المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(15) - (1513) - باب ذكر الشفاعة - شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه - جـ ٢٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌(15) - (1513) - باب ذكر الشفاعة

(15) - (1513) - بَابُ ذِكرِ الشَّفَاعَةِ

(97)

- 4250 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ،

===

(15)

- (1513) - (باب ذكر الشفاعة)

(97)

- 4250 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).

(حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الكاهلي الأسدي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن أبي صالح) ذكوان السمان القيسي مولاهم؛ لأنه مولى امرأة من قيس، أبي سهيل المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي ثم المدني رضي الله تعالى عنه، مات سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع وخمسين. يروي عنه: (ع). من المكثرين.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي) من الأنبياء (دعوة) واحدة (مستجابة) أي: محققة الإجابة؛ فالسين والتاء فيه

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

زائدتان، يقال: أجاب واستجاب، قال الشاعر:

........................

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: لم يجبه.

والمعنى: أنهم عليهم الصلاة والسلام لهم دعوة في أممهم، هم على يقين في إجابتها بما أعلمهم الله تعالى، ثم خيرهم في تعيينها، وما عداها من دعواتهم يرجون إجابتها، ليسوا على يقين في إجابتها؛ لعدم وعده تعالى إياهم إجابتها بعينها، وتلك الدعوة كدعوة نوح عليه السلام بقوله:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1)، فأجيب بالطوفان؛ يعني: أن لكل نبي دعوة أُوحيَ إليه أنها تقبل منه، وإلا .. فأكثر دعوتهم مقبولة، لكنهم عند دعوتهم بغير هذه الدعوة ليسوا على يقين في قبولها. انتهى "سنوسي".

قال القاضي: فإن قيل: كيف هذا، وقد أجيب لهم دعوات؟

قيل المعنى: دعوة محققة الإجابة بإعلان من الله تعالى، وغيرها مرجو الإجابة.

وفي "المفهم": قوله: (لكل نبي دعوة) معناه: أنهم عليهم الصلاة والسلام لهم دعوة في أممهم، هم على يقين في إجابتها بما أعلمهم الله تعالى، ثم خيرهم في تعيينها، وما عَدَاها من دعواتهم يرجون إجابتها، وإلا .. فكم قد وقع لهم من الدعوات المجابة، وخصوصًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد دعا لأمته بألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، وألا يهلكهم بسنة عامة، فأعطيهما، وقد منع أيضًا بعض ما دعا لهم به؛ إذ قد دعا ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها وهذا يحقق ما قلناه؛ من أنهم في دعواتهم راجون الإجابة،

(1) سورة نوح: (26).

ص: 299

فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وِإنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، فَهِيَ نَائِلَةٌ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا".

===

بخلاف هذه الدعوة الواحدة، والله أعلم. انتهى من "المفهم".

(فتعجل) أي: فاستعجل في الدنيا (كل نبي دعوته) التي وعد بإجابتها بتعيينها لربه وسؤالها إياه (وإني اختبأت) وادخرت (دعوتي) التي وعدت إجابتها بعينها وأجعلها (شفاعةً لأمتي) يوم القيامة (فهي) أي: فتلك الدعوة المدخرة لي (نائلة) أي: شاملة (من مات منهم) أي: من أمتي؛ أي: عامة جميع من مات من أمتي، حالة كونه (لا يشرك بالله شيئًا) من المخلوق.

قوله: (فهي نائلة) أصله: من نال الشيء؛ إذا ظفر به وحصل عليه.

قال النووي: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب أهل الحق على أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى .. لم يخلد في النار، وإن كان مصرًا على الكبائر. انتهى.

وفي هذا الحديث: بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الدعوات في أوله مختصرًا، ومسلم في كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة، والترمذي في كتاب الدعوات، باب فضل قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في "المسند"، وأبو عوانة، والخطيب البغدادي.

فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 300

(98)

- 4251 - (2) حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى وَأَبُو إِسْحَاقَ الْهَرَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَاتِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ،

===

ثم استشهد المؤلف لحديث أبي هريرة بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(98)

- 4251 - (2)(حدثنا مجاهد بن موسى) الخوارزمي وهو الخُتَّلي - بضم المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة - أبو علي نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ) وله ست وثمانون سنة. يروي عنه:(م عم).

(وأبو إسحاق الهروي) نسبة إلى هراة؛ بلدة بخراسان (إبراهيم بن عبد الله بن حاتم) نزيل بغداد، صدوق حافظ تكلم فيه بسبب القرآن، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ) وله ست وستون سنة. يروي عنه:(ت ق).

كلاهما (قالا: حدثنا هشيم) - مصغرًا - ابن بشير - بوزن عظيم - ابن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، من السابعة، مات سنة ثلاث وثمانين ومئة (183 هـ). يروي عنه:(ع).

(أنبأنا علي بن زيد بن جدعان) التيمي البصري، ضعيف، من الرابعة، مات سنة إحدى وثلاثين ومئة (131 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(م عم).

قاله الحافظ في "التقريب"، وقال العجلي: لا بأس به، وكان يتشيع، وقال مرة: يكتب حديثه وليس بالقوي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث، وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال ابن عدي: لم أر أحدًا من البصريين وغيرهم امتنع من الرواية عنه، وكان يغلو في التشيع، وقال الساجي: كان من أهل

ص: 301

عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ،

===

الصدق، وعلم مما ذكر أنه مختلف فيه ويرد السند من الصحة إلى الحسن.

(عن أبي نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعة - بضم القاف وفتح المهملة - العبدي العَوَقي - بفتحتين - البصري مشهور بكنيته، ثقة، من الثالثة، مات سنة ثمان أو تسع ومئة (109 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو مختلف فيه.

(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم) قاله إخبارًا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثًا بنعمة الله تعالى عنده، وإعلامًا لأمته؛ ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله:(ولا فخر) أي: أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله تعالى، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بَلَغْتُها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها، قاله الجزري.

وقال النووي: فيه وجهان؛ أحدهما: قاله امتثالًا لأمر الله تعالى؛ حيث قال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1)، وثانيهما: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته؛ ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه في توقيره صلى الله عليه وسلم؛ كما أمرهم الله تعالى به. انتهى.

(وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة) للبعث من القبور، فلا يتقدم أحد عليه، فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم (ولا فخر) تقدم تفسيره،

(1) سورة الضحى: (11).

ص: 302

وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ".

===

وقيل المعنى: أي: ولا أقوله تفاخرًا، بل اعتدادًا بفضله وتحدثًا بنعمته، وتبليغًا لما أمرت به.

قال الطيبي: قوله: (ولا فخر) حال مؤكدة؛ أي: أقول هذا ولا فخر.

