الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) - (1512) - بَابُ ذِكْرِ الْحَوْضِ
(91)
- 4244 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لِي حَوْضًا
===
(14)
- (1512) - (باب ذكر الحوض)
(91)
- 4244 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا محمد بن بشر) بن الفرافصة العبدي الكوفي، ثقةٌ ثبتٌ، من التاسعة، مات سنة ثلاث ومئتين (203 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا زكريا) بن أبي زائدة خالد بن ميمون الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي، ثقةٌ، من السادسة، مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين ومئة (149 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا عطية) بن سعد بن جنادة العَوْفي - بفتح المهملة وسكون الواو - الجدلي - بفتحتين - الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًّا مدلسًا، من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة ومئة (111 هـ). يروي عنه:(د، ق).
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه عطية العوفي، وهو متفق على ضعفه، ولكن الحديث صحيح؛ كما سيأتي قريبًا.
(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لي حوضًا) واسعًا جدًّا، قدر سعة
مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِس، أَبْيَضَ مِثْلَ اللَّبَن، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُوم، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
===
ما بين نواحيه بمقدار (ما بين الكعبة) المشرفة شرفها الله تعالى بكثرة زوارها (و) بين (بيت المقدس) وقوله: (أبيض) صفة لـ (حوضًا).
وقوله: (مثل اللبن) صفة لأبيض؛ أي: أبيض مماثل اللبن ومشابهه في بياضه، لا كمثل المنورة؛ لأن بياضه قانع، ولا كالنيلة؛ لأن بياضها رمادي (آنيته) أي: الأواني التي يشرب بها منه مثل (عدد النجوم) في السماء الصاحية في الليلة المظلمة (و) إنما أعطيت حوضًا واسعًا مثل ما ذكرته؛ لأن الشأن (إني لأكثر الأنبياء) كلهم (تبعًا يوم القيامة) لأن كثرة التبع تقتضي كثرة الشربة منه، والجملة تعليلية.
والأصل في الحوض: قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1)، قال في "القاموس": الحوض معروف؛ من حاض الماء؛ إذا جمعه، ومنه: حاضت المرأة؛ إذا سأل دمها.
وقال في "الصحاح": الحوض واحد الأحواض والحياض، وحضت أحوض حوضًا، واستحوض الماء، إذا اجتمع؛ والمُحَوَّض - بالتشديد - شيء كالحوض يجعل للنخلة تشرب منه.
وقال ابن قرقول: والحوض: حيث تستقر فيه المياه؛ أي: تجتمع فيه؛ لتشرب منها الإبل. انتهى.
والمراد به هنا: الحوض الذي يكون للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ كما تجيء صفاته في الأحاديث.
(1) سورة الكوثر: (1 - 2).
(92)
- 4245 - (2) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
===
قال القرطبي في "المفهم": مما يجب على كلّ مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله تعالى قد خَصَّ حبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من الصحابة ما ينيف على الثلاثين؛ منهم في "الصحيحين" ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله، واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرأ، وأجمع على إثباته السلف، وأهل السنة من الخلف.
وأنكره طائفة من المبتدعة والخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره: عبيد الله بن زياد؛ أحد أُمراء العراق لمعاوية وولده.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، ودرجته: أنه صحيح؛ لأن له شواهد في "الصحيحين" وغيرهما، وإن كان سنده ضعيفًا؛ لما تقدم، فهذا الحديث: صحيح بغيره، وسنده ضعيف، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي سعيد الخدري بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(92)
- 4245 - (2)(حدثنا عثمان بن أبي شيبة) أخو أبي بكر بن أبي شيبة، ولكنه أكبر منه بسنتين، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين ومئتين (239 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ إِلَى عَدَنَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لآنِيَتُهُ
===
(حدثنا علي بن مسهر) القرشي الكوفي قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضر، من الثامنة، مات سنة تسع وثمانين ومئة (189 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي مالك سعد بن طارق) الأشجعي الكوفي، ثقةٌ، من الرابعة، مات في حدود الأربعين ومئة (140 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن ربعي) بكسر أوله وسكون الموحدة (ابن حراش) - بكسر المهملة آخره معجمة - العبسي، أبي مريم الكوفي، ثقةٌ عابد مخضرم، من الثانية، مات سنة مئة (100 هـ)، وقيل غير ذلك. يروي عنه:(ع).
