الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان هذا الذي سمعت من رأي " أبي سليمان الخطابيّ " فإنَّ لصاحب كتاب " المباني لنظم المعاني" وهو من علماء القرن الرابع والخامس " ليذهب في مقدمة كتابه هذا في الفصل الثالث إلى أنَّ القرآن الكريم على ترتيبه الذي بين أيدنا بين دفتي المصحف هو هو الذي في اللوح المحفوظ قائلا:
" وأمَّا الدليل على أنَّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي في أيدينا، وأنَّه تعالى أنزله جملة إلى السماء الدّنيا في ليلة القدر، ثُمَّ كان ينزل منه الشيء بعد الشيء على حسب الحاجة إليه، فهو قول الله سبحانه وتعالى:
{إنَّ عَليْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبَعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَه} (القيامة:17-19)
وهذا أدلّ الدليل على أنّ الله سبحانه وتعالى تولى تنزيله وجمعه ونظمه، وأنزله على المصطفي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا على لسان حبريل عليه السلام وعصمه السهو والخطأوالتحرف فيه " (1)
ثمَّ يقول: " وتدلّ عليه الأخبار المرويةُ عن النّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا في تسمية سورة " الحمد لله ربّ العالمين " فاتحة الكتاب، فلولا أنَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أمر الصحابة أن يرتبوا هذا الترتيب عن أمر "جبريل" عليه السلام عن "الله " عز وجل لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى، إذ قد ثبت بالإجماع أنَّ هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا، فثبت أنَّها فاتحته نظمًا وترتيبًا وتكلُّمًا "(2)
المعلم الرابع.
رَدُّ مَقْطَعِ القرآنِ الكريم ِعلَى مَطْلَعِهِ
(1) - مقدمتان في علوم القرآن (مقدمة كتاب المباني) ت: أرثر جفري: ص:40 - مكتبة الخانجي 0
(2)
- السابق: 41 -42
يقوم تأويل "البقاعي" البيان القرآني الكريم على أنَّ القرآن الكريم متناسبة أجزاء بيانه إن كلمة وإن سورة وما بينهما، وأن كل جزء قائم في مقامه قيامًا أساسُه اقتضاءُ المقامِ له، وأنَّ ما قدِّم لم يقدَّم على الآخر وهو منفصل معناه عن معنى ما قدِّم عليه، بل معانى الهدى في القرآن الكريم متناسل بعضها من بعض، فلست بالذي يستطيع أن تقول إنَّ معنى كذا ابتداء لايسبقه من المعانى ما يبنى عليه، بل هو في تناسب معانيه وتناسلها كالحلقة المفرغة لايدرى أين طرفاها.
ومن ثَمَّ فإنَّه في مقدمة تفسيره يصرح بأنَّه " لاوقف تامّ في كتاب الله تعالى، ولا على آخر سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) بل هي متصلة مع كونها آخر القرآن بالفاتحة التي هي أوله كاتصالها بما قبلها بل أشدّ"(1)
والغاية من تفصيل القرآن الكريم إلى آيات وسورقائمة عند "البقاعيّ" في " أنَّ الشيءَ إذا كان جنسًا وجعلت له أنواع، واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه، وأنبل، ولاسيّما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام، وتجاوبت النظائر بحسن الالتئام، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الإحكام وجمال الأحكام.
وذلك أيضًا أنشط للقارئ، وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة، أو سور معلومة، وغيرذلك " (2)
وهذا التفصيل إلى سور لا يعنى كما سمعت أنّ سورة " الناس " نهايته التى لاتلتحم معانى الهدى فيها بمعانى الهدى في أول القرآن الكريم، فهذه الأولية والآخرية في ترتيب السور إنما هي أولية في نسق التلاوة، وليست أولية في تفاصل المعنى.
هو ذو سياقِ دائريٍّ ليس له بداية لا تلتحم بشيءِ وليس له نهاية ينقطع عندها، ومن ثَمَّ كان التحريض النبوي لتالى القرآن الكريم أن يكون الحال المرتحل
(1) - نظم الدرر:1/15
(2)
- السابق:1/162
" سئل النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا:"أيّ العمل أفضل؟ قال الحالّ المرتحل.قيل: وما الحلّ المرتحل؟
قال: صاحب القرآن يضربُ من أوّل القُرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوّله كلما حل ارتحل" (سنن الدارمي: فضائل القرآن)
ومن ثَم فإنَّ "البقاعيَّ" سعى إلى ّ رَدِّ تسعِ سورٍ من القرآن الكريم من آخره إلى تسعِ سورٍ من أولِه، وهو بذلك يتجاوزُ بأسلوب رد العجز على الصدر ماهو عند البلاغيين، فيجعله شاملا بناء السورة بل بناءَ القرآن الكريم كلِّه.
وهو في ختام سورة " قريش" يبدأ النظر في رد تسع سور من آخر القرآن الكريم تلاوة على تسع سور من أوله ترتيلا، قائلا:
((وكما التقَى آخرُ كلِّ سورةٍ مع أولها، فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها، فإنَّ حاصلها المَنُّ على " قريش" بالإعانة على المتجر إيلافًا لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصه بالأمر بعبادة الذي مَنَّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان
. ومن أعظم مقاصد التوبة المناظرة لها بكونها التاسعة من الأول البراءة من كلّ مارق، وأنَّ فعل ذلك يكون سببًا للألفة بعد ما ظنَّ أنَّه سببٌ للفرقة، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته، والفوز بأمنه ونعمته، والبشارة بالغنى على وجه اعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر وأوفى وأوفر وأزهى وأزهر وأجلّ وأفخر بقوله تعالى:
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: من الآية28)
فعلم بهذا علمًا جلِيًّا أنَّه شرعَ سبحانه وتعالى في ردّ المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بإنزال القرآن بلسانهم، وأرسل به النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم، وتعظيمه إغناهم وأمنهم.
ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في ردُّ المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى إنَّ في كلّ منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة، فإنَّ براءة مع الأنفال كذلك حتَّى قال "عثمان" رضي الله عنه: " إنََّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا توفيَ ولم يبين أمرها، فلم يتحرَّرْ له أنَّها مستقلةٌ عنها، ولذلك لم يكتب بينهما سطر {بسم الله الرّحمنِ الرَّحيم}
وكانت هذه التي من الآخر مقطوعًا بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف " أبي ّ"رضي الله عنه، وقراءة "عمر" رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك، كما مضى إشارة إلى أنَّ الآخري كون أوضح من الأول ومن أغرب ذلك أنَّ السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق، فالأولى في الاخر وهي " الفيل" أكرم الله عز وجل فيها قريشًا بإهلاك أهل "الإنجيل"، والأولى في الأول، وهي " الأنفال " أكرمهم الله جل جلاله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم ، فكان ذلك سببًا لكسر شوكتهم، وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم
وعلم أنَّ البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم؛ لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأوَّلِ بالإرسال والنَّاسُ لهم تبعٌ، كما أنَّ جميع الرسلِ تبعٌ للرسولِ الفاتحِ الخاتمِ
…
)) (1)
(1) - نظم الدرر:22 م268 - 269
كذلك يسعى البقاعي إلى تأويل تنسيق السور القرآنية تنسيقا يجعل من النظم البياني للقرآن الكريم في علائقه ببعضه كعلاقة أجزاء الدائرة المفرغة ببعضها لايدرى أين طرفاها.
وهو يستمر في تبيان تعالق كل سورة من السور التسع في آخر القرآن الكريم ترتيلا بما قابلها من التسع في أوله تلاوة.
ومما هوجلِيٌّ لايدفع، ولا يظهر فيه شائبة تكلّف تأويل ما تراه من العلاقة الوثيقة بين سورة " المسد " الرابعة من آخر تلاوته وسورة " النساء " الرابعة من أول تلاوته
يقول في ختام تاويله سورة "المسد":
" وحاصلُ هذه السورةِ أنَّ أبا لهبٍ قطع رحمه، وجار عن قصد السبيل، واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لمْ يألُ جهدًا في نصحه على ما تراه من أنّه لم يألُ هو جهدًا في أذاه، واعتمد على ماله وأكسابه، فهلك وأهلك امرأته معه، ومن تبعه من أولاده.
ومن أعظم مقاصد سورة" النساء" المناظرة لها في ردّ المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لاسيّما لذوي الأرحام والعدل في جميع القوال والأفعال، فكان شرح حال الناصح الذي لاينطق عن الهوى، وحال الضالّ الذي إنما ينطق عن الهوى قوله تعالى:
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(النساء:26)
وختمها إشارةً إلى التحذيرِ منْ مثلِ حالِهِ، فكأنَّه قيلَ: يبينُ الله لكم أن تضلوا فتكونوا كأبي لهبٍ في البوار، وصَلْيِ النَّار كما تبين لكم فكونوا على حذرمن كلّ ما يشابه حاله، وإن ظهر لكم خلاف ذلك، فأنا أعلم منكم، والله بكل شيءٍ عليم والحمد لله رب العالمين)) (1)
هذا الذي أبداه "البقاعيّ" من تعانق سورتي " المسد " و" النساء" لا ترى فيه شائبة تكلف، وما هوإلا أن يلفت بصيرتك إليه حتى تسكن إلى ما لفتك إليه.
(1) - نظم الدرر: 22 /343
وهو هنا يهدى إلينا إرشادًا أن نمدَّ مجال الدرس البلاغي للأساليب فلا نجعلها بالمنحصرة في بناء الجملة أو الآية بل نتجاوز ذلك إلى بناء المعقد أو السورة بل القرآن الكريم كله.
الطباق يمتد به من التقابل بين كلمتين في بناء الجملة أو الجملتين في بناء الآية أو البيت إلى أن نجعله مقابلة بين قصة وقصة كمثل ما عرفه المفسرون والبلاغيون من عطف القصة على القصة، ونمتد به فنجعله تقابلا بين سورة وسورة.
وبهذا يكون عندنا طباقٌ مفرد وطباق متعدد وطباقٌ كليّ مركبٌ، وقد كان للبلاغيين نظر كذلك في التشبيه، ولكنهم لم يفعلوا في شأن الطباق وهو بذلك جدير.
وكذلك " التَّصدير " نتجاوز به رد العجز على الصدر في بناء البيت إلى بناء الفصل في القصيدة ورد عجز القصيدة على مطلعها، وفي البيان القرآني نتجاوز به إلى ردّ عجز السورة على مطلعها وردّ مقطع البيان القرآني الكريم تلاوته على مطلعه،ويمكن أن يفعل مثل هذا في أساليب التقديم والتأخير والحذف والفصل والوصل.
مجمل الأمر أنَّ هذا الذي كان من" البقاعيّ " دالٌّ على أنَّه ذاهب إلى أن ترتيب سور القرآن العظيم فيه من أسرار الإعجاز البياني ما فيه، وأنه ليس بالمعجز في نظم تراكيب جمله أو آياته بل في ترتيب آياته وسوره
ولو أنَّ البلاغيين المحدثين انصرفت عناية جمع منهم إلى الوفاء ببعض حق هذا الباب من التأمل والتدّبر واستنباط أصول بلاغته في القرآن الكريم لكان لنا أن نقيم إلى مأ أقامه الأسلاف ما يرضي به الله عز وجل عنا من أنّه من باب النصيحة لكتابه الكريم.
ولأمكننا أن نضيف إلى التفكير البلاغي والنقدي للكلمة الإنسان: شعرًا ونثرًا فنيًّا ما يؤكد أنَّنا لسنا بالمفتقرين إلى استجداء أصول التفكير النقدي من قوم لا يتكلمون بلساننا ولا يحملون في صدورهم هَمًّا كمثل همّنا، وإنّه لَمِنَ المَعَرّة أن يستجدي الأحفادُ ما هو مطمور في خزائن أجدادهم التي بين أيديهم، ولا يكلفون أنفسهم شرف الاستنباط منها، ويرون أنَّ شرفَهم في أن يقتاوتوا فتاتَ موائدِ الأغيار، وأن ينبشوا الأجداث ليستخرجوا ما واراه الآخر من الفكر النقديّ الذي نسيه القوم ورغبوا عنه.
إنَّ غير قليل مما تقرأ من التفكير النَّقدي المستجدَى من الآخر على الشاطئ الغربيّ أنت واجدٌ أصولَه التي يمكن أن تُنْمَى إنْ صدقَ العزم في تراث أجدادنا وفي نتاج " البقاعي" خاصّة من تلك الأصول كثير نبيل.