قال التوربشتي: والفخر: ادعاء العظمة والمباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان؛ كالمال والجاه.

(وأنا أول شافع) لربه لأهل الموقف؛ ليفصل بينهم فصل القضاء حين اشتد عليهم هول الموقف؛ لأنه فاتح باب الشفاعة عند ربه حين غضب الرب غضبًا لم يغضب مثله قط.

(وأول مشفَّع) على صيغة اسم المفعول؛ أي: أول من تقبل شفاعته عند ربه (ولا فخر) أي: وما قلته فخرًا به؛ لأنه من فضله تعالى عليَّ لا من عَملي (ولواءُ الحمد) أي: لواء يكون سببًا لحمد الأولين والآخرين إياي (بيدي) أنا حامله (بوم القيامة ولا فَخْر) لي بذلك؛ لأنه من فضله تعالى عليَّ لا بعملي.

واللواء - بالكسر وبالمد -: الراية، ولا يمسكها إلا صاحبُ الجيش وقائدُهُ.

قال الطيبي: لواءُ الحمد عبارةٌ عن الشُهْرةِ وانفراده بالحمد على رؤوس الخلائق، ويحتمل أن يكونَ لِحَمْدِه لِوَاهلا يوم القيامة حقيقةً يُسمَّى لواء الحمد.

وقال التوربشتي: لا مقامَ من مقامات عباد الله الصالحين أَرْفعَ وأَعْلَى من مقام الحمد، ودونه تَنْتَهِي سائرُ المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين أَحْمدَ الخلق في الدنيا والآخرة .. أُعطي لواء الحمد؛ لِيَأْوِي إلى لوائِه الأولون والآخرون، وإليه الإشارةُ بقوله صلى الله عليه وسلم:"آدَمُ ومَنْ دونه تحت لوائي". انتهى.

ص: 303

(99)

- 4252 - (3) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّل،

===

قلت: حمل لواء الحمد على معناه الحقيقي هو الظاهر، بل هو المتعين؛ لأنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ لأن له شاهدًا من حديث جابر، وله شاهد من حديث ابن عباس، ولعلي بن زيد بن جدعان متابع في الرواية عن أبي نضرة؛ كسعيد بن يزيد؛ كما في السند الآتي.

فهذا الحديث: حسن السند صحيح المتن بغيره، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة، والله أعلم.

* * *

ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي هريرة بحديث آخر لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(99)

- 4252 - (3)(حدثنا نصر بن علي) بن نصر بن علي الجهضمي البصري، ثقة ثبت، من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين (250 هـ)، أو بعدها. يروي عنه:(ع).

(وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب) بن الشهيد الحَبِيبِيُّ، أبو يعقوب البصريُّ الشهيديُّ، ثقة، من العاشرة، مات سنة سبع وخمسين ومئتين (257 هـ). يروي عنه:(ت س ق).

كلاهما (قالا: حدثنا بشر بن المفضَّل) بن لاحق الرقاشي - بقاف ومعجمة - أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت عابد، من الثامنة مات سنة ست أو سبع وثمانين ومئة (187 هـ). يروي عنه:(ع).

ص: 304

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا .. فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ نَارٌ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَة، فَجِيءَ بِهِمْ

===

(حدثنا سعيد بن يزيد) بن مسلمة الأزدي ثُم الطاحي أبومسلمة البصريُّ القصيرُ، وثَّقه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح، وقال الحافظ: ثقة، من الرابعة. يروي عنه:(ع).

(عن أبي نضرة) المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوقي البصري، ثقة، من الثالثة، مات سنة ثمان أو تسع ومئة (109 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أهل النار الذين هم أهلها) أي: خالدون فيها .. (فلا يموتون فيها) موتًا يستريحون به من ألم النار (ولا يحيون) فيها حياة يلتذون بها (ولكن) منهم (ناس أصابتهم) أي: أحرقتهم (نار بذنوبهم أو) قال الراوي: أحرقتهم نار (بخطاياهم) بالشك من الراوي أو ممن دونه (فأماتتهم) النار (إماتةً) مجازيةً؛ أي: جعلتهم كالموتى؛ بحيث لا يلتذون بحياتهم (حتى إذا كانوا فحمًا) أي: كالحطب المحروق .. (أذن لهم في الشفاعة) ففي الكلام تقديم وتأخير؛ أي: أذن الله عز وجل في الشفاعة فيهم من أراد الشفاعة لهم من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والمؤمنين الصالحين.

(فجيء بهم) أي: بأولئك الناس الذين كانوا فحمًا في النار؛ بسبب شفاعة الشافع لهم إلى أنهار الجنة؛ يعني: إلى أنهار الحياة التي في أطراف الجنة،

ص: 305

ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَقِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؛ أَفِيضوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ.

===

حالة كونهم (ضبائر ضبائر) أي: حالة كونهم فرقًا فرقًا؛ أي: جماعة جماعة، فوجًا فوجًا (فبثوا) أي: فرقوا ووزعوا" على أنهار الجنة، فقيل) لأهل الجنة:(يا أهل الجنة؛ أفيضوا) وصبوا (عليهم) أي: على هؤلاء المحروقين في نار جهنم من ماء الجنة (فينبتون) أي: فيصبُّ عليهم أهلُ الجنة من ماء فينبتون بذلك الماء الذي صب عليهم (نبات الحبَّةِ) أي: نباتًا سريعًا مثل نبات الحبة من الأبازير (تكون في حَميلِ السيلِ) أي: في التراب الذي حمله السيل من فوق الجبل ورماه في جوانب المسيل.

(قال) أبو سعيد الراوي: (فقال رجل من القوم) الحاضرين عند الرسول صلى الله عليه وسلم: (كأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في البادية) فرأى سرعة نبات الحبة في حميل السيل، فشبه سرعة نبات القوم بسرعة نبات الحبة.

قوله: "أما أهلها

" إلى آخره؛ وهم - الذين جاء القرآن بخلودهم فيها، فأمَاتَتْهُم إماتةً؛ فقد صح هذا في "صحيح مسلم" أيضًا، وعلى هذا: فمَنْ يَدْخُلُ النارَ من المؤمنين .. لا يعذب إلا لحظة، فلله الحمد على ذلك.

