الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو أنّأ رغبنا في استقصاء الآيات الدالة على التوحيد إفصاحا وإفهاما في سورة النحل لأمكن أن تقول إنّ كل آية من آياتها تصريف بيانيٌّ لمعنى التوحيد لاتفاوت في الدلالة إلا في درجات بيانها: وضوحا وخفاء
***
يتبين لك مما سبق أن البقاعي يقوم تأويله على أنّ لكلّ سورة معنى كليًّا هو المهين على معانيها الجزئية هو منها بمثابة الأم من أبنائها، وأنّ هذا المعنى الكلي هو المائز بين السور، وأن في اسم كلِّ سورة دلالة على مقصودها، وهي دلالة منسُولةٌ من أنّ ذلك الاسمَ مرتبطٌ ارتباطا وثيقا بذلك المعنى الكليّ المهيمن على تلك السورة، ومن ثم لايكون معيار التسمية أو باعثه هو أن ذلك الاسم قد ذكر في تلك السورة كما سبقت الإشارة إليه.
إن الأمرَ مبعثُه ومردُّه إلى المعنى الكليِّ المُهيمن على تلك السورة وما هو مكنونٌ في ذلك الاسم من الإشارة إلى ذلك المعنى الكليّ المهيمن.
هذا لو استثمره نقَّاد الشعر في عصر"البقاعي" وما بعده وبحثوا عن المعنى الكلي المهيمن على القصيدة واختاروا لها اسما دالا على ذلك المعنى المهيمن لكانوا فاتحين للنقدالأدبي طريقا وسيعا وسبيل بديعا
- - -
المعلم الثالث.
تأويل البسملة على وفق مقصود السورة
ممايقوم عليها منهاج تأويل القرآن الكريم عند البقاعي أنَّ كلّ كلمة من القرآن الكريم إذا ذكرت مرة أخرى بحروفها في سياق آخر، فإنَّ الذي أعيد إنما هو ما ينطقه اللسان أما ما يعيه الجنان من ذلك المنطوق المعاد في سياق آخر، فإنَّه أمرٌ آخرٌ لم يَسبق وعيُه على النحو الذي هو عليه الآن وهذا ليس خاصًا بالكلمة بل بالجملة والآية، ومن ثمَّ فإنَّه ينظر إلى البسملة على أنها تحمل في مفتتح كل سورة جاءت فيها معنى غيرالذي كانت تحمله في السورة السابقة.
وهذا يعنى أنّ للسياق التى تقوم فيه البسملة أثرًا عظيما في أنْ تحمل الكلمات والتراكيب من المعاني التى لاتخلق على كثرة الرد.
يقول: " وأفسّر كلّ بسملة بما يوافق مقصود السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها "(1)
وهو في تأويله بسملة كلّ سورة إنما يَعْمَدُ إلى الأسماء الحسنى الثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم فيذكر مع كل اسم ما يتناسب مع مضمون سورة هذه البسملة شريطة التزامه مع اسم الجلالة الإشارة إلى معنى الجمع والإحاطة، ومع اسمه "الرحمن" الإشارة إلى معنى العموم والاتساع ومع اسمه "الرحيم" الإشارة إلى معنى التخصيص.
يقول في بسملة "آل عمران":
" (بسم الله) الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال، (الرحمن) الذي وسعت رحمة إيجاده كلّ مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة، (الرحيم) الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه "(2)
تلحظ هنا أنه أشار إلى معنى الوحدانية والتفرد بالإحاطة بالكمال في تأويله اسم الجلالة؛ لأن مقصود سورة "آل عمران" إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأنَّ رئاسة الدنيا غير مغنية.
وأشار في تأويل "الرحمن" إلى معنى اتساع رحمة الإيجاد لكلِّ مخلوق المشير إلى تفرده جل جلاله
وأشارفي تأويل "الرحيم" إلى معنى اختيار أهل التوحيد للقرب.
