الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا ذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ حُدُودَهُ الْأَرْبَعَةَ، وَأَسْمَاءَ أَصْحَابِهَا وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْجَدِّ، وَذَكَرَ الْمَحَلَّةَ وَالْبَلَدَ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ، وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ أَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً قَضَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا يُسْتَحْلَفُ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُدَّعِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ
[شروط الدعوى وحكمها]
قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ) لِأَنَّ الدَّعْوَى لِلْإِلْزَامِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْمَجْهُولِ لَا تُقْبَلُ.
(فَإِنْ كَانَ دَيْنًا ذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى إِجْبَارُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إِيفَاءِ حَقِّ الْمُدَّعِي، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا طَالَبَهُ بِهِ فَامْتَنَعَ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ.
(وَإِنْ كَانَ عَيْنًا كَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارَهَا) لِيُشِيرَ إِلَيْهَا بِالدَّعْوَى وَالشُّهُودِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُنْكِرُ عِنْدَ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ.
(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا) لِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ فَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَهَا كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ، إِذْ هِيَ الْمَقْصُودُ غَالِبًا، وَيَذْكُرُ فِي الْقِيمَةِ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي قَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَجِنْسِهِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا يَذْكُرُ الذُّكُورَةَ أَوِ الْأُنُوثَةَ.
(وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ حُدُودَهُ الْأَرْبَعَةَ وَأَسْمَاءَ أَصْحَابِهَا وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْجَدِّ وَذَكَرَ الْمَحَلَّةَ وَالْبَلَدَ) لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ فَتَعَذَّرَ تَعْرِيفُهُ بِالْإِشَارَةِ فَيُعَرَّفُ بِالْحُدُودِ وَيَبْدَأُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ثُمَّ بِالْمَحَلَّةِ الَّتِي فِيهَا الْعَقَارُ ثُمَّ يُبَيِّنُ الْحُدُودَ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقَعُ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَصْحَابِهَا وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، وَفِي ذِكْرِ الْجَدِّ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ النَّسَبِ لِوُجُودِ التَّعْرِيفِ بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الشُّهُودِ ذِكْرُ الْحُدُودِ كَمَا مَرَّ.
قَالَ: (ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ خَصْمًا وَالْحَقُّ لَهُ فَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِطَلَبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ رَهْنًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ، فَإِذَا طَالَبَهُ زَالَ الِاحْتِمَالُ، وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي، وَلَا يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ.
قَالَ: (وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) لِيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْحُكْمِ وَلِوُجُوبِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، (فَإِنِ اعْتَرَفَ أَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً قَضَى عَلَيْهِ) ؛ أَمَّا الِاعْتِرَافُ فَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى:{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] أَيْ شَاهِدٌ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، فَهِيَ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتَكْشِفُ صِدْقَ الدَّعْوَى فَيَقْضِي بِهَا، وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: (وَإِلَّا يُسْتَحْلَفُ) لِقَوْلِهِ
فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، فَإِنْ قَضَى أَوَّلَ مَا نَكَلَ جَازَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا، وَيَثْبُتُ النُّكُولُ بِقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَبِالسُّكُوتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي (ف) ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
عليه الصلاة والسلام: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَلَكَ يَمِينُهُ» ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي وَاسْتِحْلَافِهِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
(فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ» فِيمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ.
قَالَ: (إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ) فَتُقْبَلُ، قَالَ عليه الصلاة والسلام:«الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ» ، وَلِأَنَّ طَلَبَ الْيَمِينِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يَحْضُرْهَا؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ، وَإِذَا قُدِرَ عَلَى الْأَصْلِ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْفِ.
قَالَ: (وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) لِأَنَّ النُّكُولَ اعْتِرَافٌ وَإِلَّا يَحْلِفُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، فَكَانَ نُكُولُهُ إِقْرَارًا أَوْ بَدَلًا فَيُقْضَى بِهِ.
(فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ أَوَّلُ مَا نَكَلَ جَازَ) لِأَنَّهُ حُجَّةٌ كَالْإِقْرَارِ.
(وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا) وَيُخْبِرُهُ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ، فَإِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَأَبَى قَضَى عَلَيْهِ، هَكَذَا فَعَلَهُ أَبُو يُوسُفَ مَعَ وَكِيلِ الْخَلِيفَةِ وَأَلْزَمَهُ بِالْمَالِ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ النُّكُولِ: أَنَا أَحْلِفُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَلَّفَهُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يُحَلِّفْهُ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ قَالَ أَحْلِفُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ كَذَا هَذَا.
(وَيَثْبُتُ النُّكُولُ بِقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ.
(وَبِالسُّكُوتِ) لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَحْلِفُ.
(إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ) فَيُعْذَرُ.
قَالَ: (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَذَلِكَ يَنْفِي رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ قَسْمٌ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي يَمِينٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا عَدَمُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي يَمِينٌ مُعْتَبَرَةٌ، فَيَبْقَى الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ فَرْدٍ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ "؟ قَالَ: لَا، قَالَ: " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ» يَنْفِي الْجَوَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ. وَمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» فَمَرْدُودٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَنَقَلَهُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا إِلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَالنَّقْلُ إِلَى غَيْرِهِ خِلَافُ الْكِتَابِ، أَوْ نَقُولُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ خِلَافُ الْكِتَابِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَادِثَةٍ عَامَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَيْنَ السَّلَفِ، فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، فَلَمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ،
وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ (سم ف) وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا يُلَازِمُهُ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ (سم) ، وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» مَشْهُورٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَاتُرِ فَلَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَ مُعَارِضًا لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ يُرَدُّ.
الرَّابِعُ: رَدَّهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ.
الْخَامِسُ: مَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ.
قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ فَلَا يَبْطُلُ إِلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَاعْتِرَافُهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ اعْتِرَافًا بِسُقُوطِ الْيَمِينِ، وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ» ؛ رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَجِبُ مَعَ وُجُودِهَا؛ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَنَا أَحْلِفُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِالْبَيِّنَةِ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِقَامَتِهَا فَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) وَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَغِيبُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَغِيبُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ فَيَكْفُلُهُ مُدَّةَ إِحْضَارِ الشُّهُودِ عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي يُعَدِّيهِ إِحْيَاءً لِلْحُقُوقِ كَذَا هَذَا، وَيَكْتَفِي بِالْكَفِيلِ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا لِيَحْصُلَ التَّوَثُّقُ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَلِيًّا أَوْ تَاجِرًا، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْمُلَازَمَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي.
(وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا يُلَازِمُهُ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي) لِأَنَّ مُلَازَمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ تَضُرُّهُ وَتَمْنَعُهُ مِنْ سَفَرِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا إِذَا كَانَ حَقًّا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ؛ أَمَّا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا، وَقَالَا: يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي السَّرِقَةِ إِنِ ادَّعَى الْمَالَ.
قَالَ: (وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ)، وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ فِيهَا إِلَّا الْحُدُودَ وَاللَّعَانَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَهُ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِقْرَارٌ عِنْدَهُمَا، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِيهَا. لَهُمَا أَنَّ النَّاكِلَ مُمْتَنِعٌ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرًا، فَيَصِيرُ مُعْتَرِفًا بِالْمُدَّعَى دَلَالَةً، إِلَّا أَنَّهُ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحُدُودِ.
وَلَهُ أَنَّا
وَيُسْتَحْلَفُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنْ نَكَلَ اقْتُصَّ مِنْهُ (سم) فِي الْأَطْرَافِ، وَفِي النُّفُوسِ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ (سم) أَوْ يُقِرَّ، وَإِنِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتُحْلِفَ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، وَتُغَلَّظُ بِأَوْصَافِهِ إِنْ شَاءَ الْقَاضِي،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لَوِ اعْتَبَرْنَاهُ إِقْرَارًا يَكُونُ كَاذِبًا فِي إِنْكَارِهِ وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا وَإِبَاحَةً لَا يَكُونُ كَاذِبًا فَيُجْعَلُ بَاذِلًا صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْحَرَامِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ لَا يُسْتَحْلَفُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ إِنِ ادَّعَى الْمَالَ فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمَّنَهُ الْمَالَ لِثُبُوتِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَدَّعِيَ الْأَمَةُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ سَيِّدِهَا، وَهَذَا ابْنُهَا مِنْهُ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى الْمَوْلَى لَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِنْكَارِهَا؛ لَأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ.
وَاخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، ثُمَّ عِنْدَهُمَا كُلُّ نَسَبٍ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ كَالْبُنُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ نَسَبٍ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَعْوَى الْمَالِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يُسْتَحْلَفُ إِلَّا إِذَا ادَّعَى بِسَبَبِهِ مَالًا أَوْ حَقًّا كَدَعْوَى الْإِرْثِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهِ.
قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ فِي الْقِصَاصِ) بِالْإِجْمَاعِ.
(فَإِنْ نَكَلَ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ، وَفِي النُّفُوسِ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ)، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا، لِأَنَّ النُّكُولَ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ، فَيَجِبُ الْمَالُ سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ وَالْآخَرُ الْخَطَأَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْبَذْلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَطْعُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْبَذْلُ هَنَا مُفِيدٌ لِانْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّفْسُ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ يُحْبَسُ بِهَا كَمَا فِي الْقَسَامَةِ.
قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتُحْلِفَ) لِأَنَّهُ دَعْوَى مَالٍ.
(فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ) لِمَا مَرَّ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَتِ الصَّدَاقَ فِي النِّكَاحِ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى مَالٍ، وَيَثْبُتُ الْمَالُ بِالنُّكُولِ دُونَ النِّكَاحِ وَقَدْ مَرَّ.
(وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ) قَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرَ» .
(وَتُغَلَّظُ بِأَوْصَافِهِ إِنْ شَاءَ الْقَاضِي) ، وَقِيلَ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالِفِ وَصَلَاحِهِ وَخَوْفِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعِظَ الْحَالِفَ قَبْلَ الْحَلِفِ، وَيُعَظِّمَ عِنْدَهُ حُرْمَةَ الْيَمِينِ، وَيَتْلُوَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَيَذْكُرُ لَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
وَيُحْتَاطُ مِنَ التَّكْرَارِ، وَلَا تُغَلَّظُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ بِاللَّهِ الَذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالنَّصْرَانِيُّ بِاللَّهِ الَذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ بِاللَّهِ الَذِي خَلَقَ النَّارَ، وَالْوَثَنِيُّ بِاللَّهِ، وَلَا يُحَلَّفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَتَغْلِيظُ الْيَمِينِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الطَّالِبِ الْغَالِبِ، الْمُدْرِكِ الْمُهْلِكِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرَّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ وَيُنْقِصُ.
(وَيَحْتَاطُ مِنَ التَّكْرَارِ) بِإِدْخَالِ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
(وَلَا تُغَلَّظُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ) لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ بِهِ حَاصِلٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ لِلْحَدِيثِ. وَقِيلَ يَحْلِفُ فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ مُبَالَاةِ النَّاسِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَكَثْرَةِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَرَاهَتِهِمُ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَجُحُودِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِيمَا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرُ.
قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالنَّصْرَانِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ)، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْيَهُودِيَّ عَلَى حُكْمِ الزِّنَا فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ لَهُ: " أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى» ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْيَهُودِيِّ فَالنَّصْرَانِيُّ مِثْلُهُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَالْمَجُوسِيُّ فِي النَّارِ، لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يُعَظِّمُ الْإِنْجِيلَ، وَالْمَجُوسِيَّ يُعَظِّمُ النَّارَ كَتَعْظِيمِ الْيَهُودِيِّ التَّوْرَاةَ، فَيُحَلِّفُهُمْ بِمَا يَكُونُ أَعْظَمُ فِي صُدُورِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَجُوسِيِّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. أَمَّا عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ النَّارِ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمٌ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ، إِلَّا أَنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ وَرَدَ فِيهِمَا نَصٌّ خَاصٌّ، وَلِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَظَّمَةٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ إِلَّا بِاللَّهِ خَالِصًا.
(وَ) يَحْلِفُ. (الْوَثَنِيُّ بِاللَّهِ) لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْوَثَنَ وَالصَّنَمَ لِمَا مَرَّ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي الْكُلِّ عَلَى قَوْلِهِ بِاللَّهِ فَهُوَ كَافٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا يُغَلَّظُ لِيَكُونَ أَعْظَمَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ.
قَالَ: (وَلَا يُحَلَّفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ) لِأَنَّ الْغَرَضَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا وَلَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِهَا. وَيُسْتَحْلَفُ الْأَخْرَسُ فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْحَقُّ، وَيُشِيرُ الْأَخْرَسُ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ.
ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَلَى الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ؛ فَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ:
فَيُحَلِّفُهُ فِي الْبَيْعِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيمَا ذُكِرَ، وَفِي النِّكَاحِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَفِي الطَّلَاقِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَفِي الْوَدِيعَةِ مَا لَهُ هَذَا الَذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِكَ وَدِيَعَةٌ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ قِبَلَكَ حَقٌّ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
يُحَلِّفُهُ الْقَاضِي عَلَى الْحَاصِلِ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ رُبَّمَا انْفَسَخَ بِالتَّفَاسُخِ أَوْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مُوجِبِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ حَلَفَ كَذَبَ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا حَلَّفَهُ عَلَى الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحِقًّا أَمْكَنَهُ الْحَلِفُ فَلَا يَتَضَرَّرُ، وَقِيلَ إِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّبَبَ حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي بِأَنْ يَدَّعِيَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ أَوْ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَرَاهَا، فَحِينَئِذٍ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ فَهُوَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي سَمَّاهَا بِكَذَا، وَفِي الْمَبْتُوتَةِ بِاللَّهِ مَا هِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْكَ، وَمِثْلُهُ إِذَا ادَّعَتِ الْفُرْقَةَ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا آلَى مِنْهَا فِي وَقْتِ كَذَا وَلَا يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْعَقْدِ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ. وَالْأَفْعَالُ الْحِسِّيَّةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْحَاصِلِ أَيْضًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ. وَالثَّانِي يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَيُحَلِّفُهُ فِي الْبَيْعِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيمَا ذَكَرَ، وَفِي النِّكَاحِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا أَوْ يُخَالِعُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ.
(وَفِي الطَّلَاقِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَفِي الْوَدِيعَةِ مَا لَهُ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِكَ وَدِيعَةً وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ قِبَلَكَ حَقٌّ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَرِئَ مِنْ بَعْضِهَا أَوِ اسْتَهْلَكَهَا، وَفِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً بِاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْكَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُهُ ثُمَّ يُمَلِّكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يُسْتَحْلَفُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيلَ يَحْلِفُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْقِيمَةِ جَمِيعًا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى حَائِطِهِ خَشَبَةً، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ، أَوْ أَجْرَى مِيزَابًا عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي دَارِهِ، أَوْ رَمَى تُرَابًا فِي أَرْضِهِ، أَوْ شَقَّ فِي أَرْضِهِ نَهْرًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَرْتَفِعُ، وَمِثْلُهُ إِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عَلَى مَوْلَاهُ الْعِتْقَ يَحْلِفُ عَلَى السَّيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ، وَفِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلُ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَمَةِ بِالرِّدَّةِ وَاللَّحَاقِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللَّحَاقِ وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ، وَيُحَلِّفُهُ فِي الدَّيْنِ بِاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ وَالْقَرْضِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَدَّى الْبَعْضَ