قال السندي: (ضبائر) هم الجماعة المتفرقة، واحدُها: ضبارةُ (فبُثُّوا) - بضم الموحدة على البناء للمفعول - من باب شَدُّ؛ من البَثِّ؛ وهو النشرُ؛ أي: نُشِروا وفُرِّقوا على أنهار الجنة (أفيضوا عليهم) أي: صبوا عليهم من ماء أنهار الجنة (الحِبَّة) - بكسر الحاء المهملة -: بزورُ البقول وحَبُّ الرياحين (في حميل السيل) أي: فيما يحملهُ السيل ويجيءُ به من طين وغيره، فإذا ألقيت فيه حبة،

ص: 306

(100)

- 4253 - (4) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ،

===

واستقرت على وسط مجرى السيل .. فإنها تنبت في يوم وليلة، فشُبِّه بها سرعةُ عَودةِ أبدانهم وأجسامِهم إليهم بَعْدَ إِحراق النار لها (قد كان في البادية) حيثُ عَرفَ أحوال السيول. انتهى "سندي".

قال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إلى سرعة إنباتهم؛ لأنَّ الحبَّةَ أسرعُ في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع؛ لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزِّبْلِ المَجْذُوبِ معه.

قال: ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفًا بجميع أمور الدنيا؛ بتعليم الله تعالى له، وإن لم يباشر ذلك، وانظر "فتح الباري"(11/ 458).

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في التفسير وفي الرقاق وفي التوحيد، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، والترمذي في صفة جهنم، والدارمي، وابن خزيمة في "التوحيد"، وابن حبان، والبغوي في "شرح السنة"، وغيرهم من أهل الحديث.

ودرجته: أنه صحيح، لصحة سنده، ولأن له شواهد، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة بحديث جابر رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(100)

- 4253 - (4)(حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم) بن عمرو العثماني مولاهم (الدمشقي) لقبه دحيم، ثقة حافظ متقن، من العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ د س ق).

ص: 307

حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَابِر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي".

===

(حدثنا الوليد بن مسلم) القرشي مولاهم الدمشقي، ثقة كثير التدليس والإرسال الخفي، من الثامنة، مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(حدثنا زهير بن محمد) بن قمير - مصغرًا - المروزي، نزل بغداد، ثم رابط بطرسوس، ثقة، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(ق).

(عن جعفر) الصادق (ابن محمد) الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبي عبد الله، المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام، من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن أبيه) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد، أبي جعفر الباقر، ثقة فاضل، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومئة (113 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن جابر) بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي رضي الله تعالى عنهما.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

(قال) جابر: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شفاعتي يوم القيامة) مستحقة (لأهل الكبائر من أمتي).

قوله: "إن شفاعتي" قال المناوي: الإضافة فيه بمعنى: أل العهدية؛ أي: الشفاعة التي وعدني الله بها ادخرتها "لأهل الكبائر من أمتي" أي: مدخرة؛

ص: 308

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لوضع السيئات والعفو عن الكبائر، وأما الشفاعة لرفع الدرجات .. فلكل من الأتقياء والأولياء، وذلك متفق عليه بين أهل الملة.

وقال الطيبي: (10/ 226) أي: شفاعتي التي تنجي الهالكين مختصة بأهل الكبائر.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب رقم (11)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب أخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأنبياء، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ودرجته: أنه صحيح، لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

قال النووي في "شرح مسلم"(3/ 35): والشفاعة خمسة أقسام:

أولها: مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب.

والثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه وردت أيضًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها مسلم رحمه الله تعالى.

والثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار، فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله تعالى.

والرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين؛ فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال:(لا إله إلا الله) كما جاء في الحديث، لا يبقى فيها إلا الكافرون.

ص: 309

(101)

- 4254 - (5) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ،

===

والخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.

* * *

ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي هريرة بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(101)

- 4254 - (5)(حدثنا إسماعيل بن) أبي الحارث (أسد) بن شاهين البغدادي أبو إسحاق. يروي عنه: (د ق). روى عن: أبي بدر شجاع بن الوليد، وروح بن عبادة، قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو ثقة صدوق، وقال الدارقطني: ثقة صدوق ورعٌ فاضلٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(د ق).

(حدثنا أبو بدر) شجاع بن الوليد بن قيس السكوني الكوفي، صدوق ورع له أوهام، من التاسعة، مات سنة أربع ومئتين (204 هـ). يروي عنه:(ع). وقال أبو زرعة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: شجاعُ بن الوليد ثقةٌ، وقال العجلي: كوفي لا بأس به.

(حدثنا زياد بن خيثمة) الجعفي الكوفي، ثقة، من السابعة. يروي عنه:(م عم).

(عن نعيم بن أبي هند) النعمان بن أشيم الأشجعي، ثقة رمي بالنصب، من الرابعة، مات سنة عشر ومئة (110 هـ). يروي عنه:(م ت س ق).

(عن ربعي بن حراش) - بكسر المهملة آخره معجمة - أبي مريم العبسي

ص: 310

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمتِي الْجَنَّةَ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى، أَتُرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ لَا، وَلكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ".

===

الكوفي، ثقة عابد مخضرم، من الثانية، مات سنة مئة (100 هـ)، وقيل غير ذلك. يروي عنه:(ع).

(عن أبي موسى الأشعري) عبد الله بن قيس الكوفي الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) أبو موسى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرت) - بالبناء للمفعول - من التخيير، وفاعله المحذوف هو الله سبحانه؛ أي: خيرني الله سبحانه وتعالى (بين الشفاعة) في عصاة المؤمنين (وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة) بلا حساب (فاخترت الشفاعة) لعمومها؛ إذ بها يدخل - ولو بعد دخول النار - كل من مات على الإيمان (لأنها) أي: لأن الشفاعة في المذنبين (أعم) أي: أكثر شمولًا وعمومًا (وأكفى) أي: أكثر كفايةً وإغناءً ونفعًا للمؤمنين؛ أي: أكثر شمولًا وأكثر نفعًا.

(أترونها) أي: أترون وتظنون تلك الشفاعة التي خيرت بينها وبين دخول نصف أمتي الجنة فاخترتها؛ أي: أتظنون تلك الشفاعة التي اخترتها الشفاعة (للمتقين؟ لا) أي: ليست تلك الشفاعة التي خيرت فيها فاخترتها الشفاعة للمتقين؛ لأنها ليست أعم وأنفع (ولكنها) أي: ولكن الشفاعة التي خيرت فيها فاخترتها هي الشفاعة التي (للمذنبين) الذين ارتكبوا كبائر الذنوب (الخطائين) أي: المرتكبين لصغائر الذنوب مع الإصرار عليها (المتلوثين)

ص: 311

(102)

- 4255 - (6) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ

===

أي: المتلطخين قلبًا وقالبًا بالمعاصي الظاهرة والباطنة؛ لأن هذه الشفاعة هي أعم موقعًا، وأكثر فائدةً.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده؛ ولأن له شواهد، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي هريرة بحديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(102)

- 4255 - (6)(حدثنا نصر بن علي) بن نصر الجهضمي البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين، أو بعدها. يروي عنه:(ع).