وفي تأويله بسملة سورة "النساء" يقول:
" (بسم الله) الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور، (الرحمن) الذي جعل الأرحام رحمة عامة، (الرحيم) الذي خصّ من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة "(3)
وذلك مرده إلى أنَّ مقصود سورة "النساء":
" الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه "آل عمران" والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة
…
" (4)
وغير خفي العلاقة التي بين مقصود السورة وما أوَّل به "البقاعي" الأسماء الحسنى في بسملتها.
- - -
(1) - نظم الدرر: 1 /19
(2)
- نظم الدرر:4/195
(3)
- السابق: ج5ص171
(4)
- السابق:5/ 169
وننظر في تأويله بسملة سورة " النحل" وقد سبق أن بينت أنّ مقصودها الأعظم: التدليل بالنعم على وحدانية الله تعالى وكمال علمه وقدرته واختياره، فنراه يقول:
" (بسم الله) المحيط بدائرة الكمال فما شاء فعل) ، (الرحمن) الذي عنت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره، (الرحيم) الذي خصّ من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه "(1)
قوله (المحيط بدائرة الكمال) دون قوله: (المحيط بالكمال) إشارة إلى اتساع إحاطته بجميع أنواع الكمال بحيث تحيط بها دائرة تتجه فيها جميع أنواع الكمال نحو مركز الدائرة، وهو الذَات الإلهية، فلا تستطيع تحديد أوّل أنواع الكمال ولا آخرها، فكلّ ما يحتويه مظهره القولي والفعليّ يدور في دائرة الكمال الإلهيّ، ولا شكّ أنّ ذلك لن يكون إلا إذ كان مركز الكمال واحدًا فإذا كان واحدًا كان كامل العلم والقدرة وكامل الاختيار يفعل ما يشاء منزها عن شوائب النقص كلِّها
ويفسر اسم (الرحمن) بقوله: (الذي عمّتْ نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره) إشارة إلى أنَّه هو الذي أنعم على الإنسان وهداه إلى ما فيه استقرار معيشته ودلّه على وسائل تحصيل ضرورات حياته وكمالاته، وهو الذي أنعم على أحقر المخلوقات حجما من الدواب والحشرات بذلك أيضًا، كذلك هو الرحمن الذي أنعم بالوحي على أكمل الخلق صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ما فيه سعادة الدارين وهو الذي أوحى إلى حشرة النحل وألهمها ما فيه سعادتها وسعادة غيرها، ولايستطيع تعميم ذلك إلا من كان واحدًا كامل العلم والقدرة يفعل ما يشاء وهذا هو مقصود السورة
(1) – السابق: 11/101
وأنت تراه يذكر قوله (جليل خلقه) اولا، ويختم بقوله (وكبيره) وفي هذا نظر منه إلى اللف الدائري، فذلك مما عُنيَ البقاعيّ بالنظر فيه، فيكاد يُقيم نظرَه في التناسب القرآني على أساس نظرية النظم الدائري للبيان سواء في بناء الآية أو المعقد أو السورة بل القرآن الكريم كلّه
ويفسر اسم (الرحيم) بقوله:" الذي خصّ من شاء بنعمة النجاة مما يستخطه بما يرضاه " إشارة إلى أنَّه الذي خصَّ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا بإنزال القرآن الكريم عليه (ي:44) وبالتبشير بالإسراء (ي:127)
وخص الخليل أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بانْ جعله قدوة النبيّ محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا (ي:123)
وخصّ المسلمين بالقرآن الكريم منهاج حياة فأنجاهم من سخطه بالدين الذي ارتضاه لهم (ي:89)
وخصّهم بأنْ أحلّ لهم كثيرًا ممَّا حرم على غيرهم (ي:114)
وخصّهم بقبول يوم الجمعة الذي رفضه غيرهم من أهل الكتاب من قبلهم فكان بركة على الأمة المحمدية (ي:124)
وخصّ النحلَ بدقة الفهم في هندسة البيوت ورعايتها لشئونها بنظام يستمد منه الإنسان كثيرًا من منهاجه (ي:68-69)
وهذا لايكون إبدا إلا من واحد كامل العلم والقدرة يفعل ما يشاء
كذلك يتبين لك منهاج البقاعيّ في تأويل معاني البسملة في سورة النحل على وفق مقصودها الأعظم وهو المعنى الكليّ الذي جاءت كلّ آياتها لبيانه بطرق مختلفة في وضوح دلالتها عليه
***
وأنت إذ تنظر في صنيعه هذا يتبين لك أنَّ ما يؤوّل به البسملة لا يستنبطه من مقصود السورة بل هو يذكر من المعاني ما يتواءم مع ذلك المقصود، فليس منهاجه في هذا المبحث خاصّة منهجا استنباطيا بل منهاجه توفيقيا يذكر ما يتوافق مع ما تبين له من ذلك المقصود، وكل ما التزم به الأصول الكلية لمعانى الأسماء الثلاثة:"الله" و"الرحمن" و"الرحيم".
وتأويل البسملة في كل سورة على غير ما أولت به في السورة الأخرى لم يك من ابتداع "البقاعي".
أنت تلقاه في تفسير " الإمام القشيري: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك "(ت:465) المسمى: " لطائف الإشارات" وإن اختلف المنهاج التأويلي ومناطه عند كلٍّ.
يقول" القشيري" في بسملة سورة " آل عمران":
" اختلف أهل التحقيق في اسم " الله " هل هو مشتق من معنى أمْ لا؟ فكثير منهم قالوا أنه ليس بمشتقٍّ من معنى، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص، يجري في وضعه مجرى أسماء الأعلام في صفة غيره، فإذا قرع بهذا اللفظ أسماع أهل المعرفة لم تذهب فُهُومُهُمْ ولاعلومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وتعالى وحقه
وحقُّ هذه المقالة أن تكون مقرونة بشهود القلب، فإذا قال بلسانه " الله " أو سمع بآذانه شهد بقلبه " الله "
وكما لاتدلُّ هذه الكلمة على معنى سوى " الله " لايكون مشهودُ قائلها إلَاّ "الله"، فيقول بلسانه" الله"، ويعلم بفؤاده"الله"، ويعرف بقلبه"الله "، ويحب بروحه" الله "
…
فلا يكون فيه نصيب لغير"الله " وإذا أشرف أن يكون محوًا في"الله" لـ" الله "بـ"الله" تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله"الرحمن الرحيم"استبقاء لمهجتهم أن تتلف، وإرادة في قلوبهم أن تنقى فالتلطف سنة منه سبحانه وتعالى لئلا يفنى أولياؤه بالكلية " (1)
غير خفي أن "القشيري يركز هنا على معانى توحيد الله جل جلاله ذكرا وعلما وعبادة وشهودا
…
إلخ وكأنه يلاحظ معنى التوحيد في سورة "آل عمران" وهو كما ترى يشير إلى أن ذكر اسمه "الرحمن الرحيم" إنما يأتى رحمة بالأولياء من الفناء في بحار تجريد التوحيد. وهذا مخالف لمنهاج البقاعي في تأويل البسملة
ويقول " القشيري " في تأويل بسملة سورة " النساء ":
(1) - لطائف الإشارات للقشيري: ج1ص 217-218 - إبراهيم بسيوني - الهيئة المصرية العامة للكتاب
" اختلفوا في الاسم عن ماذا اشتق، فمنهم من قال إنه اشتق من السمو، وهو العلو، ومنهم من قال إنه مشتق من السِّمة وهي الكيّة.
وكلاهما في الإشارة: فمن قال إنّه مشتق من السُّمو فهو اسمٌ من ذكرَه سمتْ رتبته ومن عرفه سمت حالته ومن صحبه سمت همته؛ فسموّ الرتبة يوجب وفور المثوبات والمَبَارّ، وسموالحالة يوجب ظهور الأنوار في الأسرار، وسمو الهِمَّة يوجب التحرز عن رِقِّ الأغيارِ.
ومن قال أصله من السّمة فهو اسمٌ من قصده وُسِمَ بسِمة العبادة، ومن صحبه وُسِمَ بِسِمَةِ الإرادة، ومن أحبّه وُسِمَ بسِمة الخواصّ، ومن عرفه وُسِمَ بِسِمَةِ الاختصاص، فسِمة العبادة توجب هيبة النَّار أنْ ترمي صاحبها بشررها، وسمة الإرادة توجب حشمة الجِنان أنْ تطمع في استرقاق صاحبها مع شرف خطرها، وسِمَة الخواص توجب سقوط العُجْبِ من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.
ويقال اسمٌ مَنْ واصله سما عنده عن الأوهام قدرُه سبحانه، ومن فاصله وُسِم بكيّ الفرقة قلبه " (1)
"القشيري" كما تراه جعل مناط التأويل في بسملة "النساء" اشتقاق كلمة "الاسم" والدلالة الإشارية لهذا الاشتقاق، وكأنّى به يلحظ في هذا معنى اشتقاق الذرية من الأرحام ويلحظ معنى قول الله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1)
فتناسل المعاني من أصل الاشتقاق يقيم بينها رحمًا دلالية كمثل الرحم القائمة بين ذرية أبينا آدم عليه السلام
(1) - السابق: 1/310
وأنت إذا ما نظرت في تأويله بسملة سورة "الحجر" سمعته يقول: "سقطت ألف الوصل من كتابة "بسم الله"، وليس لإسقاطها علة، وزيد في شكل "الباء" من "بسم الله" وليس لزيادتها علة؛ ليعلم أنَّ الإثبات والإسقاط بلا علّة؛ فلم يقبلْ مَنْ فبلَ لاستحقاق علة، ولا ردَّ من ردَّ لاستيجاب علّة.
فإنْ قيل: العِلّة في إسقاط الألف من "بسم الله" كثرة الاستعمال في كتابتها أُشْكِلَ بأنَّ"الباء"من"بسم الله" زيد في كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة
فإنْ قيل: في زيادة شكل "الباء" بركة أفضالِها أشْكلَ بحذف ألف الوصل؛ لأنّ الاتصال بها موجود. فلم يبق إلَاّ أنَّ الإثباتَ والنَّفيَ ليسَ لهما عِلّةٌ يرقع من يشاء ويمنع من يشاء " (1)
جعل مناط التأويل هنا الجانب الكتابي للبسملة: إسقاط حرف وزيادة في شكل حرفٍ آخر متجاورين، ملاحظا انتفاء العلة المعقولة عربيةً بحيث يتحقق المعلول حيث تتحقق العلة وبين أنَّ الأمر إنَّما هو لمطلق المشيئة الإلهية، وأنه ليست هناك عِللٌ تكون المعلولات بكونها، بل هنالك أسباب تكون المسببات عندها وليس بها، وفرق بين أن يكون الشيء بالشيء وأن يكون عنده، وكأنِّي به في اختياره الإشارة إلى هذا المعنى في تأويل بسملة سورة الحجر ناظر إلى قوله عز وجل فيها:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر21)
وكأنّ هذه الآية هي الآية الأمّ والآية المحور التى عليها مدار المعنى القرآني الكريم في سورة الحجر.
المُهِمُّ أنَّ تأويل بسملة كل سورة على غير تأويل بسملة الأخري منهاج قد جاء به بعض أهل العلم من قبل "البقاعي" ولِكُلٍّ سنتُه في التأويل، والذي يُؤخذُ من هذا كلّه أن الآخذين بتلك السنة في التأويل ينزعون من أمر له قدره في الفقه البياني للخطاب:
(1) - لطائف الإشارت للقشيري:2/262