المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رد مقطع السورة على مطلعها - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌رد مقطع السورة على مطلعها

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر:1-2)

وفي كل سورة ينتشر ما يدل على علَّة الحمد المستهلة بها على الترتيب

والمقام لايتسع هنا لتفصيل القول فيها، وقد فصلته في دراستي للعالمية: التناسب القرآني عند البقاعي".

في مطلع كلّ سورة من السورالأربع المستفتحة بالحمد لله ما يدل على مضمون السورة ومقصودها على ترتيب النعم المحمود عليها الله عز وجل وهي نعم كلية جامعة.

والعناية بتأويل مطلع السورة ودلالته على مقصودها الأعظم معدنه الإيمان بأن السورة القرآنية قائمة من معنى كلّيٍّ مهيمن على مكونات السورة كلها، وأنَّ في مفتتح السورة ما يهدي إلى مكنونها من المعاني.

وهذا المنهاج في التأويل هو من أصول النظر العربي في فقه البيان، فعلماء العربية لهم عناية بهذا الباب، فقد أوصى بعض النقاد الكتاب:"احسنوا معاشرالكتاب الابتداءات، فإنّهن دلائل البيان "(1)

المعلم الخامس.

‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

يقيم "البقاعيَّ" منهاجه في تأويل البيان القرآنيّ على أنَّ بناء السورة القرآنية بناء الدائرة المفرغة الملتحم طرفاها التحامًا لا يتبيّنُ مفصلٌ بين أولها وأخرها. لا ، بل ليس هنالك أولٌ ولا آخِرٌ ولا التحامٌ ولا التئامٌ، بل هنالك سبكٌ وإفراغٌ.

(1) - الصناعتين لأبي هلال العسكري: 489- ت: مفيد قميحة - بيروت، وانظر معه: مقدمة تفسير ابن النقيب: ص286-287 - ت: زكريا سعيد ت مكتبة الخانجي بالقاهرة، المطول للسعد التفتازاني:478-480

ص: 232

في كتابه "مصاعد النظرللإشراف على مقاصد السور":

" يُقرّر أنّ" كلَّ سورة لها مقصدٌ واحدٌ يُدار عليه أولُها وآخرُها، ويستدلّ عليها فيها، فترتَّبُ المقدمات الدَّالة عليه على أتقنِ وجه وأبدع نهجٍ وإذا كان فيها شيءٌ يحتاج إلى دليل استدلّ عليه، وهكذا في دليل الدليل، وهلمَّ جرّا

فإذا وصل الأمر إلى غايته ختم بما منه كان ابتداءٌ، ثُمَّ انعطف الكلام إليه، وعاد النظر عليه، على نهج بديع ومرقَى غير الأوَّل منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية والدوحة البهيجة الأنيقة الحالية المزينة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدرّ وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر

وكلّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها

وآخر السورة قد واصل أولها كما لاحم انتهاؤها ما بعدها، وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلّ سورة كدائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغرّ البديعة النظم، العجيبة الضَمّ بلين تعاطفِ أفنانها وحسن تواصل ثمارها وأغصانها " (1)

القول بالبناء الدائريّ للسورة لايتعاند مع القول بتصاعد المعنى في بنائها من جهة ولابتصاعده في السياق القرآنِيِّ الكريمِ كلِّه.

ذلك أن التَّصاعدَ ليس قائما على نسق تراكميِّ بل على منهاج التناسل وهذا ناظرٌ إلى أنَّ المعاني في السورة القرآنية تتناسل لتطوف على محور واحد هو محور الدائرة الذي يسميه "البقاعي": المقصود الأعظم، فكل سورة كالدّائرة تتناسل معانيها متصاعدة لتشكل دائرة، والسورة الأخرى دائرة تدور معانيها المتناسلة المتصاعدة على محور (مقصود أعظم) مبني على محور (مقصود أعظم) دارت عليه المعاني المتناسلة المتصاعدة في السورة السابقة عليها. وأنت تسمعُه مقررًا ذلك فيما نقلته لك من بيانه في كتابه"مصاعد النظر "

(1) - مصاعد النظر:1/149

ص: 233

وهو ذو عناية بالغة بتدبّر وتأويل علاقة مقطع تلاوة السورة بمطلع ترتيلها، والكشف لك عن معالم القربى بين المعنيين القائمين في المطلع والمقطع.

وقولنا:"معنيين" لايعنى اختلافهما اختلاف تفاصل بل يعنى تغايرهما في درجات الإبانة والتصوير والتَّصريف البيانيّ، وإلا فإنَّ في كلِّ معنًى كليًّا واحدًا مهيمنًا، فهما في عالم البيان القرآنيّ كمثل علاقة الولد البكرمخاضًا بشقيقه الأخير ميلادًا

وقد أشرت من قبل إلى أن قولنا (مطلع) نريد به مطلع التلاوة وقولنا (مقطع) نريد به مقطع الترتيل، فهما مصطلحان لايراد بهما علاقة المعاني ببعضهما بل منظور فيهما إلى شأن التلاوة والترتيل.

لم يدع "البقاعيّ" سورة من السور، وإن قلَّ عدد كلماتها وآياتها إلا وقد بيَّن لنا علاقة مطعها ترتيلا بمطلعها تلاوة، لافرق عنده في هذا بين أقصر سورة (الكوثر) وأطول سورة (البقرة)

وهو في تأويله لاينظر إلى المعنى الجمهوريّ للمطلع والمقطع بل ينظر إلى جوهر المعنى المرتبط بمحور السورة (مقصودها الأعظم) فإنَّ المعاني الجمهورية لآيات السورة قد لاتتراءى معالم تناسبها وتناسلها من المقصود الأعظم للنظر العابر، ولكن جوهر المعنى وروحه هو الذي يبصر المتدبر معالم التناسب بينها من جهةٍ ، والتناسل من المقصود الأعظم من جهة أخرى

في تأويله ردَّ مقطع سورة"البقرة" على "مطلعها" يقول عند تأويل قول الله سبحانه وتعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (البقرة: من الآية285) :

"وأمَّا مناسبتها لأوَّلِ السورةِ ردَا للمقطع على المطلع، فهو أنَّه لمَّا ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لاريب فيه على الوجه الذي تقدَّمَ ختمها بذلك بعدَ تفصيلِ الإنفاق الذي وصفهمْ به أولها على وجه يتصلُ بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشدَّ اتصال.

ص: 234

وجعلَ رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمًا للمدح وترغيبًا في ذلك الوصف، فأخبر بإيمانهم بما أنزلَ إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل، وبقولهم الدَّال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع، فقال استئنافًا لجواب من كأنَّه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها (آمن الرسول) ...." (1)

ثُمَّ يقول من بعد تأويل الآيتين الأخيرتيتن ترتيلا:

" وقدْ بَانَ بذِكْرِ المُنَزَّلِ والإيمانِ به والنصرة على الكافرين بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق من ردُّ مقْطَعِهَا عَلَى مطلَعِها ، وآخرِهَا على أوَّلِها "(2)

التناسب بين ما افتتحت به سورة البقرة تلاوة بالحديث عن القرآن الكريم والإيمان به وبالإنفاق والهدى والفلاح وما اختتمت به ترتيلا بالحديث عن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان المؤمنين بالقرآن الكريم وما كان منهم وما كان لهم هو جليّ لا ترى تكلفا في تقريره أو الإشارة إليه ولا غموضًا في بيان معالمه، فكلّ من نبهته من أهل النظر انتبه وسكن أمَّا أهل البصائر فهم في غنى عن تنبيه وإشارة.

وعلاقة ذلك بمقصود السورة وهو تقرير الإيمان بالغيب الذي أعلاه الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر وما فيه لاتخفى، فإنّ آخرها مقرِّرٌ الإيمان بما أنزل والإيمان بالله والملائكة والكتب التي لم يروها والإيمان بالرسل الذين لم يلقوهم لايفرقون بين أحد منهم يقينا بصدق الخبر عنهم، فكلّ هذا من الإيمان بالغيب، وهذا الدعاء والابتهال والرجاء بالنجاة يوم القيامة هو من الإيمان بالغيب، فتبين لك تناسب مقطع ترتيل السورة بمطلع تلاوتها من جهة وتناسلهما من المقصود الأعظم من جهة أخرى

***

وفي سورة "الأعراف" لايكتفي بردِّ آخر آية أو آيتين على مطلع السورة بل يرد ثمانيًا وعشرين آية من آخرها على أولها:

(1) - نظم الدرر:4/168

(2)

- االسابق: 4/188

ص: 235

يبدأ رد مقطعها المبدوء بقول الله سبحانه وتعالى:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179)

على مطلعها قائلا من بعد أنْ بيَّن علاقة الآيات الآربع الخيرة بمطلع السورة:

"

وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والمواظبة على وظائف الخضوع غلى وصف إبليس بعصيان امر الله سبحانه وتعالى في السجود لادم عليه السلام على طريق الاستكبار أيَّ التفات بل شرع في ردَّ المقطع على المطلع حين أتمَّ قصص الأنبياء، فقوله سبحانه وتعالى {ولقدذرأنا

} (الأعراف:179) هو قوله: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً) (الأعراف: من الآية58) يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها.

و {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:180) هو قوله سبحانه وتعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف:55)

وقوله عز وجل {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف:181) هوقوله جل جلاله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف:42)

ص: 236

و [ {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف:182) هو] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف:36)

وقوله سبحانه وتعالى: {

وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: من الآية185) هو قوله عز وجل: {

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: من الآية34)

وقوله- سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف:187) هوقوله جل جلاله: {

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: من الآية29)

وقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف:189) هو قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الأعراف:11)

ص: 237

وقوله سبحانه وتعالى: {

قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: من الآية203) إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد، هوقوله عز وجل {

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:2) إلى قوله جل جلاله: {

وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: من الآية3)

فسبحان من هذا كلامه وتعالى حجابه وعزَّ مرامه وعلىمن أنزلَ عليه صلاته وسلامه وتحيته وإكرامه " (1)

مقالته في رد مقطع تلاوة سورة" الأعراف" على مطلعها بينة لايفتقر ذو إدراك إلى أن يتبين صدق مذهبه ومنهجه فكلّ آية من المقطع تتلاقى مع مقابلها من المطلع في ظاهر معناها الذي لايكاد يخفى على مبصر وسامع.

وإذا ما كان هذا حاله مع أطول سورتين: البقرة، والأعراف فيرد مقطع تلاوة كلّ على مطلعها، فإنّي ناظرٌ حاله في ردّ مقطع تلاوة أقصر سورة في القرآن الكريم على مطلعها: سورة " الكوثر"

يبين "البقاعيّ" في مفتتح تأويله لها أنَّ مقصودها " المنحة بكُلّ خير يمكن أن يكون " ثُمَّ يبين استهلال "الكوثر" بقول الله سبحانه وتعالى:

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} وعلاقته بسورة " الدين: الماعون" قائلا:

" لمّا كانت سورة" الدّين" بإفصاحها ناهيةً عن مساوئ الأخلاق كانت بإفهامها داعية إلى معالى الشيم، فجاءت "الكوثر" لذلك.

(1) - نظم الدرر:8 / 213 -

ص: 238

[أي أنَّ إفصاح الكوثر توكيد للإفهام الماعون] وكانت: "الدّين" قد ختمت بأبخل البخلاء، وأدنى الخلائق: المنع تنفيرًا من البخل، ومما جرّه من التكذيب، فابتدئت "الكوثر" بأجود الجود والعطاء لأشرف الحلائق ترغيبًا فيه وندبا إليه [أي أنَّ إفصاح الكوثر مقابل لإفصاح الماعون]، فكان كأنَّه قيل: أنت ياخير الخلق غيرمتلبس بشيءٍ ممانهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون (إنَّا

أعطيناك

الكوثر) الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين. " (1)

تبين لك علاقة الكوثر بالدّين وأنها علاقة تقابل بين إفصاح السوتين من جهة وتناظر بين إفصاح الكوثر وإفهام "الدِّين" من أخرى.

وتبين لك استهلال "الكوثر" بالإفصاح تقرير العطاء الإلهي للنبيّ صلى الله عليه وسلم

فإذا نظرت في خاتمتها {إنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} رأيت في بناء نظمها دلالة على أن القطع والمنع من كلّ خير حسيّ ومعنوي مخصوص بشانئ المكرّم المبجّل صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيد إفهامًا أنّه صلى الله عليه وسلم هو الموصول بجليل العطاء الممنوح كلّ خيرٍمُمْكِنٍ، فما أفاده مقطعُها ترتيلاً هو ما دلَّ عليه إفصاحُ مطلعِها تلاوةً، فكان التَّناسُب الماجِدُ بيْن المقطعِ والمطلعِ.

يقول البقاعي:

" ولمَّا أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق علَّله بما حاصله أنَّه لاشاغل له ولا حاجة أصلاً تُلِمُّ به، فقال: {إنّ شانئك

هو} أي خاصة {الأبتر} أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر، لايعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال، وفرغ بدنه لكلّ جمال، وأنت الموصول الأمر النَّابه الذكرِ، المرفوع القدرِ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه، فإنّهم أقلّ من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضرتنا الشريفة

(1) - نظم الدرر:22 /287

ص: 239