(حدثنا خالد بن الحارث) بن عبيد بن سليم الهجيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومئة (186 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا سعيد) بن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم البصري، ثقة، من السادسة، مات سنة ست، وقيل: سبع وخمسين ومئة. يروي عنه: (ع).

(عن قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يجتمع المؤمنون) من أهل

ص: 312

يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلْهَمُونَ أَوْ يَهُمُّونَ - شَكَّ سَعِيدٌ - فَيَقُولُونَ: لَوْ تَشَفَّعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ

===

الموقف (يوم القيامة) من الأولين والآخرين، حالة كونهم (يلهمون) أي: يلقى في قلوبهم طلب الشفاعة (أو) قال سعيد: (يهمون) بدل (يلهمون) أي: يهتمون؛ أي: يعتنون ويصرفون همتهم إلى طلب الشفاعة (شك سعيد) بن أبي عروبة؛ أيَّ اللفظين قال قتادة حين روى له هذا الحديث.

قال النووي: ومعنى اللفظين متقارب؛ معنى (يهمون): أنهم يعتنون بطلب الشفاعة وسؤالها في إزالة الكرب الذي هم فيه، ومعنى (يلهمون): أن الله سبحانه يلهمهم سؤال ذلك؛ والإلهام: أن يلقي الله تعالى في النفس أمرًا يحمل على فعل الشيء أو تركه.

قوله: (فيقولون) معطوف على قوله: (يجتمع) أي: يجتمع المؤمنون من الأولين والآخرين في موقف القيامة، فيقول بعضهم لبعض:(لو تشفعنا إلى ربنا) أي: لو طلبنا من يكون شفيعًا لنا إلى ربنا (فأراحنا) أي: فحصل لنا ربنا الراحة (من) تعبنا وازدحامنا في وقوفنا في (مكاننا) وموقفنا هذا الموقف الرهيب، أو ليزيلنا من موقفنا هذا ولو إلى النار.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في رواية مسلم: (فيأتون آدم) أبا البشر عليه السلام، قال الأبي: إتيانهم آدم عليه السلام مع علمهم في الدنيا أن المختص بهذه الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يحتمل أن ذلك التشفع إلى آدم وقع ممن لم يعلم ذلك، أو علم، ولكنه علم أن الأمر يقع هكذا؛ إظهارًا لشرفه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لو بدئ به .. لقيل: لو بدئ بغيره .. لاحتمل أن يشفع، أما بعد امتناع الجميع، وسئل هو فأجاب .. فهو النهاية في الشرف وعلو المنزلة، ويحتمل أنه ممن علم، ولكنه دهش. انتهى منه.

ص: 313

فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاس، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ .. يُرِحْنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ وَيَشْكُو إِلَيْهِمْ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي مِنْ ذَلِكَ،

===

(فيقولون) له: (أنت آدم أبو الناس) أي: أبو البشر (خلقك الله بيده) المقدسة؛ يعني: بلا واسطة أبٍ وأمٍ، وإلا .. فالكل مخلوق بقدرته سبحانه وتعالى (وأسجد لك ملائكته) أي: أمر ملائكته بالسجود لك؛ تشريفًا لك، فلك عنده تعالى منزلة وكرامة (فاشفع لنا) أي: فاطلب لنا الخير والفرج (عند ربك) إن طلبت لنا الخير والفرج من عنده .. (يرحنا) مجزوم بالطلب السابق؛ أي: يحصل لنا الراحة (من) تعب وقوفنا في (مكاننا هذا) الموقف الرهيب الهائل. والشفاعة: طلب الخير من الغير للغير.

(فيقول) لهم آدم: (لست) أنا (هناكم) أي: محلًا لمطلوبكم وأهلًا لذلك؛ أي: لست مطلبًا للشفاعة ولا أهلًا لها.

قلت: ومعنى (لست هناكم): لست أنا في المكان والمنزل الذي تحسبونني يريد مقام الشفاعة.

وذكر ملا علي: أن (هنا) إذا ألحق به (كاف) الخطاب .. يكون لبعد المكان المشار إليه؛ فالمعنى: لست في مكان الشفاعة أنا بعيد منه. انتهى.

(ويذكر) لهم آدم خطيئته ومخالفته لربه فيما نهى عنه (ويشكو) أي: يخبر (إليهم ذنبه الذي أصاب) وارتكب وفعل به؛ من أكله الشجرة بعدما نهي عنها؛ اعتذارًا إليهم في امتناعه من التشفع لهم إلى ربه (فيستحيي) أي: يخاف من التشفع لهم حياءً (من ذلك) الذنب الذي ارتكب، فقوله:(فيستحيي) معطوف على (أصاب) عطف مسبب على سبب.

قال القاضي عياض: قوله: (ويذكر خطيئته) تسمية الأنبياء عليهم الصلاة

ص: 314

وَلكِنِ ائْتُوا نُوحًا؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْض، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكَمْ، وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَيَسْتَحْيِي مِنْ ذَلِكَ، وَلكِنِ ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ،

===

والسلام هذه الأشياء خطايا إنما هو إشفاق؛ إذ ليست بخطايا، آدم عليه السلام أكل نسيانًا، ونوح عليه السلام دعا على قوم كفار، وموسى عليه السلام قتل كافرًا، وإبراهيم عليه السلام دفع بقول هو بحسب مراده صدق، وعتب الله على بعضهم لعلو منزلتهم. انتهى.

(ولكن) أدلكم على من يصلح للشفاعة لكم عند ربكم وأقول لكم: (ائتوا نوحًا) عليه السلام؛ أي: اذهبوا إليه وتشفعوا به إلى ربكم (فإنه) تقبل شفاعته عنده؛ لأنه (أول رسول بعثه الله) تعالى وأرسله (إلى) جميع (أهل الأرض) بتكاليفه الشرعية (فيأتونه) أي: يأتون نوحًا عليه السلام، فيتشفعون به إلى ربهم؛ كما تشفعوا بآدم (فيقول) لهم نوح في جواب استشفاعهم به:(لست) أنا (هناكم) أي: في منزلة الاستشفاع لكم (ويذكر) لهم اعتذارًا إليهم (سؤاله) أي: دعائه (ربه ما ليس) أي: دعاءً ليس (له) أي: لنوح (به) أي: بعاقبته؛ أي: بعاقبة ذلك الدعاء (علم) لأنه دعاء أغرق جميع أهل الأرض من العقلاء وغيرهم، ومن الحيوانات والجمادات؛ حيث قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1).

(ويستحيي) نوح من الشفاعة لهم إلى ربهم (من ذلك) أي: لأجل ذلك الدعاء الذي لم يؤمم به (ولكن) أدلكم على من يصلح للشفاعة لكم، فأقول لكم نصيحة:(ائتوا خليل الرحمن إبراهيم) الذي اتخذه الله خليلًا لنفسه عليه السلام؛ أي: جعله محبًا له؛ أي: كامل المحبة غير ناقصها، أو محبوبًا له كامل

(1) سورة نوح: (26).

