المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة - الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن

[محمود توفيق محمد سعد]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه

- ‌الفصل الثاني جِهَادُ قَلَمٍ

- ‌موقف العلماء من تفسيره:

- ‌البَابُ الثّانِي:منهاجُ تأوِيلِهِ بَلاغَةَ القرْآنِ الكَرِيم

- ‌التناسب القرآني عند البقاعي

- ‌مستويات التناسب

- ‌{الأول: النظم التركيبي

- ‌{الآخر: النظم الترتيبي

- ‌الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)

- ‌تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم

- ‌بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها

- ‌علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبله

- ‌مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد

- ‌رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ

- ‌الفصل الثَّاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة

- ‌تحقيقُ مقصودِ كُلِّ سُورةٍ، وتصاعُدِ معانيه

- ‌علاقةُ اسمِ السُّورَةِ بمقصُودِها

- ‌تأويل البسملة على وفق مقصود السورة

- ‌براعةُ الاستهلالِ وعلاقتُه بمقصودالسورة

- ‌ردُّ مَقطَعِ السورة على مطلعها

- ‌علائقُ الآياتِ في بناء المَعْقِدِ

- ‌تأويل النظم في القصص القرآني

- ‌بيانُ النَّظمِ التَّرتِيبي للجُملِ في بناء الآية القرآنية

- ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

- ‌تأويل التصريف البياني

- ‌التوجيه البياني للقراءات القرآنية

- ‌تبِيْان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية:مادة وصيغة

- ‌بيان المصادر والمراجع

الفصل: ‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

مجمل الأمرأن النظم الترتيبي في بناء الآية القائم على العلاقات السياقية بين الجمل يفتقر متدبره إلى مزيد من اللقانة ورهاقة الحس ونفوذ الذوق والقدرة على استبصار منابع الماء وإلى أن تكون معرفته معرفة الصَّنع الحاذقِ الذي يعلمُ كلّ خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكلَّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع وكلّ آجرة من الآجر الذي في البناء البديع، كما يقول الإمام عبد القاهر.

المعلم التاسع.

‌تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة

أشرت قبل إلى أنّ النظم عند " البقاعيّ" نوعان:

نظم ترتيبيّ أضيق مجالاته أن يكون بين الجمل النحوية وهي تشكل بناء الآية القرآنية وتكون العلائق بين هذه الجمل علائق سياقية وليست علائق إعرابية ذات معايير نحوية، وقد نظرت في موقف البقاعيّ من تأويل ذلك النمط من النظم، ومَنْزِلَهُ في الإعجاز البيانيّ للقرآن الكريم.

ونظم تركيبي يكون بين عناصر بناء الجملة النحوية أساسه العلائق النحوية بين مكونات الجملة.

ومن البين أن الجملة النحوية وإن امتدت وتكاثرت عناصرها وتنوعت فكانت ألفاظا وكانت جُملا في قوة المفرد (لها محل من الإعراب) إنِّما أساس العلائق علاقة الاسناد القائم بين مسند ومسند إليه ثُم يبنى على تلك العلاقة الإسنادية الأم علائق أخرى كمثل علاقة التبعية أو علاقة التضايف أو التعلق

بعضُ الآيات القرآنية وإن تكونت من جمل عدة، فإنك إذا نظرت في هذه الآية رأيت العلائق بين جملها علائق نحوية، بل إنّ بعض السّور ليست إلَاّ جملة نحوية تحتضن في سياقها جملا صغرى متعلقة ببعضها تعلقًا نحويا

ص: 270

انظر سورة (والعصر) ماذا ترى؟ لا ترى إلا جملة نحوية واحدة تعلَّقت مكونها كلُّها ببعضها تعلُّقا نحويًّا، ومن ثَمّ فإنّ السُّورة كلَّها قائمة من النَّظم التركيبيِّ، وليس النَّظم الترتيبيّ، وهذا ما تراه أيضًا في سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أحدٌ) وعلى الرّغم من ذلك فهي معجزة الخلائق أجمعين.

و"البقاعيّ" في تأويله النظم التركيبيّ في بناء الجملة يربط دلالة التركيب وسمات الأسلوب بالسياق القريب والبعيد للجملة وبالقصد الرئيس من السُّورة أحيانًا، وإن كان بيانه ارتباط الدلالة التركيبية للجملة بالسِّياق الممتدِّ للجملة قد يكون خافتا لايبصره من كان متعجلا

وغير خفي أنّه كلّما اتسعت دائرة السياق كانت علاقة خصائص بناء الجملة به أدخل في اللطف الذي يفتقر المتدبِّره إلى فيض من اللقانة العقليِّة والصفاء الذوقيِّ

*****

لاريب في أنَّ أساليب وأنماط البناء التركيبيّ إنما هي أساليب وأنماط جدُّ عديدة لاتكاد يحاط بها فضلا عن أنْ تحصى، وهذا يقيمنا في مقام المضطر إلى أن يأخذ وأن يدع، وأنْ يُجملَ وألا يستوفي التفصيل فيما يأخذ، فثمَّ معابتان لاقِبَلَ لى أن أتطهر منهما:

معابة أخذ بعض الأساليب وترك بعضها،

ومعابة الإجمال أو الاكتفاء من الأسلوب ببعض صوره، فهذه معابة في البحث العلمي نكراء أبغضها أيَّما إبغاض.

كم كنت راغبا في الأ أتلطخ بأي منهما ولكنَّ الغاية التي نصبت لهذا البحث لاتدع لى مجالا للتقية.

***

ومن النظم التركيبيّ الذي عُنى به البقاعي مثلا التخصيص ومسالكه الذي يطلق عليه البلاغيون (القصر)

ومن البيّن أنّ مسالك التخصيص في العربية جِدُّ عديدة، وإن كانت عناية البلاغيين بضربٍ ذي خصوصية في الدلالة على التخصيص، فهم في دراستهم لطرق القصر اختاروا طرائق معينة (النفي والاستثناء، وإنما، والتقديم، والعطف بـ (بل) و (لكن) ، و (لا) وضمير الفصل وتعريف الطرفين.

ص: 271

وكان معيار الاصطفاء هو طريق الدلالة على ذلك المعنى، وليس كلُّ ما دلّ على التخصيص عند غير البلاغيين هو من التخصيص الاصطلاحي عند البلاغيين الذي يسمونه (القصر)

ومن ثَمّ فإنّ دراسة طرق القصرعند البلاغيين هو - عندي - من علم البيان وليس من علم المعاني. (1)

(1) علم البيان هو العلم المَعْنِىُّ بدراسة طرائق الدلالة على المعاني، وليس هو بالمَعْنِىّ بدراسة المعاني نفسها ولا دراسة كيفية تركيب وتأليف الصورة الدالة على المعنى

علينا أن نفرِّق بين دراسة المعنى نفسه من حيث هو، ودراسة الصورة الدالة عليه من حيث منهاج تأليفها، ودراسة صورة المعنى من حيث وجه دلالتها وطريق دلاتها على ذلك المعنى.

كلّ دراسة لطريق دلالة الصورة على المعنى هي من علم البيان أيًّا كانت الصورة: تشبيهًا أو تقديمًا أو حذفًا، أو أمرًا أو نهيًا أو فصلاً ووصلاً أو تورية أو مطابقة أو تجنيسًا....إلخ ومن ثَمّ فإن علم البيان وسيع غير محصور في التشبيه والمجاز والكناية كما قد يتوهم بعض طلاب العلم، وما هذه الثلاثة: التشبيه والمجاز والكناية إلا أظهر وأشهر، ولكنها ليست بالمحصور فيها علم البيان.

وعلم المعاني هو العلم الذي ينتهج النظر في المعاني من حيث هي، وفي تأليف الصور الدالة عليها

فطريقة التأليف بين مكونات أسلوب الاحتباك أو اللف والنشر أو الاستخدام أو الالتفات أو التقييد والإطلاق أو التوكيد أو المقابلة أو المزاوجة أو حسن التقسيم وغيرذلك إنما هو من علم المعاني، فالفرق بين العلمين فرق في المنهج الذي يدرس به الأسلوب وليس فرقا في ذات الأساليب التى يدرسها كل علم، فلا يقال التقديم والحذف والفصل من علم المعاني وحده مثلما لايقال التشبيه من علم البيان أو الجناس وردّ الأعجاز من علم البديع، الأمر مرده إلى منهاج التناول والدرس، وليس إلى الأسلوب الذي يدرس فكل أسلوب يدرس في العلوم الثلاثة بمناهج ثلاثة لكلّ علم منهاجه

ومثل الذي قلته في التخصيص نقوله في غيره.

