الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صرَفَ اللهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّار، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى".
===
فقلت في الدنيا ذلك القول الذي قال فيه الناس، ولا أدري ما هو الآن؛ يريد أنه كان مقلِّدًا في دينه للناس، ولم يكن منفردًا عنهم بمذهب، فلا اعتراضَ عليه حقًّا كان ما عليه أو باطلًا، كذا في "المرقاة"(1/ 234).
(فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها) أي: إلى حسن الجنة وزينتها (و) إلى (ما فيها) من الحور والقصور (فيقال له) تنديمًا له: (انظر إلى ما) أي: إلى نعيم (صَرَف اللهُ) أي: دفعه الله (عنك) وحرمك عنه بالكفر والمعاصي (ثم يفرج) ويفتح (له فرجة) - بضم الفاء - أي: كَوَّةٌ وطاقةٌ (قبل النار) أي: جهة النار (فينظر إليها) أي: إلى النار حالة كونها (يحطم بعضها) ويضرب (بعضًا) آخر منها (فيقال له: هذا) المنزل (مقعدك) ومقرك في العقبى؛ لأنك (على الشك كنت) في دينك (وعليه) أي: وعلى الشك (مت، وعليه) أي: وعلى الشك (تبعث) أي: تحشر يوم القيامة (إن شاء الله تعالى).
فائدة
وفي قوله: في هذا الحديث: "فيجلس الميت في قبره" دلالة عند الجمهور على أن سؤال الميت وعذابه في القبر يكون لروحه مع الجسد، لا على الروح فقط، وأن هذه الأحاديث تدل عندهم على ثبوت عذاب القبر وسؤاله، وفيه مذاهب ستة:
الأول منها: مذهب الخوارج؛ وهو إنكار عذاب القبر مطلقًا، وبه قال بعض
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
المعتزلة؛ مثل: ضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وهو قول مردود بالنصوص المتواترة معنىً، وقد فصلها العلامة العيني في "عمدة القاري"(4/ 161 - 162)، والتفتازاني في "شرح المقاصد"، والشريف الجرجاني في "شرح المواقف"، ورد كلهم على ما استدل به المنكرون لعذاب القبر.
والثاني: أن عذاب القبر إنما يقع على الكفار دون المؤمنين، وهو مذهب بعض المعتزلة؛ كالجَيَّاني، حكاه عنهم الحافظ في "الفتح"(3/ 233)، وحديث عذاب القبر لمن كان لا يستبرئ من بوله، ولمن كان يمشي بالنميمة .. يرد عليهم، وكذلك ترد عليهم بعض الأحاديث الأخرى.
والثالث: أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود الروح إلى الجسد، وهو مذهب ابن حزم وابن هبيرة؛ كما نقل عنهما الحافظ في "الفتح"(3/ 235) وحديث الباب حجة عليهم؛ لأنه لا معنى لإجلاس الروح، وإنما يقع الإجلاس على الجسد.
والرابع: أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه إدراكًا؛ بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم، وهو قول ابن جرير وجماعة من الكرامية؛ كما نقل عنهم الحافظ.
والخاص: أن الميت لا يشعر بالتعذيب وبغيره إلا بين النفختين، قالوا: وحاله كحال النائم والمغشي عليه، لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة، وهذا مذهب أبي الهذيل ومن تبعه، حكاه الحافظ أيضًا، ورد عليه بحديث الباب.
والسادس: مذهب جمهور أهل السنة؛ وهو أنه تعاد الروح إلى الجسد، أو إلى بعضه عند السؤال أو العذاب؛ كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فقط .. لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع ذلك كون الميت قد تفرق أجزاؤه؛ لأن الله قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد، ويقع عليه السؤال؛ كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
قال الحافظ: والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط .. أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه؛ من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور؛ كالمصلوب، وجوابهم: أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة، وهو النائم؛ فإنه يجد لذةً وألمًا لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألمًا أو لذةً لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم؛ إبقاءً عليهم؛ لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت، إلا من شاء الله تعالى إدراكه ذلك.
قال الحافظ: وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور؛ كقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) وقوله: (تختلف أضلاعه) لضمة القبر، وقوله:(يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق) وقوله: (يضرب بين أذنيه) وقوله: (فيقعدانه) وكل ذلك من صفات الأجساد؛ كذا في "الفتح"(3/ 335).
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن له شاهد من حديث البراء بن عازب، أخرجه المؤلف بعد هذا الحديث، وأبو داوود مختصرًا ومطولًا، والنسائي في " سننه"، والحاكم في "المستدرك"، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في إثبات عذاب القبر، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وعبد الله بن أحمد في "السنة".
(59)
- 4212 - (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
===
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، ولأن له شواهد؛ كما بينتها، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(59)
- 4212 - (4)(حدثنا محمد بن بشار) العبدي البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا محمد بن جعفر) الهذلي البصري ربيب شعبة، ثقة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا شعبة) بن الحجاج، ثقة، من السابعة، مات سنة ستين ومئة (160 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن علقمة بن مرثد) - بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة - الحضرمي أبي الحارث الكوفي، ثقة، من السادسة. يروي عنه:(ع).
(عن سعد بن عبيدة) السلمي أبي حمزة الكوفي، ثقة، من الثالثة، مات في ولاية عمر بن هبيرة على العراق. يروي عنه:(ع).
(عن البراء بن عازب) بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، نزل الكوفة، استصغر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لدة، مات سنة اثنتين وسبعين (72 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ".
===
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (1).
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: وهو توكيد لقال الأول، أو قال البراء؛ كما تدل عليه بعض روايات مسلم:(نزلت) هذه الآية (في عذاب القبر) وسؤاله، فـ (يقال له) أي: للميت بعد الدفن (من ربك؟ ) أي: مالكك ومعبودك (فيقول) المؤمن في جواب سؤاله: (ربي) أي: مالكي ومعبودي هو (الله) الذي لا إله غيره (ونبيي) أي: رسولي الذي آمنت به واتبعته فيما أمرني به ونهاني عنه هو (محمد) بن عبد الله القرشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم (فذلك) أي: فمصداق ذلك وشاهده (قوله) أي: قول الله عز وجل في كتابه العزيز: ({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}) بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ({بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}) أي: على القول الحق الثابت؛ - وهي كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بإقرارها واعتقاد معناها {وَفِي الْآخِرَةِ} أي: عند السؤال عنها، قاله الطبري.
وقال العيني: والقول الثابت: هو كلمة التوحيد؛ لأنها راسخة في قلب المؤمن، وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : هو كلمة (لا إله إلا الله)، {وَفِي الْآخِرَةِ} ، قال: المسألة في القبر.
(1) سورة إبراهيم: (27).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال القرطبي: والمعنى: أي: يثبتهم في هذه الدار على التوحيد والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يميتهم عليها، وفي الآخرة عند المساءلة في القبر؛ كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله .. فهو المقصود، وإن كان من قول البراء .. فهذا لا يقوله أحد من قبل نفسه ورأيه، فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وسكت البراء عن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلم المخاطب بذلك، والله تعالى أعلم.
وقد قيل عن البراء أنه قال: هما سؤال القبر وسؤال القيامة؛ يعني: يرشد الله المؤمن فيهما إلى الصواب، ويصرف الكافر عن الجواب. انتهى من "المفهم".
قال العيني في "عمدة القاري"(4/ 2228): فإن قلت: المساءلة هل هي عامة لجميع الأمم أم خاصة بأمته صلى الله عليه وسلم؟
فذهب الحكيم الترمذي إلى أنها تختص بهذه الأمة، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل، فإن أطاعوا .. فذاك، وإن أبوا .. اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين .. أمسك عنهم العذاب، وقبل الإسلام ممن أظهره، سواء أسر الكفر أم لا، فلما ماتوا .. قيض الله لهم فتان القبر؛ ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الذين آمنوا ويضل الظالمين.
ثم قال العيني: ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مرفوعًا "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها
…
" الحديث أخرجه مسلم.
ويؤيده: قول الملكين: (ما تقول في هذا الرجل محمد؟ ) وحديث عائشة أيضًا عند أحمد بلفظ: (وأما فتنة القبر .. ففيَّ يفتنون، وعنِّي يسألون).
وذهب ابن القيم إلى عموم المساءلة، وقال: ليس في الأحاديث نفي
(60)
- 4213 - (5) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ؛
===
المساءلة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور، لا أنه نفى ذلك من غيرهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فيعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم؛ كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة عليهم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، وفي كتاب التفسير، باب تفسي {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
…
} الآية (1)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، وأبو داوود في كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم عليه السلام، وقال: حسن صحيح، والنسائي في كتاب الجنائز، باب عذاب القبر، وأحمد في "المسند".
فالحديث في "الكتب الستة" فهو في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(60)
- 4213 - (5)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة تسع وتسعين ومئة (199 هـ). يروي عنه:(ع).
(1) سورة إبراهيم: (27).
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ .. عُرِضَ عَلَى مَقْعَدِهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .. فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، وَإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .. فَمِنْ أَهْلِ النَّار، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
===
(حدثنا عبيد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن نافع) مولى ابن عمر أبي عبد الله المدني الفقيه العدوي مولاهم، ثقة فقيه مشهور، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومئة، أو بعد ذلك. يروي عنه:(ع).
(عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم) أيها الناس .. (عرض) ذلك الأحد واطلع وقرب (على مقعده) ومقره ومنزله في الآخرة (بالغداة) أي: في أول النهار (والعشي) أي: في آخر النهار (إن كان) ذلك الأحد (من أهل الجنة .. فـ) يعرض عليه (من) منازل (أهل الجنة، وإن كان من أهل النار .. فـ) يعرض عليه (من) منازل (أهل النار)، فـ (يقال) له:(هذا) المقعد الذي عُرِضَ عليه (مقعدك حتى) أي: حين (تُبْعَث يوم القيامة).
واختلف هل العرض على مقعده مرةً واحدةً بالغداة، ومرة أخرى بالعشي فقط إلى يوم البعث، أو كل غداة وكل عشي من الدنيا؟
احتمالان، والأول مؤيد بحديث أنس عند البخاري، وموافق للأحاديث الواردة في سياق المسألة، والله أعلم.
ويكون عرض المقعدين على كل واحد من المؤمن المخلص، والكافر،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
والمؤمن المخلِّط؛ لأنه يدخل الجنة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال: هذا مقعدك وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق.
ولفظ رواية "مسلم مع شرحه": (فإذا مات أحدكم .. عرض) بالبناء للمفعول؛ أي: عرض ذلك الأحد (على مقعده) الأخروي (بالغداة) أي: في الصباح (و) في (العشي) أي: وفي المساء، ثم فصل ذلك بقوله:(إن كان) ذلك الأحد (من أهل الجنة .. فـ) يعرض عليه (من) مقاعد (أهل الجنة، وإن كان) ذلك الأحد (من أهل النار .. فـ) يعرض عليه (من) مقاعد (أهل النار) ثم (يقال) له: (هذا) المقعد الذي كنت فيه الآن؛ يعني: قبره (مقعدك) ومقرك ومنزلك (حتى تبعث) وتنقل (يوم القيامة) إلى مقعدك الأخروي الذي عرضناه عليك؛ أي: هذا القبر مقعدك إلى يوم البعث الذي تنقل فيه إلى ذلك المقعد الأخروي الذي خلق الله لك.
قال القرطبي: قوله: "إذا مات أحدكم .. عرض عليه مقعده
…
" إلى آخره .. هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غير الشهداء؛ فإنه قد تقدم أن أرواحهم في حواصل طير تسرح في الجنة وتأكل من ثمارها، وغير الشهداء إما مؤمن، وإما غير مؤمن؛ فغير المؤمن هو الكافر، فهذا يرى مقعده من النار غدوًا وعشيًّا، وهذا هو المَعْنِيُّ بقوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1).
فأما المؤمن .. فإما ألا يدخل النار، أو يدخلها بذنوبه؛ فالأول: يرى مقعده من الجنة لا يرى غيره رؤية خوف.
وأما المؤاخذ بذنوبه .. فله مقعدان؛ مقعد في النار زمن تعذيبه، ومقعد في
(1) سورة غافر: (46).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الجنة بعد إخراجه، فهذا يقتضي أن يعرضا عليه بالغداة والعشي، إلا إن قلنا: إنه أراد بأهل الجنة: كل من يدخلها كيف كان، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير، والله أعلم.
وهذا الحديث وما في معناه يدل على أن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ومفارقة الروح للجسد، ويجوز أن يكون هذا العرض على الروح وَحْدَهُ، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن، والله أعلم بحقيقة ذلك.
والمراد بالغداة والعشي: وقتهما، وإلا .. فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. انتهى من "المفهم".
قال النووي: والغرض من ذكر هذه الأحاديث: إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به .. وجب قبوله واعتقاده. انتهى بأدنى تصرف وتفصيل فيه.
قال السندي: قوله: "عُرِضَ على مقعدِه" هو من باب القلب، والأصل: عرض عليه مقعده، ومثله في القلب قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} (1).
قوله: "فمن أهل الجنة" أي: فيعرض عليه من مقاعد الجنة، أو فمقعده من مقاعد الجنة.
قوله: "فيقال: هذا مقعدك" يحتمل أن الإشارة إلى القبر؛ أي: القبر مقعدك إلى أن يبعثك الله إلى المقعد المعروض عليك، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى
(1) سورة غافر: (46).
(61)
- 4214 - (6) حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنْبَأَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ،
===
مقعدك المعروض، و (حتى) غاية للعرض؛ أي: يعرض عليك إلى البعث، ثم بعد البعث تدخله، ثم هذا القول يعم أهل الجنة والنار؛ والمراد: يقال لكل أحد من الفريقين هذا الكلام. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في مواضع كثيرة؛ منها: في الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وأبو داوود في كتاب السنة، باب عذاب القبر، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة إبراهيم، والنسائي من كتاب الجنائز، باب عذاب القبر، وأحمد في "المسند".
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(61)
- 4214 - (6)(حدثنا سويد بن سعيد) بن سهل الهروي الأصل ثم الحدثاني أبو محمد الأنباري، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه فأفحش ابن معين القول فيه، من قدماء العاشرة، مات سنة أربعين ومئتين (240 هـ) وله مئة سنة. يروي عنه:(م ق).
(أنبأنا مالك بن أنس) بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، من السابعة،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ
===
مات سنة تسع وسبعين ومئة (179 هـ) قال الواقديُّ: بلغ تسعين سنة. يروي عنه: (ع).
(عن) محمد بن مسلم (ابن شهاب) الزهري المدني، ثقة متقن ثبت، من الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ومئة، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين. يروي عنه: (ع).
(عن عبد الرحمن بن كعب) بن مالك (الأنصاري) أبي الخطاب المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان. يروي عنه:(ع).
(أنه) أي: أن عبد الرحمن (أخبره) أي: أخبر ابن شهاب (أن أباه) أي: أبا عبد الرحمن كعب بن مالك الأنصاري السلمي - بفتح السين - المدني الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، مات في خلافة علي. يروي عنه:(ع).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه سويد بن سعيد، وهو مختلف فيه.
(كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما نسمة) هي - بفتحتين -: الروح؛ والمراد: روح (المؤمن) الشهيد؛ كما جاء في بعض روايات الحديث. انتهى "س".
وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(11/ 58): أما قوله: "نسمة المؤمن" فهي ها هنا: الروح، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"حتى يرجعه الله إلى جسده يوم بعثه".
طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ".
===
وأصل هذه اللفظة؛ أعني: (النسمة): الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح: نسمة - والله أعلم - لأن حياة الإنسان بروحه، فإذا فارقته .. عدم أو صار كالمعدوم. انتهى.
قلت: وما ذهب إليه السندي من أن المراد بالنسمة هنا: نسمة الشهيد دون غيره .. هو الذي ذهب إليه أبو عمر في "التمهيد"(11/ 64) ورجحه.
وقد نقل ابن القيم في "الروح" كلامه، ورده، ورجح أن الحديث يعم كل مؤمن الشهيد وغير الشهيد.
قوله: "إنما نسمة المؤمن" مبتدأ، خبره:(طائر) أي: مُشَكَّلٌ بصورة طائر (يعلق) - بضم اللام وبالتخفيف - من باب كرم؛ أي: نسمته مشكلة بصورة طائر يعلق ويأكل ويرتع (في شجر الجنة) أي: من ثمار شجر الجنة (حتى يرجع إلى جسده يوم يبعث) الله ذلك الروح؛ أي: يوم أراد الله بعثه وإدخاله الجنة.
قوله: (طائر) ظاهره أن الروح يتشكل ويتمثل بأمر الله تعالى طائرًا؛ كتمثل الملك بشرًا، ويحتمل أن المراد: أن الروح يدخل في بدن طائر؛ كما في بعض الروايات.
قال السيوطي في "حاشية أبي داوود": إذا فسرنا الحديث بأن الروح يتمثل طائرًا .. فالأشبه أن ذلك في القدرة على الطيران فقط، لا في صورة الخلقة؛ لأن شكل الإنسان أفضل الأشكال.
قلت: هذا إذا كان الروح الإنساني له شكل في نفسه، ويكون على شكل الإسان.
وأما إذا كان في نفسه لا شكل له، بل يكون مجردًا، أو أراد الله تعالى أن يتشكل ذلك المجرد لحكمة ما .. فلا يبعد أن يتشكل من أول الأمر على شكل الطائر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وأما على الثاني .. فقد أورد الشيخ علم الدين القرافي أنه لا يخلو إما أن يحصل للطير الحياة بتلك الأرواح أو لا، والأول: عين ما تقوله التناسخية، والثاني: مجرد حبس للأرواح وتسجن.
وأجاب السبكي باختيار الثاني، ومنع كونه حبسًا وتسجنًا؛ لجواز أن يقدر الله تعالى في تلك الأجواف السرور والنعيم ما تجده في الفضاء الواسع، ولهذا الكلام بسط ذكرته في "حاشية أبي داوود".
قوله: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق" - بفتح الياء وضم اللام - من باب ظرف؛ أي: مشكل بطائر يأكل ويرتع (في شجر الجنة حتى يرجع) إلى صورة (جسده) الأصلي من الإنسانية (يوم يبعث) من قبره ويدخل الجنة.
وقوله: "يعلق" أي: يأكل، وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العضا، يقال: علقت الناقة تعلق علوقًا، فنقل إلى الطير، فاستعمل فيه. انتهى "س".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في فضائل الجهاد (1641)، والنسائي في الجنائز (2073)، وأحمد في "المسند"، ومالك في الجنائز، قال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، إلا أنه موقوف، وقد تقدم للمؤلف في الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر رقم (411)، حديث رقم (1422).
قال عبد الباقي: (تعلق) - بضم اللام، وقيل: أو بفتحها - ومعناه: تأكل وترعى؛ كالإبل من العضاه.
ودرجة هذا الحديث: أنه صحيح بغيره وإن كان سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
(62)
- 4215 - (7) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الْأُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
===
ثم استشهد المؤلف سادسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(62)
- 4215 - (7)(حدثنا إسماعيل بن حفص) بن عمر بن دينار (الأبلي) - بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام - أبو بكر الأودي، صدوق، من العاشرة، مات سنة نيف وخمسين ومئتين. يروي عنه:(س ق).
(حدثنا أبو بكر بن عياش) بن سالم الأسدي الكوفي المقري الحناط - بمهملة ونون - مشهور بكنيته، والأصح أنها اسمه، وقيل: اسمه محمد أو عبد الله أو سالم أو شعبة أو رؤبة أومسلم أو خداش أو مطرف أو حماد أو حبيب، أقوال عشرة، ثقة عابد إلا أنه لما كبر .. ساء حفظه، وكتابه صحيح، من السابعة، مات سنة أربع وتسعين ومئة (194 هـ)، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين. يروي عنه: (ع).
(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي سفيان) طلحة بن نافع الواسطي الإسكاف نزيل مكة، صدوق، من الرابعة. يروي عنه:(ع).
(عن جابر) بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنهما، مات بعد السبعين. يروي عنه:(ع). وفي أكثر النسخ إسقاط قوله: (عن جابر).
(عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ .. مُثِّلَتِ الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا، فَيَجْلِسُ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي".
===
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه أبا بكر بن عياش الأبلي، وهو مختلف فيه إن كان أبو سفيان سمع عن جابر بن عبد الله.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الميت القبر .. مثلت) - بالبناء للمفعول - أي: صورت له (الشمس) كأنها (عند غروبها، فيجلس) الميت حالة كونه (يمسح عينيه) على هيئة المستيقظ من النوم؛ لأن النوم أخو الموت (ويقول) للملكين: (دعوني) أي: اتركوا كلامي والسؤال مني.
وقوله: (أصلي) مجزوم في جواب الطلب، والياء للإشباع، أو أعطي المعتل حكم الصحيح، وقيل: استئناف؛ أي: أنا أريد أن أصلي.
والمعنى: أن من كان راسخًا في أداء الصلاة، مواظبًا عليها في الدنيا .. يظن أنه بعد؛ أي: الآن في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويشغله عن قيامه بعض أصحابه، فيقول: دعوني أنا أريد الصلاة.
وذكر الغروب يناسب الغريب؛ فإنه أول منزل ينزله عند الغروب.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: سبعة أحاديث:
الأول منها للاستدلال، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم