الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(13) - (1511) - بَابُ مَا يُرْجَى مِنْ رَحْمَةِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(83)
- 4236 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لِلّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ؛ قَسَمَ
===
(13)
- (1511) - (باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة)
(83)
- 4236 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي الواسطي، ثقةٌ متقن، من التاسعة، مات سنة ست ومئتين (206 هـ). يروي عنه:(ع).
(أنبأنا عبد الملك) بن أبي سليمان اسمه ميسرة العَرْزَمي - بفتح المهملة وسكون الراء وبالزاي المعجمة المفتوحة - أحد الأئمة. روى عن: عطاء بن أبي رباح، ويروي عنه: يزيد بن هارون، صدوق له أوهام، من الخامسة، مات سنة خمس وأربعين ومئة (145 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن عطاء) بن أبي رَبَاح - بفتح الراء والموحدة - اسم أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقةٌ فقيه كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة أربع عشرة ومئة (114 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله) عز وجل (مئة رحمة؛ قسم
مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ؛ فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
===
منها) أي: من تلك المئة (رحمة) واحدة (بين جميع الخلائق) أي: بين الإنس والجن والبهائم والهوام؛ كما هو مصرح في رواية مسلم؛ أي: بين المواشي والدواب والسباع والطيور والهوام وحشراتها من الحيات والعقارب والأوزاغ (فبها) أي: فبتلك الرحمة الواحدة (يتراحمون) أي: يرحم الخلائق بعضهم بعضًا (وبها) أي: بتلك الواحدة (يتعاطفون) أي: يتشافقون؛ أي: يعطف ويشفق، وهو بمعنى ما قبله، كرره؛ للتأكيد، أو العَطْفُ: شِدَّةُ الرحمةِ (وبها) أي: وبتلك الواحدة التي أنزل بها في الأرض (تعطف الوحش) أي: أنواعها (على أولادها) وفي رواية مسلم زيادة: (حتى ترفع الدابَّة حافرها عن ولدها؛ خَشيَةَ) أي: مخافة (أن تُؤْذِيَه) بذلك الحافر الذي وقع عليه.
وفي رواية البخاري: (حتى يرفع الفرس حافره
…
) إلى آخره، قال المناوي: والحافر يكون للفرس وغيره من البغال والحمير والبرذون، وإنما خص الفرس بالذكر؛ لأنه أشد الحيوان المالوف إدراكًا. انتهى.
(وأخر) الله عز وجل من تلك المئة المجزأة (تسعة وتسعين رحمة) مدخرة إلى الآخرة (يرحم بها) أي: بتلك الباقية (عباده) المؤمنين (يوم القيامة) خاصة بهم.
ويدل هذا الحديث على كثرة رحمة الله تعالى وقلة غضبه؛ لأن الرحمة عامة للمؤمن والكافر، والغضب خاص بالكافر.
وقوله: "وأخر تسعة وتسعين" وفي رواية مسلم: (وخبأ) أي: ادخر، وهو كناية عن الإمساك والإبقاء عنده للآخرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قوله: "إن لله مئة رحمة" ذهب الكرماني إلى أن ذكر (المئة) إنما جرى على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفهم، وتقليلًا لما عند الخلق، وتكثيرًا لما عند الله سبحانه، وإلا .. فرحمة الله تعالى غير متناهية.
وذكر المهلب ما يفيد أن الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات؛ وهي لا تتعدد ولا تتجزأ، ورحمة من صفة الفعل؛ وهي المشار إليها ها هنا.
وقال الطيبي رحمه الله تعالى: رحمة الله لا نهاية لها، فلم يرد بما ذكره تحديدًا لها، بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط عامة المربوبين في الدنيا.
وقال في "اللمعات": لعل المراد: أنواعها الكلية التي تحت كلّ نوع منها أفراد غير متناهية، أو ضرب المثل لبيان المقصود من قلة ما عند الناس وكثرة ما عند الله تقريبًا إلى فهم الناس، أو هو من قبيل قوله:(إن لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها .. دخل الجَنَّة) أن الحصر باعتبار هذا الوصف، فافهم.
قال القرطبي: مقتضى هذا الحديث: أن الله عَلِم أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مئة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد، انتظمت به مصالحهم، وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة .. كمل لعباده المؤمنين ما بقي، فبلغَتْ مئةً، وكُلُّها لِلمُؤْمِنينَ، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (1)؛ فإن رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويفهم من هذا أن الكُفَّار لا يَبْقَى لهم حظ من الرحمة، لا من جنس رحمات الدنيا، ولا من غيرها؛ إذ كلّ ما كان في علم الله تعالى من الرحمات
(1) سورة الأحزاب: (43).
(84)
- 4237 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ
===
للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
…
} الآية (1).
قال الحافظ: أما مناسبة خصوص هذا العدد .. فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص؛ لكونه مثل عدد دَرَجِ الجَنَّة، والجنة هي محل الرحمة، فكان كلّ رحمة بإزاء درجة، وقد ثبتٌ أنه لا يدخل أحد الجَنَّة إلَّا برحمة الله تعالى، فمن نالته منها رحمة واحدة .. كان أدنى أهل الجَنَّة منزلة، وأعلاهم منزلةً من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة، كذا في "الفتح"(10/ 422).
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الأدب، باب جعل الرحمة في مئة جزء، وفي كتاب الرقائق، باب الرجاء مع الخوف، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، والترمذي في كتاب الدعوات، بابٌ خلقَ اللهُ مئةَ رحمة، قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح.
فالحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي هريرة بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(84)
- 4237 - (2)(حدثنا أبو كريب) محمد بن العلاء الهمداني الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة سبع وأربعين ومئتين (247 هـ). يروي عنه:(ع).