(عن حذيفة) بن اليمان، واسم اليمان: حسيل - مصغرًا - العبسي، حليف الأنصار الصحابي الفاضل، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه صحابي استشهد يوم أحد، وحذيفة مات في أول خلافة علي رضي الله تعالى عنه وعنهم، سنة ست وثلاثين (36 هـ). يروي عنه:(ع).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) حذيفة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حوضي) أي: إن بعد ما بين طرفي حوضي (أبعد) أي: أزيد (من) بعد ما بين (أيلة) وأطرافها (إلى عدن) وأيلة - بفتح الهمزة وسكون التحتية -: هي بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن؛ والعدن - بفتحتين - يصرف ولا يصرف؛ وهو آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.
(و) أقسمت لكم بالإله (الذي نفسي) وروحي (بيده) المقدسة (لآنيته)
أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُوم، وَلَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَل، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ،
===
جمع إناء؛ أي: ولظروفه من كيزانه وأباريقه وأكوابه وأدلائه لـ (أكثر) أي: لأزيد كثرة (من) كثرة (عدد النجوم) في السماء المصحية في الليلة المظلمة (ولهو) أي: ولبياض حوضي (أشد) أي: أزيد (بياضًا من) بياض (اللبن) الخاثر (و) لحلاوة حوضي (أحلى) أي: أزيد حلاوة (من) حلاوة (العسل) المصفى (و) أقسمت لكم بالإله (الذي نفسي) وروحي (بيده) المقدسة (إني لأَذُود) نَّ وأدفعَنَّ (عنه) أي: عن ورودِ حوضي وشُرْبِه (الرجالَ) والجماعة من غير أمتي في الدنيا ذودًا (كما يذود) أي: ذودًا ودفعًا كذود (الرجل) صاحب الإبل الشاربة عن ازدحام غيرها إياها عند شربها الماء.
وقوله: (الإبل الغريبة) وهي الإبل التي ليس معها صاحبها؛ أي: كما يذود صاحب الإبل الشاربة الإبل الغريبة التي ليس معها صاحبها (عن حوضه) لئلا تزدحم على إبله الشاربة وقت شربها (قيل) أي: قال بعض الحاضرين عنده صلى الله عليه وسلم عندما قص هذا الحديث، ولم أر من عين اسم ذلك السائل في شيء من طرق الحديث:(يا رسول الله؟ أتعرفنا؟ ) أي: هل تعرف يومئذ أشخاصنا؛ من يستحق الشرب منه ومن لا يستحقه من سائر الأمم الآخرين؟
فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤال السائل: (نعم) أعرفكم من يستحقه ومن لا يستحقه من غير أمتي؛ أي: أطردهم حتى لا يزاحموا أمتي، أو لأنهم لا يستحقون ذلك؛ لأنهم بدلوا ديني فخرجوا عن أمتي.
قوله: "لأذودن عنه الرجال" أي: من الأمم الآخرين؛ أي: أطردهم حتى
تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ".
(93)
- 4246 - (3) حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ،
===
لا يزاحموا أمتي، أو لأنهم لا يستحقون ذلك؛ لأنهم بدلوا ديني، وهذا يدلُّ على أن أمته صلى الله عليه وسلم يميزون عن غيرهم بعلامة يعرفون بها؛ كالغرة والتحجيل، فلذلك قالوا: أتعرفنا؛ أي: لأذودن عن حوضي؛ صيانةً له من المشاركة فيه والمخالطة بغيرهم.
قوله: (قال: نعم) أي: نعم، أعرفكم عن غيركم بعلامة تميزكم عن غيركم؛ لأنكم (تردون علي) - بكسر الراء - من الورود؛ أي: تمرون علي (غرًّا) أي: حال كونكم غرًّا جمع الأغر؛ وهو من في جبهته بياض (محجلين) - بتشديد الجيم المفتوحة - جمع محجل؛ وهو الذي في يديه ورجليه بياض (من أثر الوضوء) - بضم الواو - أي: من أثر استعمال ماء الوضوء في أعضائه (ليست) تلك الصفة (لأحد غيركم) أي: غير أمتي.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، وابن حبان.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي سعيد بحديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(93)
- 4246 - (3)(حدثنا محمود بن خالد) السلمي أبو علي (الدمشقي) ثقةٌ، من صغار العاشرة، مات سنة سبع وأربعين ومئتين (247 هـ) وله ثلاث وسبعون سنة. يروي عنه:(د س ق).
حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ الدِّمَشْقِيُّ، نُبِّئْتُ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
===
(حدثنا مروان بن محمد) بن حسان الأسدي الدمشقي الطاطري - بمهملتين مفتوحتين - ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة عشر ومئتين (210 هـ). يروي عنه:(م عم).
(حدثنا محمد بن مهاجر) الأنصاري الشامي أخو عمرو، ثقةٌ، من السابعة، مات سنة سبعين ومئة (178 هـ). يروي عنه:(م عم).
(حدثني العباس بن سالم) اللخمي (الدمشقي) ثقةٌ، من السادسة. يروي عنه:(د ت ق).
قال العباس: (نبئت) وفي رواية الترمذي: (حدثنا العباس بن سالم الدمشقي عن أبي سلام الحبشي) بلا إرسال ولا حذف، فهي أصح من رواية ابن ماجة؛ أي: أخبرت - بالبناء للمجهول - ولعل هذا المبهم زيد أو معاوية ابنا سلام بن أبي سلام ممطور الحبشي، كلاهما ثقتان رويا عن جدهما أبي سلام، أما زيد بن سلام بن أبي سلام .. فثقة، من السادسة. يروي عنه:(م عم)، وأما معاوية بن سلام بن أبي سلام .. فثقة، من السابعة، يسكن حمص، مات في حدود سنة سبعين ومئة. يروي عنه:(ع)، وأَكْثَرُ ظَنِّي أن هذا المبهم هنا: زيد بن سلام بن أبي سلام، روى ذلك المبهم:
(عن أبي سلام) - بتشديد اللام - ممطور الأسود (الحبشي) الأعرج الدمشقي، ويقال: هو النوبي، وقيل: إن الحبشي نسبة إلى حي من حمير، فهو عربي يمني. روى عنه: حَفِيدَاهُ؛ زيدٌ ومعاويةُ ابْنا سلَّام، ثقةٌ يرسل، من الثالثة. يروي عنه:(م عم).
(قال) أبو سلام: (بعث إلي) أمير المؤمنين (عمر بن عبد العزيز) بن
فَأَتَيْتُهُ عَلَى بَرِيدٍ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ .. قَالَ: لَقَدْ شَقَقْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا سَلَّامٍ فِي مَرْكَبِكَ، قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَاللهِ؛ مَا أَرَدْتُ الْمَشَقَّةَ عَلَيْكَ، وَلكِنْ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ
===
مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي المدني في زمن خلافته، كان ثقةٌ، من الرابعة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(فأتيته) أي: فجئته من الشام إلى المدينة راكبًا (على بريد) أي برذون محلوق شعر الذنب؛ لأنه سريع الجري والسير، قال في "النهاية": كلمة فارسية يراد بها في الأصل: البغل، وأصلها:(بريدَه دَمّ) أي: محذوفُ الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب؛ أي: مخفف شعر ذنبها؛ كأنه علامة لها، فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريد. انتهى.
قلت: والمراد هنا: معناه الأصلي. انتهى من "تحفة الأحوذي".
قال السندي: والبريدة دواب توقف على منازل من الطريق مرتبة يركبها من يستعجل في السفر. انتهى.
قال أبو سلام: (فلما قدمت عليه) أي: على عمر بن عبد العزيز .. (قال) عمر: (لقد شققنا) أي: لقد أدخلنا المشقة والتعب (عليك) بأمرنا إياك (يا أبا سلام في مركبك) أي: بركوبك ومجيئك إلينا من الشام إلى المدينة (قال) أبو سلام: (أجل) أي: نعم (والله) لقد أدخلتم المشقة علينا (يا أمير المؤمنين) حيث أمرتنا بالركوب إليكم.
(قال) عمر بن عبد العزيز: (والله؛ ما أردت) وقصدت إدخال (المشقة عليك) بأمرك بالإتيان إلينا من سفر بعيد (ولكن) حملني على أمرك بالإتيان إلينا (حديث بلغني) ووصلني إلي من بعض الناس (أنك تحدث به) أي: بذلك
عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَوْض، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِهِ قَالَ: فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى أَيْلَةَ،
===
الحديث (عن ثوبان) بن بجدد الهاشمي مولاهم (مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (54 هـ) رضي الله تعالى عنه. يروي عنه: (م عم).
أي: بلغني أنك تحدث عن ثوبان حديثًا ورد (في الحوض) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر لأبي سلام:(فأحببت) أي: وددت يا أبا سلام (أن تشافهني) وتحدثني (به) أي: بذلك الحديث مشافهة واصلًا إليَّ من فيك إلى فمي، وأسمعه منك بلا واسطة بيني وبينك، فلذلك أدخلْتُ عليك المشقة بأمرك بالإتيان إلينا فسَامِحوني.
فـ (قال) أبو سلام: (فقلت) لعمر بن عبد العزيز: (حدثني ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال).
وهذا السند من سداسياته أو سباعياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات، ولكن جعل المؤلف فيه الانقطاع، والحق أنه لا انقطاع فيه، بل هو موصول؛ كما في رواية الترمذي.
أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن) مقدار مسافة (حوضي) مقدار مسافة (ما بين عدن) وما بين ما يليه (إلى أيلة) وعدن - كما مر بفتحتين -: بلدٌ مشهور على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن وأوائلِ سواحل الهند، وهي تُسامِتُ صنعاء، وصنعاء في جهة الجبال.
قال الحافظ: (وأيلة) مدينة كانت عامرة؛ وهي بطرف بحر القلزم من طرف
أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَل، أَكَاوِيبُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ؛ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً .. لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَوَّلُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ
===
الشام؛ وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر، فتكون شماليهم، ويمر بها الحاج من غزة، فتكون أمامهم. انتهى.
وفي رواية الترمذي: (إن حوضي من عدن إلى عُمَان البلقاء) بضم العين وتخفيف الميم: قرية باليمن، لا بفتحها وشد الميم؛ فإنها قرية بالشام، وقيل: بل هي المرادة هنا، كذا في "التيسير".
وقال الحافظ: عمان هذه بفتح المهملة وتشديد الميم للأكثر، وحكي بتخفيفها، وتنسب إلى البلقاء؛ لقربها منها.
والبَلْقاءُ - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف وبالمد -: بلدةٌ معروفة من فِلَسْطِين.
هو (أشد بياضًا من) بياض (اللبن، وأحلى) أي: أشد حلاوةً ولذةً (من) حلاوة (العسل) ولذته (أكاويبه) جمع كوب؛ وهو الكوز الذي لا عروة له؛ على ما في الشروح، أو لا خرطوم له؛ على ما في "القاموس" أي: كيزانه (كعدد نجوم السماء) كثرة (من شرب منه) أي: من حوضي (شربةً) واحدةً
…
(لَمْ يظمأ) ولم يعطش (بعدها) أي: بعد تلك الشربة (أبدًا) أي: آخر ما عليه من الحياة الأبدية.، وشربه من شراب الجَنَّة؛ للتلذذ به لا للعطش (وأول من يرده) أي: يرد الحوض ويأتيه للشرب منه حالة كونه يمر (علي) لأني منتظركم عنده (فقراء المهاجرين).
وقوله: (علي) زيادة للمؤلف، وليست في "الترمذي".
والمراد من المهاجرين: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وهو
الدُّنُسُ ثِيَابًا وَالشُّعْثُ رُؤُوسًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ"، قَالَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: لكِنِّي قَدْ نَكَحْتُ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَفُتِحَتْ لِيَ السُّدَدُ، لَا جَرَمَ أَنِّي لَا أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي عَلَى جَسَدِي حَتَّى يَتَّسِخَ، وَلَا أَدْهُنُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ.
===
صلى الله عليه وسلم سيدهم (الدُّنُس ثيابًا) - بضم المهملة والنون وقد يسكن - من الدَّنَس؛ وهو الوسخ؛ أي: المتوسِّخون؛ لقلة غسلها.
