المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحقيق مقصود كل سورة، وتصاعد معانيه - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌تحقيق مقصود كل سورة، وتصاعد معانيه

‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

المعلم الأول....

‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

ا

المعالم السابقة كانت فيما يتعلق بمنهاج "البقاعي"في تأويل تناسب ترتيب سور القرآن الكريم، وما يأتيك من معالم قائم بتبيان منهاجه في تأويل تناسب النظم التركيبيّ والترتيبيّ في بناء السورة القرآنية

وأساس منهاجه في هذا عنايته بتحقيق وتحرير المقصود الأعظم للسورة القرآنية التي هو بصدد تأويلها وتبيان الإعجاز البياني في نظمها تركيبا وترتيبا

المقصود الأعظم هو ما تدور عليه معاني البيان في هذه السورة، وهو الذي يتحكم في كل شيءٍ فيها.

يقرر في مقدمة تفسيره (نظم الدرر) أنّ علم مناسبات القرآن الكريم علمٌ تعرف منه علل ترتيب أجزائه (أي أجزاء القرآن: جمله وآياته ومعاقده وسوره)

وهو سرّ البلاغة؛ لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال. وهذا يعنى أنَّه لايرى أنَّ سرَّ البلاغة القرآنية قائم في النظم التركيبي المتحقق من علاقات الكلم ببعضها في بناء الجملة مفردة عن قرائنها في سياقها وإن امتدت فحسب بل قائم في النظم الترتيبيّ، فليست البلاغة العليّة المعجزة في أن عُرِّفتْ هذه الكلمة، فأفادت معنى كذا أو قُدمت فأفادت كذا، أو حُذف المسند إليه أو المفعول به، فأفاد معنى كذا فإنَّ شيئا من ذلك في بناء الجملة مفردة عن قرائنها في سياقها أنت واجده في غير البيان القرآنيِّ، ولكنّ البلاغة العليَّة المعجزة المُبْلِسَة العالمين أجمعين قائمة في علاقات الجمل ببعضها في سياق الآية وعلاقات الآيات ببعضها في سياق المعقد وعلاقات المعاقد ببعضها في سياق السورة وعلاقات السور ببعضها في السياق الكلّى للمعنى القرآنِيّ الكريم.

والبقاعيّ يبين أيضًا في مقدمة تفسيره ما تتوقف عليه إجادة فقه ذلك وإتقان تأويل البلاغة القرآنية المعجزة قائلا:

((وتتوقف الإجادة فيه [أيْ في علم فقه مناسبات القرآن الكريم] على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها.

ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها)) (1)

هو كما ترى يجعل العِرفان بمقصود السورة أساسَ الإجادةِ في فقه تناسب القرآن الكريم من حيث العِرفانُ بعلل ترتيب أجزاء البيان القرآنيّ بدأ من الكلمة في الجملة وانتهاءً بالسُّورة، وفي الوقت نفسه يعود ذلك بالنفع الجليل على معرفة المقصود من جمل السورة بفقه نظمها التركيبي.

وهذا يجعل المُؤَوِّلَ للبيان القرآني الكريم قائمًا في مقام الحركة الترددية بين تأمل وتذوق الجزء وتدبر وتذوق الكلِّ، فكلَّما زدت البيان القرآني نظرًا في جزء منه زادك اقتدارًا على عرفان المقصود الأعظم وكلَّما زدت المقصود الأعظم نظرًا زادك فهما لبيان النظم التركيبي للجملة.

(1) - نظم الدرر: ج1 ص 5 - 6

ص: 192

ذلك ما تراه من بيان "البقاعيّ " منزلَ العِرفانِ بمقاصدِ السُّورِ في إتقانِ تأويلِ البيانِ القرآنِيِّ المجيدِ.

وإذا ما نظرت في موقع بيانه مقصود السورة، فإنَّك ترى الغالبَ عليه أنّه بستفتح القول بذكر مقصود السورة من قبل ذكر اسمها كما تراه في تأويله سورة "البقرة" وسورة "النساء"، و"المائدة"، و"الأنعام"،و"الأعراف" و"التوبة"، و"يونس".

وقد يستفتح الكلام بتاويل "البسملة" من قبل ذكر مقصود السورة، كما في سورة "آل عمران" و"إبراهيم".

وقد يستفتحه بذكر اسم السورة، وتأويل البسملة، كمافي سورة " الأنفال" و" الملك" و" القلم" و"المعارج

يبقى أن تنظر في منهاجه في تبيان ذلك المقصود لترى أنَّه يتخذ منهاجا قائمًاعلى السعي إلى تحرير المعنى الكلِّىِّ الذي يسري في معاقد السورة المُكَوِّنَة لمعانيها الكُلِّيَّة القائمة من المعاني الجُزئية المُصَوَّرَةِ ببيان نظم الجملة والآية.

ص: 193

في كتابه "مصاعد النظر" يقرر أنّ ((كلَّ سورة لها مقصد واحدٌ يدار عليه أولها وآخرها، ويستدلّ عليها فيها، فترتب المقدمات الدَّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهجٍ وإذا كان فيها شيءٌ يحتاج إلى دليل استدلّ عليه، وهكذا في دليل الدليل، وهلمَّ جرّا، فإذا وصل الأمر إلى غايته ختم بما منه كان ابتداء، ثُمَّ انعطف الكلام إليه، وعاد النظر عليه، على نهج بديع ومرقى غير الأول منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية والدوحة البهيجة الأنيقة الحالِيِة المُزَيَّنَة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدرّ وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكلّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السورة قد واصل أولها كما لاحم انتهاؤها ما بعدها، وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلّ سورة كدائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغرّ البديعة النظم العجيبة الضَمّ بلين تعاطفِ أفنانها وحسن تواصل ثمارها وأغصانها " (1)

هو في هذا منطلق من القاعدة الكلية التى أرشده إليه شيخه "أبو الفضل المشداليّ المغربي " والتى نصَّ عليها في مفتتح تأويله سورة "الفاتحة" قائلا: " الأمر الكُلّي المفيدُ لعِرْفانِ مناسبَات الآياتِ في جميع القرآن هو أنّك تنظرُ إلى مراتبِ تلك المقدِّمات في القربِ والبعدِ من المطلوبِ، وتنظرَ عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستبعته من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشرافِ إلى الوقوفِ عليْها 0فهذا هو الأمر الكلّيُّ المهيمن على حكم الربطِ بينَ جميعِ أجزاء القرآنِ، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله تعالى وجه النظم مفصلا بين كلّ آية وآية في كلّ سورة وسورة، والله الهادي "(2)

(1) – مصاعد النظر:1/149

(2)

- نظم الدرر: 1 /17 - 18

ص: 194

وإذا ماكان في تفسيره (نظم الدرر) يستفتح القول في تأويل سورة "البقرة" بقوله: " مقصودها الأعظم: إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمدار الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التى مدارها الإيمان بالغيب

" (1)

تجده من بعد فراغه من تأويل البيان وتناسبه في قول الله سبحانه وتعالى:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39)

يقف مليًّا لينظر في تناسب آيات السورة من أولها إلى أول هذا المعقد وهويقدم لنا وجهين من تقرير المناسبات بين آيات هذا المعقد، فيقول:

(1) – السابق:1/55

ص: 195

" ولمَّا أقام سبحانه وتعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولا، وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعيًا للناس عامة [يقصد قول الله عز وجل: يَأيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا ربَّكُم....الآية 21] لاسيَّما بني إسماعيل: العرب الذينَ هم قوم الدَّاعي صلى الله عليه وسلم، وكان الحقّ من دُعِيَ بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حقٍّ، فزاغوا عنه، ولاسيّما إنْ كانت لهم قرابة؛ لأنَّهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدْنى بيان وأيسر تذكير، فإنْ رجعوا اقتدى بهم الجاهل، فسهل أمره وانحسم شرّه، وإن لم يرجعوا طال جدالهم، فبَانَ للجاهل ضلالُهم، فكان جديرًا بالرجوع والكفّ عن غيِّه والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبَانَ الحلالُ والحرامُ؛ فلذلك لمَّا فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار، وختم بأنْ وعد في اتباع الهدى وتوعَّد شرع سبحانه وتعالى يخصُّ العلماء من المنافقين بالذكر، وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزام عموم المصارحين منهم بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خصَّ بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب ، وأشهرها وأجمعها ، فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديدَ، ويخشع الجلاميد، فقال تعالى مذكرًا لهم بنعمه الخاصة بهم (يابني إسرائيل) "(1)

وهو من بعد أن يفرغ من تبيان تسلسلِ المعاني في المعقد الأول من معاقد السورة وكيف أنه قد تناسل منه الحديث في المعقد الثاني المبدوء بقول الله سبحانه وتعالى:

{يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40)

يقرر وجها آخر من وجوه التناسب والتناسل قائلا:

(1) – نظم الدرر:1 /307 – 308

ص: 196

" ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر، فيقال:

لمَّا كان الكفّارُ قسمين: قسم محضٌ كفره وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لاعلم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحقّ منه، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعمُّ قسميه: العالم والجاهل، فقال عز وجل " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة:6)

ثُمَّ أتبعه قسم المنافقين؛لأنَّهم أهَمُّ بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين ، وإظهارهم انّهم منهم ليكونوا من خذاعهم على حذر، فقال عز وجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة:8)

ولمََّا فرغَ من ذلك استتبعه من الأمر بالوحدانية، وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل والاستعطاف بذكر النعم شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنّه يعرف الحقَّ ويخفيه فالمنافق ألفَ الكفرَ، ثُمَّ أقلع عنه، وأظهر التلبس بالإسلام، واستمرَّ على الكفرِ باطنًا، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل دعوته، فلمَّا دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به، وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاءِ المعرفةِ التي هي مبدأُ الإيمان، فحالُهم كما ترى أشبه بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثيرٍ من القرآنِ.

وأخَّرهم لطولِ قصَّتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإنًَّ مجادلة العالمِ ترسل في ميادين العلمِ أفراسَ الأفكار، فتسرع في أقطار الأوطار حتّى تصير كالأطيار وتأتي ببديع الأسرار.

ص: 197

ولقد نشر سبحانه وتعالى في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنَّهُ هدى للعالمين

هذا إجمال الأمر

وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجلّ عن الوصف تذاق بحسن التعليم ويشفي عيَّ جاهلها بلطيف التكليم والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق " (1)

وأنت ترى في الوجه الثاني تفصيلاً ليس في الأول ييسر لك رؤية حركة المعنى القرآني في آيات ذلك المعقد من معاقد السورة.

وفي إشارته إلى تعدد وجوه التناسب والتناسل ما يهدي إلى وثاقة الاعتلاق بين أجزاء السورة القرآنية، وهذا شأن البيان العليّ لايمنحك وجها واحدًا من المعانى أو العطاء بل هو يكنز لك في بيانه ضروبا من معانى الهدى ويدع لك الاجتهاد في استخراج ما يتوافق مع قدرك تحريضًا على متابعة الاجتهاد في الاستنباط، وفي الوقت نفسه يدفع عنك غائلة الملل إذا ما أنت أخذت في كل محاولة اجتهادية ما أخذته في السابقة عليها، ولكنك إذا ما لقيت في كل مرة من فيض العطاء غير ما لقيت في التي قبلها أقبلت إقبال المتطلع التائق المؤمِّل.

وفيه أن درجات العطاء تتعدد وتفاوت بتعدد المجاهدين في التدبر وتتفاوت بتفاوت أقدارهم.

والبقاعي من بعد أن يلقي إليك ما قام في صدره من وجهي التناسب والتناسل في آيات هذا المعقد الممهدة لآيات المعقد التالي له يعمد إلى أن يقيم بين يديك ما قام في صدر"أبي الحسن الحرَالَّيِّ"من ذلك قائلا:

" وقال "الحرَالّيُّ" " ثُمّ أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظمًا بابتداء خطاب العرب من قوله (يأيها الناس) وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه، وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أوَّل وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختامٌ بنو إسرائيل الذين هم ابتداءٌ، بما هم أوّل من أنزل عليهم الكتاب

(1) - نظم الدرر: 1/308 - 309

ص: 198

الأول من التوراة التي افتتح الله تعالى بها كتبه تلو صحفه وألواحه.