(1) سورة الأعراف: (156).
وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ اللهُ عز وجل يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِئَةَ رَحْمَةٍ؛ فَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْهَا رَحْمَةً؛ فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْبَهَائِمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ
===
(وأحمد بن سنان) بن أسد بن حِبَّان - بكسر المهملة بعدها موحدة - أبو جعفر القطان الواسطي، ثقةٌ، من الحادية عشرة، مات سنة تسع وخمسين ومئتين (259 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(خ م د س ق).
(قالا: حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (190 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان (الأعمش) الكاهلي الكوفي، ثقةٌ، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي صالح) ذكوان السمان القيسي مولاهم، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة؛ فجعل) أي: فأنزل (في الأرض منها) أي: من تلك المئة (رحمة) واحدة (فبها) أي: فبتلك؛ أي: بسبب تلك الرحمة الواحدة وإنزالها فيهم (تعطف) - بكسر الطاء - من باب ضرب؛ أي: تُشْفِقُ وتَحِنُّ (الوالدةُ) من الإنسان (على ولدها، و) يعطف (البهائم) جمع بهيمة؛ وهي كلّ ذات أربع قوائم، والمراد بها هنا: غير العقلاء من الحيوان (بعضها على بعض) الوالد على الولد والذكر على الأنثى، والكبير على
وَالطَّيْرُ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .. أَكْمَلَهَا اللهُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ".
(85)
- 4238 - (3) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
===
الصغير (و) يعطف (الطير) بعضها على بعض كذلك (وأخَّر) وادخر (تسعةً وتسعين) أي: تقسيمها (إلى يوم القيامة) ليشرِّف بها المؤمنين (فإذا كان) وجاء (يوم القيامة .. أكملها الله) أي: أكمل تلك التسعة والتسعين (بـ) خلق واحدة أخرى بدل (هذه الرحمة) التي وزَّعها وقسمها لأهل الدنيا من المئة التي خلقها أولًا، فتكون المقسومة بين المؤمنين في الآخرة مئة كاملةً؛ إكرامًا لهم.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة؛ كما في "تحفة الأشراف"، ولكن له شواهد في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة المذكور قبله، ومن حديث سلمان المذكور في "مسلم"، ومن حديث ابن عباس المذكور في "الترمذي"، وأخرجه في كتاب الرقاق، وأحمد في "المسند".
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(85)
- 4238 - (3)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).
(وأبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة
قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ .. كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي".
===
خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه: (خ م د س ق).
(قالا: حدثنا أبو خالد الأحمر) سليمان بن حيان الأزدي الكوفي، صدوق يخطئ، من الثامنة، مات سنة تسعين ومئة (190 هـ)، أو قبلها. يروي عنه:(ع).
(عن) محمد (بن عجلان) المدني، صدوق إلَّا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن أبيه) عجلان مولى فاطمة بنت عتبة المدني، لا بأس به، من الرابعة. يروي عنه:(م عم).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لما خلق الخلق) أي: لما أراد إيجاد المخلوقات وتكوين الكائنات .. (كتب بيده) المقدسة قبل أن يوجدهم (على نفسِه) العَلِيَّةِ؛ أي: كتب بيده المقدسة مُوجِبًا على نفسه بمقتضى فضله ووعده: (إن رحمتي تغلب غضبي) أي: إذا كان المحل قابلًا للأمرين مستحقًا لهما من وجه .. فالغالب هو المعاملة بالرحمة لا بالغضب. انتهى "س".
وقوله: "كتب بيده على نفسه" ساق هذا الكلام على مقتضى وعده بأنه يعامل بالرحمة ما لا يعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرحمة والغضب،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ولأن الثانية دون الأُولى؛ لأن صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فعل من آثار الأولى فيما سبق .. أكثر مما فعل من آثار الثانية.
وقوله: "إن رحمتي تغلب غضبي" مفعولُ (كتب) وهذا بالنظر إلى مظاهرها، والبقيةُ يدخل النار؛ إما لأنه يعامل معاملة الغضب - ولا يشكل هذا الحديث بما جاء:(أن الواحد من الألف يدخل الجَنَّة) - بمقتضى الرحمة، ولا يعامل بمقتضى الغضب؛ كما قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (1).
وإما لأن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب؛ فإن الملائكة كلهم مظاهر الرحمة، وهم أكثر خلق الله تعالى، وكذلك ما خلق الله في الجَنَّة من الحور والولدان وغير ذلك. انتهى من "المرشد".
قال النووي في "شرح مسلم": (غضب الله) تعالى و (رضاه) يرجعان إلى معنى: (الإرادة) فإرادتُه الإثابةَ للمطيع ومنفعةَ العبد تسمى رضًا ورحمةً، وإرادتُه عقابَ العاصي وخذلانَه تسمى غضبًا.
وذكر الحافظ في "الفتح"(6/ 292): أن السبق والغلبة باعتبار التعلق؛ أي: تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب .. فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث.
وقيل: معنى (الغلبة): الكثرة والشمول.
وقال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسطَ الخلق منها أكثرُ من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلَّا باستحقاق؛ فالرحمة تشمل الشخص جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا قبل أن
(1) سورة الأنعام: (160).
(86)
- 4239 - (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِب، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ،
===
يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلَّا بعد أن يصدر منه شيء من الذنوب.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، ولأن له شاهدًا في "الترمذي"، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
وقد تقدم تخريجه للمؤلف في المقدمة برقم (187).
