المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تأويل النظم في القصص القرآني - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌تأويل النظم في القصص القرآني

وإذا ما كان الأمر توقيفا فلا بد أن يكون من وراء ذلك حكمة ذات منزلة عليه في مناط الإعجاز القرآنيّ: الإعجاز البيانيّ، فكان ضرورة أنّ ثَمَّ علاقةَ تناسبٍ وتناسلٍ بين لآيات السورة الواحدة، وأن كلّ آية ليست بمقطوعة الرحم من سابقتها ولاحقتها

المعلم السَّابع.

‌تأويل النظم في القصص القرآني

قد جاء البيان القرآنيّ عن مراد الله سبحانه وتعالى من عباده مازِجًا بين سياقين:

سياقٍ تشريعِيِّ عمادُه الأمرُ والنَّهي على اختلاف مسالكهما وصورهما

وسياقٍ تثقيفيٍّ عماده الترغيب والترهيب.

ولا يكاد سياق منهما يتجرد من صحبة الآخر، فهما قائمان معا، وإن تباينت درجات ظهور أحدهما ولطف الآخر.

والقصص القرآنيِّ الكريم ضرب من ضروب التثقيف النفسيّ والقلبيّ ترغيبًا وترهيبًا، تدرك البصائر النافذة في غوره فيضًا من درجات التكليف بالمعاني الإحسانية لطائفة ارتقت في مسيرها إلى ربّها من الدرجة الدنيا من درجات الطاعة لله عز وجل إلى درجة أعلى: ارتقت من سن " الذين آمنوا " إلى سنِّ " المؤمنين " ومن فوقهم إلى شرف سنِّ " المحسنين " الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى كأنَّهم يروْنه رأي بصيرة.

والقرآن الكريم يقرر مَنْزِلَ القصصِ ورسالته الجليلة في آيات عِدَّة كريمة:

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:62)

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف:176)

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3)

ص: 252

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف:111)

ونظرة متأنية في بيان هذه الآية الأخيرة التى تختم بهاسورة" يوسف " القائمة بقصة تامة لم يتكرر مشهد من مشاهدها على غير ماهو السنة البيانية في القرآن الكريم للقصص القرآني تغريك بالتأمل في قوله عز وجل: {عِبْرَةٌ لأُُولِي الألْبَابِ} وكأنَّ في هذا إشارة إلى أنّ العبور من الانشغال بظاهر الحدث المقصوص في ذلك القصص وما قام منه المشهد القصصيّ فيها إلى ما هو الغاية المنصوبة المساق لها هذا القصص إنما يكون من أولي الألباب، الذين يُنيط القرآن الكريم بهم التذكر الذي هو استحضار ما كان للمرء معه صحبة علم سبق، فالقصص القرآنيّ الكريم إنّما هو للاعتبار.

وبالتأمل في قوله سبحانه وتعالى: {ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كلّ شيء..} فهذا كاشف عن حقيقة هذا القصص الذي لايتأتى لأي قصص آخر أن يدانيه فيه، والذي لن يتأتى لما تقذف به الأزمان أن يقوم فيها ما يكذب أمرًا منه جليلا أو دقيقًا.

وبالتأمل في قوله سبحانه وتعالى: {وهدى ورحمة لقوم يُؤْمِنون} فهذا دالّ دلالة بيّنة على أن هذا القصص إنما يهتدي به على نحو يليق بقدره من كان قائمًا بالإيمان بأنّ ما يسمع من ذلك القصص ليس افتراء ولا نتاج خيال وهيام في كلّ واد ولكن تصديق االذي بين يديه من الكتب الحق التي أنزلها الله عز وجل على رسله عليهم السلام

وكأنَّ عجز الآية ناظر إلى صدرها، فهي من قبيل الرد المعنوي للمقطع على المطلع " العجز على الصدر "

وفي هذا من القرآن الكريم هداية نيّرة باهرة تَفْصِلُ بين حقيقتين:

ص: 253

حقيقة القصص القرآنيّ الكريم القائم من الحق والقائم به الذي لايتطرق إليه أدنى شبهة أن يكون فيه مباعدة بين ما يقصّ وما كان أو يكون في عالم الشهود وحقيقة ما يسمى في عالم الإبداع الأدبي قصصا معدنه التخيل والتوهم يباعد الحق أَيَّمَا مباعدة، وإن انتزع بعضه أو شبهه من حركة الحياة الهادرة.

وفوق هذا هما متباعدان رسالة وغاية.

وهذا يقضي بالمباعدة بينهما منهاج إبانة وتصوير، ومن ثَمَّ لايكون من موضوعية التأويل بيانا قرآنيًّا أو موضوعية النقد إبداعًا أدبيا أن يؤخذ من مناج النقد الأدبي عربيًّا أو أعجميا للقصص الفنيِّ ما يقرأ به المسلم معالم الإعجاز البياني للقصص القرآنيّ الكريم.

***

واليقاعيُّ يتدبر فصول القصص وأحداثه مبرزا تناسب ذلك مع السياق والقصد من السورة، وقد يعقد موازنة بين مواقع القصة الواحدة في سور متعددة مما يبرز مشتبه النظم التركيبي والترتيبي في القصة

ومقالة "البقاعيّ" في شأن القصص القرآني مقالة وسيعة لايتسع لها مثل هذه الأوراق في جديرة بأن يفرد لها بحث علميّ يستوعب شذرات الذهب المتناثرة في سياق تأويله البيان القرآني الكريم وفق أصول علم التناسب القرآني عنده، فلسنا إلى غير الإشارة إلى بعض ما يحرض بالقيام إلى النظر فيما كان من مقالة " البقاعيّ " في هذا.

يقول عن "علم التناسب":

" وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنّ كلّ سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة.

ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لايخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة " (1)

(1) - نظم الدرر: 1/14

ص: 254

وهذا من "البقاعيّ " أصل عظيم من أصول التأويل البيانيّ للقرآن الكريم، ناظر إلى منزل السياق والغرض المنصوب له الكلام في فقه المعنى وتذوق البيان، ودالٌّ على أنّ البيان القرآنيّ لايقوم فيه تكرار عقيم بل هو إلى التصريف البياني في تصوير المعاني مما يمنح المتلقي فيضًا من العطاء الدلالي يدفع عنه غائلة الملل والسأم، فهو البيان الذي لايخلق على كثرة الرّد، ولا تنتهي عجائبه.

ومما قاله في تأويل القصص في سورة " الأعراف":

" واعلمْ أنَّه لاتكرير في هذه القصص ، فإنَّ كلّ سياقٍ منها لأمر لم يسبق مثله، فالمقصود من قصّة " موسى" عليه السلام ، و" فرعون" عليه اللعنة والملام هذا الاستدلال الوجوديّ على قوله:" وإنْ وجدنا أكثرهم لفاسقين "

ومن هنا تعلم أن سياق قصّة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوّهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود.

واستمرّ سبحانه وتعالى في هذا الاستدلال إلى آخر السورة،وما أنسب " قوله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) لقوله عز وجل: {وَمَا وَجَدْنَا لأََكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (الأعراف:102)

وذكر في أوّل التي تليها [سورة الأنفال] تنازعهم في الأنفال تحذيرًا لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه.

هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في " البقرة" فإنّه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم؛ لأنّ ذلك في سياق خطابه - سبحانه - لجميع النّاسِ بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)

ص: 255

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة:28)

وما شاكله من الاستعطاف بتعدّد النّعمِ ودفعِ النّقَمِ. والله أعلم " (1)

فهذ دالّ دلالة بيّنة على أنّه يرى سياقًا خاصًّا لكل قصّة ولكل جانب/مشهد من جوانبها هو الذي يقتضي أن تكون هذه القصة هنا وأن يكون هذا الجانب منها، وأن يكون نظمها على هذا النحو.

***

ومما هو معنيّ ببيانه ترتيب أحداث القصص القرآني، وبيان أنّ معيار ترتيبه ليس التوالي الزمنيّ للأحداث في الواقع بل السياق والغرض العام من البيان هو الذي يقضي بتقديم الإنباء بحدث مقدما على الإنباء بحدث قد سبقه في الوقوع.

ترى شيئًا من هذا في أول قصة وردت في السياق الترتيلي للقرآن الكريم: قصة أبينا آدم عليه السلام في سورة " البقرة":

جاء الإنباء عن أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام بعد الإنباء عن تعليمه الأسماء وإخبار الملائكة بما لم تعلم.

ومقتضى الظاهر عنده أنَّ السجود كان أولا، وكان أمر الملائكة بأن تنبئ بأسماء الأشياء من بعده في واقع الأمر، وجاء البيان القصصيّ على غير ذلك، يقول:

" مشى "البيضاويّ " على أنَّ الأمر بالسجود كان بعد الإنباء بالأسماء، ولم يذكر دليلا يصرفُ عن هذا الظاهر (2)

(1) - نظم الدرر: ج8 ص 70

(2)

- يقول البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل) : " {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} لمّا أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له اعترافًا بفضله وأداء لحقه، واعتذارًا عمّا قالوا فيه 0

وقيل امرهم به قبل أنْ يسوذي خلقه لقوله سبحانه وتعالى {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} امتحاناً لهم وإظهارا لفضله " (أنوار التنزيل - ج2 ص130

ويعلق " الشهاب الخفاجي في حاشيته "عناية القاضي (2/130) على قول البيضاوي (وقيل أمرهم

) : " والمصنف رحمه الله تعالى أشار [أي بقوله: قيل] إلى عدم ارتضائه، ولم يشر إلى جواب استدلاله بالآية [أي فقعوا] وهو أنّ الفاء الجوابية لاتقتضي التعقيب وكما في قوله سبحانه وتعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فإنه لايجب السعي عقبه...."

ص: 256

على أنَّ المشيَ عليه أولى من جهة المعنى؛ لأنَّ سجود الملائكة عليهم السلام قبلُ [أيْ قبل إظهار فضيلة العلم لآدم عليه السلام] يكون إيمانًا بالغيب على قاعدة التكليف، وأمَّا بعد إظهار فضيلة العلم، فقد كشف الغطاء، وصار وجه الفضل من باب عين اليقين.

وأمَّا الترتيب في الذكر هنا على هذا الوجه، وهو جعل السجود بعد الإنباء، فهو لنكتة بديعة:

وهي أنَّه سبحانه وتعالى لمَّا كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعمًا، فبيَّن أولاً نعمته على كلّ نفسٍ في خاصتها بخلقها، وإفاضة الرزق عليها [يشير إلى الآيات:21-22]

ثُمَّ ذكّر الكلّ بنعمة تشملهم، وهي محاجته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم عليه السلام قبل إيجاده اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة، فذكر ما آتاه من العلم، فلمَّا فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكّر بنيه بنعمة السجود له، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل " (1)

يبرز "البقاعيّ" كما ترى أثر السياق والغرض المنصوب له الكلام في النظم الترتيبيّ لأحداث القصة، وكيف أنَّهما قد يقتضيان تقديم حدث في الذكر على حدث مقدَّم في وقوع القصة، فالأعتداد بما يقتضيه الحال والمقام

***

(1) - نظم الدرر: 1/280

ص: 257

وهو حين ينظر في التصريف البيانيّ للقصة الواحدة وتصويرها بصور بيانية متنوعة يشير إلى أنَّ " المقصود من حكاية القصص في القرآن الكريم إنّما هو المعاني [أي معاني الهدى التي بها الاعتبار "عبرة لأولي الألباب"] فلايضرّ اختلاف اللفظ إذا أدّى جميع المعنى أو بعضه ، ولم يكن هناك مناقضة ، فإنّ القصَّة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة، ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يُعبِّرُ لنا في كلّ سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عمّا يليق من المعاني ، ويترك مالا يقتضيه ذلك المقام. "(1)

في هذا إشارة إلى أن الذي يقص علينا ما كان وما يكون إنِّما هو العليم الخبير جل جلاله، فهو العليم بدقائق ولطائق المعاني المكنونة في الصدور التي يقصُّ أخبارها وما كان منها وما سيكون، وهو العليم بما يملك لسان العربية من قدرات الإبانة عن لطائف المعاني وشواردها وأوابدها

وكأني بـ"البقاعيّ" يستحضر في عقله هنا مقالة " أبي سليمان: حمد الخطابيّ"(ت:388هـ) التي يقول فيها:

" وإنّما تعذّر على البشرِ الإتيان بمثْلِه لأمورٍ منها:

أنّ علمَهم لايحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها.

ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ0ولا تكملُ معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصّلُ باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أنّ يأتوا بكلام مثله.." (2)

(1) ـ نظم الدرر: 1/284

(2)

– بيان إعجاز القرآن الكريم لأبي سليمان الخطابي:26 – ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – ت: محمد خلف الله وزغلول سلام – ط: دار المعارف بمصر

ص: 258

يبيّن البقاعيّ الغاية من القصص القرآنيّ وهي بيان المعاني فإذا أديت فلا يضرّ اختلاف الألفاظ لاختلاف المقامات ذلك أنَّ الأحداث حين وقوعها تكون كاملة المعاني والله عز وجل عليم بها جميعها فيعبر عنها في كل مرة بما يلائم ذلك المقام والغرض المنصوب له الكلام.

في هذا إشارة إلى أن الذي يقصُّ علينا ما كان وما يكون إنَّما هو العليم الخبير جل جلاله، فهو العليم بدقائق ولطائق المعاني المكنونة في الصدور التي يقص أخبارها وما كان منها ومكا سيكون، وهو العليم بما يملك لسان العربية من قدرات الإبانة عن لطائف المعاني وشواردها وأوابدها، فيصطفي في كلّ مرة من النظوم ما ينقل إلينا جانبًا من جوانب المعنى بحيث يكون ذلك المنقول إلينا هو المتناسب مع السياق والغرض المنصوب له الكلام، لأنّ ذلك القصص له غاية تثقيفية تربوية تهذيبية هي المعيار في الاصطفاء معنى وصورة معنى

وأكثر ما قصّه القرآن الكريم من قصص لم يكن المخبر عنه المحكي أخبارهم بالناطقين بلسان العربيّ ولكن القرآن الكريم قد صور بلسان العربية المبين دقائق معانيهم القائمة في ألسنتهم الأعجمية وما كان من المعاني مكنونا في صدورهم التي خلقها الله عز وجل وعلم خفاياها

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَو اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللطيف الخبير} (الملك:13-14)

{يِعْلَمُ خائِنَة الأعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19)

فلم يدع بيان القرآن الكريم بلسان العربية المبين من معاني المقصوص خبرهم شيئًا بل صورها تصويرًا معجزًا

{مَا كَانَ حَدِيثًًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْء} (يوسف:111)

إنها الآية الجامعة الخاتمة المقررة حقيقة القص القرآني المجيد

***

ص: 259

وأنت تراه في سور البقرة وسورة الأعراف يقف وقفات كاشفة عن السنة البيانيّة للقرآن الكريم في نظم قصصه ولا سيّما النظم الترتيبي0

في قصة "البقرة" وقد سميت السورة بها مما يوحي بأنّها مبينة عن معالم المقصود الأعظم من السورة إبانة محكمة وإن لطفت ودقت نجده ينظر في النظم الترتيبي لها ولا سيما موقعها في سياق السورة، وفي نظمها التركيبي ّ

القصة جاءت في سياق قصة بني إسرائيل وما كان من أمرهم وفي عقب الإشارة إلى اعتدائهم في السبت، وما كان من أمرهم أن يكونوا قردة خاسئين نكالا لما كان منهم وموعظة للمتقين مثل صنيعهم، وكأنَّ فيه تحذيرًا عظيما لهذه الأمة أن تعتدي في اختيار الله سبحانه وتعالى لها: يوم الجمعة.

في هذا السياق الكاشف عن حال بني إسرائيل من قساوتهم في حق الله سبحانه وتعالى عامة وخاصة جاء البيان عن قساوتهم في مصالح أنفسهم بما كان منهم من قتل النفس بغير حقّ.

يقول البقاعي فيما يقول مبينا اقتضاء المقام إنزال قصة البقرة في سياق السورة حيث أنزلت:

" إنَّه لمَّا كان السبت إنّما وجب عليهم، وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة

كان أنسب الأشياء تعقبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه، وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت

ويجوز أن يقال أنّه لمَّا كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لايحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان، وكان في قصّة "البقرة" التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها " (1)

هذا من "البقاعي" بيان لوجه من وجوه إنزال هذه القصة في هذا المنزل من السياق الترتيليّ للسورة

(1) - نظم الدرر:1/473

ص: 260

فيها كشف لجانب من جوانب سوء صنيعهم واختيارهم وإعراضهم عن اختيار الله سبحانه وتعالى لهم، وكيف أنّهم فيما يذهبون إليه مع مقتضى اختيار عقولهم ساقطون في سوء العقبى، ففي القرن بين الخبرين مراعاة نظير، وفي هذا موعظة للمتقين أن يكون منهم انتهاج ما انتهج أولئك المعاندون من بني إسرائيل

***

وإذا ما كان البقاعيّ قد نظر في منزل قصة "البقرة" في السياق الترتيليّ من سورة البقرة فإنّه ينظر في نسق النظم الترتيبي لأحداثها فيرى أنَّ نظمها الترتيبي للأحداث لم يكن على نسق ترتيب تلك الأحداث في الوجود زمن وقوعها، وأن ذلك لمقتضى من الغرض المنصوب له الكلام.

يقول: " لمَّا قسمت القصة شطرين تنبيهًا على النعمتين:

نعمة العفو عن التوقف عن الأمر

ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق

وتنبيهًا على أنَّ لهم بذلك تقريعين:

أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال

والثاني على قتل النفس وما تبعه

ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك

وقدّم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر " (1)

كان مقتضى الظاهر أن يبدأ القصّ بقوله جل جلاله: {وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا

} (البقرة 72) وأن يكون من بعده {وإذْ قِالِ مُوسَى لِقَومِهِ....} (البقرة:67) ولكنه قدَّم مقالة نبيِّهم لهم وما كان منهم لما اقتضاه المقام ومراعاة النظائر وتقديمًا لتقريعهم على إساءة الأدب وتوقفهم عن الامتثال، وهو ناظر إلى قوله سبحانه وتعالى:{ومَوعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ليتقي كلّ مسلم انتهاج سبيلهم في حياتهم، فليس من الاقتداء بهم إلا مَعرَّة الدنيا ومذلة الآخرة

القول في القصص القرآنيّ وما فيه من نظم ترتيبي للأحداث ومواقع ذلك القصص في سياق السورة وسيع مجاله لايكاد مثلى يستوعب الإشارة مجرد الإشارة إلى كثيرًا منه، ولا سيّما في هذا المقام.

(1) - نظم الدرر 1/474

ص: 261