ص: 315

فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَهُ النَّفْسَ بِغَيْرِ النَّفْس، وَلكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَةَ اللهِ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلكِنِ

===

المحبة غير ناقصها، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول؛ والخليل: الصديق المخلص؛ من الخلة - بضم الخاء - بمعنى: الصداقة والمحبة، ولقد بسطنا الكلام على الخلة في "الكوكب" نقلًا عن القرطبي في "المفهم"، فراجعه إن شئت.

(فيأتونه) أي: فيأتون إبراهيم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك (فيقول) لهم إبراهيم: (لست هناكم) أي: في المكان الذي تحسبونه فيه من الشفاعة (ولكن) أدلكم على من هو خير لكم مني، وأقول لكم:(ائتوا موسى) بن عمران عليه السلام (عبدًا) عطف بيان من موسى، أو بدل منه؛ أعني به: العبد الذي (كلمه الله) سبحانه وتعالى في الدنيا بلا واسطة؛ أي: أسمعه كلامه المقدس (وأعطاه) الكتاب المسمى بـ (التوراة، فيأتونه) أي: فيأتون موسى عليه السلام فيقولون له: اشفع لنا إلى ربك (فيقول) لهم موسى: (لست) أنا (هناكم) أي: في المنزلة التي تحسبونني فيها من التشفع لكم عند ربكم (ويذكر) لهم ما يستحيا منه عند الله (قتله النفس) المحرم قتلها (بغير) الحق أي: بغير قتلها (النفس) الأخرى.

(ولكن) أذكر لكم من يصلح لتلك الشفاعة، وأقول لكم:(ائتوا عيسى) ابن مريم عليه السلام؛ أي: اذهبوا إليه وائتوه هو (عبد الله ورسوله، وكلمة الله) سبحانه أي: المخلوق بكلمة كن بلا واسطة أب (وروحه) للتشريف (فيأتونه) أي: فيأتون عيسى، ويقولون: اشفع لنا عند ربك (فيقول) لهم: (لست) أنا (هناكم) أي: في منزلة الشفاعة لكم (ولكن) أدلكم إلى من هو خير لكم

ص: 316

ائْتُوا مُحَمَّدًا؛ عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ - قَالَ: فَذَكَرَ هَذَا الْحَرْفَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ -: فَأَمْشِي بَيْنَ السِّمَاطَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - قَالَ: ثُمَّ عَادَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ -: فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي

===

مني، وأقول لكم:(ائتوا محمدًا؛ عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قيل: المتقدم: ما قبل النبوة، والمتأخر: عصمته بعدها، وقيل: المتقدم: ما وقع، والمتأخر: ما لم يقع على سبيل الوعد، وقيل: المراد بذلك: أمته، وقيل: المراد ما وقع سهوا أو غفلةً أو تأويلًا، واختاره القشيري، وقيل: المعنى: ما تقدم من أبيك آدم، وما تأخر من ذنوب أمتك، وقيل: المراد: أنه مغفور له من كل ذنب لو كان، وقيل: هو تنزيه له من الذنوب. انتهى من "الإكمال".

وقال النووي: فعلى أن المراد أمته؛ فالمراد بعضهم، أو يعني: عدم الخلود في النار، وقال القاضي عياض: إتيان الناس آدم أولًا، وإحالة آدم على نوح عليهما السلام فيه تقديم الآباء وذوي الأسنان في الأمر المهم. انتهى.

(قال) أنس كما هو مصرح به في "مسلم": (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني) أي: فيأتي الناس إليَّ بعدما دلَّهم عيسى عليَّ (فأنطلق) بصيغة المضارع؛ أي: فأذهب أنا بعدما جاؤوا إلي محل المناجاة لربي.

(قال) سعيد بن أبي عروبة: (فذكر) قتادة (هذا الحرف) الآتي (عن الحسن) البصري لا عن أنس؛ يعني: سعيد بهذا الحرف قوله صلى الله عليه وسلم: (قال) نبي الله صلى الله عليه وسلم: (فـ) كنت (أمشي) عند انطلاقي إلى محل المناجاة (بين السماطين) أي: بين الصفين (من المؤمنين قال) سعيد: (ثم عاد) قتادة بعدما ذكر هذا الحرف عن الحسن (إلى) رواية لفظ (حديث أنس).

(قال) نبي الله صلى الله عليه وسلم: (فـ) كنت (أستأذن على ربي) أي:

ص: 317

فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ .. وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ .. تُسْمَعْ، وَسَلْ .. تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ .. تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ

===

أطلب الإذن في المناجاة مع ربي (فيؤذن لي) في المناجاة معه.

وقال السندي: قوله: "فأستأذن على ربي" أي: أستأذن على أن أدخل في محل رؤيته، أو محل التشفع عنده. انتهى، أو المعنى: فأستأذن أنا في الإقبال على ربي في طلب الشفاعة، أي: أطلب منه تعالى الإذن لي في طلب الشفاعة العظمى التي وعدنيها بقوله عز وجل: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1)، فيؤذن لي في الإقبال عليه لطلب الشفاعة، ومن هذا الكلام يعلم مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لآداب تلك الحضرة العلية.

(فإذا) أنا (رأيته) تعالى رؤيةً تليق به تعالى بلا كيفية ولا انحصار .. (وقعت) أي: خررت وسقطت على وجهي، حالة كوني (ساجدًا) له تعالى (فيدعني) سبحانه وتعالى؛ أي: يتركني ساجدًا لا يأمرني بشيء (ما شاء الله) تعالى (أن يدعني)، أي: يتركني (ثم) بعدما تركني ما شاء الله تعالى (يقال) لي من جهته: (ارفع محمد)؛ أي: ارفع رأسك من السجود (وقل) ما شئت من ثنائي أو من طلباتك .. (تسمع) في ثنائك لي أو في قبول طلباتك (وسل) ما شئت من رغباتك .. (تعطه) أي: تعط مسؤولاتك؛ فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من الفعل، وهو بمعنى المفعول، ويحتمل كون الهاء للسكت؛ كما في "المرقاة".

(واشفع) لغيرك؛ أي: اطلب الخير منا لغيرك ولأمتك .. (تشفع) أي: تقبل شفاعتك، من التشفع (فأحمده) سبحانه وتعالى (بتحميد) أي: بمحامد

(1) سورة الإسراء: (79).

ص: 318

يُعَلِّمُنِيه، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ .. وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ لِي: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ .. تُسْمَعْ، وَسَلْ .. تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ .. تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيه، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي .. وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ:

===

(يعلمنيه) بعد الرفع من السجود ويلهمنيه (ثم أشفع) أي: أتشفع في إخراج الموحدين من النار (فيحد) أي: يقدر (لي) ربي (حدًّا) أي: قدرًا يخرجه من النار، فيخرج ذلك القدر الذي عينه لي من النار (فيدخلهم) أي: فيدخل ذلك القدر الذي قدره (الجنة، ثم) بعدما أخرج هذا القدر في المرة الأولى (أعود) وأرجع إليه تعالى المرة (الثانية) من الشفاعة (فإذا رأيته) تعالى .. (وقعت) أي: سقطت (ساجدًا) له تعالى (فيدعني) أي: يتركني (ما شاء الله أن يدعني) ويتركني فيه.

(ثم يقال لي: ارفع) يا (محمد) رأسك من السجود، فـ (قل) ما شئت من ثنائي .. (تسمع) مقالتك (وسل) ما شئت من الطلبات .. (تعطه) أي: تعط مطلوبك (واشفع) أي: اطلب الشفاعة فيمن أردت .. (تشفع) أي: تقبل شفاعتك فيه (فأرفع رأسي) من السجود (فأحمده بتحميد يعلمنيه) بعد الرفع من السجود (ثم) بعد تحميده (أشفع) أي: أطلب الشفاعة في إخراج الموحدين من النار (فيحد لي) أي: فيعين لي (حدًّا) أي: قدرًا من المخرجين من النار، فيخرج الله ذلك القدر الذي عين من النار (فيدخلهم) أي: فيدخل أولئك المخرجين (الجنة، ثم أعود) إلى محل المناجاة المرة (الثالثة، فإذا رأيت ربي .. وقعت) أي: سقطت (ساجدًا) لله تعالى، (فيدعني) أي: يتركني الله ساجدًا (ما شاء الله أن يدعني) ساجدًا (ثم يقال) لي:

ص: 319

ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ .. تُسْمَعْ، وَسَلْ .. تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ .. تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيه، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ؛ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ".

===

(ارفع) رأسك يا (محمد) من السجود، ثم يقال لي بعد رفع رأسي من السجود:(قل) ما شئت من ثنائي .. (تسمع) أي: تقبل مقالتك في ثنائي (وسل) أي: اسْأَلْ ما شئت من رغباتك .. (تعطه) أي: تعط ما سألته من رغباتك (واشفع) فيمن شئت .. (تشفع) أي: تقبل شفاعتك فيه، ثم يقال لي: ارفع رأسك يا محمد (فأرفع رأسي) من السجود (فأحمده) تعالى (بتحميد يعلمنيه) بعد الرفع من السجود (ثم أشفع) في إخراج الموحدين من النار (ثم أشفع) فيمن شئت (فيحد لي حدًّا) أي: قدرًا معينًا فيخرجهم من النار (فيدخلهم الجنة، ثم أعود) وأرجع إلى موضع السجود المرة (الرابعة) فأسجد (فأقول) في السجود: (يا رب؛ ما بقي) في النار (إلا من حبسه) وخلَّده (القرآن) في النار؛ أي: حكم بخلوده فيها؛ وهو كل من مات مشركًا.

والمعنى: أي: دل القرآن على خلوده فيها؛ وهم الكفار، أو دلت الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يجوز التخلف فيها أبدًا.

قوله: "إلا من حبسه القرآن" يحتمل: أن المراد بحبس القرآن: ما يعم ورود الخلود فيه، أو ورود عدم قبول شفاعة غير الله فيه، أو في السنة من حيث إن القرآن قد جاء بوجوب التصديق بالسنة، فما وردت به السنة بمنزلة ما ورد به القرآن، فإذا جاء في السنة أن قومًا لا يقبل الله فيهم شفاعة أحد، بل هو الذي يتولى إخراجهم من النار بمجرد فضله .. فيجوز أن يقال: أولئك داخلون فيمن حبسه القرآن؛ من حيث إنه جاء وجوب التصديق بالسنة، وقد وردت السنة بأنهم لا يخرجون بشفاعة أحد، فهم محبوسون نظرًا إلى الشفاعة. انتهى من "الإنجاز".

ص: 320

قَالَ: يَقُولُ قَتَادَةُ عَلَى أَثَرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذُرَةٍ مِنْ خَيْرٍ".

===

(قال) سعيد بن أبي عروبَة: (يقول قتادة) بن دعامة (على أثر) رواية (هذا الحديث) لنا؛ أي: عقب روايته عن قتادة: (وحدثنا أنس بن مالك) أيضًا (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار) يوم القيامة (من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه مثقال) حبة (شعيرة) أي: وزن حبة من شعير (من خير) أي: من إيمان (ويخرج) أيضًا (من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه مثقال برة من خير) أي: وزن حبة واحدة من البر والقمح من خير وإيمان (ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه مثقال) أي: وزن حبة واحدة من (ذُرَة) شامية أو حجازية (من خير) أي: إيمان.

هذا إذا قرأناه بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء، وأما إذا قرأناه بفتح الذال وتشديد الراء .. فهي النملة الصغيرة.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (1)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، وأحمد، والترمذي في صفة الجنة، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم.

(1) سورة البقرة: (31).

ص: 321

(103)

- 4256 - (7) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَلَاقِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

===

فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة، لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

ثم استأنس المؤلف للترجمة بحديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فقال:

(103)

- 4256 - (7)(حدثنا سعيد بن مروان) بن علي أبو عثمان البغدادي نزيل نيسابور، صدوق، كان يَسْتَمْلِي على أحمد، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ) من الحادية عشرة. يروي عنه:(خ ق).

(حدثنا أحمد) بن عبد الله (بن يونس) - نُسِبَ إلى جَدِّه؛ لِشُهرته بِه - ابن عبد الله بن قيس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ، من كبار العاشرة، مات سنة سبع وعشرين ومئتين (227 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن) بن عنبسة بن سعيد بن أبي العاص الأموي، متروكٌ، رماه أبو حاتم بالوَضْع، من الثامنة. يروي عنه:(ت ق).

(عن عَلَاقِ) بفتح المهملة واللام المخففة (ابن أبي مسلم) ويقال: علاق بن مسلم. روى عن: أبان بن عثمان، ويروي عنه: عنبسة بن عبد الرحمن بن سعيد، قال الحافظ وغيره: هو شيخ مجهول، من الخامسة. يروي عنه:(ق).

(عن أبان بن عثمان) بن عفان الأموي أبي سعيد المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة خمس ومئة (105 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أبي ليلى المدني، ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

ص: 322

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ".

(104)

- 4257 - (8) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو،

===

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الضعف جدًّا؛ لأن فيه عنبسة بن عبد الرحمن، وهو متروك، وفيه أيضًا علاق بن أبي مسلم، وهو مجهول.

(قال) عثمان: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشفع يوم القيامة ثلاثة) أصناف: (الأنبياء) أولًا (ثم العلماء) العاملون (ثم الشهداء) في سبيل الله تعالى.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن رواه البزار في "مسنده" من طريق عنبسة بإسناده، ولفظه:(أول من يشفع الأنبياء، ثم الشهداء، ثم المؤذنون)، ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده الكبير": حدثنا إسحاق، حدثنا أحمد بن يونس، فذكره بإسناده ومتنه.

ودرجته: أنه ضعيف جدًّا، بل هو منكر موضوع؛ لضعف سنده، ولعدم المشاركة فيه، وغرضه: الاستئناس به للترجمة، فهو: ضعيف السند، متروك المتن (7)(439).

* * *

ثم استشهد المؤلف سادسًا لحديث أبي هريرة بحديث أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(104)

- 4257 - (8)(حدثنا إسماعيل بن عبد الله) بن خالد بن يزيد العبدري أبو عبد الله (الرقي) السكري قاضي دمشق، نُسِبَ لرأي جَهْمٍ، من العاشرة، مات بعد سنة أربعين ومئتين. يروي عنه:(ق).

(حدثنا عبيد الله بن عمرو) بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي،

ص: 323

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ

===

ثقة ربما وهم، من الثامنة، مات سنة ثمانين ومئة (180 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عبد الله بن محمد بن عقيل) - مكبرًا - ابن أبي طالب الهاشمي أبي محمد المدني، صدوق في حديثه لينٌ؛ ويقال: تغير بأخرة، من الرابعة، مات بعد الأربعين ومئة. يروي عنه:(د ت ق). قال العجلي: مدني تابعي جائز الحديث، وقال أبو زرعة: مختلف فيه في الأسانيد، وقال أبو أحمد الحاكم: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وقال الترمذي: صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وقال العقيلي: كان فاضلًا خيرًا موصوفًا بالعبادة، وكان في حفظه شيء، وبالجملة: كان عبد الله بن محمد بن عقيل مختلفًا فيه، فلا يضعف السند، كذا في "تهذيب التهذيب".

(عن الطفيل بن أبي بن كعب) الأنصاري الخزرجي، ثقة، من الثانية. يروي عنه:(ت ق).

(عن أبيه) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الأنصاري الخزرجي أبي الطفيل المدني، سيد القراء من فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، اختلف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة (19 هـ)، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. يروي عنه:(ع).

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف فيه؛ كما مر بسط الكلام فيه آنفًا.

ص: 324

أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .. كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرَ فَخْرٍ".

===

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان) وجاء (يوم القيامة) كان هنا تامة؛ بمعنى: حصل ووجد .. (كنت إمام) - بكسر الهمزة، وفتحها لا يناسب بهذا المقام؛ لأنه ظرف مكان حينئذ - أي: كنت إمام (النبيين) والمرسلين ورئيسهم وأرفعهم منزلة عند الله تعالى؛ أي: يظهر كوني إمامهم على رؤوس الأشهاد، حيث يكون آدم ومن دونه تحت لوائي (وخطيبهم) أي: رئيس الأنبياء وترجمانهم؛ لأني أول الشافعين وأول المشفعين (وصاحب شفاعتهم) أي: صاحب شفاعة أممهم شفاعة فصل القضاء، حيث لا يتكلم كلهم كلام الشفاعة، ويقول؛ كلهم اليوم: نفسي نفسي، (غير فخر) أي: حالة كوني غير مفتخر بهذه المناصب على غيري؛ لأنها مناصب حصلت بفضل الله وكرمه وجوده لا بعملي، هذا على رواية النصب.

وروي بالرفع: على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: قولي هذا ليس بفخر؛ أي: لا أقوله تفاخرًا، بل اعتدادًا بفضله، وتحدثًا بنعمته، وتبليغًا لما أمرت به.

قال التوربشتي: قال الطيبي: قوله: (غير فخر) حال مؤكدة؛ أي: أقول هذا غير مفتخر به؛ الفخر: ادعاء العظمة على الغير، والمباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان؛ كالمال والجاه. انتهى "تحفة الأحوذي".

قوله: "وصاحب شفاعتهم" وذلك إما لأن شفاعته لأهل الموقف تعم الكل وهم منهم؛ أو لأنه إذا شفع لأهل الموقف .. فقد شفع لأممهم، والشفاعة لأممهم حقها أن تكون لهم؛ فقد أتى بما هو شفاعتهم، أو لأن الناس حين توجهوا إليهم كان اللائق بهم أن يشفعوا لهم، فإذا أتى هو صلى الله عليه وسلم

ص: 325

(105)

- 4258 - (9) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ،

===

بالشفاعة .. فقد أتى بشفاعتهم، فليتأمل. انتهى "سندي".

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب المناقب، باب (1) في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن السند صحيح المتن؛ لأن له شواهد؛ فقد أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله وعن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضًا عن جابر في باب مثل النبي والأنبياء قبله.

فدرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا لما مر آنفًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

ثم استشهد المؤلف سابعًا لحديث أبي هريرة بحديث عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنهم، فقال:

(105)

- 4258 - (9)(حدثنا محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا يحيى بن سعيد) بن فروخ القطان التميمي البصري، ثقة إمام الجرح والتعديل، من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ومئة (198 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا الحسين بن ذكوان) المعلم المُكَتِّب العَوْذي - بفتح المهملة وسكون الواو بعدها معجمة - البصري، ثقة، ربما وهم، من السادسة، مات سنة خمس وأربعين ومئة (145 هـ). يروي عنه:(ع).

ص: 326

عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْن، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيَخْرُجَنَّ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي يُسَمَّوْنَ: الْجَهَنَّمِيِّينَ".

===

(عن أبي رجاء العطاردي) عمران بن ملحان - بكسر الميم وسكون اللام - مشهور بكنيته، ثقة مخضرم معمر، من الثانية، مات سنة خمس ومئة (105 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عمران بن الحصين) بن عبيد بن خلف الخزاعي أبي نجيد - مصغرًا - الكوفي ثم البصري، أسلم عام خيبر وصحب وكان فاضلًا رضي الله تعالى عنهما، مات سنة اثنتين وخمسين (52 هـ) بالبصرة. يروي عنه:(ع).

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال): والله (ليخرجن قوم من النار بشفاعتي) لهم عند ربي وربهم (يسمون) أولئك القوم في الجنة (الجهنميين) بالياء على الأصل في علامة نصب الجمع، وروي بالواو على حكاية لفظ: يقول فيهم الناس؛ لأنهم يقولون فيهم: هؤلاء جهنميون، قيل: ليست التسمية به تنقيعًا وتعييبًا لهم، بل استذكارًا لما كانوا فيه؛ ليزدادوا فرحًا على فرح؛ لكونهم عتقاء الله تعالى.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، وأبو داوود في كتاب السنة، باب في الشفاعة، والترمذي في كتاب صفة جهنم، باب آخر أهل النار خروجًا، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

ص: 327

(106)

- 4259 - (10) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْجَذْعَاءِ

===

ثم استشهد المؤلف ثامنًا لحديث أبي هريرة بحديث عبد الله بن أبي الجذعاء رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(106)

- 4259 - (10)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).

(حدثنا عفان) بن مسلم بن عبد الله الصفار الباهلي أبو عبد الله البصري، ثقة ثبت، من كبار العاشرة، قال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة ومئتين، ومات بعدها بيسير. يروي عنه:(ع).

(حدثنا وهيب) - مصغرًا - ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلًا بأخرة، من السابعة، مات سنة خمس وستين ومئة (165 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).

(حدثنا خالد) بن مهران أبو المنازل البصري الحَذَّاء، قيل له ذلك؛ لأنه كان يجلس عندهم، ثقة يرسل، من الخامسة، وعاب عليه حماد بن زيد دُخُولَه في عمل السلطان، مات سنة اثنتين وأربعين ومئة (142 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عبد الله بن شقيق) العقيلي - مصغرًا - أبي عبد الله البصري، وثقه أحمد وابن معين، وقال في "التقريب": ثقة فيه نَصْبٌ، من الثالثة، مات سنة ثمان ومئة (108 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن عبد الله بن أبي الجَذْعَاءِ) - بفتح الجيم وسكون المعجمة - الكناني

ص: 328

أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ سِوَاكَ؟ قَالَ: "سِوَايَ"، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ.

===

الصحابي الفاضل رضي الله تعالى عنه، له حديثان، تفرَّد بالرواية عنه عبد الله بن شقيق. يروي عنه:(ت ق).

(أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

حالة كون النبي صلى الله عليه وسلم (يقول): والله (ليدخلن الجنة) يوم القيامة (بشفاعة رجل من أمتي) لم أر مَنْ عَيَّن اسمه، أقوامٌ (أكثر) عددًا (من بني تميم) قبيلة مشهورة من نسل العرب الإسماعيليّ، سكنهم من نجد الحجاز؛ أي: أقوامٌ أكثرُ عددًا من عدد قبيلة تميم، وهم قبيلة كبيرة من سُكَّان نجدٍ.

قال القاري: فقيل: الرجلُ هو عثمان بن عفان، وقيل: أُويس القرني، وقيل: غَيْرُهُ.

قلت: إن دل دليل على تعيين هذا الرجل .. فهو المتعين، وإلا .. فالله تعالى أعلم به.

(قالوا) أي: قال الحاضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله) ذلك الرجل هل هو رجل (سواك) أم هو أنت؟ (قال) رسول الله في جواب سؤالهم: هو ("سواي") أي: غيري لا أنا.

قال عبد الله بن شقيق: (قلت) لابن الجذعاء استثباتًا لهذا الحديث: هل (أنت) يا بن الجذعاء (سمعته) أي: سمعت هذا الحديث (من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة بلا واسطة؟ (قال) لي ابن الجذعاء: نعم (أنا سمعته) أي: أنا سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 329

(107)

- 4260 - (11) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ

===

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب رقم (12)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب تفرد به ابن أبي الجذعاء، وتفرد بالرواية عنه عبد الله بن شقيق.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

ثم استشهد المؤلف استشهادًا تاسعًا لحديث أبي هريرة بحديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(107)

- 4260 - (11)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي، صدوق خطيب مقرئ، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(حدثنا صدقة بن خالد) الأموي مولاهم أبو العباس الدمشقي، ثقة، من الثامنة، مات سنة إحدى وسبعين ومئة (171 هـ)، وقيل: ثمانين ومئة، أو بعدها. يروي عنه:(خ د س ق).

(حدثنا) عبد الرحمن بن يزيد (بن جابر) الأزدي أبو عتبة الشامي الداراني، ثقة، من السابعة، مات سنة بضع وخمسين ومئة (153 هـ). يروي عنه:(ع).

(قال سمعت سليم بن عامر) الكلاعي، ويقال: الخَبَائِري - بخاء معجمة وموحدة - أبا يحيى الحمصي، ثقة، من الثالثة، غلط من قال: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة ثلاثين ومئة (130 هـ). يروي عنه: (م عم).

ص: 330

يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُونَ مَا خَيَّرَنِي رَبِّيَ اللَّيْلَةَ؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"فَإِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَة، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ:"هِيَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".

===

حالة كون سليم (يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي) أبا حماد الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه وأرضاه، من مسلمة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة ثلاث وسبعين (73 هـ). يروي عنه:(ع).

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

أي: سمعت عوفًا (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون) أي: هل تعلمون أيها الحاضرون (ما خيرني) فيه (ربي) هذه (الليلة) القريبة إلينا المسماة عندهم بالبارحة؟ (قلنا) معاشر الحاضرين عنده: (الله ورسوله أعلم) بذلك؛ أي: بما خيرك فيه، فـ (قال) لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فإنه) أي: فإن الله عز وجل (خيرني) في هذه البارحة (بين أن يدخل نصف أمتي الجنة) بغير حساب (وبين) أن يعطي لي (الشفاعة) العظمى التي هي فصل القضاء بين أهل الموقف (فاخترت الشفاعة، قلنا) معاشر الحاضرين عنده صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله؛ ادع الله) لنا (أن يجعلنا من أهلها) أي: من الفائزين بسببها (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي) أي: الشفاعة العظمى عامة لكم و (لكل مسلم) ومسلمة.

قوله: "أتدرون" مثل هذا السؤال للتشويق إلى الجواب؛ حتى يتوجهوا إليه بكليتهم.

قوله: "هي لكل مسلم" أي: فاثبتوا على الإسلام على الدوام؛ حتى تنالوا

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

هذه الشفاعة؛ والمراد بالإسلام: هو هذا الدين، بل الإيمان، لا مُجرَّدُ إِظهار الأركان، والله تعالى أعلم. "س".

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، لكن أخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الإيمان مطولًا، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواته كلهم ثقات على شرطهما جميعًا، وليس له علة، وليس في سائر أخبار الشفاعة قوله:(هي لكل مسلم).

ودرجة هذا الحديث: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.

* * *

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: أحد عشر حديثًا:

الأول منها للاستدلال على الترجمة، والسابع للاستئناس، والبواقي للاستشهاد.

والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 332