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(86)
- 4239 - (4)(حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب) الأموي البصري، واسم أبي الشوارب: محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي عثمان، صدوق، من كبار العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ). يروي عنه:(م ت س ق).
(حدثنا أبو عوانة) الوَضَّاح - بتشديد الضاد المعجمة ثم بمهملة - ابن عبد الله اليشكري - بالمعجمة - الواسطي البزاز مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من السابعة، مات سنة خمس أو ست وسبعين ومئة (176 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا عبد الملك بن عمير) - بالتصغير - ابن سويد اللخمي حليف بني عدي الكوفي، ويقال له: الفَرَسي - بفتح الراء والفاء ثم المهملة - نسبة إلى فرس له سابق، كان يقال له: القِبْطي - بكسر القاف وسكون الباء الموحدة - ثقةٌ
عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ؛ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ "، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،
===
فصيح عالم تغير حفظه وربما دلس، من الرابعة، مات سنة ست وثلاثين ومئة (136 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) عبد الرَّحمن (بن أبي ليلى) الأنصاري الأوسي أبي عيسى المدني ثم الكوفي، ثقةٌ، من الثانية، مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين (83 هـ). يروي عنه:(ع)، واسم أبي ليلى: يسار.
(عن معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبي عبد الرَّحمن المدني مشهور، من أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، مات سنة ثماني عشرة (18 هـ). يروي عنه:(ع).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) معاذ: (مَرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا) راكب (على حمار) لي، وفي "المشكاة": كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلَّا مؤخرة الرحل (فقال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ؛ هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ ) قال معاذ: (قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤاله: (الله ورسوله أعلم) أي: عالم بجواب ما سألتني عنه يا رسول الله، ثم أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جواب ما سألني عنه، فـ (قال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب ما سألني فجهلته:(فإن) الفاء فيه للإفصاح، أو زائدة؛ أي: إن (حق الله على العباد: أن يعبدوه) أي: أن يفردوه بالعبادة (وَلَا يشركوا به) تعالى في العبادة (شيئًا) من المخلوقات
وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ".
===
(وحق العباد على الله) تعالى على سبيل التفضل والإحسان إليهم، لا على سبيل الإلزام والوجوب عليه (إذا فعلوا) أي: فعل العباد (ذلك) المذكور من عبادته وحده، وعدم الإشراك به شيئًا من المخلوقات (أن) يرحمهم و (لا يعذبهم) بغير استحقاق منهم للعذاب.
قوله: "ما حق الله على العباد" قال الطيبي (1/ 252): الحق نقيض الباطل؛ لأنه ثابت، والباطل زائل، ويستعمل في الواجب واللازم والجدير والنصيب والمِلْك، وحق الله تعالى بمعنى: الواجب واللازم، وحق العباد بمعنى: الجدير؛ لأن الإحسان إلى من لَمْ يتخذ ربًا سواه .. جَدِيرٌ في الحكمة أن يفعله، هذا الوَجْهُ، قاله الطيبي.
وقيل: حق العباد على الله تعالى هو ما وعدهم به من الثواب والجزاء، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز، فهو حق بوعدهِ الصدق وقولِه الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخُلْفُ في الوعد.
أو المراد: أنه كالواجب تحققه وتأكُّدُه.
وقيل: حقهم على الله؛ على جهة المقابلة والمشاكلة لحقه عليهم؛ فالله تعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر؛ إذ لا أمر فوقه، ولا حكم للعقل؛ لأنه كاشف لا موجب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وتمسك بعض المعتزلة بظاهره، ولا متمسك لهم مع قيام الاحتمال.
قوله: (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فإن حق الله على العباد) يحتمل كون الفاء فيه للإفصاح؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: فإذا فوضت علم ذلك إِليَّ .. فأقولُ لك: اعلم أن حق الله على
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا
…
إلى آخره.
والمراد بالعبادة: عمل الطاعات واجتناب المعاصي ظاهرًا وباطنًا، وعطف عليها عدم الإشراك؛ لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يَدَّعُون أنهم يعبدون الله، ولكنهم يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية من فاعل (يعبدوه) والتقدير: يعبدونه حالة كونهم عادمين إشراك غيره تعالى به.
قال ابن حبان: عبادة الله: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب والجنان، وعملٌ بالجوارح والأركان.
ولهذا قال في الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعَبَّر بالفعل، ولم يعبر بالقول، كذا في "الفتح".
قوله: "وحق العباد" بالنصب عطفًا على اسم إن، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر جملة.
قوله: "ألا يعذبهم" قال القاري: ألا يعذبهم عذابًا مخلدًا، فلا ينافي دخول النار جماعة من عصاة هذه الأمة؛ كما ثبتت به الأحاديث الصحيحة.
قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل؛ فإن عدم التعذيب إنما هو لمن عبده ولم يشرك به شيئًا.
والمراد بالعبادة: عمل الطاعات واجتناب المعاصي مع الإقرار باللسان والتصديق بالقلب؛ كما علمت، ومن كان كذلك .. لا يعذب مطلقًا، ويدخل الجَنَّة أولًا مُعافىً. انتهى منه.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، ولكن له شواهد في "الصحيحين" في البخاري في كتاب الجهاد والاستئذان والرقاق، وفي مسلم والترمذي في
(87)
- 4240 - (5) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
===
الإيمان، وأبي داوود في الجهاد، والنسائي في "الكبرى" في كتاب العلم، وفي غيرها من كتب الحديث.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده ولأن له شواهد مما ذُكِر، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استأنس المؤلف للترجمة بحديث ابن عُمر رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(87)
- 4240 - (5)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي، صدوق، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ) على الصحيح. يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا إبراهيم بن أعين) الشيباني العجلي البصري، نزيل مصر، ضعيف، من التاسعة. يروي عنه:(ق).
(حدثنا إسماعيل بن يحيى الشيباني) ويقال له: الشعيري متهم بالكذب، من الثامنة. يروي عنه:(ق).
(عن عبد الله بن عمر بن حفص) بن عاصم بن عمر بن الخطاب
أبي عبد الرَّحمن العمري المدني، ضعيف عابد، من السابعة، مات سنة إحدى وسبعين ومئة (171 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(م عم).
(عن نافع) مولى ابن عمر، ثقةٌ فقيه، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومئة، أو بعد ذلك. يروي عنه:(ع).
(عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِه، فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ:"مَنِ الْقَوْمُ؟ "، فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، وَامْرَأَةٌ تَحْصِبُ تَنُّورَهَا
===
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه إبراهيم بن أعين، وهو ضعيف، وكذا إسماعيل بن يحيى ضعيف؛ لأنه متهم بالكذب، وكذا عبد الله بن عمر بن حفص ضعيف.
(قال) ابن عمر: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته) ولم أر من عين تلك الغزوة (فمر) رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة (بقوم) أي: على قوم من أحياء العرب (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: (من القوم؟ ) بفتح الميم للاستفهام الاستخباري؛ أي: من هؤلاء الأحياء (فقالوا) أي: فقال القوم في جواب سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نحن المسلمون) كأنهم توهموا، أو خافوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنهم غير المسلمين.
قال ابن حجر تبعًا للطيبي: كان من الظاهر أن يقولوا في جواب سؤال الرسول لهم: نحن مضريون أو قرظيون أو تميميون، فعدلوا عن الظاهر، وعرفوا الخبر حصرًا؛ أي: نحن قوم لا نتجاوز الإسلام؛ توهمًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أنهم غير مسلمين. انتهى.
قال القاري: وهذا تكلف، وقال قوله:(من القوم؟ ) أي: أنتم أو هم من الأعداء الكافرين، أو من الأحباء المسلمين.
قوله: (وامرأة) معهم، جملة حالية من فا عل (قالوا: نحن المسلمون) أي: قالوا في جواب سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم نحن المسلمون، والحال أن مع هؤلاء القوم امرأة منهم (تحصب) من باب ضرب؛ أي: ترمي في (تنورها) حصبًا توقد به النارَ في تنورها.
قوله: (تحصب تنورها) - بالحاء والصاد المهملتين - من باب ضرب
وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا، فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجُ التَّنُّورِ .. تَنَحَّتْ بِه، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؛ أَلَيْسَ اللهُ بِأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَتْ: أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَرْحَمَ بِعِبَادِهِ
===
يضرب؛ أي: ترمي فيه حصبًا يوقد به النار في تنورها.
والتنور - بفتح التاء المثناة فوق وتشديد النون المضمومة وسكون الواو -: الفرن والمخبز، ويقال: حصبت النار؛ اتقدت في الحصب؛ والحصب: ما تأكله النار من أغصان الشجر.
وجملة قوله: (ومعها ابن لها) جملة حالية من فاعل (تحصب) أي: ومعهم امرأة تحصب التنور، والحال أن مع تلك المرأة ابن لها صغير تخاف وقوع شعلة النار عليه فتحرقه.
(فـ) لذلك قال الراوي: (إذا ارتفع) وعلا (وهج التنور) ولهبها واشتدت حرارته .. (تنحت به) أي: أبعدت ابنها وولدها عن التنور؛ لئلا تضربه حرارة التنور؛ والوهج - بالفتح -: حر النار.
(فأتت) تلك المرأة؛ أي: جاءت إلى (النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت) تلك المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت رسول الله) صلى الله عليه وسلم؛ بتقدير همزة الاستفهام، فلا ينافي إسلامَها قَبْلَ ذلك؛ لعلمها به إجمالًا وإِنْ لَمْ تره بعينها، فـ (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالها:(نعم) أنا رسول الله، فـ (قالت) له:(بأبي أنت وأمي) أي: أنت مفدي بأبي وأمي من كلّ مكروه (أليس الله) استفهام تقرير؛ أي: ألم يكن الله عز وجل (بأرحم الراحمين) على عباده؟ ! فـ (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلى) هو سبحانه أرحم الراحمين لعباده.
فـ (قالت) له صلى الله عليه وسلم: (أوليس الله بأرحم) وأشفق (بعباده)
مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَتْ: فَإِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّار، فَأَكَبَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللهِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ".
===
أي: أشد شفقة لعباده (من) شفقة (الأم بولدها) وابنها؟ ! فـ (قال) لها: (بلى) هو أرحم بعباده من شفقة الأم بولدها، فـ (قالت) المرأة:(فإن الأم لا تلقي) ولا ترمي (ولدها في النار) فكيف يعذب الله عباده إذا كان هو أرحم الراحمين بعباده من الأم، وإن كانوا كفرة (فأكب) وسقط (رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه حالة كونه (يبكي) لتأثير قولها في قلبه.
(ثم رفع) رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأسه) من الأرض متوجهًا (إليها، فقال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يعذب من عباده) أي: عذابًا مخلدًا (إلَّا المارد) أي: إلَّا المارد الآبي عن امتثال أوامره (المتمردَ) أي: المبالغ في تمرده وكفره بارتكاب المناهي (الذي يتمرد) أي: ويتكبر (على الله) في أوامره ونواهيه (وأبى) وامتنع (أن يقول: لا إله إلَّا الله) عز وجل.
قوله: (فإن الأم لا تلقي ولدها في النار) أي: فكيف أرحم الراحمين يلقي بعض عباده في النار وإن كانوا كفرة.