ثُمَّ قال: لمَّا انتظمَ إقبالُ الخطابِ على العربِ التي لمْ يتقدَّمْ لها هُدًى بما تقدَّمه من الخطابِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم انتظم بخطابِ العربِ خطاب بني إسرائيل بما تقدَّم لها من هدًى في وقتها

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)

وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدَّم لها في ارتقائها من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدى بهم العرب، ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق. انتهى" (1)

ما قام ببيانه "الحرَالّيّ" فيه ما يهدي إلى السنة البيانية للقرآن الكريم في تنسيق المعاني وتقديم بعضها على بعض لما في ترتب الثاني على الأول وتناسله منه.

وغير خفي عليك أنَّ ما قام البقاعيّ ببيانه ولا سيَّما الوجه الثاني فيه وشيجة انتساب إلى مقال " الحرالّي ".

والبقاعي" ما يزال في أثناء السور يُجْمِلُ لك حركة المعنى في سياقها فتراه عند تأويله قول الله سبحانه وتعالى

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة:252)

يقول: " ولعلّ ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصّة لما فيها للنبيّ صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة؛ لأنهاممالايعلمه إلا القليلُ من حُذَاق علماء بني إسرائيل

(1) - نظم الدرر:1/311

ص: 199

ثُمَّ عقبها بآية الكرسيّ التي هي الأعظم من دلائل التوحيد، فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قول الله سبحانه وتعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21) إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوّة المفتتح بها قصص بني إسرائيل، فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصَّتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جريًا على الأسلوب الحكيم في مُناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء، فكان خلاصة ذلك كأنّه قيل (ألم) تنبيها للنفوسِ بما استأثرالعليم سبحانه وتعالى بعلمه، فلمَّا ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل: يأيها النَّاسُ، فلمَّاعظم التَّشوفُ قال" اعبدوا ربكم " ثُمَّ عينه بعد وصفه بما بينه بقوله عز وجل:

{اللَّهُ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)

كما سيجمع ذلك من غيرفاصلٍ أول سورة "التوحيد":"آل عمران"المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النَّصارى وغيرهم، وتختتم قصصهم يقوله عز وجل:

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (آل عمران:193)

ص: 200

يعنى بالمنادي – والله سبحانه وتعالى أعلم - القائل: " يأيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا ربَّكُمْ"(البقرة:21) إلى آخرها 0)) (1)

وإذا ما نظرت في موقفه من تصاعد المعنى القرآني في سورة البقرة وتناسل تلك المعانى عند تأويله الآية التي يذهب إلى أنها خاتمة سورة البقرة على الرغم من أنها متلوة بثلاثين آية أخرى: "آية الكرسيّ"(2) تسمعه قائلا:

" ولمَّا ابتدأ سبحانه وتعالى "الفاتحة" كما مضى بذكر الذَات ثُمَّ تعرّف بالأفعال؛ لأنها مشاهدات، ثُمَّ رقَّى الخطاب إلى التعريف بالصّفات، ثُمَّ أعلاه رجوعًا إلى الذَات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة [سورة البقرة] بصفة الكلام [يقصد قوله: ذلك الكتاب

