الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هوعنده نظم " قريب التناول، سهل التذوق، فإنَّ كلَّ من سمع القرآن من ذكي وغبي [كذا!!] يهتز لمعانيه، وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط لاتحصل عند سماع غيره، وكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز "
فكثير من الناس في صحبة استحضار قواعد علم بلاغة العربية التى عُنِىَ البلاغيون بها تحريرا وتطبيقا يستشعر في نفسه القدرة على أن يقول في النظم التركيبي في بناء الجملة، فيظنّ أنّه قد أبحر في قاموس الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وهو بَعْدُ لمَّا يغمس أخمص قدمه في شاطئ القاموس المحيط المتلاطم موجه.
يمكن القول بأن ترك " البقاعي " التصريح بهذا النظم التركيبي في تعريف " علم التناسب " ـ على أهميته عنده ـ إنّما هو ضربٌ من الإشارة إلى قيمة هذا النظم بالنظر إلى قيمة النظم الترتيبي عنده، وهذا ضرب من منهجه في التقويم والتعبير عنه.
{الآخر: النظم الترتيبي
..}
هو عنده:" نظم كل جملة مع أختها بالنظر إلى الترتيب "
هو نظم لايتناول من خصائص البيان إلا علاقاتِ الجمل بعضها ببعض، ومِن ذلك ما يُسميّه البلاغيون " الفصل والوصل "، وعلاقاتِ المعاقد والسور بعضها ببعض، وهي علاقاتٌ تَنْظر إلى منازل الجمل والمعاقد والسور بعضها من بعض ، فيتحقق من علاقات المنازل تصاعد البيان المحتضن تصاعد المعانى.
وهذا النظم هو الدعامة الرئيسة للتناسب عند " البقاعي"، ومهمَّته بناء نتاج النظم التركيبي في بناء متكامل متآخٍ متناغٍ بحيث يكون كلّ عنصر من عناصر هذا البناء المتكامل آخذًا بحجز بعضه 0
والأخذ بالحجز ليس من بابة الربط الجزئي بين عناصر البيان بل هو من بابة الاعتلاق الجوهري بين الجمل والمعاقد والسور في القرآن الكريم كلِّه
***
هو ذاهب إلى أنَّ القرآن الكريم في جميع مكوناته البيانية معجزٌ:
هو معجزٌ في اصطفاء مفرداته، وفي بناء جمله، وفي بناء آياته، ومعاقده وسوره، لافرق في ذلك بين شيء وآخر، وفي جميع مكنوناته المعنويّة: هو معجِزٌ معنى ومبنى، يقول:
" أمَّا مِنْ جهةِ المُفرداتِ، فلكونها النهاية في جلالة الألفاظ ورشاقة الحروف وجمع المعانى، فيفيد ذلك أنَّه لاتقوم كلمة أُخرَى مقام كلمةٍ منه أصلاً
وأمَّا من جهةِ التركيب، فلكون كلِّ كلمة منها أحقُّ في موضعها بحيثُ إنَّه لو قدم شيء منها أو أخر لاختل المعنى المراد في ذلك السياق بحسب ذلك المقام
وأمَّا من جهةِ الترتيب في الجمل والآياتِ والقصص في المبادئ والغايات، فلكون مثل تركيب الكلمات: كلُّ جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدُّرِّ اليتيم في العقد المحكم النظيم؛ لأنها إمَّا أن تكون عِلَّةً لما تلته، أوْ دليلاً، أوْ متَمِّمةً بوجهٍ من الوجوهِ الفائقةِ على وَجْهٍ ممتنع الجَنابِ، جليلِ الحجاب؛ لتكون أحْلَى في فمهِ، وأجْلَى بعدَ ذوْقِهِ في نظمهِ وسائر علمه " (1)
هو إذن لايقف به مذهبه عند بناء الجملة من كلمات، ولا بناء آية من جمل، وإن بلغت الآية من البسط مبلغًا، بل يتجاوز به بناء المعقد من الآيات، وبناء السورة من المعاقد، وبناء القرآن الكريم كلِّه من السُّوَرِ
أصغر وحدة من النظم الترتيبي الذي هو روح البيان عنده إنما هي الجملة الكاملة، وأكبر وحدة هي السورة القرآنية.
الوحدات في النَّظم التركيبيِّ المُنْتِجِ الجملة تستحيل في علاقتها ببعضها، كوحدات بناء الكلمة التى هي الحروف والحركات في بناء بعضها ببعض.
ومن البين أنَّ أيَّ تغييرٍ يطرأُ على أيِّ وحدةٍ (حرف أو حركة) في بناء الكلمة إنما يؤثر في دلالة الكلمة، وقدرتها الدِّلاليِّة تأثيرًا بيِّنًا عند قومٍ، وخفيًّا عند آخرين، إى أنَّه تأثيرٌ قأئمٌ يختلفُ ظهورًا وخفاءً اختلافًا نسبيًّا لأمورٍ ترجع إلى ملكات المتلقين.