(والشُّعْث) - بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة - جمع أشعث - بالمثلثة - أي: المتفرقو الشعر؛ لقلة تعهدها (رؤوسًا) تمييز؛ أي: المتفرق شعور رؤوسهم؛ لعدم تعهدها بالدهن (الذين لا ينكحون) - بفتح الياء وكسر الكاف - أي: الذين لا يتزوجون النساء (المتنعمات) - بكسر العين - من التنعم.
وقيل: هو بضم التحتية وفتح الكاف بصيغة المجهول؛ أي: لو خطبوا المتنعِّمات؛ أي: المتنعمات بجمالهنَّ ومالهنَّ .. لَمْ يجابوا إلى تزويجهن لهم؛ لعدم كفائتهم لهن عند الناس.
(وَلَا يُفتح لهم السُّدَدُ) - بضم السين وفتح الدال الأولى من المهملتين - جمع سُدَّة؛ وهي بابُ الدار، سمي بذلك؛ لأن المَدْخَلَ يَسُدُّ به.
والمعنى: لو دقوا الأبواب واستأذنوا الدخول .. لَمْ يفتح لهم ولم يؤذن لهم في الدخول؛ لحقارتهم عند الناس.
(قال) أبو سلَّام: (فبكى عمر) بن عبد العزيز (حتى اخْضَلَّتْ) وابتلَّتْ، فهو مثله وزنًا ومعنىً (لحيتُه) بدموعه (ثم قال) عمر بن عبد العزيز:(لكني قد نكَحْتُ) وتزوَّجْتُ (المتنعمات وفتحت لي السدد، لا جرم) أي: حقًّا (أني لا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتى يَتَّسِخَ) أي: يأخُذَ الوسخَ (وَلَا أدْهن) شَعْرَ (رأسي حتى يَشْعَثَ) أي: حتى يتفرَّق وينتَشِرَ.
(94)
- 4247 - (4) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ،
===
قوله: (لكني قد نكحت المتنعمات) لأنه قد نكح: (فاطمة بنت عبد الملك) وهي بنت الخليفة، وجدها خليفة؛ وهو (مروان) وإخوتها الأربعة:(سليمان ويزيد وهشام ووليد) خلفاء، وزوجها خليفة؛ وهو (عمر) فهذا من الغرائب، وفيها قال الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها
…
أخت الخلائف والخليفة بعلها
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب ما جاء في صفة الحوض، قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب، وأخرجه أحمد والحاكم وصححه.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي سعيد بحديث أنس رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(94)
- 4247 - (4)(حدثنا نصر بن علي) بن نصر بن علي الجهضمي البصري، ثقةٌ ثبتٌ طلب للقضاء فامتنع، من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين (250 هـ) أو بعدها. يروي عنه:(ع).
(حدثنا أبي) عَلِيُّ بن نَصْر بن علي الجَهْضَمي - بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها ضاد معجمة مفتوحة - البصري ثقةٌ، من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين ومئة (187 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر - بمهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَي حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَة، أَوْ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ".
===
ثم موحدة مفتوحة - على وزن جعفر، أبو بكر البصري الدستوائي، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ومئة (154 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن قتادة) بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري، ثقةٌ، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين ناحيتي حوضي) تثنية الناحية؛ وهي الطرف مضافة إلى الحوض؛ أي: ما بين ناحيتي وطرفي حوضي طولًا وعرضًا؛ أي: مسافة ما بين طرفيه (كما بين) أي: كمثل مسافة ما بين (صنعاء) اليمن (والمدينة) المنورة، على من نورها أفضل الصلوات وأزكى التحيات.
(أو) قال أنس أو من دونه: (كما بين المدينة وعمان) - بفتح العين وتشديد الميم - مدينة قديمة بالشام، وحاليًا في الأردن. انتهى "سندي".
واختلاف الطرق في التعبير عن سعة الحوض ليس هو في حديث واحد حتى يكون اضطرابًا يضعف الحديث، وإنما هو أحاديث مختلفة من غير واحد من الصحابة الذين سمعوه في مواطن مختلفة متعددة، فروى كلّ واحد ما سمع، واختلاف عبارته صلى الله عليه وسلم إنما هو بحسب ما سنح له من العبارة؛ تقريبًا للأفهام، فذكر ما بين كلّ بلدين من البعد لا على التقدير المحقق لما بينهما، بل إعلام وكناية عن السعة، فبهذا يقع الجمع بين اختلاف هذه
(95)
- 4248 - (5) حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِث، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ،
===
المقادير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنها عدد نجوم السماء) فإنه إنما هو إشارة إلى المبالغة في الكثرة؛ كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (1). انتهى من "الأبي" كما في "القرطبي".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الإمام مسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، وأحمد.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.
* * *
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي سعيد الخدري بحديث آخر لأنس رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(95)
- 4248 - (5)(حدثنا حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي - بالمهملة - أو الباهلي البصري، صدوق، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ). يروي عنه:(م عم).
(حدثنا خالد بن الحارث) بن عبيد بن سليم الهجيصي أبو عثمان البصري، ثقةٌ ثبتٌ، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومئة (186 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا سعيد بن أبي عروبة) مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري، ثقةٌ حافظ له تصانيف، لكنه كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في
(1) سورة الصافات: (147).
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ".
(96)
- 4249 - (6) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
===
قتادة، من السادسة، مات سنة ست، وقيل: سبع وخمسين ومئة (157 هـ). يروي عنه: (ع).
(عن قتادة قال) قتادة: (قال أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، ودرجته: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يرى) - بالبناء للمفعول - أي: يرى الناس (فيه) أي: في نواحي حوضي (أباريق المذهب والفضة) جمع إبريق؛ وهو هنا: كاسات يشرب بها منه حالة كونها (كعدد نجوم السماء) كثرةً، ولعل اختلافها في الجنسين؛ لأجل اختلاف مراتب الشاربين بها من الأولياء والصالحين. انتهى من "المرقاة".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، باب إثبات حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.
* * *
ثم اسشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي سعيد الخدري بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:
(96)
- 4249 - (6)(حدثنا محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَسَلَّمَ عَلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ"،
===
(حدثنا محمد بن جعفر) الهذلي البصري ربيب شعبة، ثقة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي البصري، ثقة إمام أئمة الجرح والتعديل، من السابعة، مات سنة ستين ومئة (160 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن العلاء بن عبد الرحمن) بن يعقوب الحرقي أبي شبل المدني، صدوق ربما وهم، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ومئة. يروي عنه:(م عم).
(عن أبيه) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني مولى الحرقة، ثقة، من الثالثة. يروي عنه:(م عم).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى المقبرة) - بتثليث الباء، والكسر أقلها - وفي موضع القبور خلاف، والظاهر: أنها مقبرة البقيع.
(فسلم على) أهل (المقبرة، فقال) في التسليم عليهم: (السلام عليكم) يا أهل (دار قوم مؤمنين) قال السندي: بنصب (دار) على الاختصاص أو على النداء أو بالجر على البدل من ضمير (عليكم) والمراد: أهل الدار؛ تجوزًا، أو بتقدير مضاف؛ كما أشرنا إليه في الحل (وإنا) معاشر الأحياء (إن شاء الله) تبارك و (تعالى بكم لاحقون) بالدفن في هذه المقبرة، وأتى بالمشيئة تبركًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
بها، وعملًا بقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1).
ولأن المراد: الرفق في تلك المقبرة، أو الموت على الإيمان، وهو مما يحتاج إلى قيد المشيئة بالنظر إلى الجميع. انتهى "سندي".
قال النووي وغيره من العلماء: في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه .. أقوال:
أظهرها: أنه ليس للشك، وإنما هو للتبرك وامتثال أمر الله فيه.
قال أبو عمر: الاستثناء قد يكون في الواجب لا شكًّا؛ لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} (2)، ولا يضاف الشك إلى الله، وقيل: للتأديب.
وعن أحمد بن يحيى: استثنى الله تعالى؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وأمر بذلك بقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ذكره الطيبي.
والثاني: أنه عادة المتكلم يحسن به كلامه.
والثالث: أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان والموت بالمدينة.
والرابع: أن (إن) بمعنى: إذ.
والخامس: أنه راجع إلى استصحاب الأيمان من معه.
والسادس: أنه كان معه من يظن بهم النفاق، فعاد الاستثناء إليهم.
وحكى ابن عبد البر أنه عائد إلى معنى: مؤمنين؛ أي: لاحقون في حال
(1) سورة الكهف: (23 - 24).
(2)
سورة الفتح: (27).
ثُمَّ قَالَ: "لَوَدِدْنَا أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ.
===
إيمانٍ؛ لأن الفتنة لا يأمنها أحد، ألا ترى إلى قول إبراهيم الخليل عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1)، وقول يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ؟ ! (2) ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم؛ اقبضني إليك غير مفتون". انتهى.
واستبعد الأبي الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "المحيا محياكم، والممات مماتكم" إلا أن يكون قال ذلك من قبْلُ، كذا في "شرح الموطأ للزرقاني".
(ثم قال) صلى الله عليه وسلم: والله (لوددنا) أي: أحببنا وتمنينا (أنا قد رأينا إخواننا) اللاحقين الذين كانوا الآن في الدنيا إذا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء السابقون في القبور؛ أي: رأينا حالهم ومنازلهم؛ كما رأينا منازل هؤلاء السابقين.
قال الطيبي: فإن قلت: فأي اتصال لهؤلاء المراد بقوله: "لوددنا أنا قد رأينا إخواننا" بذكر أصحاب القبور، فأي علقة بينهم وبين أصحاب القبور؟
قلت: عند تصور السابقين - وهم أصحاب القبور - يتصور اللاحقون، أو كشف له عالم الأرواح، فشاهد جميع أرواح السابقين، فتمنى أن يرى منازل اللاحقين كالسابقين، فقال: والله؛ لوددنا أنا قد رأينا منازل إخواننا اللاحقين الذين بقوا في الدنيا.
(قالوا) أي: قال الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم في تلك المقبرة: (يا رسول الله؛ أولسنا إخوانك؟ ) فـ (قال) لهم في جواب سؤالهم: (أنتم)
(1) سورة إبراهيم: (35).
(2)
سورة يوسف: (101).
أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْل غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ
===
أيها الحاضرون (أصحابي) أي: الذين فازوا بصحبتي التي هي أعلى المراتب عند الله تعالى (وإخواني) الذين تمنيت رؤيتهم، فهو مبتدأ، خبره قوله:(الذين يأتون من بعدي) أي: وإخواني الذين عنيتهم بقولي: "أنا قد رأينا إخواننا" هم الذين يأتون ويوجدون من بعدي إلى يوم القيامة (وأنا) أيها السابقون واللاحقون (فرطكم) - بفتحتين - أي: سابقكم إلى الآخرة منتظر لكم (على الحوض) لأسقيكم إياه، وهذا موضع الترجمة.
(قالوا) أي: قال الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله؛ كيف تعرف من لم يأت) ولم يدرك زمنك (من أمتك؟ ) أي: كيف تعرفهم يوم القيامة، ولم ترهم في الدنيا؛ كأنهم فهموا من تمني الرؤية وتسميتهم باسم الإخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا؛ فإنما يتمنى ما لا يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا .. لكانوا أصحابه، وفهموا من قوله:(أنا فرطكم) بعموم الخطاب أنه يعرفهم في الآخرة، فسألوه عن كيفية ذلك؟
فـ (قال) في جواب سؤالهم: (أأرأيتم) أي: أخبروني والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين أو الرائين (لو أن رجلًا) منكم (له خيل) أي: أفراس (غر) أي: بيض الوجوه (محجلة) أي: بيض الأيدي والأرجل (بين ظهراني) وأوساط (خيل دهم) أي: سود - بضم الدال وسكون الهاء جمع أدهم - من الدهمة؛ وهي السواد.
(بهم) - بضم الموحدة وسكون الهاء - جمع بهيم، قيل: هو الأسود أيضًا، فيكون توكيدًا لفظيًّا بالمرادف، وقيل: الذي لا يخالط لونه لون آخر، سواء كان
أَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا؟ "، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ"، قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"، ثُمَّ قَالَ: "لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ فَأُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمُّوا،
===
أسود أو أبيض أو أحمر، بل كان لونه خالصًا عن غيره.
(ألم يكن يعرفها) أي: ألم يعرف خيوله بغرتها وتحجيلها؟ (قالوا) أي: قال الحاضرون في جواب سؤاله: (بلى) يعرفها بعلاماتها من الغرة والتحجيل.
فـ (قال: فإنهم) أي: فإن أمتي (يأتون) أي: يبعثون (يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر) ماء (الوضوء) فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم) - بفتحتين - أي: سابقكم منتظرًا لكم (على الحوض) أهيئ لكم ما تحتاجون إليه، والخطاب للحاضرين ومن بعد؛ تغليبًا لهم، وسائر الأمم ليسوا كذلك؛ أي: غرًّا محجلين؛ إما لاختصاص الوضوء بهذه الأمة من بين سائر الأمم، وحديث:"هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" إن صح .. لا يدل على وجود الوضوء في سائر الأمم، بل في الأنبياء، أو لاختصاص الغرة والتحجيل بهذه الأمة.
(ثم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليذادن) - بالنون المشددة مع البناء للمجهول - من الذود؛ وهو الطرد؛ أي: أقسم بالله؛ ليدفعن وليمنعن (رجال) ممن ورد حوضي (عن) شرب (حوضي) أي: تمنعهم الملائكة من شربه (كما يذاد) ويدفع من الحوض (البعير الضال) عن صاحبه من الشرب مع الأبعرة التي عندها مالكها؛ لئلا يضيق عليها (فأناديهم) أي: فأنادي إلى أولئك الرجال المدفوعين عن شرب الحوض، وأقول لهم في ندائي لهم:(ألا) أي: انتبهوا واسمعوا ما أقول لكم أيها الرجال المدفوعون عن الحوض و (هلموا) إلي؛ من هلم - بفتح الميم مشددة - يستوي فيه الجمع والمفرد
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، وَلَمْ يَزَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَأَقُولُ: أَلَا سُحْقًا سُحْقًا".
===
والمذكر والمؤنث في لغة الحجاز، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (1) وأما في لغة بني تميم .. فتلحقها الضمائر البارزة بحسب من هي مسندة إليه؛ فتقول: هلمَّ وهلمَّا وهلمُّوا وهلمُمْن وهلمي؛ أي: أقبلوا إلي ولا تتولوا على أدباركم.
(فيقال) لي؛ أي: تقول لي الملائكة: اتركهم على حالهم فليرجعوا؛ لأنك لا تعرف ما فعلوا بعد فراقك من الدنيا (إنهم قد بدلوا) وغيروا دينك (بعدك، ولم يزالوا) بعد فراقك (يرجعون) عن دينك (على أعقابهم) أي: على ورائهم (فأقول) أنا بعدما سمعت ذلك من الملائكة: (ألا سحقًا سحقًا) - بضم الحاء وسكونها لغتان - أي: بعدًا بعدًا، ونصبه بتقدير: ألزمهم الله سحقًا؛ أي: طردًا من رحمته، والتكرير للتوكيد، أو سحقهم الله سحقًا؛ أي: أبعدهم الله من رحمته بعدًا.
وقد اختلفت أقوال العلماء في تعيين هؤلاء المطرودين الذين يمنعون من شرب الحوض بعدما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد في ذلك أقوالًا ثلاثة آتية:
الأول: أنهم الذين ارتدوا في زمن أبي بكر الصديق فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه.
والثاني: أنهم المنافقون الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم، فأطلق عليهم لفظ (الأصحاب) نظرًا إلى ظاهر حالهم.
والثالث: أنهم كل من ارتد عن دينٍ أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم
(1) سورة الأحزاب: (18).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
يأذن فيه .. فهم المطرودون عن الحوض، المبعدون عنه، وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج على اختلاف فرقهم، والروافض على تباين ضلالهم، والمعتزلة على أصناف أحوالهم، فهؤلاء كلهم مبدلون لدينهم، وكذا الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر والمستخفون بالمعاصي، وفي حديث كعب بن عجرة عند الترمذي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي؛ فمن غشيهم في أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم .. فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم ولم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم .. فهو مني وأنا منه، وسيرد عليَّ الحوض) كذا قال القرطبي.
قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله .. فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء، وكذلك الظَّلمَةُ المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر، وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر. انتهى.
وهذا الحديث مما انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي سعيد الخدري.
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ستة أحاديث؛
الأول منها للاستدلال، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم