منه ما يلحقه من معاتبة في التخلى شيئًا ما في المجاهدة في دعوته،ولأن يعاتب المرء في إبلاغه في الاجتهاد وتحميل النفس فوق ما هي مأمورة به أكرم من أن يعاتب في التقصير، وما جاء عتاب القرآن الكريم للنبي صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ في شبء إلا ما كان من باب الإبلاغ في الاجتهاد في الدعوة والإبلاغ رحمة رأفة
***
للتذكير والتأنيث في العربية أصول تقتضي وجوبه أو امتناعه أو جوازه، والدرس البلاغي لايعنى بما كان واجبا أو ممتنعا منهما بل يرمي إلى ما كان فيه الاختيار، ليتأتى للمتذوق استبصار بلاغة الوجه المصطفى، فعلم البلاغة هو علم فلسفة وتأويل وجوه الاختيار بين البدائل المتاحة في البيان عن المعانى، لإنَّه لافضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا وحتى تجد إلى التخير سبيلا
وبعض أهل العم بالبيان يجعل النظر في التذكير والتأنيث من أبواب شجاعة العربية وضربا من ضروب الالتفات على نحو ما هو متعالم لناشئة طلاب العلم عند ابن جنى ومن بعده ابن الأثير في المثل السائر، فإذا ماكان المتأخرون من بلاغيي مدرسة المفتاح لايعنون كثيرا بهذا فليس ذلك آية على إغفال البلاغيين للتذكير والتأنيث.
والتذكير والتأنيث المتخيَّر في البيان القرآني ظاهر لكلِّ تالٍ ينادي عليه بتدبّره فإنَّ من تحته كنوزَ لطائفِ المعانى.
ترى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى:
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} (الزمر:19)
وقوله عز وجل (الزّمر: 71) :
جاء الفعل (حق) مذكرًا على الرغم من إسناده إلى قوله (كلمة) وهو مؤنث غير حقيقي يجوز عربية فيه الأمران والغالب في لسان العامة تأنيث الفعل المسند إليه، فعدل في الآية عن ذلك الكثير الغالب لأمر يتناسب مع السياق والقصد ذلك لأنَّه " لما خصّ سبحانه وتعالى البشارة بالمحسنين [من أول قوله:للذين أحسنوا
…
أولئك هم أولو الألباب (ي:10-18) ] علم أنَّ غيرهم قد حكم بشقاوته، وكان صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديرًا بالأسف على من أعرض
[ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفا} ً (الكهف:6) و {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3) ..
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8) سبب عن أسفه عليهم: (أفمن حق) وأسقط (تاء) التأنيث الدالة على اللين تأكيدًا للنهي عن الأسف عليهم (عليه كلمة العذاب) بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمسا في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لايمكن إنقاذه منها (1)
يشير إلى أثر دلالة التأنيث في تصوير عدم استحقاقهم الأسف عليهم، وهم الذين حق عليهم العذاب، بل كانوا فيه، هذا التصوير يتناسب مع دلالة الاستفهام في (أفمن) و (أفأنت) وتقديم الضمير (أنت) على المسند الفعلى، وتصويرهم بأنَّهم في النار على الرغم من أنَّهم أحياء (وإن كانوا فيما أذهب إليه في نار معنوية تأكل آدميتهم وعلاقتهم بربهم) كل ذلك لتأكيد نهيه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عن الأسف عليهم، ذلك الأسف الصادر من قلب النبي الرؤوف الرحيم صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، فكان حتما إخراج جميع عناصر البيان في صورة بالغة التأثير، لتتناسب مع عظيم الأسف عليهم من النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، وفي هذا مزيد مدح له بالرأفة لأمته حتى لمن عاند منهم.
***
وجاء بالبيان بالفعل مذكرًا والفاعل جمعٌ مؤنث، والغالب تأنيث الفعل مع هذا الفاعل، وذلك في قول الله سبحانه وتعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)
جاءت الآية في سياق هداية الأمة إلى الاعتصام بكتاب الله عز وجل والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق لهم الفلاح.
(1) – ينظر نظم الدرر:16 /480 -481
وأكد هذا بالنهي عَمَّا يضادُّ ما أمرَهم به فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا
…
}
ويبين لنا البقاعي تناسب تذكير الفعل (جاء) مع السياق وما تحمل الآياتُ إليه الأمّة من حسن العاقبة:
"
…
ولمَّا أمرهم بذلك أكده بالنهي عمَّا يضاده مُعَرِّضًا بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهلِ الكِتابِ مُبَكِّتًا لَهُمْ بِضَلالِهم واخْتِلافِهِمْ فِي دِينِهمْ عَلَى أنْبِيَائِهمْ، فقال {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
…
} بِمَا ابْتَدَعُوا فِي أصولِ دينِهمْ، وبِما ارْتكَبوه من المعاصِي
…
ولمّا كان التّفرّقُ رُبَّمَا كانَ بِالأبدانِ فقطْ معَ الاتِّفاقِ فِي الأراءِ بيّنَ أنَّ الأمْرَ ليس كذلِكَ، فقال:{وَاخْتَلَفُوا..} بما أثْمَرَ لَهُمُ الْحِقْد الحامِل عَلى الاتّصافِ بحالَةِ من يظَنّ أنَّهم جميعٌ، وقُلُوبُهُمْ شَتّى.
وَلمَّا ذَمَّهُمْ بالاخْتلافِ الّذي دلّ العقْلُ عَلَى ذمِّهِ زادَ فِي تقْبيحِهِ بِأنهمْ خالَفُوا فِيه بعد نَهْيِ العقل ِ واضِحَ النَّفْلِ، فقال:{من..بِعْدِ مَا جَاءَهُم} وَعَظَّمَهُ بِإعْرَائِهِ عَنِ التَّأنِيثِ {البَيِّنَاتُ} ...." (1)
في تذكير الفعل (جاء) عظيم إبلاغ في تصويرِ أهلِ الكتابِ بأنَّهم لا يَصْلُحونَ أن يَقتدِيَ بِفِعالِهم وآرائِهم مَن فِي قلبِه ذرةٌ من عَقْلٍ وفِقُهٍ، فإنّهم قد خالفُوا صريحَ العقلِ وصحيحَ النَّقل فلم يكن إِتيانُ البيان إليهم إلا إتيانا قويًا واضِحًا لا يَغِيمُ على ذِي عين، وبرغمٍ من هذا فإنَّهم اختلفوا وتفرقوا، فكيف لمُسلمٍ أن يتَّخذَ من هؤلاء في أمْرٍ من أمورِ دينِه قدوةً، ويدعَ ما في هذي الكتاب والسنة.
(1) ? 1) نظم الدرر جـ 5 ص 20
إنَّ استجلاب أنظمةَ الحكمِ والحياةِ الاقتصاديّة والاجتماعيةِ من خارج ديارنا لهو - بما دَلّ عليه تذكير الفعل "جاء" - من أشدّ الأمور ضلالة وبعدًا عن هدي الله عز وجل بعدًا قد يُؤذُِّن بما هو مكنون في صدور آولئك المُسْتَجْلِبِينَ تلك الأنظمة من نَفْرَةٍ عن هدي الكتاب والسنة، وأمثال هؤلاء من بعد توضيح الأمر لهم بما يدعُ مجالا لتوقُّفٍ أحقّ بأن ينفوا عن منازل الولاية والسلطان.
***
هذا الذي تدبره البقاعي واستبصره هو الأليق بالفقه البياني للآيات الذكر الحكيم وهو في مثل هذا يعلو علىكثير من السابقين، وممن جاء من بعده.
مجمل القول في هذا أن للتذكير والتأنيث في القرآن الكريم من فيض لطائف المعاني ما يلفت البصائر إلى العناية بتدبره، وأنَّ عدَّ العلماء له من أبواب شجاعة العربية لمن فقههم ما يتضمنه من بديع البيان.
***
ومما هو وثيق النسب بشجاعةالعربية في الذكر الحكيم إفراد ما يشير ظاهر الحال إلى جمعه أو جمع ما يشير ظاهر الحال إلى إفراده وذلك من تخريج البيان على غير ظاهر الحال تناسقا مع السياق ولقصد المنصوب له الكلام.
ومن البين أن الجمع هو ما قابل الإفراد فيدخل فيه التثنية لأن في التثنية جمعًا بين شيئين، وهدي النبوة أن الاثنين جماعة، وما نرتضيه صلاة نرتضيه بيانا.
من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25) ..
جاء وصف الجمع (أزواج) مفردا (مطهرة) ومقتضى الظاهر أن يقال (مطهرات) ولكنَّ البيان عدل عنه إلى الإفراد إشارة إلى أنهنّ وإن تعددن في الجنة لعلى نهج سواء في الطهر، ودفعا لمظنة أنَّهن في تعددهن متلبسات بما يتلبس به أزواج الدنيا حين يتعددن لزوج من رديء الأخلاق، فدلَّ على أنهن في تعددهن على قلب زوج واحدة لانقص ولا تباين، وتلك غاية المتعة، وكأنَّه نزع من تعدد الأزواج في الجنة من المفسدة مثل ما نزع من الخمر في الجنة.
يقول البقاعي: " لمَّا ذكر السكن الذي هو محل اللذة وأتبعه المطعم المقصود بالذات، وكانت لذة الدار لاتكتمل إلا بأنس الجار لاسيما المستمتع به قال (ولهم فيها) أي مع ذلك (أزواج)
ولما كنّ على خلق واحد لانقص فيه أشار إليه بتوحيد الصفة، وأكد ذلك بالتعبير بالتفعيل إعلاما بأنَّه عمل فيه عمل ما يبالغ فيه بحيثُ لامطمع في الزيادة فقال (مطهرة)
…
" (1)
مذهب البقاعي في إفراد (مطهرة) أعلى من مذهب القائلين بأنَّ الإفراد والجمع هنا لغتان فصيحتان (2) فهذا لايغني في الفقه البياني لما اصطفاه القرآن الكريم. وأعلى من الذهاب إلى أنَّ الإفراد أخفُّ من الجمع، فإذا اجتمعا تفادوا الثقل بالالتفات إلى الإفراد (3) فمثل هذا ينقده قوله تعالى:(آيات بينات)(المحصنات المؤمنات)(فتياتكم المؤمنات) وكان يصح عربية القول (الآيات البينة والمحصنات المؤمنة والفتيات المؤمنة)
***
ويأتي إفراد (الدار) في قول الله سبحانه وتعالى:
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (لأعراف:، 9178)
وجمعها (ديار) في قوله سبحانه وتعالى: (هود:67)
{وأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهمْ جَاثِمِينَ}
(1) - نظم الدرر:1 /196
(2)
- السابق: الكشاف:1/262، ،انوار التنزيل للبيضاوي وحاشية الشهاب الخفاجي:2 /45
(3)
- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:1 /357..
وقوله عز وجل: {وأَخَذَت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهمْ جَاثِمِينَ} (ي:94)
يقول البقاعي: " لعل توحيد الدار هنا ـ أي في الأعراف ـ مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله (فأصبحوا في دارهم) أي مساكنهم، وجمعها في القصتين في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأنَّ الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار فإذا عمَّت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت جماعتها وفرَّقت شملها كانت من القوة المفرطة والشدّة البالغة من حيث تَنزعِجُ من تأمُّلِ وصفِها النفوسُ وتَجِبُ له القلوبُ 0
وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وَحَّدَ الدَّارَ إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبَّر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت ولا مخالفة؛ لأنَّ عذابهم كان بكلٍّ منهما، ولعلَّ إحداهما كانت سببا للأخري، ولعلّ المراد بالرجفة اضطرابُ القلوبِ اضطرابًا قطعها أو أنَّ الدار رجفت، فرجفت القلوب، وهو أقرب.
وخصت "الأعراف" بما ذكر فيها؛ لأنَّ مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم فزعا لعدم الإلف لها (1)
ويقول في سورة هود: " تقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في "الأعراف" وخصت "هود " بماذكر فيها؛ لأنَّ مقصودها أعظم نظرًا إلى التفصيل، وكل من الدياروالصيحة أقرب إلى ذلك"(2) .
ينظر البقاعي في تأويله وتدبره إلى علاقة الأثر بالمؤثر فيه (المكان) وبمقصود السورة: في الأعراف الأثر الزلزلة، وهي حين تكون في مكان متقارب (دار) تكون أعظم وأنكى أثرا وهذا يتناسب مع السورة المعقودة للإنذار، وقد صرح به في مستهلها
(1) - نظم الدرر:7 /450 -451
(2)
- السابق:9 /326..
والصيحة أثر من طبيعته الانتشار والانتشار مظنة الإضعاف، فإذا ما انتشرت ومع ذلك أهلكت دلَّ هذا على عظيم قوتها، فكان الجمع (ديار) أدلّ على قوتها، وهذا الانتشارُ الدَّالُّ على عظيم الأثر أنسب بمقصود سورة "هود" وهو التفصيل المصرح به في مستهلها.
تبين لك أنّ ما ذهب إليه " البقاعي" من تبيان التناسب بين إفراد (الدار) والبيان بالرّجفة مع السياق في سورة" الأعراف" ومقصودها: وتبيان التناسب بين جمع (الدار) والييان بالصيحة مع السياق في سورة (هود) ومقصودها.
وأنت لاتكاد تجد هذا عند كثير من سابقيه - وأخشى أن أقول من لاحقيه - مما يؤكِّد ما ذهب إليه من أنّه " لأجل اختلاف مقاصد السور تتعيرنظوم القصص، وألفاظها بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصود "(1)
و" أنَّ كلَّ سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى ادعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن ههنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير واتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لايخالف شيءٌ منها أصل المعنى الذي تكونت به القصة "(2)
***
ويأتي جمع القلة في قول الله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:120-121) .
(1) - مصاعد النظر للبقاعي:1 /152
(2)
- نظم الدرر: 1 /14..
فيتدبر البقاعي وجه تناسب جمع النعمة على (أنعم) على الرغم من أنَّ نعم الله عز وجل على أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام جِدُّ كثيرة لاتحصى قائلا: "" لمَّا دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه، وإن عظم جرمه إجابة لدعوة أبيهم (إبراهيم) عليه السلام في قوله جل جلاله:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (ابراهيم: من الآية36)
أتبع ذلك ذكره ترغيبا في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداما وإحجاما إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}
ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم علي
…
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
…
شَاكِرًا) ولما كان لله جل جلاله على من جعله أمة من النعم ما لايحصى بيَّن أنَّ ذلك كلّه قليلٌ في جنبِ فضله، فقال: مشيرًاإلى ذلك بجمع القلة، وإلى أنَّ الشاكر على القليل يشكرإذا أتاه الكثيرمن باب أولى (لأنعمه)(1) .
(1) – نظم الدرر:11/ 272 -273
سياق الآية - كما يشير البقاعي- لحث الكافرين على أن يكونوا صادقين في تصحيح ما ادعوه من اتخاذ قاعدة عامة يلتزمون بها في حياتهم: اتباعهم نهج الآباء برا وطاعة لهم، فبين القرآن الكريم لهم أنَّ أحق الآباء بالاتباع هو أبو العرب أجمعين وأعلاهم: إبراهيم عليه السلام، وهو لم يك من المشركين على أي وجه من وجوه الشرك بما أشار إليه حذف (النون) من المضارع (يك) ، فما بالهم قد عَقُّوه وخالفوه بشركهم وإعراضهم عن شرعته ومنهاجه إلى شرعة ومنهاج من هو أدنى منه وأنزل ، فاقتضي المقام الإبلاغ في إعلاء شأن إبراهيم أبيهم عليه السلام لعلّهم يقتدوا به في توحيده وشكره لله عز وجل، فهو شاكر للقيل من النعم فكيف به شاكرا للكثير؟ إنَّ ذلك لجِدّ عظيم كما تقضي به دلالة مفهوم الموافقة التى هي سبيل من سبل الإبانة في لسانهم العربي المبين ، ففي الإبانة بكونه شاكرا لأنعمه عن أنه شكَّار لنعمه سلوك لطريق التنبيه بالدنى على الأعلى.
*****
البقاعيّ كما رأيت حريص على النظر في مدلول الكلمات ودلالاتها عليه سواء منها ما هو مكنون فيها من أسرتها الاشتقاقية وما هو قائم فيها من صورتها وصيغتها التكوينية، فالكلمة عنده ذات روافد عديدة في دلالتها على معناها البياني
مجمل القول بأن هذا المعلم على الرغم من أنّي بسطت فيه القول أكثر من غيره فإنّي لم أوفِّه الإشارة مجرد الإشارة إلى معشار ما يدخل في من تأويل البقاعي البيان القرآنيّ الكريم.
فاصلة..
تلك بعض معالم منهاج في تأويل البيان القرآنيّ الكريم، وغير خفيّ أني لم استوعب كلّ المعالم المتعلقة بمنهاجه في تأويل البيان القرآني العظيم تعلقا مباشرًا من نحو نظره في أساليب التشبيه والمجاز والكناية والتحسين البديعيّ وغير ذلك، فإنى ما كنت إلى أن استقصى في الإشارة فضلا عن أن استقصي في التبيين، وإذا ماكنت قد تركت التبيين لما كان هذا شأنه فإنَّ هنالك أيضًا معالم أخرى أدنى منزلاً مما ذكرت من ذلك عنايته ببعض مسائل الرسم القرآني، فهو يسعى إلى تدبره في ضوء السياق والقصد، وإن كان لايكثر من هذا فإنَّ بعضا من صور الرسم القرآني جدير بالتوقف عنده وتدبره، ولكنه يتجاوز ذلك
ومن تلك المعالم أيضًا الاستشهاد بالحديث النبوي مع تبيان مصادرها، والإشارة إلى ما كان ضعيفا منها أحيانا
ويعنى ببيان أسباب النزول، ويستعين بها في استبصار مناسبة الآية لسياقها ومقصود سورتها، بل في استبصار فقه النظم التركيبي والترتيبي في الآية.
فالبقاعي في رجوعه إلى أسباب النزول لم يكن بالراجع إليها ليتخذها سببا في تبيان وجه تناسب الآية في موقعها مع سياقها فإن لهذا التناسب وجها أو وجوهًا أخرى.
يقول في قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
…
} (المائدة: من الآية89)
من بعد أن يفسِّر الآية السابقة عليها:
" وكلوا مما رزقكم الله" قال: " فلمَّا نزلت - كما نقل البغوي وغيره عن "ابن عباس" رضي الله عنهما هذه الآية قالوا:
يارسول الله وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه (1)
(1) - يقصد ما كان من شأن الصحابة الذين تعاهدوا على أمر فمنهم من عزم على أن بصوم ولا يفطر، ومن عزم على أن يقوم الليل ولا ينام.........] ..
كما تقدم فأنزل الله تعالى: " لايؤاخذكم الله" أي على ما له من تمام الجلال (باللغو) وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد (في أيمانكم) على أنّي لم أعتمد على سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى لا لكونه سببا، فإنّه ليس كل سبب يدخل في المناسبة
…
وإنما كان السبب هنا داخلا في مناسبة النظم؛ لأنّ تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين، والنذر في المباح- وهومسألتنا - لاينعقد وكفارته كفارة يمين، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها، فقسمها سبحانه وتعالى إلى قسمين: مقصود وغير مقصود، فأما غير المقصود فلا اعتبار به، وأمّا المقصود فقسمان: حلف على ماضٍ، وحلف على آتٍ، فأمَّا الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لاكفارة لها عند بعض العلماء
…
وأمَّا الحلف على الآتي - وهو الذي يمكن التحريم به - فذكر حكمه هنابقوله 0 ولكن يؤاخذكم) (1)
***
ومن المعالم الرئيسة التي حرص عليها "البقاعي" في تفسيره نقله مقالة " أبي جعفر بن الزبير " في كتابه "البرهان في ترتيب سور القرآن".
وهويصنع هذا في جميع السور، ولا يعلق على ما نقله عنه وكأنَّه يجعل من كلام " ابن الزبير" ما يستكمل كلامه أو يبين وجها آخر من وجوه الربط بين السور
ونحن مفتقرون إلى من يقوم بدراسة علمية تحلل منهاج "ابن الزبير" في تبيان إعجاز بلاغة ترتيب السور، وإلى من يقوم من بعد بالمقارنة بين منهاجه في هذا بمنهاج "البقاعي" فإنَّ ذلك مما نحن في أشد الافتقار إليه
***
وكذلك كان البقاعيّ حريصًا على نقل فصول من رسائل" أبي الحسن الحرالّيّ " فكاد يكون مضمنا تفسيره تلك الرسائل التي جعلها: " الحرالّيُّ " في أصول فهم القرآن الكريم وهذه الرسائل هي:
مفتاح الباب المقفل في فهم الكتاب المنزل
عروة مفتاح الباب المقفل..
التوشية والتوفية
(1) - نظم الدرر:6 /286 - 287..
وهذا يجعل تفسير البقاعي مصدرا لتحقيق هذه الرسائل القيمة وهي جديرة بالعناية وكنت قد بدأت في هذا، ولكنّي لمّا أوفق إلى الانتهاء من ذلك
وللحرالّيّ" منهج متميز جدير بأن يفرغ له مختص بعلم فقه اللغة فإني زعيم بأنه واجد في صنيع الحرالّيّ" في هذا ما لايجده عند كثير غيره
***
وكان أيضا ذا عناية بالغة بالنقل من التوراة والإنجيل والزبور،وقد يقارن بين نسخ التوراة أو الإنجيل محددا النسخة التي ينقل منها،وقد يستطرد في النقل فيبلغ صفحات عديدة