ص: 272

هو في تأويله التخصيص الذي يطلق عليه البلاغيون (القصر) معنيّ بأمور منها طرائقه ودلالتها وعلاقة ذلك بالسياق وبالقصد القريب أو البعيد أحيانا تراه يصرّح بأنّ طريق "النفي والاستثناء هو أصرح أنواع الحصر فيقول في قول الله سبحانه وتعالى:

{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلّظَّى * لايَصْلاهَا إلَاّ الأشقَى * الّذِي كذَّبَ وتَوَلَّى} (والليل:14-16)

" لمَّا كان قد تقدَّمَ غير مرة تخصيص كلّ من المحسنِ والمسيء بداره بطريق الحصر إنكارًا لأنْ يسوّى محسنٌ بمسيء في شيءٍ، وكان الحصر بـ (لا) و (إلا) أصرح أنواعه قال (لايصلاها) أي يقاسي حرّها وشدّتها عن طريق اللزوم والانغماس (إلا الأشقى) أي الذي هو في الذروة من الشقاوة، وهو الكافر"(1)

تبصَّر قوله " أصرح أنواعه، فهذا دالٌّ على أنّه ناظر في طريق ودرجة دلالته على معنى الحصر، وهذا من خصائصِ علم البيان

" علمٌ يعرفُ به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه " كما يقول "الخطيب " في "الإيضاح"

وهو يبين لنا وجه اقتضاء المقام البيان بأصرح طرق التخصيص النفي والاستثناء

المقام قاضٍ بألَاّ يكون لبس البتة في التفريق بين مصير المحسن والمسيء ودار كلّ في أخراه، فكان لزامًا أن يكون الحصر بأداة دلالتها على الحصر دلالة وضعية لايتوقف فيها أحد، ولا تكون لها دلالة على غيره في أيِّ سياقٍ آخرَ، فالنفي الاستثناء المفرَّغ يستفاد منه معنى الحصر بطريق الوضع ـ ولاتجد هذا الطريق دالا على غير الخصيص بحال، بخلاف إنما أو التقديم أو التعريف....

والبقاعي ينظرفي موضع آخرللحصر بالنفي والاستثناء، واصطفائه من بين طرق الحصر الأخرى

(1) – نظم الدرر:22/94

ص: 273

يقول الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)

إذا ما نظرت في هذه الجملة رأيت أنَّ خبر المسند إليه المعبَّر عنه باسم الإشارة جاء جملة بُنِيَتْ من أسلوب قصْرٍ طريقه النفي والاستثناء، والنظر يقف عند كلمتين من عناصرهذه الجملة الواقعة موقع المسند:"يأكلون" و" النّار" فيحسب حاسِبٌ أنّ في كلٍّ تحولا دلاليّا، ولكنّ البقاعي يرى في اصطفاء النفي والاستثناء طرقَ حصر في الآية مانعًا يمنع حسبان التجوز، فيقول:

" وفي ذكره بصيغة الحصر نفي لتأويل المتأول بكونه سببًا، وصرفٌ له إلى وجه التحقيق الذي يناله كشف يقصر عنه الحسّ، فكانوا في ذلك كالحَدِر الذي تحصل يده في الماء ولا يحسّ به، فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه "(1)

سياق الآية متحدثٌ عن أولئك الأحبار الكاتمين ما أنزل الله سبحانه وتعالى ليشتروا به ثمنا قليلا، وذلك أحطُّ ما يمكن أن يصل إليه مشتغل بالعلم او منتسب إليه، فبيّن "البقاعيّ" أنّ التصريح بقوله سبحانه وتعالى (في بطونهم) يتناسب مع عطاء الحصر إذ يرفعان حسبان التجوز في الأكل أو النار، فكلاهما حقيقة لامجاز (2)

(1) - نظم الدرر: 2 / 351

(2)

- ثَمَّ أمر ذو بالٍ في هذا متعلق بالقول بالتجوز في بعض كلمات القرآن الكريم أو تراكيبه يظن أنَّ دلالته على ما كان حسيًّا من معانيه دلالة حقيقية، وما كان معنويا منها كانت دلالته مجازية، كمثل ما هنا، وكمثل العمى في قول الله تعالى:((ومنْ كانَ فِي هذِه أعْمَى فَهُوَ فِي الآخرة أَعْمَى..)) (الإسراء:73)

وهذا مرده عند القائلين به حسبانهم أن الإنسان الأول لم يكن يستخدم الكلمات إلا في الدلالة الحسية، فلمَّا ارتقى حضاريًّا أدرك المعنويات فاستعار لها من ألفاظ ما يشابهها في المحسوسات

هذا حسبان ضِلِّيلٌ: إنّ الإنسان الأول في هدي الكتاب والسنة إنما هو آدم أبو البشر، وهو نبيّ خلقه الله تعالى بيده وعلَّمه الأسماء كلها وأسكنه الجنة نموذج الجمال الحسيّ والمعنوي، فلم يكن يومًا غافلا عن الدلالات المعنوية للكلمات.

إن الكلمات لتتسع دلالتها لكثير من المدلولات الحسية والمعنية دون مفاضلة بتقديم أو سبق وضع أو غير ذلك، وإن تفاوتت درجات الوضوح في الدلالة على هذه المدلولات، وليس تفاوتا وضعيًّا، فليست دلالة كلمة "العمى" على فقد عين القلب (البصر) القدرة على إدراك المحسوسات هي الدلالة الحقيقية الوضعية ودلالتها على فقد عين القلب (البصيرة) على إدراك المعنويات هي الدلالة المجازية للمشابهة، كلاّ

كلمة العمى دالة على فقد القدرة على رؤية الأشياء

والرؤية نوعان رؤية لمحسوس الأشياء وهذا لعين الرأس (البصر)

والرؤية لمعنويها وهذا لعين القلب (البصيرة)

من فقد أيَّهما فهو أعمى حقيقة لامجازًا

ص: 274

فهي نارٌ حقيقية تحرق

المعاني الباطنية التي بها يكون المرء آدميًّا، وعدم الإحساس بهذه النار لبلادة حسّهم لا لعدم وجودها فيهم أو وجودهم فيها، واصطفاء النفي والاستثناء لايتناسب معه القول بالتجوز في النار أو الأكل،لأنّ التجوز فيه ادعاء وفي الحصر بهذا الطريق قطع وحسم

والجريمة هنا لايقدم عليه إلا من بلغ في الضلالة والقطيعة مبلغا عظيما، فمن كان من علماء الكتاب الإلهي المنزل ثُمّ يستبدل به عرضًا من أعراض الدنيا التي لاتزن عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة لايكن صنيعه هذا إلَاّ من احتراق معانى الخير فيه احتراقًا بالغًا

وفي هذا تحذير لعلماء الأمة المحمدية من أن يكتموا شيئًا مما أنزل الله سبحانه وتعالى ارضاء لذي سلطة أو خوفًا منه أو تطلعًا إلى متاعٍ من الدنيا

***

وننظر في موضع آخر من مواضع تأويل البقاعي أسلوب التخصيص في قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (صّ:65)

يرى البقاعيّ أنّ القصرَ في (إنما أنا منذر) قصر موصوف على صفة قصرَ قلبٍ، وأنَّه في (وما من إله إلا الله الواحد القهار) قصر صفة على موصوف قصر إفرادٍ

يقول: " ولمَّا كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا: عجل لنا هذا إن كنت صادقًا فيما ادعيت، ومن المقطوع به أنَّه لايقدر على ذلك إلَاّ الإله، فصاروا كأنّهم نسبوه إلى أنَّه ادعى الإلهية، قال تعالى منبهًا على ذلك أمرًا له بالجواب (قل) أي لمن يقول لك ذلك (إنّما أنا منذر) أي مخوف لمن عصى، ولم أدّعِ أنّي إله ليطلبَ منى ذلك، فإنّه لايقدر على مثله إلا الإله، فهو قصر قلب للموصوف على الصفة.