(1) – نظم الدرر: ج19 /233
وكذلك الأمر في بناء الجملة: أيُّ تغيير يطرأُ على أيِّ وحدةٍ منها (الكلمة) إنما يؤثِّرُ في دلالة الجملة، وقدرتها الدلالية، تأثيرًا جليا أو خفيا، وفق قدرات المتلقين.
والأمر كمثله في الوحدات المكونة بناء الآية، والمعقد والسورة، فإن ما يؤثر في الصغير، يؤثر في ما كان أكبر منه
وفي كل وحدة تشكلت من وحدات أصغر روحٌ يهيمن عليها، هذا الروحُ ينبثقُ من علائقِ المكونات ببعضها، وفي امتلاك المتلقى الوعى بهذا الروح المهيمن ما يعينه على إتقان الفهم وإحسان التدبر
من هنا يذهب " البقاعي " إلى أنَّ في كلّ سورةٍ روحًا مهيمنا على بيانها، يسمى هذا الروح:(المقصود الأعظم)
يقول: " إنَّ كلَّ سورةٍ لها مقصدٌ واحد يُدار عليه أولها وآخرها، ويستدلُّ عليه فيها "(1)
وهذا المقصود الكلى الأعظم تُفيدُ معرِفَتُه معرفة المقصود من جميع أجزاء السورة (2) فالعلم بـ " التناسب القرآنيِّ "عنده" تتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها (3)
" ولأجلِ اختلاف مقاصد السور تتغير نظوم القصص وألفاظها بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصِدِ (4)
ويقول أيضًا: " وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنَّ كلَّ سورة أعيدت فيها قصة، فلمعنى ادعُي في تلك السورة استدلَّ عليه بتلك القصَّةِ غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لايُخالف شيءٌ مِنْ ذلكَ أصل المعنى الذي تكونت به القصَّةُ "(5)
ويقول: " ومَنْ حَقَّقَ المقصودَ مِنْها عرفَ تناسبَ آيِها وقصصها وجميع أجزائها "(6)
(1) - مصاعد النظر: ج1ص149
(2)
- نظم الدرر: ج1 ص 142
(3)
- مصاعد النظر: ج1ص 142
(4)
- السابق: ج1 ص 152
(5)
– نظم الدرر: ج 1 ص 14
(6)
- السابق: ج1ص 149
بسطت لك النقل عنه، لأهميته أولا، ولتقفَ على حقيقة مذهبه وعموده بلغته هو، وسوف يكون لنا وقفة تحليل وتقويم لبعضٍ من ذلك
المهم أنَّ تحرير هذا المقصود الأعظم الكلي لايتأتى خبط عشواء، ولا يمتلكه المرءُ من قراءاتٍ عَجْلَى للسورة القرآنية، بل هو لايملك معالمه الكبرى إلَاّ من بعد معايشةٍ للسورة، وسعي بليغٍ إلى أن يقيم فيها بعقله وقلبه وروحه حتى تستحيل إلى جزء من وجوده الدَّاخلىّ أو إلى أنْ تقوم هي فيه.
يظَلُّ المتدبرُ يتنقلُ بينَ تأمل الجزء وتأمل الكلِّ، فيعيشُ في حركةٍ دائريةٍ تردديةٍ، وهو يحاول تأويل السورة وتدبرها
وقد كان " البقاعي" يدور في تدبره تحليل الكلمات والجمل والآيات والمعاقد في ضوء المعالم الكبرى للمقصود العظم للسورة، حتى ينتهى إلى تحرير المعالم الدقيقة لذلك المقصود، فيعود إلى تدبر الجمل والآيات والمعاقد تدبرًا أعمق من سابقه في ضوء هذا التحرير الدقيق للمعالم الدقيقة للمقصود
نرى " البقاعي" مثلاً يقوم بتعديل منهجه وخطته في التدبر عندما يتقدم فيه، وعندما يصل إلى سورة " سبأ" يرجع إلى ما سبق أن صنعه من أول سورة " الفاتحة " وحتى سورة " سبأ" فيعيد النظر فيه، وهكذا يقين نفسه في حركة دائرية ترددية بين المقصود الكلى والعناصر في إطار السورة القرآنية، ثمَّ في القرآن الكريم كلُّهِ، لرحابة ميدان التناسب.
