الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مُجَانَبَةِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ
قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْأَنْعَام: 68]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الْكَهْف: 28]، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17]، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 53]، أَيْ: صَارُوا أَحْزَابًا وَفِرَقًا عَلَى غَيْرِ دِينٍ وَلا مَذْهَبٍ، وَقِيلَ: اخْتَلَفُوا فِي الاعْتِقَادِ وَالْمَذَاهِبِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]، قَالَ: الأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي الْعَمَلِ، وَالأَبْصَارُ: بُصَرَاءُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمرَان: 7]، قَالَ: الْحَلالُ، وَالْحَرَامُ.
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمرَان: 7] يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَة: 26]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يُونُس: 100]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [مُحَمَّد: 17].
106 -
قَالَ الشَّيْخُ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ، رحمه الله: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، نَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمرَان: 7]، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .
هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ
وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الأَحْوَلُ، كَانَ قَاضِيًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ: كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمرَان: 7] أَيْ: غَيْرُ مَنْسُوخَاتٍ، وَقَوْلُهُ:{آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يُونُس: 1] أَيِ: الْمُحْكَمِ.
وَقَوْلُهُ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] أَيْ: أُحْكِمَتْ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِظَاهِرِهِ مَعْنَاهُ.
وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ، فَفِيهِ أَقَاوِيلُ، أَحَدُهَا: مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَةٌ: مَا أَشْتَبِهُ مِنْهُ، فَلَمْ يُتَلَقَّ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: إِذَا رُدَّ إِلَى الْمُحْكَمِ عُرِفَ مَعْنَاهُ، وَالآخَرِ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِهِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ يَبْتَغُونَ تَأْوِيلَهُ، كَالإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ، وَعِلْمِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِهِ، وَلَمْ يُكْشَفْ لَنَا عَنْ سِرِّهِ، فَالْمُتَّبِعُ لَهَا مُبْتَغٍ لِلْفِتْنَةِ، لأَنَّهُ لَا يَنْتَهِي مِنْهُ إِلَى حَدٍّ تَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَالْفِتْنَةُ: الْغُلُوُّ فِي التَّأْوِيلِ الْمُظْلِمِ.
وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمرَان: 7] أَيْ: مُعْظَمُهُ، يُقَالُ لِمُعْظَمِ الطَّرِيقِ: أُمُّ الطَّرِيقِ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا} [الْقَصَص: 59] أَيْ: فِي مُعْظَمِهَا.
107 -
قَالَ الشَّيْخُ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّرَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْفُوظِ بْنِ حَبِيبٍ الْمُؤَذِّنُ، بِبُخَارَى فِي شَهْرِ
رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، نَا أَبُو أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ؛ نَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً، أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ، يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ، فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا.
قَالَ الشَّيْخُ: قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ افْتِرَاقِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَظُهُورِ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فِيهِمْ، وَحَكَمَ بِالنَّجَاةِ لِمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَسُنَّةَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، فَعَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إِذَا رَأَى رَجُلا يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنَ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مُعْتَقِدًا، أَوْ يَتَهَاوَنُ بِشَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَيَتْرُكَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَلا يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَلا يُجِيبَهُ إِذَا ابْتَدَأَ إِلَى أَنْ يَتْرُكَ بِدْعَتَهُ، وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ الثَّلاثِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ دُونَ مَا كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ دَائِمَةٌ إِلَى أَنْ يَتُوبُوا.
قَال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ وَتَخَلُّفِ صَاحِبَيْهِ: مُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى مَا
108 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، نَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ،
قَالَ: " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَأَمَّا صَاحِبَايَ، فَاسْتَكَانَا، وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَخْرُجُ، فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي، أَقْبَلَ عَلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ، أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ، تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ. . . حَتَّى إِذَا كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلامِنَا، آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ
عَلَيْنَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا، يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ".
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هِجْرَانَ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَافَ عَلَى كَعْبٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ،
فَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ، وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرَاءَتَهُمْ، وَقَدْ مَضَتِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا مُجْمِعِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى مُعَادَاةِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَمُهَاجَرَتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ: أَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ.
وَقَالُوا أَبُو قِلابَةَ: لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الأَهْوَاءِ، أَوْ قَالَ: أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ بَعْضَ مَا تَعْرِفُونَ.
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ، فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ: وَلا نِصْفِ كَلِمَةٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ سَمِعَ بِدْعَةً، فَلا يَحْكِهَا لِجُلَسَائِهِ، لَا يُلْقِيهَا فِي قُلُوبِهِمْ.
قَالَ الشَّيْخُ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هِجْرَانِهِمْ كَفُّوا عَنْ إِطْلاقِ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثِ بْنُ سَعْدٍ، وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ حَفْصَ الْفَرْدِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُسَمِّيهِ حَفْصَ الْمُنْفَرِدِ، فَقَالَ حَفْصٌ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَفَرْتَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ الْبُخَارِيُّ: نَظَرْتُ فِي كَلامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَإِنِّي لأَسْتَجْهِلُ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ إِلا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ، وَقَالَ: مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ خَلْفَ الْجَهْمِيِّ وَالرَّافِضِيِّ، أَمْ صَلَّيْتُ خَلْفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالصَّلاةَ خَلْفَهُمْ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى الإِطْلاقِ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَطْلَقَ عَلَى بَعْضِهِمُ اسْمَ الْكُفْرِ فِي مَوْضِعٍ أَرَادَ بِهِ كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَة: 44].
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالتَّكْفِيرِ مِنَ السَّلَفِ عَلَى مُبْتَدِعٍ يَأْتِي فِي بِدْعَتِهِ مَا، يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الإِسْلامِ، وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ لَا يُكَفِّرُ أَهْلَ الأَهْوَاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَئوْا، وَيُجِيزُ شَهَادَتَهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فِي مَذْهَبِهِ أَنْ يُكَفِّرَ الصَّحَابَةَ، أَوْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ أَنْ يُكَفِّرَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يَرَى الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ، وَلا يَرَى أَحْكَامَ
قُضَاتِهِمْ جَائِزَةً، وَرَأَى السَّيْفَ وَاسْتِبَاحَةَ الدَّمِ، فَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَلا شَهَادَةَ لَهُ.
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، فِيمَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ، وَلا غَيْرَهَا، إِلا أَنَّهُ لَا يَدَعُ إِتْيَانَهَا، فَإِنْ صَلَّى أَعَادَ الصَّلاةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ غِلٌّ، فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ سبحانه وتعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى إِلَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الْحَشْر: 7 - 10] الآيَةَ.
وَذُكِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الآيَةَ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ إِلَى قَوْلِهِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الْفَتْح: 29] ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ أَصَابَتْهُ الآيَةُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَخْشَى أَنْ لَا يَنْفَعَهُ مَعَ ذَلِكَ عَمَلٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «بِئْسَ الْقَوْمُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ لَا نُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ» .
وَقَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: وَهَذَا الْهِجْرَانُ، وَالتَّبَرِّي، وَالْمُعَادَاةُ، فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمُخَالِفِينَ فِي الأُصُولِ، أَمَّا الاخْتِلافُ فِي الْفُرُوعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَاخْتِلافُ رَحْمَةٍ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي الدِّينِ، فَذَلِكَ
لَا يُوجِبُ الْهِجْرَانَ وَالْقَطِيعَةَ، لأَنَّ هَذَا الاخْتِلافَ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا مُؤْتَلِفِينَ، رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ، وَكُلٌّ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الرُّشْدِ مُشْتَرِكُونَ، قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَلِفُوا، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ، فَتَرَكَهُ رَجُلٌ تَرَكَ السُّنَّةَ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا وَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ وَاحِدٍ أَخَذَ بِالسُّنَّةِ.