] ؛لأنَّها أعظم المعجزات، وأبينها، وأدلّها على غيب الذَّات وأوقعها في النّفوس لاسيّما عند العرب، ثُمَّ تعرف بالأفعال، فأكثر منها، فلمَّا لم يبق لَبسٌ أثبت الوحدانية بأيتها السابقة مخللاً ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب، فلمَّا تمت الأوامر، وهالتْ تلك الزواجر، وتشوفت الأنفس في ذلك اليوم إذ كان المألوف من ملوك الدّنيَا أنَّهم لايكادون يتمكنون من أمرٍ من الأمورِ حقَّ التمكن من كثرة الشفعاء والرَّاغبين من الأصدقاء إذْ كان الملك منهم لايخلو مجلسه قطُّ من جمع كلّ منهم صالح للقيام مقامه، ولو خذله أو وجه إليه مَكْرَهُ ضَعْضَعَ أمره، وفَتَّ في عضده، فهو محتاج إلى مراعاتهم واسترضائهم ومداراتهم، بيَّنَ سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الصدّ والتنزه عن الكفر والنّدّ والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتمَّ انكشاف؛ لأنْ تتوجه الهِممُ لغيره، وأن تنطق بغير إذنه، وأن يكون غير ما يريد؛ ليكون ذلك أدعَى إلى قبول أمره والوقوفِ عند نهيه

(1) – نظم الدرر:3/442

(2)

– السابق:4 /198

ص: 201

وزجرِه

ولأجل هذه الأغراضِ ساق الكلام مساق جواب السؤال، فكأنَّه قيل: هذا مالا يعرف من أحوال الملوك، فمن الملك في ذلك اليوم؟

فذكرآية الكرسيّ سيدة آي القرآن التي ما اشتمل كتابٌ على مثلها مفتتحًا لها بالاسم العَلم الفرد الجامع الذي لم يتسم به غيره " (1)

يأتي أيضًا في مقدمة تأويله موقع قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وطلبه من ربّه عزّ وعلا أن يريه كيف يحيي الموتى، فيلفت نظرنا إلى المقصود الأعظم للسورة قائلا:

" ولمَّ كان الإيمان بالبعث بل الإيقان من المقاصد العظمى في هذه السورة وانتهى إلى هذا السياق الذي هو لتثبيت دعائم القدرة على الإحياء مع تباين المناهج، واختلاف الطرق، فبيّن أولاً بالرد على الكافر ما يوجب الإيمان، وبإشهاد المتعجب ما ختم الإيقان عَلا عَنْ ذلك البيان في قصة "الخليل" صلى الله عليه وسلم إى ما يثبت الطمانينة 0

وقد قرر سبحانه وتعالى أمر البعث في هذ السورة بعد ما أشارت إليه "الفاتحة" بيوم الدين أحسن تقرير، فبثَّ نجومه فيها خلال سماوات آياتها، وفرَّق رسومه في أرجائها بين دلائلها وبيناتها فعل الحكيم الذي يلقى ما يريد بالتدريج غير عجل ولا مقصِّرٍ، فكرَّر سبحانه وتعالى ذكره بالآخرة تارة، والإحياء أخرى، تارة في الدنيا وتارة في الآخرة في مثل قوله عز وجل:

وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة: من الآية4)

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} (البقرة: من الآية28)

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:56)

{كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} (البقرة: من الآية73)

{ِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (البقرة: من الآية243)

(1) – نظم الدرر: ج 4 /25 -26

ص: 202

وما كان من أمثاله ونظائره واشكاله في تلك الأساليب المرادة غالبًا بالذَّات لغيره، فاستانست أنفس المنكرين له به ، فصار لها استعداد لسماع الاستدلال عليه حتى ساق لهم أمر خليله عليه السلام والتحية والإكرام، فكان كأنَّه قيل: يامنكري البعث ومظهري العجب منه ومقلِّدي الآباء في أمره بالأخبار التي أكثرها كاذبٌ، اسمعوا قصة أبيكم "إبراهيم" صلى الله عليه وسلم التي لقاكم بها الاستدلال على البعث وجمع المتفرق، وإعادة الروح بإخبار من لا يتهم بشهادة القرآن الذي أعجزكم عن الإتيان بمثل شيءٍ منه، فشهادته شهادة الله؛ لتصيروا من ذلك على علم اليقين بل عين اليقين...." (1)

فأنت تراه ساعيا إلى تبيان تصاعد المعنى القرآنِيّ وهيمنة المقصود الأعظم على تلك المعانى المتصاعدة يقينا منه بأنَّ المعنى القرآني في سياق السورة إنَّما هو خاضعٌ لسلطان معنى كلّيّ، وأنَّ المعاني الجزئية المشكِّلة لمعاني المعاقد التي منها قوام السورة القرآنية إنَّما هي معانٍ متصاعدة تؤسِّسُ من وجه ما لم يكن له ذكرٌ سابقٌ، وتؤكِّد من آخر ما سبق تأسيسه، وفي كلِّ تأكيد تأسيسٌ لما يقوم عليه البيان القرآنيُّ من منهاج تصريف المعاني.

هذان الأمران:

تصاعدُ المعاني وتناسلُها من جهة

وتصريفُ البيان عنها من جهة أخرى

من الخصائص الجليلة للسُّنَّة البيانيَّة في القرآن الكريم أنت لاتجدها في غيره على نحو ولو شديد المفارقة لها. وهذا فيما أزعم مَعْلَمٌ من معالم خصائص الإعجازالبياني للقرآن الكريم.

والبقاعي إذا ما تجلت لك عنايته بتبيان وجه انتظام المعاني في سورة البقرة وتصاعدها وخضوعها لسلطان معنى كلّي هو مقصودها الأعظم، فإنه يحرص في نهاية تأويله البيان القرآنيّ في سورة البقرة على أن يخلّص لنا القول في ترتيب معانيها على النحو المعجزِ الذي جاءت عليه قائلا:

(1) - نظم الدرر: ج4 /60 - 61

ص: 203

" وسِرُّ ترتيب سورة " السنام " على هذا النّظام أنّه لمَّا افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف النَّاس الذين هم للدّينِ كالقوائم الحاملة لذي السَّنام، فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلىأفهام أهل القيام، فقال مخاطبا لجميع الأصناف التي قدمها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)

واستمر إلى أنْ بَانَ الأمرُ غاية البيان، فأخذ يذكر مِنَنَه- سبحانه- على النَّاس المامورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم "آدم" عليه السلام، ثُمَّ خصّ العرب ومن تبعهم ببيان المنّة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم

وهو سبحانه وتعالى يؤكد كلّ قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيءٍ من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل، فذكره على وجه الامتنان به على العرب ، وتبكيت بني إسرائيل بتركه ،لا على أنَّه مقصود بالذَّات.

فلمَّا تزكّوا ، فارتقوا ، فتأهلوا لأنواع المعارفِ قال مُعليًا لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية:

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:163)

فلمَّا تسنَّموا هذا الشرف لقَّنهم العبادات المزكية، ولقَّاهم أرواحها المصفية، فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعًا الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكلِ والمشاربِ والمناكح، وغير ذلك من المصالح، فتهيؤوا بها، وأنَّها المواردات الغرَّ من ذي الجلال، فقال مرقِّيًا لهم إلى غيب حضرته الشَّمَاء ذاكرًا مسمَّى جميع الأسماء

ص: 204

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)

ولمَّا كان الواصلُ إلى أعلى مقام الحريّة لابد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمالِ اللائقةِ بهمْ، فحثَّ على أشياءَ أكثَرُها من وادِي الإحسانِ الذي هو مَقامُ أولى العِرفانِ، فذكرَ مثلَ النفقة التي هي أحدُ مباني السورة عقبَ ما ذكرَ مقامَ الطّمأنينةِ إيذانًا بأنَّ ذلك شأنُ المطْمَئنّ، ورغّب فيها إشارةً إلى أنَّه لامطمعَ في الوصولِ إلَاّ بالانسلاخِ من الدُّنيا كلّها

وأكثر من الحَثِّ على طيب المطعمِ الذي لابقاء بحال من الأحوال بدونه، ونهى عن الربا أشدَّ نهْيٍّ إشارة إلى التَّقنع بأقلّ الكفافِ، ونهيًا عن مطلق الزيادة للخواصّ، وعن كلّ حرام للعوام

وأرشدَ إلى آداب الدّينِ الموجبِ للثقة بما عند الله سبحانه وتعالى المقتضي بصدقٍ التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك، توفِّيَ النَّبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وهو متلبّسٌ بِهِ.

وبنَى سبحانه وتعالى كلَّ ثُلثٍ من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به.

وزاد الثالث لكونه الختام، وبه بركة التّمام أن أكَّد عليْهِمْ بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة.

ص: 205

وختم بالإشارة إلى أنّ عمدة ذلك الجهادُ الذي لذوي الغِيّ والعنادِ، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد، وذلك هو طريقُ أهلِ الرشادِ والهداية والسداد.

والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب)) (1)

بهذا التخليص المحيط بما هو مرتكزات رئيسة ترتكز عليها سورة البقرة وتقوم عليها قياما يحقق لها إعجازها في ترتيب معاني الهدى فيها على نحو يجعل منها سنام القرآن الكريم وفسطاطه وذروته.

وقد كان البقاعي مدركا حسن التقسيم وبديعه للمعاني الكلية التى قامت منها سورة البقرة ومدركا لمنهاج القرآن الكريم في تقسيمه الأحكام والآداب العلية التى احتوتها سنام القرآن الكريم ومنهاج السورة في افتتاح كل قسم واختتامه.

***

وننظر في سورة أخرى من سور ' المئين " من بعد نظرنا في سورة من " الطول " ننظر في تبيانه مقصود سورة " النحل"

يقول: " مقصودها الدلالة على أنّه سبحانه وتعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص "((2)

ثُمَّ يضيف تصريحا بالتدليل على الوحدانية التي أبان عنها إجمالا بقوله (منزه عن شوائب النقص) وأوَّل وأكبر شوائب النقص الشرك، فمن كان له شريك كان غير منزه عن رأس شوائب النقص، ولعلَّ البقاعيّ لم يصرح بالوحدانية أولا في تحقيق مقصود السورة وهو كثير المراجعة لتأويله إشارة منه إلى أنّ الوحدانية ملزوم ما صرح به من كمال علمه وقدرته واختياره وتنزهه عن شوائب النقص، والتصريح باللوازم يلزمه العلم بالملزوم، ومن سلّم باللازم وجب عليه التسليم بالملزوم لا محالة: من سلم لك بأنَّ فلانا يتحرك وجب عليه التسليم بأنَّه حيّ ، فالحياة ملزوم الحركة، وهذا منهاج من مناهج الإلزام بالحقيقة.

(1) - نظم الدرر:4 /192 -194

(2)

- نظم الدرر" 11 /101

ص: 206

وكأنّ البقاعي يشير بذلك إلى منهاج السورة في التدليل، فهي تتخذ ذكر النعم امتناناً دليلا على وحدانية المنعم وكمال علمه وقدرته واختياره وتنزهه عن شوائب النقص، وهذا ما تقوم عليه السورة، فأشعرنا البقاعي بصنيعه هذا حقيقة المنهاج الذي يقوم عليه البيان في السورة من التصريح باللازم لتحقيق وتأكيد الملزوم.

على أنّ بيان السورة يقيم جملا مصرحة بالوحدانية يقيمها في مواقع معينة من مساحة البيان فيها:

تجده في صدر المعقد الأول يقول عز وجل: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل: من الآية2) ويقول في ختام تعديده مجموعة من نعمه الممتن بها والمدلّل بها على وحدانيته وعلمه وقدرته وتنزهه عن شوائب النقص (ي:2-21) : {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: من الآية22)

ومن بعد أن يذكر مااعتراض به الكافرون على الدعوة ويقوضها (ي:24-50) يصرح بالوحدانية

{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)

أنت إذ تتابع النظر في آيات السورة تجد أنها منسولة من معنى التدليل بالنعم على وحدانية الله سبحانه وتعالى وما يلزمها من الصفات الحسنى: كمال العلم والقدرة والاختيار

وإن تفاوتت دلالة الايات على هذا المعنى، فالسورة قائمة على منهاج تصريف البيان عن المعنى الواحد (المقصود الأعظم) بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه

وهذا ليس خاصًّا بسورة " النحل" بل هو شاملٌ كلّ سورة من سور القرآن الكريم

ص: 207

ولا أكاد أملّ تأكيد القول بأنّ علم البيان في البلاغة القرآنية ليس بالمحصور في " التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والكناية " فمن شاء أن يدرس سورة ما في ضوء منهاج علم البيان فإنّ عليه ألا يقتصر اجتهاده في التدبر والتأويل على هذه الأساليب في السورة بل يشمل تأمل وتدبر دلالة كل جملة وآية على المقصود الأعظم للسورة (المعنى الواحد) المتعين فيها، ودرجات الاختلاف في الدلالة وعلاقة هذا التباين بين سبل الابانة بالمعنى الجزئي والمعنى الكلّي، مرتكزًا على تأمل وتدبر النظم التركيبي والترتيبي للجمل والآيات والمعاقد

***

وإذا ما كان البقاعيّ معنيًّا بحقيق مقصود السورة التي هو بصدد تدبر منهاج البيان فيها فإنه - أيضًا - حريصٌ على مراجعة ما ينتهى إليه من استنباط المقصود الأعظم للسورة التي هو بصدد تأويل بيانها وبيان عظيم تناسب نظامها، فيبينُ لنا أحيانًا أنَّه قد أعاد النظر في تحقيق وتحرير مقصود السورة وبدا له ما هو أعلى مما كان قد أشار إليه من قبل، يقول في مفتتح سورة "الأعراف":

" مقصودها إنذارُ من أعرضَ عمَّا دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل من الأنعام، وتحذيره بقوارع الدارين.

وهذا أحسن مما كان ظهرلي، وذكرته عند:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:8)(1)

وهو في تفسيره تلك الآية يقول بعد بيانه معنى الوزن وأنّه بميزان حقيقي لصحف الأعمالِ أو للأعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور

(1) - نظم الدرر:7 /347

ص: 208

فتحرر أنَّ مقصود السورة الحثُّ على اتباع الكتاب، وهو يتضمن الحثَّ على اتّباع الرسولِ والدلالة على التوحيد والقدرة على البعثِ ببيان الأفعالِ الهائلةِ في ابتداءِ الخلقِ وإهلاكِ الماضينَ إشارة إلى أنَّ من لمْ يتبعه ويوحّدُ من أنزله على هذا الأسلوب الذي لايستطاعُ والمنهاج الذي وقفتْ دونه العقول والطباع لما قام من الأدلة على توحيده يعجز من سواه عن أقواله وأفعاله أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقابِ الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادّخر له في ذلك اليومِ من سَوءِ المُنْقلبِ ولإظْهار أثرِ الغضبِ " (1)

تراه في صدر السورة مُكَرِّسًا المقصود في معنى الإنذار، فهذا المعنى هو محور ما تدور عليه المعاني الكلية للسورة المكونة من معانِ جزئية تصورها جمل السورة وآياتُها

وفي تأويله الآية الثامنة {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:8) يجعل المقصود أعم من معنى الإنذار وإن كان قائما الإنذار في ذلك المقصود العام، فإنَّ في الإشارة إلى القدرة على البعث معنى الإنذار، لأنه لا معنى للبعث إذا لم يترتب عليه جزاء العباد على ما عملوا إن خيرًا وإن شرًا.

مجمل الأمر أنَّ البقاعي ذو حرصٍ على السعي إلى تحقيق المعنى الكليّ المهيمن على السورة التي هو بصدد تأويل بيانها وتبيان تناسب نظامها، وحريص على أن يكون لهذا المعنى وجود في معاقد السورة، وإن لطف أثره أحيانا في فقه المعانى الجزئية المكونة لمعاني المعاقد التي يتكون منها نظام السورة.

وهذا المنهاج من أهم ما يميز تفسير البقاعي عن غيره من التفاسير السابقة عليه بل اللاحقة له، فإنك لاتكاد تجد تفسيرًا كمثله في ذلك الحرص، والتتبع في كلّ سورة من سور القرآن الكريم كلّها.

(1) - السابق 7 / 360

ص: 209