وإذا ماكان عمودا " التناسب " عنده هما " النظم التركيبي" و" النظم الترتيبي "وكان كلُّ منهما يعتمد على الآخر كما تراه في قوله:
" المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف، بديعة الرصف، عَلِيَّةُ الأمر، عظيمة القدر، مباعدة لمعانى الكلام على أنها منها أخذت " إذا ماكان ذلك فإن"البقاعي" ليذهبُ إلى أنَّ "النظم الترتيبي " يحتاج متدبرُه إلى أنْ يكون ذا فراسة بيانية في تدبره، لأنَّه في غاية الخفاء
فإذا ما أراد المتدبِّرُ العبورَ من " النظم التركيبي " إلى تأمل ربط الجمل أو الآيات
…
بما جاء من بعد خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظنَّ أنَّها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزِّ والبسط، فربما شككه ذلك وزلزل إيمانه، وزحزح إيقانه، وربما وقف ذلك بكثير من المخالفين عن الدخول في هذا الدين " (1)
لنتجاوز شيئا ما عن مبالغة " البقاعي " في أثر الجهالة ببعض منازل " النظم الترتيبي " لننتهى إلى أنَّ " النظم الترتيبي" الذي هو الممثل لروح الكلام عنده يأتيه سمو أثره وصعوبة تأمله وإدراكه من خفائه وشموله وهيمنته على كل عنصر بحيثُ يحتاجُ المتدبرُ إلى رَحابةِ أفقٍ، وعمقِ فهمٍ، وبصيرةٍ وقدرةٍ على الاختزانِ الأمين لدقائقِ البيانِ، والتتبعِ الدقيقِ لكلِّ حركةً جزئيةٍ، فيرصدها ببصيرةٍ نافذةٍ؛ ليَحْظَى بالروح الممسكِ بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وشاردةٍ بعد أن ألقت إليه قيادَها، وذلك أمرٌ صعبٌ مراسُه، ومنْ ثَمَّ كان مثيرًا للذَّةِ والمتعةِ فينا0
*****
وهو يتخذ منهاجا في تدبره تناسب البيان القرآني المعجز، هذا المنهاج ذو معالم كليّه أرى حاجة إلى بيان بعضها، ولن يكون بياني بعض هذه المعالم بالموفي حق الكشف والبيان عن كثير مما يقوم في تفسير البقاعي.
***
إذا ما كان الذي مضي بيانا لمفهوم التناسب عن البقاعي ومستوياته ومجالته التي يتحقق فيها فإنّ البقاعيّ يتخذ هذا أساسًا لمنهاج تأويل بلاغة البيان القرآنيّ المعجز، تراه قائما في كلّ مرحلة من مراحل تأويله البيان القرآنيّ المعجز بمكنوناته ومكوناته: معنى ومبنى
وهذا المنهاج ذو سمات ومعالم عديدة آثرت أن أوجز القول في أهمها، وأن أشفع كل معلم منها بشيء من تأويله ليتبين لنا منه ما لم يسطع بياني أن يبين عنه، وهذه المعالم ضربان:
{الضرْب الأول} :
(1) – نظم الدرر: ج1 ص 11
معالم منهاجه في تأويل تناسب ترتيب سور القرآن كما هي في نسق التلاوة، وكما عليه الأمة قائما بين دفتي المصحف ، فكلّ سورة إنّما هي نازلة منزلها الحكيم الذي لايكون لها غيره لما اقتضاه مقصودها الأعظم وما تناسل منه من معانى الهدى الكلية والجزئية، فتحقق للسورتصاعدها في ترتيبها وتناسل مقاصدها ومعانيها.
وهذا الضرب تراه في المعالم الأربعة الأولى وقد جعلتها الفصل الأول من هذا الباب.
وعناية كثير من المفسيرين بهذا الضرب قليلة بالنسبة إلى منزلها في الإعجاز البياني للقرآن الكريمِ،ومنزلها من الفقه والفهم
وعناية البقاعي بهذا الضرب عناية متميزة عن عناية أقرانه وأشياخه مما يجعل لتفسيره (نظم الدرر) مكانا يمكنك أن توقن أن غيره لا يزاحمه فيه.
ومنهاجه في تدبر هذا الضرب متميِّز عن منهاج سابقيه ولاحقيه ممن تكلموا في مناسبات السور، وسوف تكشف لك الأوراق القادمة - إن شاء الله تعالى - بعضًا من ملامح هذا التميز في منهاج البقاعي في تأويله بلاغة القرآن الكريم في تناسب سوره.
{والضرب الآخر} :
معالم تأويل بناء السورة القرآنية وتصاعد معانيها الكلية والجزئية وتناسلها من مقصود كليّ أعظم
وهذا تراه في بقية المعالم التي أوجزت القول فيها، وقد جعلته الفصل الثاني من هذا الباب، وهذا الضربُ هو الجامعُ بين نوعي النَّظم عند البقاعيّ: النظم التركيبي، والنظم الترتيبي
وإذ ما كانت مسالك النظم التركيبي عديدة لا يكاد يحاط بها على نحو ما تراه في علوم البلاغة العربية فإنَّ مسالك النظم الترتيبيّ أشدَّ مؤونة على سالكها فقها وتدبرًا، وأبسط ميدانا وأبعد مدى، مما بستوجب على القائم لفقهها أن يتخذ لها الزاد، وخير الزاد التقوى وإتقان العمل.