وأفرد قاصرً للصفة في قوله (وما) وأغرق في النفي بقوله (من إله) أي معبود بحق، لكونه محيطا بصفات الكمال

ص: 275

ولمَّا كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين، فقال (إلا الله)

وللإحاطة عبّر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى، ولو شاركه شيء لم يكن محيطًا، وللتفرد قال مبرهنا على ذلك (الواحد) اي بكلّ اعتبار، فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه، فيكون محتاجا مكافئا (القهار) أي الذي يقهر غيره على ما يريد، وهذا برهان على أنّه الإله وحده، وأنّ آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافؤها بالمشابهة واحتياجها " (1)

السياق والقصد هاديان إلى انّ التركيب في (إنما أنا منذر) دالٌّ على قصر النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا على صفة الإنذار، وإبعاده من مظنة أنه يدَّعِى الإلهية، فإنّ من عادتهم التي درجوا عليها عند تخويفه لهم بسوء العقبي أن ينسبوه إلى ادعاء ما لايكون إلا من الله سبحانه وتعالى، ويطالبونه أن يأتي لهم بما يخوفهم به، فيأتي البيان القرآني الكريم قالبًا عليهم دعواهم نسبته إلى ذلك مؤكدًا أنَّه لايعدو أن يكون منذرًا مخوفًا كما أوحي إليه.

تعيين الصِّفة المنفيّة في القصر بإنّما هنا مرتبط ارتباطا وثيقًا بالسياق، وموقف المخاطبين منه، وهو ناظرٌ إلى السياق القريب القائم في تبيانِ مآب المتقين، ومآبِ الطاغين، وما اشتمل عليه من التهديد للمكذبين، وإلى حال المكذبين حين يواجهون بذلك التهديد والبيان لمآلهم إن هم أقاموا عليه.

وإذا ماكان "البقاعيُّ" على أنَّ المنفيّ في (إنما أنا منذر) هو دعوى الألوهية، فإنَّه يشيرُ من بعد قليل إلى أنّ في ذلك أيضًا نفيا لدعوى أنَّه كذّاب.

وكأنّ التركيب في هذا السياق يَرْنُو إلى أوَّلِ السياق وآخره:

(1) - نظم الدرر:6 /413

ص: 276

آخره يهدي إلى أنّ الوصف المنفيّ في (إنما أنا منذر) هو دعوى الألوهية، وأوَّلُ السيَّاق {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (صّ: من الآية4) يهدي إلى أنّ الوصف المنفيّ في (إنّما أنا منذر) هو الكذب

يقول البقاعيّ من بعد ط ولمَّا قصر نفسه الشريفة على الإنذار، وكانوا ينازعونه فيه، وينسبونه إلى الكذب دلَّ على صدقه وعلى عظم هذا النبا بقوله جل جلاله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (صّ:69)

فهو يَلْمَحُ في قول الله سبحانه وتعالى (ما كان لي من علمٍ

) دلالة على صدقه فيما يخبر به عن ربه دمغًا لدعواهم أنّه كذَّاب، وويلمح فيه تاكيد مفهوم القصر في (إنما أنا منذر) على الوجه الآخر

وكأنّ القصر في (إنّما أنا منذر) قد اكتنفه ما يهدي إلى أنّه يقصر نفسه على الإنذار وينفي عنها ما يرميه به بعضهم من دعوى الإلهية والقدرة على الإتيان بما يهددهم به، وينفي عنها ما يرميه به الآخرون من أنّه كذّابٌ، فالتركيب حاملٌ الدلالة على انتفاء الوصفين بمعونة السياق والقرائن الكتنفة.

***

ولننظر في نمط تركيبي آخر عليّ المنزل ماجد العطاء كريمه:أساسه منازل الكلم في بناء الجملة يعرف عند علماء البيان بالتقديم والتأخير.

والوقوف على منازل الكلمات ومجالات حركتها في بناء الأسلوب ذو أهمية مجيدة وهو في الوقت نفسه ذو صعوبة بالغة، ولعلَّه لذلك كانت عناية عبد القاهر الجرجاني بالتقديم والتأخير ومنازل الكلمات ورتبها في بيان عمود بلاغة الكلام (النظم) فقد أكثر من الإشارة إلى التقديم والتأخيروالترتيب، وأفرد للتقديم فصلا خاصا في دلائل الإعجازاستهله بتوطئة نبيلة يقول فيها:

ص: 277

" هو باب كثير الفوائد جمّ المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لايزال يفترّ لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفة، ولاتزال ترى شعرًا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثُمَّ تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قُدّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان"(1)

توطئة علِيَّة النظم والصياغة أرى أنها قد صيغت على نهج يكشف به الإمام عن شيءٍ من منزلة التقديم والتاخير في نظم البيان، وفي الوقت نفسه يغرينا بالتلبث عند ذلك المنهاج البياني لنوفيه بعض حقه ولتجتنى بعض ثمره.

وهو قد فعل مثل ذلك مع باب (الحذف) ومع باب (الفصل والوصل) وهي أبواب كاد يستكمل القول فيها في موطنها.

والبقاعي ذوعناية بأسلوب التقديم والتاخيروالترتيب، بل هو يجعل التقديم والتأخبر والترتيب في بناء الجملة ممَّا أسماه النظم التركيبي.

لايكون ثقديم إلا إذا كان هناك عدولٌ بالشيء عن محله الذي هو له في الأصل، فكلُّ ما وضع على أن يكونَ سابقًا فلا يكونُ من التقديم المبني على العدول دَِلالةً على مرغوب في الإبانة عنه، فتقديم أدوات الاستفهام أو النفي لايقال إنَّ من ورائه معنًى يسبق المتكلِّمُ بالتقديم إليه سبقًا اقتضى منه مَصْنَعًا واختيارًا، بل هو تقديمٌ من أصل اللغة، وقائمٌ فريضةً في كلِّ لسان متكلم بالعربية، فلا فَضْلَ للمتكلمِ في هذا التقديم، بل الفضلُ - وهو قائمٌ متقرِّرٌ - لفطرة لسان العربية المبين.

ومثل هذا تقديم الخبر شبه الجملة على المبتدأ النكرة لايكون من ورائه سبقا قد رمى إليه المقدّم له على ما هو الفطرة البيانية في العربية بل ترى في تقديم ذلك المبتدأ حين إذٍ سبقا إلى سعي للدلالة على معنى لا يكون إلا بذلك السبق المبني على العدول عما هو أصل الفطرة البيانية.

(1) - دلائل الإعجاز لعبد القاهر:106 - ت: محمود شاكر - ط: المدنى - مكتبة الخانجي

ص: 278

ومن ثمَّ فأنَّ التقديم ينظرُ في عدول الكلمة أو المقدم عن محله الذي له إلى محل سابق، وهذا قد يستصحبه عدول عن الاسم الذي كان له أو لايستصحبه.

وإذا ما كان البلاغيون المتأخرون قد كانت عنايتُهم مصروفةً أوَّلاً إلى تقديم أحد ركنى الجملة على الآخر، ثمَّ تقديم المتعلقات على ما تتعلق به أو ما أسند إليه ما تتعلق به أو تقديم المتعلقات بعضها على بعض فإنَّ البقاعيّ تمتدّ نظرته إلى تقديم عناصر عديدة سواء ما كان من ركني الجُملة أو قيودها أو متعلقاتها.

*****

يقول الحق جل جلاله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (الانبياء:1)

ينظر البقاعيّ في نظم الآية، فيرى تقديما لمتعلّق الفعل وتأخيرُأ للفاعل، فيبيّن لنا أنه " جاء البيان بتأخير " الفاعل " وتقديم متعلَّق الفعل، لأنّ في هذا التأخير" تهويلا، لتذهب النّفس في تعيينه كلَّ مذهب" (1)

وهذا يتناسب مع مقصود السورة وما سيقت له من " الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير "(2)

وكأنَّ في الاستهلال بصيغة الافتعال (اقترب) دون الفعل المجرد (قرب) الإشارةَ " إلى مزيدِ القرب؛ لأنّه لا أمَّة بعد هذه الأمة ينتظر أمرها " فهي في نَفَسِ السَّاعة

فتلاقى البيان بصيغة الافتعال وتأخير الفاعل في الدلالة على شدة قرب الساعة وشدة هول ما فيها

(1) - نظم الدرر:12 /379

(2)

- نظم الدرر: 12 /378

ص: 279

وقوله " لتذهب النفس في تعينه كلّ مذهب " فيه دلالة على أنَّ اتساع المدلول وتنوعَه قد لايكون البيان عنه بكلمة ينطق بها اللسان بل قد تكون بالعدول عن موقع للكلمة إلى موقع آخر، وكأنَّ تخلى الكلمة عن موضعها الذي هو لها إنّما هو لأمر جليل عجزت عن الوفاء بحقه ضروب من الإبانة الناطقة بكلمة، فانْتُدِبَ للوفاء بحقه العدولُ عن مواقع الكلمات، وفي هذا تأديب للأمة أن على كلّ ذي موقع يرى أنَّ في التأخر عنه أو التقدم عليه ما يمنح هذه الأمة فيضًا من النعمة فإنَّ من الأدب العَليّ الأخذَ به نزولاً على مقتضى حالها، فكم من مقدّم في وضع الحياة تقضي بعض الأحوال تأخُّره وتقديم من هو دونه في مرتبة وضعه، فالاعتداد بما تقضي به الأحوال.

***

ومما كان العدول فيه ماجد العطاء قول الحق عز وجل:

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} (الأحزاب:26)

ما يحيط بالآيات يرسم الهول والفزع والتنكيل الذي أصاب اليهود المظاهرين للأحزاب، والبيان عن بني قريظة بالموصول وصلته (الذين ظاهروهم) لايخفى عطاؤه، وإبرازه الاشتهار بالصلة ومطابقة الجزاء لجريرتهم، فكان إنزالهم من معاقلهم آية الجزاء على هذه الخيانة، ومجرد البداية بهذا في سياق الهول والتنكيل يفهم منه أنّه إنزال إهانة، ولكن " البقاعي" يرى أنَّه " لمَّا كان الإنزال من محل التمنع عجبًا وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحا في الإذلال، فتشوقت النفس إلى بيان حاله بين أنّه الذّل، فقال عاطفا بـ"الواو" ليصلح لما قبل ولما بعد {وقذف في قلوبهم الرعب}

" (1)

وهو يوجه العطف بـ" الواو " بأنه كان ليصلح قوله {قذف في قلوبهم الرعب} أن يشير إلى رُعْبَينِ:

الرُّعبُ الذي أنزلهم من صياصيهم

(1) - نظم الدرر: نظم الدرر:15 /333

ص: 280

والرعب الذي مَلأهم، وَهُمْ في قبضة المسلمين.

أحدهما قبل الإنزال، والآخر بعده

وقد صرح بالرعب الثاني {وقذف في قلوبهم الرعب} لهول ما ترتب عليه، وهو قوله: جل جلاله {فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} بخلاف ما ترتب عليه الإنزال الأول.

ويتدبر تقديم المفعول في {فريقا تقتلون} فيرى أنه " لمَّا ذكر ما أذلَّهم به ذكر ما تأثرعنه مقسّما له فقال (فريقا) فذكره بلفظ الفرقة، ونصبه ليدل بادئ بدء على أنَّه طوعٌ لأيدي الفاعلين (تقتلون) وهم الرجال، وقد كانوا نحو سبع مئة.

ولمَّا بدأ بما دلَّ على التقسيم مما منه الفرقة، وقَدَّمَ أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب أَوْلاهُ الأثرَ الآخرَ؛ ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة، فقال:(وتأسرون فريقا) وهم الذراري والنساء.

ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم الرجال لتحتم القتل فيهم " (1)

جلى البقاعي عطاء مادة (فريق) وإيقاعه مفعولا، دون أن يرفع ليجعل مسندًا إليه فيقال: وفريق تقتلون أي تقتلونه، وتفاعل العطائين:

المادة والموقع (المفعولية) لتصوير الهوان الذي حاق بهم مما يؤكد ويبين ثراء الكلمة القرآنية وتكاثر روافد الدلالة والإفادة، ويُبَيّنُ يقظة البقاعي في تدبره النّافِذ.

وفي التقديم فوق ما ذكر تشويق النفس المسلمة التي عاشت لحظات القلق على مصير الإسلام، فيأتي الفعل بعد تحديد المفعول ليحدد مصير الفريق المقدَّم، فإذا ما أضيفت إليه دلالة إسناد الفعل إلى المسلمين، بينما الأفعال السابقة أسندت إلى الحق سبحانه وتعالى، فإن العطائين يتناغيان بما فيه شفاء النفوس التي عانت أقصى لحظات القلق.

(1) - الموضع السابق

ص: 281

والبقاعي وهو يجلى عطاء تأخير المفعول في (تأسرون فريقا) كان جوادًا مُجِيدًا، فملاحظة التنسيق للأفعال والمفعولين يؤكد دقَّة ملاحظة البقاعي تنسيق الجملة القرآنية تنسيقًا يتفاعل فيه المضمون والشكل، وكم كان البقاعي مرهف الحس حين لمح وأشار إلى دلالة تقديم المفعول أولا على تحتم المصير لمن قدم، وكأنَّ في التقديم دلالة على تأكيد وقوع ما أخر عليهم (القتل) وفي تأخير المفعول على الفعل (تأسرون فريقا) إشارة إلى أنه لايتحتم فعل ذلك بهم بل لهم أن يفعلوا به غير ذلك إذا ما اقتضى الأمر.

مقال "البقاعي" في عطاء التقديم ونواله في بناء البيان القرآني جد وسيع وبديع،ولياذن المقام ببسطة قول،وإنما هي إشارة تغري بالسفر في تأويله بلاغة القرآن الكريم في تفسيره " نظم الدرر"ومختصره" دلالة البرهان القويم " الذي ما يزال مخطوطًا.

***

ومن النظم التركيبيّ المعنىّ به عند البلاغيين والمفسرين في تأويل القرآن الكريم (الحذف)

وهوفي اللغة: القطع والإسقاط والرمي

وفي اصطلاح البلاغيين: ترك ذكر بعض الكلام لمقتضٍ يقتضي ذلك الترك ولقرينةٍ دالة علي المتروك.

وفي تسمية المتروك ذكره محذوفًا إشارة إلى أن هذا المتروك لمَّاكان الأصل: (الكثيرالغالب) ذكرَه لشدَّة حاجة البيان إليه أو لغير ذلك كان كأنَّه ذُكِرَ،، ولو بالقوة البيانية، وليس بالفعل، ثم حذف لأمر اقتضى ذلك الحذف:(الترك) . وفي هذا مزيد تنبيه إلى أن ترك ذكره مع أهميته إنما يكون لمقتضٍ قوىٍّ وجديرٍ بالاعتداد به.

هذا وجه ووجه آخر يمكن أن تلحظه، وهو أنَّ المتروك ذكره لايكون إلا مع قرينة دالة عليه، فجعلوا دلالة القرينة عليه كأنَّه ذكر، ثم كان حذفُ لفظه وبقاءُ دليله، فتحقق شيء من معنى الإسقاط الذي هو المعنى اللغوى للحذف

ص: 282

وفي هذا الوجه تنبيه على أهمية القرينة الدالة عليه، بَيْنَا الوجهُ الأوَّلُ فيه تنبيه على أهمية المقتضي لترك ذكره ، وغيرخفي أن النظر البلاغي مرتب على النظر النحوي والنحوُ مَعْنِىٌّ بشأن القرينة التى هى مصحح الحذف، والتى كان لها الوجه الثانى والبلاغة معنية بشأن المقتضي للترك، وهو المرجح المحسن للحذف، والذي كان له الوجه الأول، وقد قدمته تناسبا مع العلم الذي نحن بصدد الكلام فيه

ومما أثر عن أهل العلم قولهم:" البلاغة الإيجاز" وهى مقالةٌ فاقِهةٌ طبيعةَ البيانِ البليغِ الذي يكون ملفوظُ اللسان فيه نزيرًا، ومكنونُ الجَنان فيه كثيرًا، فهذا الملفوظ اللسانيُّ يحمل في رحمه فيضا من المعانى دقيقها ولطيفها لا يقتدر اللسان على أن يتقاذف منه المعادل الصوتي لهذه المعانى.

لايقف فضل الإيجاز عند هذا بل إنَّه ليكون طريقا إلى أن يقيم السامع والمتلقى له مقاما يذهب فيه المذاهب الوسيعة الفسيحة لاجتناء ثمرات هذا البيان الموجز، فإنَّ السامع ليجد لذة عظيمة في سعيه إلى تقدير ما جاء نسج البيان على حذفه وطي ذكره، وكأنَّ السامع والمخاطب، ولاسيما في البيان العلىِّ المعجز قرآنا وسنة، يجدُ في فتحِ المتكلمِ له بابَ تقديرِ ما طوى ذكرُه إعلاءً من شأنه، وكانَّه يدعوه إلى أن ينسج نفسه في هذا البيان، أن يدخل خيط الإبريسم الذي يمدُّه هو ليتم به نسج ذلك الديباج البديع.

إنها اللذة التى لاتعدلها لذة، ومن العجيب أنك كلما ازددت علما بالكلام، وازددت قربا من المتكلم وعلما به انفتحت لك أبوابٌ عَلِيَّةٌ من التقدير لم تكن منفتحة لك وأنت في المنزلة الأدنى والأبعد كذلك تجد نفسك مع بيانات الحذف في ارتقاء وتطرية نشاط، وتمتع بصنوف من اللذة لاتتناهى ولا تنحصر

الإيجاز قِرَى المتكلم للسامع، وأَذَانٌ منه للمتلقي بالتآخي: إنّما المتكلم البليغ والمتلقي البليغ في تلفيه إخوة

ص: 283

والإيجاز في دلالته على المعانى المتكاثرة إنّما يتخذُ سبيلا غير مكشوف بل يُهدِى إليك لطائفَه ملفوفة في ستائر حريرية، وذلك مما تعشقه النفس المتذوقة جمال البيان.

والحذف ضرب من ضروب الايجاز التى تتسم بما هو فوق الذي ذكرت لك، وقد كان من "الإمام عبد القاهر الجرجانى " في كتابه:" دلائل الإعجاز" كلماتٌ في صدر كلامه في باب "الحذف" أشار فيها إلى شيء من محاسن الحذف وفضائله وعطاياه يقول فيها:

" هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به تركَ الذّكرِ أفصحَ من الذكر، والصمتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطقْ، وأتمَّ ما تكونُ بيانًا إذا لم تُبِنْ. وهذه جملة قد تنكرها حتى تَخْبُر وتدفعها حتى تنظر "(1)

وعبارة "عبد القاهر" هذه جِدُّ غنية بالدَِّلالات اللَّطيفة والمدلولات النبيلة، وقد أغراك وهداك إلى شيء من لطائفها ببيانه فيها بيانا أقامه على منهاج التوقيع النغمى المِرْنان.

تأمل عبارته معزوفةً على أوتار السجع والتوازن ورد الأعجاز على الصدور من جهة، والتقابل من جهة أخرى، ففي هذا إيماء إلى ما يحتويه "الحذف" من بدائع المعانى والمَغانِى (2)

(1) - دلائل الإعجاز لعبد القاهر 164 ـ ت: شاكر

(2)

- وأنت إذ تنظر في كلمة " عبد القاهر" هذه التي يقدَّم بها قوله في الحذف تجدها مغرية بالنظر في طريق دلالة الحذف على المعنى أيْ أنّه يغريك بأن تنظر في الحذف من جهة دلالته على معانيه، وهذا هو المنهج الذي يقوم عليه ما يسميه البلاغيون علم البيان، هو لايغريك بالنظر في تركيب وتأليف صورة المعنى على منهاج الحذف بقدر ما يغريك بالنظر في طرائق دلالة هذه الصورة على المعنى، وكأنّه يحرضك على أن ترابط مجاهدًا في ثغرة قلّ فيها المرابطون: ثغرة تأويل وتدبر طرائق دلالة صورة المعنى عليه

والحقّ أنَّا مستهترون بتأمل طرائق تأليف وتركيب صور المعاني، أكثر من عنايتنا بتأمل وتدبّرطرائق دلالة تلك الصور على معانيها.

وأنت إذ تنظر في بيان عبد القاهر معنى الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان وما شاكل ذلك تجده قد جعل أصل خصال هذه الحقيقة حسن الدلالة وتمامها، والنَّظرُ في حسن الدلالة نظرٌ في منهاج علم البيان عند المتأخرين.

وأنت إذ تنظر في بيان " الرمانيّ من قبله معنى البلاغة في كتابه (النكت) تجده جاعلا أصل حقيقتها من حسن دلالتها إذ يقول: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.

أرأيت إلى قوله (إيصال المعنى إلى القلب) أليس هذا حديثا في الدلالة وليس في الدال أو المدلول؟

أليس اسم البلاغة مشتقا من إلإبلاغ الذي هو الإيصال الذي هو الدلالة

؟..

ص: 284

قد يكون من وراء حذف كلمة أوحرف

ما يدفق إلى قلبك فيضا من المعانى، وإلى سمعك فيضا من المغانى، والمتلقى البليغ في تلقيه، والبديع في قراءة البيان مشغوف بمغانى الكلام شغفه بمعانه، ولاسيما بيان الوحي المعجز الكريم، فإنَّ من مغانيه غيثًا من معانيه

ولا يتسع المقام هنا لتفصيل صور من تأويل البقاعيّ اسلوب الحذف في القرآن الكريم ومدلولات ذلك الحذف ووجه دلالته عليها، ولكن الذي يلفت نظر قارئ تفسيره عنايته بضرب من ضروب الحذف لايعنى به كثير من المفسرين والبلاغيين، وإن كان النظر إليه قديمًا قدم التفكير والتدبر البيانيّ لبيان العربية عمومًا وبيان القرآن الكريم خصوصًا وهو ما يسمّى:"الحذف التقابليّ"، أو" الاحتباك ".

كانت للبقاعيّ عناية بالغة بليغة بتأويل هذا الأسلوب، ولو أنَّا جمعنا مقالاته فيه في تفسيره لكان لنا من ذلك سفر يكون لنا عوضًا عن كتابه الذي صنفه وألفه فيه وسماه (الإدراك لفن الاحتباك) . (1)

(1) - يقول السيوطي في كتابه: (التحبير في علم التفسير) " النوع الثالث والسبعون: الاحتباك

هذا النوع من زياداتي وهو نوع لطيف ولم نر أحدًا ذكره من اهل المعاني والبيان والبديع وكنت تأملت قوله تعالى: (لايرونّ فيها شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا)(الإنسان:13) والقولين اللذين في الزمهرير، فقيل هو القمر في مقابلة الشمس، وقيل هو البرد فقلت لعل المراد به البرد، وأفاد بالشمس أتّه لاقمر فيها، وبالزمهرير أنه لاحرّفيها فحذف من كلّ شق مقابل الآخر. وقلت في نفسي: هذا نوع من البديع لطيف لكني لا أدري ما اسمه ولا أعرف في أنواع البديع ما يناسبه حتى اقادني بعض الأئمةالفضلاء [يقصد شيخه البقاعيّ] أنّه سمع بعض شيوخه قرر له مثل ذلك في قوله تعالى (فئةٌ تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة)(أل عمران:13) .......

قال: وهذا النوع يسمى بالاحتباك. قال الإمام الفاضل المذكور: وتطلبت ذلك في عدة كتب فلم اقف عليه وأظنه في شرح الحاوي لابن الأثير، ثُمّ صنّف المذكور في هذا النوع تأليفًا لطيفًا سماه (الإدراك في فن الاحتباك)

...... ثُمَّ وجدتُ هذا النوع بعينه مذكورًا في شرح بديعية أبي عبد الله بن جابر لرفيقه أحمد بن يوسف الأندلسي، وهما المشهوران بالأعمى والبصير، قال مما نصّه:

" من أنواع البديع: " الاحتباك" وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، كقوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق

) (البقرة:171) التقدير: مثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به، فحذف من الأول: الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني: الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه

) (التحبير للسيوطي:128 -129 - ط: دار الكتب العلمية:1408 - بيروت

وانظر معه: " طراز الحلة وشفاء الغلة لأبي جعفر الرعيني الغرناطي - ص:508 - ت: رجاء السيد الجوهري - مؤسسة الثقافة الجامعية - الاسكندرية، وانظر البرهان للزركشي:3/129، والإتقان للسيوطي:3/182، شرح عقود الجمان 133..

ص: 285

أول ما يلقاك من هذا في تفسيره تأويلا لهذا الأسلوب تأويلُه قول الله عز وجل:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29)

يقول: " لمّا أجملَ سبحانه وتعالى في اوّلِ هذه الآيةِ (ي:28) أوّل أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنّه مُنَبِّهٌ على الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصّله على وجه داعٍ لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى، فساق سبحانه وتعالى ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده

فقال (هو) .. (الذي خلق لكم.. ما في الأرض) بعد أن سواهن سبعا

(جميعا) ....

ولم كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لايرام.... عبر في أمرها بـ" ثُمَّ " فقال (ثُمّ استوى إلى السماء) .... (فسوّاهنّ سبع سموات)

وخلق جميع ما فيها لكم.

فالآية من "الاحتباك":

حذف أولاً كون الأراضي سبعًا لدلالة الثاني عليه، وثانيًا كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه.

وهو فنّ عزيز نفيس وقد جمعتُ فيه كتابًا حسنًا ذكرتُ فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته: "الإدراك لفنّ الاحتباك "...." (1)

أبان البقاعي لنا ما كان محذوفًا لدلالة القرينة المقالية عليه، ولم يُبَيِّنْ لنا هنا الوجه البيانيّ لحذف ما حذف وذكر ما ذكر، وكما أنَّه لم يبين لنا هنا تعريف (الاحتباك) وإن كان قد عرَّفه في موضع آت من بعد 0

(1) ? 1 - نظم الدرر: ج1ص219 - 225..

ص: 286

لعلَّ وجه حذف ما حذف في الآية أنَّ المحذوف وهوجعل الأرض سبعًا والمدلول عليه بذكر جعل السموات سبعًا أنَّ جَعْلَ السموات سبعا من الغيب الذي لاسبيل إلى معرفته إلا بالوحي، ولن يكون بمَُِلك العلم في طور من أطواره إلى قيام الساعة أن يطلع عليه بأدواته ومناهجه.

فنحن حتى يومنا هذا لم نر سماء واحدة من تلك السموات،وما تنبصره عيوننا ليس هو السماء في حقيقتها، بل هو حجاز أزرق بين أبصارنا والسماء

أمَّا جعل الأرض سبعا فذلك أمر قد يكون للعلم سبيل إلى عرفانه، على أنّ في سورة (الطلاق) ما يدل على ذلك

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق:12)

وفي السنّة النبوية تصريح بذلك، روى الشيخان:

" من أخذ شيئا من الأرض بغير حقّه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين "(البخاري: بد الخلق،والنص له،ومسلم:مساقاة)

ص: 287

وكذلك جعل ما في السموت لنا لمَّا كان لايَتَبَيّنُ لكثير من العباد بخلاف ما في الأرض حذفه، وذكرما هو ظاهرٌ أمرُه للعباد كافة.، وطوى ما كان أمره غير ظاهر لهم جميعا تحقيقا لتمام الإبلاغ بالامتنان بذكر النعمة، فجمع لنا بين نعمة إعلامنا بما لا سبيل لنا إلى علمه إلا بالوحي وهي نعمة عليّة جدًا لا يقدرها حقَّ قدرها إلا من يعرف لنعمة المعرفة والعلم قدرها، ويعرف لبلية الجهالة والضلالة خطرها، وأن العرفان حياة والجهالة موت، ونعمة الامتنان بأنَّ ما في الأرض لنا، فعلينا أن نحرص على أن نحسن استثماره لما فيه حسن المآب والمعاد، وأنّ من غفل عن حسن استيعاب استثمار ما في الأرض قد خسر خسران مبينا،ولو أننا عدنا ببصيرتنا إلى قوله جل جلاله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعا} ً وتدبرنا هذا التعريف للطرفين (هو)(الذي) ودلالته على التخصيص المؤذِّن بالتوحيد، وأنه ليس من جاعلٍ ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، وتذوقنا تقديم (لكم) المفيض في قلوب أهل العرفان فيوض الأنس والمحبة والاستشراف إلى معرفة نوال الحبيب لهم، فانظر كم يكون شوق المحب إلى معرفة ما يهديه محبوبه له حين يشار إليه أن له منه عطية؟!!! فكيف إذا ما كان النوال من رب العالمين؟!!

وتذوق طلاقة العطية في قوله (ما في الأرض) وما تشير إليه العبارة من آيات حفظه وكَنِّهِ عن أيدي من لا يستحقون، وأنّ العطية من كريمها على معطيعا لم يجعلها على ظاهر الأرض تلامسها أيدي من ليسوا لها بأهل، بل جعلها (في الأرض) هذه الظرفية دالة على عظيم الحفظ أولاً لجليل المكنون، وعلى فريضة الجد في الطلب إيمانا بعظيم قدر المكنون من النوال.

ص: 288

وتدبر قوله (جميعًا) وهي ذات دلالة متسعة: تحتمل أن تكون حالا من الضمير في (لكم) أي لافرق بينكم في هذا إلا بمقدار سعيكم في تحصيل نوال ربكم إليكم، وهذا منسول من معنى قوله (رب العالميبن) وقوله (الرحمن) في صدر سورة الفاتحة، فهما اسمان دالان على وسيع فضله وأنّه متجعل على كل خلقه بفيوض من الربوبية الرحمانية.

ويحتمل أن يكون حالا من مفعول (جعل) أي جعل ما في الأرض جميعه لم يبخل بشيءٍ منه على أحد من خلقه إن كان أهلا لأنْ ينالَ.

ولا أرى بأسًا من الجمع بين الوجهين معًا.

ذلك ما تبيّن لي.

وهو وإن تعرض لأسلوب الاحتباك في سورة البقرة في عدة مواضع منها فإنّه لم يبينْ لنا مفهوم الاحتباك إلا في سورة (آل عمران) عند تأويله قول الله سبحانه وتعالى:

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ) (آل عمران:13)

فيقول: " الآية كما ترى من وادي الاحتباك وهو: أن يؤتى بكلامين يحذف من كلّ منهما شيءٌ إيجازًا يدلّ ما ذكر على ما حذف من الآخر 0وبعبارة أخرى: هو أن يحذف من كلّ جملة شيءٌ إيجازًا، ويذكرُ في الجملة الأخرى ما يدل عليه "(1)

والغالب علي منهاج البقاعي أنّه يُعنى ببيان ما حذف وما دلّ عليه مذكورا من البيان، وقد يذكر الوجه البيانيّ لحذف ما حذف وذكر ما ذكر، وذلك كمثل ما تراه في تأويله النظم التركيبيّ في قول الله عز وجل:

(1) - نظم الدرر:4 /262 وانظر معه: التعريفات للسيد الشريف باب الألف، وطراز الحلة ص508، وشرح عقود الجمان السيوطي ص:133..

ص: 289

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74)

يقول: " "(وَمَن يُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أيْ فيريدُ إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال (فَيُقْتَلْ) أي في ذلك الوجه، وهو على تلك النّية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفْسِهِ (أو يغلبْ) أي الكفار فيسلم (فسوف نؤتِيهِ) أيْ بوعد لاخلف فيه

والآية من الاحتباك:

ذِكرُ القتلِ أولاً دليلٌ على السّلامة ثانيًا

وذكرُ الغالِبِيَّة ثانيًا دليلٌ على المَغْلُوبِيَّة أولاً

وربّما دلّ التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالبًا، خلافًا لما يتوهمه كثير من الناس إعلامًا بأنَّ المدار على فعل الفاعل المختار، لا على الأسباب (أجرًا عظيمًا) ....

واقتصاره على هذين القسمين حثّ على الثبات، ولو كان العدوّ أكثر من الضعف

" (1)

يشير البقاعيّ إلى أنّ البيان القرآنيّ قد ذكر من جانب القتل ما كان إسناده إلى المسلم على جهة المفعولية (يُقْتَل)

وذكر من جانب الغلبِ ما كان إسناده إليه على جهة الفاعلية (يَغْلِبْ) لبيان جوهر غاية الإسلام من الجهاد، فليس همّ المسلم في جهاده قتل الأعداء أو الاستحواز على الغنائم، بل همّه نصر الإسلام والاستشهاد في سبيل الله تعالى.

الانتصار دلّ عليه قوله (يَغْلبْ)

والشهادة دلّ عليها قوله (يُقتلْ)

وهذا يقتضي من كُلِّ مجاهد أن يثبت في القتال وإن كان عدوه ذا عدد وعتاد.

وإذا ماكان هذا منهاج المسلم فلن يكون إلا عزُّ ومجدٌ، وفي عزّ أهل الاسلام سلام أهل الدنيا وسلامتهم، فإنّه ما كان الأمر للمسلمين في عصر أو مصر إلَاّ كان النَّاس في أمن ودعة 0

***

(1) - نظم الدرر: ج 5: 326 - 327..

ص: 290

وقد يتلاقى "الاحتباك" والتشبيه التركيبيّ فيكون نسيج التشبيه مبنيًّا على الحذف التقابلي.

ومن أشهر الآيات في هذا قول الله جل جلاله:

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171)

جاءت هذه الآية في سياق مصور حال طائفة من الناس يتخذون من دون الله سبحانه وتعالى أندادا، ويتبعون خطوات الشيطان، وإذا أمروا باتباع ما أنزل الله عز وجل قالوا بل نتبع ما ألفوا عليه آباءهم الذين لايعقلون ولا يهتدون، فصورهم في صورة تنفر منها كلّ نفس عاقله، صورهم مع دعاتهم إلى الهدى في صورة راع وغنمه ينعق بها يدفعها عن المهلكة فلاتسمع إلا صوته ولا تعقل ما ينعق به عليها

يقول البقاعيّ:

" ولمَّا كان التقدير فمثلهم حينئذٍ كمن تبع أعمى في طريق وعر خفي في فلوات شاسعة كثيرة الخطر عطف عليه ما يرشد إلى تقديره من قوله عز وجل - منبهًا على أنّهم صاروا بهذا كالبهائم بل أضلّ؛ لأنها وإنْ كانت لاتعقلُ، فهي تسمع وتبصر، فتهتدي إلى منافعها (ومثل) وبيّن الوصف الذي حملهم على هذا الجهل بقوله (الذين كفروا)

في أنهم لايسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودويّ الصوت من غير إلقتاء أذهانٍ ولا استبصارٍ (كمثل)

قال "الحرَالّيُّ": المثلُ ما ينحصلُ في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة، فيكون ألطف من الشيء المحسوس، فيقع لذلك جالِيًا لمعنًى مثل المعنى المعقول، ويكون الأظهر منهما مثلا للأخفى، فلذاك ياتي استجلاء المثل بالمثل، ليكون فيه تلطيف للظاهر المحسوس، وتنزيل للغائب المعلوم.

ففي هذه الآية يقع الاستجلاء بين المثلين، لا بين الممثولين، لتقارب المِثلين معنًى وهو وجه الشبه، وتباعد الممثولين..

ص: 291

وفي ذكر هذين المثلين تقابل يفهم مثلين آخرين، فاقتضى ذلك تمثيلين في مثل واحدٍ، كأنَّ وفاء اللفظ الذي أفهمه هذا الإيجاز:

مثل الذين كفروا ومثلُ راعيهم، وكمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم

وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب

ومن لايصلُ فهمه إلى جمع المثلين يقتصر على تأويله بمثلٍ واحدٍ فيقدّر في الكلام:

ومثل داعي الذين كفروا (كمثل الذي ينعق) أي يصيح

وذلك لآنّ التأويلَ يحملُ على الإضمار والتقدير والفهم يمنع منه ويوجب فهم إيراد القرآن على حدّه ووجهه.........

وقد علم بهذا أنّ الآية من الاحتباك:

حذف من الأوّلِ مثل الدَّاعي لدلالة النّاعق عليه، ومن الثَّاني المنعوق به لدلالة المدعوين عليه

" (1)

تأويل نظم الآية على هذا المنهاج (الحذف التقابلي) والذي اعتمد فيه على " الحرالّي" هو التأويل الذي ترى أصله في صنيع " سيبويه" في " الكتاب "(2)

وهذا التأويل ينظر إلى التمثيل التشبيهي، وتركبه من عدّة عناصر لا يستوجب المقام ذكرها كلّها بل بستوجب الدلالة على بعضها ببعضها طاويا من كل جانب ما يدلُّ عليه المذكور في الجانب الآخر.

ونحن إذ ننظر في المثل الأول: مثل الذين كفروا نرى تمثيلهم بالغنم التي ينعق بها راعيها الشفوق الرؤوف بها السائقها إلى ما فيه نجاتها، وهي لاتسمع إلا صوتا ولاتفهم مما ينعق بها، فذكر ماهم قائمون فيه: حالهم المعرض عن الدَّاعي ليكون دليلا على ما هم عالمون به من حال الغنم المنعوق بها ولاتسمع إلا دعاء ونداء (ومثل الذين كفروا في إعراضهم عن دعوة من ينفعهم كمثل غنم ينعق بها صاحبه لينقذها)

(1) - نظم الدرر: ج2 ص 331-335

(2)

- الكتاب لسيبويه: ج 1 ص212 - ت: هارون وانظر معه " إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج - ج:1 ص:47- ت: إبراهيم البياري - دار الكتاب المصري - 1982..

ص: 292

وفي المثل الثاني: مثل داعي الذين كفروا نرى تمثيله بحال راعى الغنم في حرصه عليها وذَوْدِها عما يضرها إلى ما ينفعها، وقد كانت العرب أهل رعي تفقه حال الراعي برعيته وشفقته عليها وحرصه على ما ينفعها وصبره عليها وهذا يستحضر في قلب من يعقل منهم حقيقة حال النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا معهم، ولهذا كان المذكور من هذا المثل ما لا يمكن لهم أن يغفلوا عنه لأنه قائم فيهم صباح مساء، فذكر راعي الغنم وطوى ذكر حال راعيهم وسائقهم إلى ما فيه نجاتهم (ومثل داعيهم إلى الهدى كمثل الذي ينعق

) .

إنَّ صياغة الآية على هذا النحو مما يحدث في المتلقي حين يسمع أو يقرأ تنبيها إلى أنّ في الأمر شيئًا، وأنَّه لايكون البتة - بدلالة السياق المستصحب من آيات عديدة سابقة - تمثيل حال الذين كفروا وقد أجمل ولم يبين مناط الممثل منه بحال الذي ينعق بما لايسمع إلا دعاء إذا ما أريد بما لا يسمع الغنم بدلالة (ينعق)

فإن قيل المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم أصنامهم حين تلم بهم حاجة كمثل الذي ينعق (يدعو) ما لايسمع إلا دعاء ونداء، فإنّ هذا التأويل وإن كان قريبًا إدراكه لكن السياق دالٌ على أنَّ قوله (صم بكم عمي فهم لايعقلون) راجع إلى الذين كفروا، وليس الأصنام، فالسياق كله ليس حديثا عن الأصنام وإنما حديث عن الذين كفروا وموقفهم من دعوتهم إلى اتباع ما أنزل الله عز وجل فتدّعي أنها تتبع ما ألْفَوا عليه آباءهم فهم كالغنم التى تتبع الكبش الذي يتقدمها لاتعقل ما هي مقدمة عليه

***

ص: 293

ومن النظم التركيبي الذي عُنيَ البقاعيُّ بتأويله وهو ضرب من ضروب شجاعة العربية كالتقديم والتأخير والحذف ما يعرف بالالتفات، وهو من التصرف في حركة الضمائر ذات مرجع واحد، فتكون مرة ضمير غيبة وأخرى ضمير متكلم، والمرجع واحد، أمَّا إذا تنوعت الضمائر وتنوعت مراجعها بتنوعها فليس من الالتفات الذي هو من شجاعة العربية في شيءٍ.

ولست بالناظر هنا فيما كان بين البلاغيين من مناقدة في تبيين الملتفت منه في ذلك الأسلوب بل فيما كان من"البقاعيّ"في هذا.

هو على مذهب أن الملتفت عنه ما كان يقتضيه الظاهر أن يكون، وهو ما يعرف بمذهب الزمخشري والسكّاكيّ لا ما كان البيان به أولاً وهو ما يعرف بمذهب الخطيب والجمهور.

ترى هذا في تاويل "البقاعي" البيان في أول سورة عبس:

{عَبَسَ وَتَوَلَّى *أنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَما يُدْرِكَ لَعَلَّهُ يَتزَكَّى}

يقول في بيان مقصودها الأعظم:" مقصودها:

شرح {إنَّمَا أنتَ منْذِرُ من يَّخشاها} بأنّ المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة

"

ثُم يعمد إلى تأويل مطلع تلاوة السورة قائلا:..

ص: 294

" لمّا قصره سبحانه وتعالى على إنذاره من يخشى، وكان قد جاءه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه وكان من السابقين وكان النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا حين مجيئه مشتغلا بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله عز وجل، وقد وجد منهم نوع لين، فشرع " عبد الله" رضي الله عنه يسأله وهو لايعلم ما هو فيه من الشغل

فكره صلى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه مع أولئك خوفًا من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم

فكان صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل عليهم، وتظهر الكراهة في وجهه، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتّصدِّي لمن شأنه أن لايخشى

فقال مبينَا لشرف الفقر وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا، وخسّة أهل الدنيا وإن زانوا، معظمّا له صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا بسياق الغيبة

(عبس) أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجلّه عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء.... وآذن بمدح صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا بأنّ ذلك خلاف ما طبع عليه من رحمة المساكين

بقوله عز وجل: (وتولّى) أي كلّف نفسه صلى الله عليه وسلم الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف

(أن جاءه الأعمى) ....

ولمَّاعرَّفَ بسياق الغيبة ما أريد من الإجلال، وكان طول الإعراض موجبًا للانقباض أقبل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا، فقال (وما يدرك

لعله

يزّكَّى)

" (1)

(1) – نظم الدرر: 21/249-252

ص: 295

في هذا المنهاج من خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا إعلاء لشأنه أولا وبيان لمنزله عند ربّه عز وجل ثانيا وتعليم لأمته كيف يكون خطابها مع نبيها صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا،وتبيان لأنّ ماكان منه صلى الله عليه وسلم إنّما هو مراعاة ما فيه صالح الأمة كلّها، فقدم نفع الأمة على نفع واحد منها فإنّ أولئك الصناديد إذا ما دخلوا في الإسلام أو بعضهم كان في دخولهم نفع للإمة من جهة ولعبد الله بن أم مكتوم نفسه رضي الله عنه ثانيًا من أنّه يأمن شرهم.

وكان من البقاعي إشارة إلى تناظر الالتفات من الخطاب الذي يقتضيه ظاهر الحال إلى الغيبة ثُمّ من الغيبة إلى الخطاب، ومع ذلك الالتفات من صيغة الفعل المجردة في (عبس) إلى صيغة (التفعّل) في (تولى) فذلك كلّه قائم إلى الإبانة عن عظيم شأن النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

وغيرخفي أن العدول عن صيغة التجريد في الفعل (عبس) إلى صيغة الزيادة (التفعيل) في (تولى) ليس من الالتفات الاصطلاحيّ عن البلاغيين المتأخرين، ولكنّه من باب العدول من شيء إلى آخر لمعنى ومقتضٍ 0

***

ومن النظم التركيبيّ ما يعرف عند البديعيين باللف والنشر

وأنت إذا ما دققت التأمل في أساليب التحسين البديعي رأيت كثيرًا منها مرجعه إلى النظم التركيبيّ أو الترتيبيّ، وإن اختلفت جهة النظر إليه فاختلفت مناهج التأويل.

البقاعيُّ مَعْنِىٌّ بضرب من ضروب اللف والنشر هو اللف والنشر المعكوس الذي يكون فيه الرابع للأول والثالث للثاني، وهو يسميه اللف والنشر المشوّش، وهي تسمية غير دقيقة، وليس في البيان القرآنيّ إلا ضربان من النشر:

المرتب على وفق ترتيب اللف: المقدم في النشر للمقدم في اللف،والمؤخر في النشر للمؤخر في اللف على ترتيبه..

ص: 296

والمرتب على عكسه

وليس فيه نشر مختلط والذي يمكن تسميته مشوّشا.

المهم أنَّ اللف والنشر وإن كان من المحسنات البديعية عند المتأخرين وهو مما انتبه إليه الأقدمون منذ المبرد (1) فإنّه داخل في النظم التركيبي.

في تأويل قول الله سبحانه وتعالى

{أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ والضَّرَّاء وَزُلْزِلُوا حتَّى يَقُول الرَّسُولُ والَّذِينَ آمًَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ ألا إنَّ نصْرَ اللهِ قريبٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تكْرَهُوا شَيْئًا وَهُو خَيْرُ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكمْ وَاللهُ يَعلمُ وَأَتتُمْ لا تَعْلَمونَ}

يذهب "البقاعيّ" إلى أنَّ في ألآية لفًا ونشرًا مشوّشًا: ذكر في الآية الأولى البأساء والضرّاء على هذا الترتيب، وفي الثانية ذكر الإنفاق، وهو يناسب الضرّاء، وفي الثالثة ذكر القتال، وهو يناسب البأساء، يقول:

(1) - يقول المبرد: " والعرب تلف الخبرين المختلفين ثُمّ ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأنَّ السامع يردّ إلى كلّ خبره "(الكامل:1/75) ويقول: (العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوما، ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيًّا، قال الله جل جلاله وله المثلُ الأعلى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله)(القصص:73) علما بأن المخاطبين يعرفون وقت السكون ووقت الاكتساب " (الكتاب:2/36- المكتبة التجارية الكبرى -القاهرة سنة1355هـ..

ص: 297

" لمَّا كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين {ومما رزقناهم ينفقون} ثُمَّ كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أنْ أمر بها في أوّل آيات الحج الماضية آنفا [ي:195-197] مع أنّها دعائم بدايات الجهاد إلى أن تضمنتها الآية السالفة [ي:214] مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما، فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش، وذلك مؤيد لما فهمته في البأساء والضراء، فإنّ استعماله [أي المشوش] في القرآن أكثر من المرتّب فقال معلمًا لمن سأل: هل سأل المخاطبون بذلك عنهما؟ (يسألونك ماذا..ينفقون

" (1)

يذهب البقاعيّ إلى أنّ البأساء أكثر استعمالا في الحرب والضراء أكثر ما تستعمل في الأموال، وهذا منه إشارة إلى المنهج الإحصائي التأويلي الذي يستجمع شواهد الظاهرة البيانية في الخطاب المتدبّر كلّه ليقف المتدبّر على ما هو الغالب على الخطاب في سنّته البيانيّة ليتّخذ المتدبّر من ذلك منهاجه في التَّأويل على ما هو الغالب على ذلك البيان

وأنت إذا ما نظرت في دلالة مادة البأساء في البيان القرآنيّ وجدتها لما اصاب الجسد (النساء: 84، والنحل:81، والإسراء: 5، والأنبياء: 80، والنمل: 23، والحديد: 25)

وإذا نظرت في مادة "الضراء" وجدتها لما أصاب المال (البقرة:233، وآل عمران: 134، ويوسف: 88، والطلاق:6)

فما ذهب إليه البقاعيّ أعلى وأليق بالبيان القرآنيّ 0

وإذا ما نظرت في سياق الآيات التي قال فيها البقاعيّ بالنشر المشوَّش ألفيت أنّ سورة "البقرة" قد كثر فيها الحديثُ عن الإنفاق، وجعلته أصلا من صفات المتقين، وقد تقدم في السورة البلاء في الأموال على البلاء في النفس (ي155) وتحدثت عن الإنفاق (ي:177، 261، 262، 265، 274)

(1) – نظم الدرر:3/212- 213

ص: 298