قوله: (فأكب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه) يقال: كببت زيدًا كبًا؛ ألقيته على وجهه وأَسْقَطْتُه، فأَكَبَّ هو، وهو من النوادر التي تتعدَّى ثلاثيُّها وقَصُر رباعيُّها، وفي التنزيل:{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (1)، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} (2).
(1) سورة النمل: (90).
(2)
سورة الملك: (22).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
والمراد ها هنا: طأطأ رأسه. انتهى "سندي".
قوله: (إن الله لا يعذب) أي: عذابًا مخلدًا (من عباده) أي: من جميع عباده، فالإضافة للاستغراق، بدليل الاستثناء الآتي.
قوله: (إن الله لا يعذب) أي: على الدوام، والظاهر أنه لا يدخل النار إلَّا هؤلاء؛ إذ الكلام في إدخال النار لا في الخلود والدوام، والله أعلم.
وبالجملة: فالمعصية تعظمُ وتزيدُ قبحًا وشناعةً بقدر حقار المعاصي وعظمةِ المُعْصَى بها، وكثرةِ إحسانهِ إلى العاصي، فيعظمُ جزاؤها بذلك، فبالنظر إلى حالة العبد العاصي، وأنه خُلِق من أي شيء، وأي شيء مقدارُه، وإلى عظمة خالق السماوات والأرض الذي قامت السماوات بأمره، وإلى كثرة نعمه وإحسانه تعظم أَدْنَى المعاصي حتى تُجاوِز الجبالَ والبحار، وتصير حقيقةً بأن يُجعل جزاؤها الخلودَ في النار لولا رحمة الكريم العفو الغفور الرحيم، فكيف هذه المعصية المتضمنة لتشبيهه بالأحجار التي هي أرذل الخلق؟ ! فتعالى سبحانه عن ذلك علوًا كبيرًا، وحقائقُ هذه الأمور لا يعلمها إلَّا علَّام الغيوب.
ثم ظاهر الحديث يقتضي: أن جاحد النبوة هو الذي قد أبى عن كلمة التوحيد على وجهها، وهو المراد ها هنا.
قوله: (إلَّا المارد) أي: إلَّا شيطان الإنس والجن المفتري المُبتعد الممتنع عن امتثال المأمورات؛ من مرد؛ كنصر وكرم؛ إذا عتا وعصا وجاوز حد أمثاله في الإباء من مأمورات الشرع، أو بلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك المصنّف رحمه الله (المتمرد) أي: البالغ الغاية في ارتكاب المنهيات (الذي يتمرد) ويتجرأ ويتكبر وينهمك في ارتكاب المنهيات، ويعتو ويترفع عن سماع نهي في المنهيات، ويواظب على ارتكابها (وأبى) عطف على (يتمرد) عطف تفسير؛
(88)
- 4241 - (6) حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
===
أي: وامتنع من (أن يقول: لا إله إلَّا الله) فيكون بمنزلة ولد يقول لأمه: ليست أمي، وأمي غيرها ويعصيها، ويتصور لها بصورة كلب أو خنزير، فلا شك أنَّها حينئذ تتبرأ عنه، وتعذبه إن قدرت عليه.
وحاصل الجواب: أن الكافر خرج من العبودية، ومن أن يسمى (عبدًا لله) فلهذا قال عز وجل:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، ودرجته: أنه ضعيف منكر موضوع (5)(437)؛ لضعف سنده؛ لما تقدم، وغرضه: الاستئناس به للترجمة.
* * *
ثم استأنس المؤلف للترجمة ثانيًا بحديث آخر لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقال:
(88)
- 4241 - (6)(حدثنا العباس بن الوليد) بن صبح - بضم المهملة وسكون الموحدة - الخَلَّال بالمعجمة وتشديد اللام (الدمشقي) السلمي، صدوق، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وأربعين ومئتين (248 هـ). يروي عنه:(ق).
(حدثنا عمرو بن هاشم) البَيْروتي - بفتح الموحدة وسكون التحتانية وبالمثناة - صدوق يخطئ، من التاسعة، وقال ابن عدي: ليس به بأس. يروي عنه: (ق).
(حدثنا) عبد الله (بن لهيعة) بن عقبة الحضرمي أبو عبد الرَّحمن المصري القاضي، صدوق، من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه فترك، مات سنة أربع وسبعين ومئة (174 هـ). يروي عنه:(م د ت ق).
(1) سورة العنكبوت: (40).
عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَعْمَلْ لِلّهِ بِطَاعَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مَعْصِيَةً".
* * *
(عن عبد ربه بن سعيد) بن قيس الأنصاري أخي يحيى بن سعيد المدني، ثقةٌ، من الخامسة، مات سنة تسع وثلاثين ومئة (139 هـ)، وقيل بعد ذلك. يروي عنه:(ع).
(عن سعيد) بن أبي سعيد اسمه كيسان (المقبري) أبي سعد المدني، ثقةٌ، من الثالثة، تغير قبل موته باربع سنين، مات في حدود العشرين ومئة (120 هـ) وقيل قبلها، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وهو متفق ها هنا على ضعفه.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار إلَّا شقي) أي: محروم من رحمة الله تعالى (قيل) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر من عيَّن اسم القائل:(يا رسول الله؛ ومن الشقي؟ ) أي: ومن المحروم من رحمة الله؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشقي هو (من لَمْ يعمل) طلبًا (لـ) رضا (الله بطاعةٍ) أيَّ طاعةٍ كانت، فعلًا كانت أو قولًا؛ أي: مخلصًا عملها لوجه الله، فلا يعتبر عملها للرياء أو السمعة أو المحمدة أو للظهور والذكر؛ لأن عملها لذلك شرك، فلا يحسب عند الله عبادة، بل شركًا باطنيًا (ولم يترك له) أي: لأجل خشية الله (معصية) من المعاصي، فلا يعتبر تركها استحياء من الناس، أو خوفًا من عقوبة غير الله تعالى.
قوله: (من لَمْ يعمل بطاعة الله) أي: ما عمل عملًا من حيث إنه طاعة،
(89)
- 4242 - (7) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَاب، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَخُو حَزْمٍ الْقُطَعِيِّ،
===
فما أطاعه قط (ولم يترك له معصية) أي: ما ترك عملًا من حيث كونه معصية له، فما ترك معصية قط، بل هو مواظب على جميع المعاصي حكمًا؛ إذ ما ترك شيئًا لكونه معصية، وإن الذي تركه؛ فإنما تركه بسبب آخر.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، ودرجته: أنه ضعيف؛ لضعف سنده؛ لما تقدم آنفًا، وغرضه: الاستئناس به للترجمة، فالحديث: ضعيف السند والمتن (6)(438).
* * *
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(89)
- 4242 - (7)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا زيد بن الحباب) - بضم أوله وبموحدتين - أبو الحسين العكلي - بضم فسكون - أصله من خراسان وكان بالكوفة، صدوق يخطئ في حديث الثوري، من التاسعة، مات سنة ثلاث ومئتين (203 هـ). يروي عنه:(م عم).
(حدثنا سهيل) مصغرًا (ابن عبد الله أخو حزم القُطعي) - بضم القاف وفتح الطاء - أبو بكر البصري، ضعيف، من السابعة. يروي عنه:(عم)، قاله الحافظ في "التقريب"، قال البخاري: لا يتابع في حديثه يتكلمون فيه، وقال في موضع آخر: ليس بالقوي عندهم، وقال أحمد: روى عن ثابت أحاديث منكرة، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج
حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِك أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ أَوْ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، فَقَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلَ مَعِي إِلَهٌ آخَرُ؛ فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلهًا
===
به، وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي في "الثقات"، وقال الحافظ: ضعيف، فهو مختلف فيه.
(حدثنا ثابت) بن أسلم (البناني) أبو محمد البصري، ثقةٌ عابد، من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ومئة (123 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه سهيل بن عبد الله القطعي، وهو مختلف فيه.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ، أو) قال الراوي: (تلا) رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه الآية) الآتية القريبة، والشك من ثابت بن أسلم؛ والمعنى واحد، وتلك الآية هي قوله تعالى:({هُوَ}) سبحانه وتعالى ({أَهلُ التَّقْوَى}) أي: مستحق لتقوى العباد إياه؛ لأنه خالقهم ({وَأَهْلُ}) أي: واسع ({الْمَغْفِرَةِ})(1) لهم؛ لأنه أكرم الأكرمين (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم استشهادًا على الآية الأولى؛ أي: المذكورة أولًا، أو تفسيرًا لها:(قال الله عز وجل: أنا أهل) أي: مستحق لـ (أن أتقى) - بصيغة المبني للمفعول - أي: مستحق لتقوى عبادي إياي؛ بامتثال مأموراتي واجتناب منهياتي؛ لأن عذابي شديد (فلا) ينبغي لهم أن (يجعل) ويتخذ (معي إله) أي: معبود (آخر) غيري (فمن اتقى) واجتنب من (أن يجعل) ويتخذ (معي إلهًا) أي:
(1) سورة المدثر: (56).
آخَرَ .. فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ".
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ،
===
معبودًا (آخر .. فأنا أهل) أي: قادر على (أن أغفر له) جميعَ ذنوبه، فاتقون يا عبادي، فارهبون ولا تأمنوا مكري؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلَّا القوم الخاسرون.
قال في "التحفة": قوله: (أهل التقوى) أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعته (وأهل المغفرة) أي: فيغفر ذنوبهم (فمن اتقاني) أي: خافني .. (فأنا أهل أن أغفر له) أي: لمن اتقاني. انتهى "تحفة الأحوذي".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، والنسائي، وأحمد، والدارمي، والحاكم في "المستدرك" في كتاب التفسير، تفسير سورة المدثر، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم زاد هنا تلميذ تلميذ المؤلف أبو عيسى الجلودي إبراهيم بن عيسى القزويني متابعة سمعها من شيخه تلميذ المؤلف، فقال:
(قال) شيخنا (أبو الحسن القطان) علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطان القزويني، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ) وهو من أشهر رواة هذا السنن، حتى قيل: إن رواية غيره قد اندرست قديمًا، والذي انتشر الآن من هذا السنن من روايته.
(حدثنا إبراهيم بن نصر) لَمْ أر من ذكر ترجمته في كتب الرجال ولا في غيره.
(حدثنا هدبة بن خالد) بن الأسود القيسي أبو خالد البصري، ويقال له: هداب - بفتح أوله وتشديد الدال - ثقةٌ، من صغار التاسعة، مات سنة بضع وثلاثين ومئتين (223 هـ). يروي عنه:(خ م د).
حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، عَنْ ثَابتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ رَبُّكُمْ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى؛ فَلَا يُشْرَكَ بِي غَيْرِي، وَأَنَا أَهْلٌ
===
(حدثنا سهيل بن أبي حزم) اسمه مهران أو عبد الله، القطعي - بضم القاف وفتح الطاء - أبو بكر البصري، قال الحافظ في "التقريب": ضعيف، من السابعة. يروي عنه:(عم)، ووثقه العجلي في "الثقات"، فهو مختلف فيه كما مر في السند المذكور قبله.
(عن ثابت) بن أسلم البناني، ثقةٌ عابد، من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ كالذي قبله، وغرضه بسوقه: بيان متابعة هدبة بن خالد لزيد بن الحباب في رواية هذا الحديث عن سهيل بن أبي حزم، وفائدتها: تقوية السند الذي قبله؛ لأن هدبة بن خالد من رجال "الصحيحين".
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في) تفسير (هذه الآية) يعني: قوله عز وجل: ({هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ})(1).
وقوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توكيد لفظي لقال المذكور قبله: (قال ربكم): معنى هذه الآية: (أنا أهل) أي: أنا مستحق منكم يا عبادي لـ (أن أُتَّقى) - بضم الهمزة مبنيًّا للمجهول - أي: مستحق منكم لمخافتي وتقواي (فلا يُشرك بي غيري) لأني نهيتكم عن الإشراك بي (وأنا أهل) أي: حقيق
(1) سورة المدثر: (56).
لِمَنِ اتَّقَى أَنْ يُشْرِكَ بِي أَنْ أَغْفِرَ لَهُ".
(90)
- 4243 - (8) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ يَحْيَى،
===
جدير (لمن اتقى) واجتنب من (أن يشرك بي) - بالبناء للفاعل من الإشراك - أي: من الإشراك بي في عبادتي؛ أي: أنا أهل وقادر على (أن أغفر له) جميع ذنوبه، وعلى أن أرفع له درجاته.
وفائدة سوق هذه المتابعة: بيانُ اختلاف الروايتين في سوق الحديث، وبيان أبي الحسن أنه روى هذا من غير طريق المؤلف، ومعلوم أن المتابعة تابعة لأصلها صحةً وحسنًا وضعفًا، فلا حاجة إلى بيان ذلك.
* * *
ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(90)
- 4243 - (8)(حدثنا محمد بن يحيى) بن عبد الله بن خالد الذهلي النيسابوري، ثقةٌ متقن، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم (بن أبي مريم) الجمحي مولاهم المصري، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار العاشرة، مات سنة أربع وعشرين ومئتين (224 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا الليث) بن سعد بن عبد الرَّحمن الفهمي مولاهم، أبو الحارث المصري، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومئة (175 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثني عامر بن يحيى) بن حبيب بن مالك المعافري أبو خنيس - بمعجمة
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِق، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَر، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ عز وجل: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟
===
ونون مصغرًا - ثقةٌ، من السادسة، مات قبل سنة عشرين ومئة. يروي عنه:(م ت ق).
(عن أبي عبد الرَّحمن الحبلي) - بضمتين - عبد الله بن يزيد المعافري، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة مئة (100 هـ) بإفريقية. يروي عنه:(م عم).
(قال) أبو عبد الرَّحمن: (سمعت عبد الله بن عمرو) بن العاص القرشي السهمي رضي الله تعالى عنهما.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
أي: سمعت عبد الله بن عمرو حالة كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصاح برجل من أمتي) أي: ينادى به (يوم القيامة على رؤوس الخلائق) وأعيانهم وأكابرهم من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين فضيحة له على عمله (فينشر) - بضم أوله وفتح ما قبل آخره على صيغة المبني للمجهول - أي: فيفتح ويبسط (له) أي: لأجل إرائته وفضيحته (تسعة وتسعون سجلًا) بالرفع على أنه نائب فاعل لينشر؛ أي: من ورقة مملوءةٍ بكتابةٍ، سعةُ (كُلِّ سجلّ) منها؛ أي: من التسعة والتسعين .. قَدْرُ (مدِّ البصر) أي: قدر ما يمتد إليه البصر ويراه في الصحراء والأرض الخالية؛ يعني: كلّ كتاب منها طوله وعرضه مقدار ما يمتد إليه بصر الإنسان؛ والسجل: هو الكتاب الكبير.
(ثم) بعدما نشر وبسط كلها له (يقول الله عز وجل لذلك الرجل: (هل تنكر من هذا) الذَّنْب المسجل في هذه السجلات المذكورة (شيئًا) منه قليلًا
فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا
===
أو كثيرًا؟ (فيقول) الرجل في جواب سؤال الرب جل جلاله: (لا) أنكر شيئًا منه (يا رب) ويا مالك أمري، بل هو مما عملته في الدنيا (فيقول) الرب للرجل:(أظلمتك) أي: هل ظلمتك (كتبتي) التي وكلتهم بكتابة أعمالك (الحافظون) أي: الذين وكلتهم بحفظ أعمالك وكتابتها عليك؛ أي: هل ظلموك بكتابتهم عليك بعمل وذنب لَمْ تعمله؟
والكتبة - على وزن الكملة - جمع كاتب؛ ككملة وكامل؛ والمراد بهم: الكرام الكتبة الحافظون لأعمال بني آدم.
ثم يقول الرجل للمولى سبحانه: ما ظلموني في كتابتِهم بالزيادةِ علي، حذفَهُ لِعلْمِه من السياق.
(ثم) بعدما أجاب الرجل للمولى بقوله: ما ظلموني (يقول) الرب الرؤوف الرحيم للرجل: (ألك) أيها الرجل (عذر) عن ذلك؛ أي: من ذلك المسجل في السجلات المذكورة؛ (ألك حسنة) واحدة؟ (فيَهابُ الرجل) أي: يُلْقَى في قلبه الهيبة والخوف من جواب سؤال الرب؛ بأن في ذلك بعض الحسنات (فيقول) الرجل في جواب سؤال الرب: (لا) أي: ما في ذلك المسجل حسنة واحدة؛ استحياء وهيبةً من الرب عز وجل (فيقول) الرب - عم نواله، وعز كماله - للرجل:(بلى) أي: ليس الأمر كما قلت من نفي الحسنة فيها (إن لك) أيها الرجل (عندنا حسنات) كثيرة (وإنه) أي: وإن الشأن والحال إلا ظلم عليك اليوم) بإخفاء حسناتك (فنخرج له بطاقة) أي: ورقة مخزونة في خزانة تحت العرش (فيها) أي: في تلك البطاقة؛ أي: فتخرج له بطاقة مكتوب
(أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ،
===
له فيها أجر قوله: (أشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا عبده ورسوله).
قوله: (فيهاب الرجل) أي: فيوقع في قلبه هيبة وحيرة من الجواب (فيقول: لا) أي: ما لي فيها حسنة (فيقول) الرب: (بلى) أي: لك عندنا ما يقوم مقام عذرك.
وفي رواية الترمذي: (إن لك عندنا حسنة، فتخرج له) بصيغة المبني للمجهول (بطاقة) قال في "النهاية": البطاقة: رقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما تجعل فيه إن كان عينًا .. فوزنه أو عدده، وإن كان متاعًا .. فثمنه.
قيل: سميت بذلك؛ لأنَّها تشد بطاقةٍ من الثوب، فتكون الباء حينئذ زائدة، وهي كلمة كثيرة الاستعمال بمصر، وقال في "القاموس": البطاقة - ككتابة -: الرقعة الصغيرة المنوطة بالثوب التي فيها رقم ثمنه، سميت بذلك؛ لأنَّها تشد بطاقةٍ من هدب الثوب (فيها) أي: مكتوب في البطاقة: (أشهد أن لا إله إلَّا الله
…
) إلى آخره، قال القاري: يحتمل أن الكلمة هي أول ما نطق بها، ويحتمل أن تكون غير تلك المرة، مما وقعت مقبولة عند الحضرة، وهو الأظهر في مادة الخصوص من عموم هذه الأمة.
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول) الرجل: (يا رب؛ ما هذه البطاقة) الواحدة (مع هذه السجلات) الكثيرة، وما قدرها وما فائدتها بجنبها ومقابلتها ونسبتها؟ ! لأنَّها كلا شيء بجنب هذه السجلات الكثيرة (فيقول) الرب:(إنك لا تظلم) أي: ليظهر لك أنك لا تظلم مع كون حسنتك قليلة بالنسبة إلى السجلات الكثيرة فلا يقع عليك الظلم، لكن لا بد من إحضار الوزن؛ كي يظهر لك أن لا ظلم، فأحضر الوزن.
فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ"، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: الْبِطَاقَةُ الرُّقْعَةُ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ: بِطَاقَةً.
===
قيل: وجه مطابقة هذا جوابًا لقوله: (ما هذه البطاقة) أن اسم الإشارة للتحقير كأنه أنكر أن يكون مع هذه البطاقة المحقرة موازنة لتلك السجلات الكثيرة، فرد بقوله:(إنك لا تظلم) بحقيرة؛ أي: لا تحقر هذه البطاقة؛ فإنها عظيمة عند الله سبحانه؛ إذ لا يثقل مع اسم الله شيء، ولو ثقل عليه شيء .. لظلمت.
(فتوضع) تلك (السجلات) الكثيرة (في كفة) اليسار من الميزان (و) توضع (البطاقة) الصغيرة (في كفة) اليمين؛ و (الكفة) - بكسر وتشديد - أي: فردة من زوجي الميزان؛ ففي "القاموس": الكفة - بالكسر - من الميزان معروف ويفتح (و) توضع (البطاقة)(في) كفة (أخرى) وهي كفة اليمين؛ لأنَّها كفة الحسنات (فطاشت السجلات)؛ خفت كفتها وارتفعت إلى جهة العلو (وثقلت البطاقة) أي: كفتها وانخفضت ورجحت على كفة السجلات، والتعبير بالمضي في الموضعين .. إشارة إلى تحقق ذلك في الموضعين.
(قال محمد بن يحيى) بن عبد الله شيخ المؤلف، الذهلي النيسابوري بالسند السابق رحمه الله تعالى:(البطاقة) هي (الرقعة)؛ أي: الورقة المكتوبة (وأهل مصر يقولون للرقعة: بطاقة) والمعنى واحد.
فإن قيل: الأعمال أعراض لا يمكن وزنها، وإنما توزن الأجسام؟
أجيب: بأنه يوزن السجل الذي كتب فيه الأعمال، ويختلف باختلاف الأحوال، أو أن الله يجسم الأفعال والأقوال، فتوزن فتثقل الطاعات، وتطيش السيئات؛ لثقل العبادة على النفس، وخفة المعصية عليها، ولذا ورد:(حفت الجَنَّة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وفي الحديث: دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان، وأن الأعمال وإن كانت أعراضًا .. فإنها توزن، والله على كلّ شيء قدير، وأن الله تعالى يقلب الأعراض أجسامًا فيزنها، وذلك من عقائد أهل السنة، والأحاديث في ذلك متظاهرة، وإن لَمْ تكن متواترة، انظر "شرح العقائد الطحاوية".
والحديث فيه دليل على أن هذه الكلمة المشتملة على الشهادتين تكفر جميع الذنوب، وإن مال إلى خلاف ذلك قوم، وقالوا: إن هذا ونحوه كان في ابتداء الإسلام حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد، فلما فرضت الفرائض وحدت الحدود .. نسخ ذلك، والله أعلم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلَّا الله، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، كذا في "الترغيب".
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به خامسًا لحديث أبي هريرة الأول.
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ثمانية أحاديث:
الأول للاستدلال، والخامس والسادس للاستئناس، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم