الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) - (1505) - بَابُ ذِكْرِ الذُّنُوبِ
(32)
- 4185 - (1) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبِي، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنُؤَاخَذُ بِمَا كُنَّا نَعْمَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟
===
(7)
- (1505) - (باب ذكر الذنوب)
(32)
- 4185 - (1)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقة ثبت، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا وكيع) بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(و) حدثنا (أبي) أيضًا عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة تسع وتسعين ومئة (199 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الكاهلي الكوفي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين، أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن شقيق) بن سلمة الأسدي أبي وائل الكوفي، ثقة، من الثانية، مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مئة سنة. يروي عنه:(ع).
(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله كلهم ثقات أثبات.
(قال) ابن مسعود: (قلنا) معاشر الصحابة: (يا رسول الله؛ أنؤاخذ) - الهمزة فيه للاستفهام الاستخباري - أي: هل نطالب ونعاقب (بما كنا نعمل في الجاهلية؟ ) أي: بما كنا نعمل ونرتكب من الذنوب والمعاصي في زمن
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ .. لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَنْ أَسَاءَ .. أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ".
===
الجاهلية؛ أي: في زمن جهلنا بالله وبرسوله وبشرائعه؛ يعني: قبل الإسلام؛ كالقتل والزنا والشرك، قال الأبي: والأظهر أن السائل حديث عهد بالإسلام؛ لأن جب الإسلام ما قبله .. كان من معالمِ الدين الَّتِي لا تُجْهَلُ. انتهى.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالهم: أما (من أحسن) وأخلص منكم (في الإسلام) والمراد بالإحسان هنا: الدخول في الإسلام ظاهرًا وباطنًا؛ بأن لم يكن إسلامه ظاهريًا، ولا إيمانه لسانيًا؛ والمعنى: من أخلص منكم إسلامه عن النفاق .. (لم يؤاخذ) أي: لا يطالب ولا يعاقب (بما كان) وحصل له (في) زمن (الجاهلية) من الشرك والمعاصي؛ لأن الإسلام الصحيح يجب ما قبله ويهدمه (ومن أساء) وأفسدَ وخلطَ في إسلامه وإيمانه ولم يُخْلِصهما لله تعالى؛ بأن كان إسلامه ظاهريًا، وإيمانه لسانيًا؛ بأن أظهر الإسلام وقلبه مستمرٌّ على كفره .. (أخذ) وطولب وعوقب (بـ) عمله (الأول) الذي عمله في الجاهلية (و) أخذ بعمله (الآخر) الذي عمله بعد إسلامه اللساني؛ أي: أخذ وعوقب بما عمله من الشرك والمعاصي قبل إظهاره بصورة الإسلام، وبما عمله بعد إظهارها؛ لأنه لم يزل مستمرًا على كفره، فلا ينفعه إسلامه الظاهريُّ.
قال النووي: والمراد بالإحسان هنا: الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعًا وأن يكون مسلمًا حقيقيًّا، فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن والحديث الصحيح:"الإسلام يهدم ما قبله" وبإجماع المسلمين.
والمراد بالإساءة: عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادًا في الظاهر مظهرًا للشهادتين، غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنه مستمر على كفره، وهذا المعنى معروف في استعمال الشرع؛ يقولون: حسن إسلام فلان؛ إذا دخل فيه حقيقة بإخلاص، وساء إسلامه أو لم يحسن إسلامه؛ إذا لم يكن كذلك، بل يستحق صاحبه أشد العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
…
} الآية (1). انتهى منه.
وعبارة القرطبي هنا: قوله: "أما من أحسن منكم في الإسلام .. فلا يؤاخذ بها
…
" إلى آخره .. يعني بالإحسان: تصحيح الدخول في دين الإسلام، والإخلاص فيه والدوام على ذلك من غير تبديل ولا ارتداد، والإساءة المذكورة في هذا الحديث في مقابلة هذا الإحسان .. هي الكفر والنفاق، ولا يصح أن يراد بالإساءة هنا: ارتكاب سيئة ومعصية؛ لأنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما قبله من الآثام إلا لمن عصم عن جميع السيئات إلى الموت، وهو باطل قطعًا، فتعين ما قلناه.
والمؤاخذة هنا: هي العقاب على ما فعله من السيئات في الجاهلية وفي حال الإسلام وهو المعبر عنه في الرواية الأخرى بقوله: (أخذ بالأول والآخر) وإنما كان كذلك؛ لأن إسلامه لما لم يكن صحيحًا ولا خالصًا لله تعالى .. لم يهدم شيئًا مما سبق، ثم انضاف إلى ذلك إثم نفاقه وسيئاته التي عملها في حال الإسلام، فاستحق العقوبة عليها، ومن هنا استحق المنافقون أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار؛ كما قال تعالى، ويستفاد منه: أن الكفار مخاطبون بالفروع. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب استتابة المرتدين،
(1) سورة النساء: (145).
(33)
- 4186 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الْحَارِث،
===
باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، ومسلم في كتاب الإيمان، باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث ابن مسعود بحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(33)
- 4186 - (2)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد) القطواني - بفتح القاف والطاء - أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي، صدوق يتشيع وله أفراد، من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث عشرة ومئتين (213 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(خ م ت س ق).
(حدثني سعيد بن مسلم بن بانك) - بموحدة ونون مفتوحة - المدني أبو مصعب، ثقة، من السادسة. يروي عنه:(س ق).
(قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوام الأسدي أبا الحارث المدني، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين ومئة (121 هـ). يروي عنه:(ع).
(يقول: حدثني عوف بن الحارث) بن الطفيل بن سخبرة بن جرثومة الأزدي، أصله من اليمن، رضيع عائشة وابن أخيها لأمها. روى عن: عائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، ويروي عنه: عامر بن عبد الله بن الزبير، قال الحافظ:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ؛ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ طَالِبًا".
===
مقبول، من الثالثة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويروي عنه:(خ د س ق).
(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها.
وهذا السند من سداسياته؛ وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قالت) عائشة: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة؛ إياك ومحقرات الأعمال) و (إياك) منصوب على التحذير؛ أي: باعدي نفسك عن ارتكاب الأعمال المحقرة وصغائر الذنوب.
قال السندي: ومحقرات الأعمال: هي ما لا يبالي المرء بها من الذنوب؛ لصغرها، ويرتكبها؛ لعده إياها صغائر؛ لأن اجتناب الكبائر يكفرها؛ كما في الحديث الصحيح (فإن لها) أي: لِمحقَّرات الأعمالِ وصغائرِها (من الله طالبًا) أي: طالبًا من ملائكة الله عز وجل ومفتشًا وباحثًا عنها، فلربما يؤخذ بها صاحبها.
قال المناوي في "الفيض"(3/ 127): أي: صغائرها؛ لأن صغائرها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها.
قال الغزالي: صغائر المعاصي يَجرُّ بعضُها إلى بعض حتى تُفوِّتَ أهلَ السعادة بهدمِ أصلِ الإيمان عند الخاتمة.
قوله: (طالبًا) أي: مكلفًا بالبحث عنها، فيطلبها فيكتبها، فهي عند الله عظيمة، حيثُ خَصَّ لأجلها ملكًا.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن له متابعات كثيرة، قال البوصيري:
(34)
- 4187 - (3) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ
===
فقد رواه ابن أبي شيبة في "مسنده" هكذا، ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا أبو خيثمة، حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم، فذكره، ورواه النسائي في الرقاق عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن مسلم به، ورواه الدارمي في "مسنده": عن منصور بن سلمة عن سعيد بن مسلم به، ورواه ابن حبان في "صحيحه" عن عمران بن موسى بن مجاشع عن عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد به، وغيرهم.
فالحديث: حسن صحيح، وَرَدَ من طُرق كثيرة، وله شاهدان من حديث ابن مسعود وسهل بن سعيد رضي الله تعالى عنهم، فدرجته: أنه حسن صحيح؛ لصحة سنده، ولأن له متابعات وشواهد كثيرة، وغرضه: الاستشهاد به لحديث عبد الله بن مسعود.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث ابن مسعود بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(34)
- 4187 - (3)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير - مصغرًا - السلمي الدمشقي، من كبار العاشرة، صدوق مقرئ خطيب، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا حاتم بن إسماعيل) المدني أبو إسماعيل الحارثي مولاهم، من الكوفة صحيح الكتاب، صدوق يهم، من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومئة (187 هـ). يروي عنه:(ع).
(والوليد بن مسلم) القرشي مولاهم الدمشقي، كثير التدليس والتسوية،
قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ .. كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ؛
===
ثقة، من الثامنة، مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(قالا) أي: قال كل من حاتم والوليد: (حدثنا محمد بن عجلان) المدني، صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديثُ أبي هريرة، من الخامسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(م عم). قال الدوري عن ابن معين: ثقة، أوثق من محمد بن عمر العدني، وقال أبو زرعة: ابن عجلان من الثقات، وقال يعقوب بن شيبة: من الثقات، وكان ثقة كثير الحديث.
(عن القعقاع بن حكيم) الكناني المدني، ثقة، من الرابعة. يروي عنه:(م عم).
(عن أبي صالح) ذكوان السمان القيسي مولاهم المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا أذنب) ذنبًا، وفي رواية الترمذي:(إن العبد إذا أخطأ خطيئةً)، وفي رواية أحمد:(إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا).
(كانت) أي: وجدت (نكتة) أي: نقطة (سوداء في قلبه) أي: أثر قليل؛ كالنقطة، شبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما.
وفي رواية الترمذي: (إن العبد إذا أخطأ خطيئةً .. نُكِتَتْ في قلبه) بصيغة
فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ .. صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ .. زَادَتْ، فَذلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ:
===
المجهول؛ من النَّكْتِ؛ وهو في الأصل: أَنْ تَضْرِبَ في الأرض بقضيبٍ فيؤثر فيها؛ أي: جعلت في قلبه نكتةٌ سوداء؛ أي: أثرٌ قليلٌ؛ كالنقطة، شِبْهُ الوسخ في المرآة والسيف.
وقال القاري في "المرقاة"(5/ 173): أي: كقَطْرةِ مداد يُقْطَر على القرطاس، ويختلف على حسب المعصية وقدرها، والحمل على الحقيقة أولى من جعله من باب التمثيل والتشبيه؛ حيث قيل: شُبِّهَ (القلبُ) بثوب في غاية النقاء والبياض، و (المعصية) بشيء في غاية السواد أصاب ذلك الأبيض، فبالضرورة أنه يذهب ذلك الجمال منه، وكذلك الإنسان إذا أصاب المعصية .. صار كأنه حصل له ذلك السَّواد في ذلك البياض.
(فإن تاب) ذلك المؤمن (ونزع) نفسه عن ارتكاب المعاصي (واستغفر) أي: سأل الله المغفرة وتاب؛ أي: من ذلك الذنب (صُقل قَلْبُه) بالصاد المهملة على البناء للمفعول، قال في "القاموس": الصَّقلُ هو السقل، وقال فيه: صقله جلَّاه. انتهى.
والمعنى: نَظُف وصُفِّي مرآةُ قلبه؛ لأن التوبة بمنزلة المِصْقَلَةِ تمسح بها وسخ القلب وسواده حقيقيًّا أو تمثيليًّا.
(فإن زاد) الذنب ولم يتب .. (زادت) النكتة، وفي رواية الترمذي:(وإن عاد) أي: العبد في الذنب والخطيئة .. (زيد فيها) أي: في النكتة السوداء (حتى تعلو) النكتة وتعم قلبه، وتعلو عليه وترتفع وتُطفئ نور قلبه، فتَعْمى بصيرته (فذلك) الأثر المستقبحُ المستعلي على قلبه المطفئُ لنور بصيرته هو (الرَّان) والصَّدَأ (الذي ذكره الله) سبحانه وتعالى (في كتابه) العزيز، وأدخل
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
===
اللام على (رَانَ) وهو فِعل؛ إما لقصد حكاية اللفظ وإجرائه مجرى الاسم، وإما لِتَنْزِيلهِ منزلة المصدر؛ أي: ذكره الله عز وجل بقوله: ({كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ})(1)، قال الحافظ ابن كثير:(كلا) أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووَحْيهُ وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجَبَ قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّان والصدأ الذي قَدْ لُبِّس قلوبهم وغطاها من كثرة الذنوب والخطايا؛ والرَّيْنُ: يَعْتَرِي قلوب الكافرين، والغَيْمُ للأبرار، والغَيْنُ للمقربين. انتهى.
قلت: أصل الران والرين: الغشاوة، وهو كالصدأ على الشيء الصقيل.
قال الطيبي: الران والرين: كالعاب والعيب، والآية في الكفار، إلا أن المؤمن بارتكاب الذنب يشبههم في اسوداد القلب، ويزداد ذلك بازدياد الذنب.
قال ابن الملك: هذه الآية مذكورة في حق الكفار، لكن ذكرها صلى الله عليه وسلم تخويفًا للمؤمنين؛ كي يحترزوا عن كثرة الذنب؛ كيلا تسود قلوبهم؛ كما اسودت قلوب الكفار، ولذا قيل:(المعاصي بريد الكفر). انتهى من "تحفة الأحوذي".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة المطففين، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
(1) سورة المطففين: (14).
(35)
- 4188 - (4) حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ حُدَيْجٍ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِر، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَلْهَانِيِّ،
===
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث ابن مسعود.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث ابن مسعود بحديث ثوبان رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(35)
- 4188 - (4)(حدثنا عيسى بن يونس) بن أبان الفاخوري أبو موسى (الرملي) الجرار، صدوق ربما أخطأ، من الحادية عشرة، لم يصح أن أبا داوود روى له. يروي عنه:(س ق).
(حدثنا عقبة بن علقمة بن حديج) بضم الحاء المهملة (المعافري) - بمهملة وفاء - البيروتي - بفتح الموحدة وسكون الياء التحتانية وضم الراء وبمثناة فوقية - صدوق، لكن كان ابنه محمد يدخل عليه ما ليس من حديثه، من التاسعة، مات سنة أربع ومئتين (204 هـ). يروي عنه:(س ق)، قال ابن أبي خيثمة: ثقة، قال أبو مسهر: كان من خيار الناس ثقة، قال ابن معين: دمشقي لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائي: ثقة، وقال ابن قانع: صالح.
(عن أرطاة بن المنذر) بن الأسود الألهاني الحمصي، قال ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: ثقة حافظ، قال الحافظ: ثقة، من السادسة، مات سنة ثلاث وستين ومئة (163 هـ). يروي عنه:(د س ق).
(عن أبي عامر) عبد الله بن غابر - بمعجمة ثم موحدة - (الألهاني) - بفتح الهمزة بعدها لام ساكنة - الحمصي، ثقة، من الثالثة. يروي عنه:(س ق).
عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ،
===
(عن ثوبان) بن بجدد الهاشمي مولاهم؛ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه رضي الله تعالى عنه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (54 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(أنه) صلى الله عليه وسلم (قال): أقسمت بالإله الذي لا إله غيره (لأعلمن) أنا (أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة) أرض المحشر، حالة كونهم ملتبسين (بحسنات) أي: بأعمال حسنة (أمثال) وأشباه (جبال تهامة) في العظم والكثرة.
والتهامة: خلاف نجد؛ وهي ما انخفض إلى جهة البحر من أرض الحجاز.
حالة كون تلك الحسنات (بيضًا) أي: بيضاء نيرة، جمع أبيض، سوغ مجيء الحال من النكرة وصفها بما بعدها (فيجعلها الله عز وجل أي: يصير تلك الحسنات (هباءً منثورًا) أي: هباءً منتثرًا معدومًا لا يرى له أثر؛ والهباء: غبار يظهر في ضوء الشمس عندما تدخل الشمس في البيت بالطاقة.
(قال ثوبان) رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ صفهم لنا) أي: اذكر لنا يا رسول الله أوصاف أولئك القوم الذين يجعل الله حسناتهم هباءً منثورًا و (جلهم لنا) أمرٌ مِن جَلَّى؛ من باب زكَّى؛ من التجلية؛ أي: اكشف لنا عن أوصافهم، وبينها لنا لنعرفهم بأوصافهم لـ (ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلم) أي:
قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ مِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ .. انْتَهَكُوهَا".
===
(36)
- 4189 - (5) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ
===
ونحن لا نعلم كوننا منهم، فـ (قال) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالهم عن بيان أوصاف أولئك القوم:(أما) - بتخفيف الميم - أي: انتبهوا واستمعوا ما أقول لكم (إنهم) أي: إن أولئك القوم (إخوانكم) من المسلمين في ظاهر حالهم (من جلدتكم) أي: من جنسكم من بني آدم، لا من الجن ولا من الملائكة (ويأخذون من الليل) أي: يأخذون نصيبهم من الأعمال الصالحة في الليل؛ يعني: يصلون صلاة الليل (كما) أنتم (تأخذون) من أعماله (ولكنهم) أي: لكن أولئك (أقوام إذا خلوا) وتجردوا من الناس وغيرهم (بمحارم الله) متعلق بخلوا .. (انتهكوها) أي: استخفوا تحريم ما حرم الله عليهم من محرماته بارتكابها وعملها؛ كأنه تعالى لا يراهم.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث ابن مسعود.
* * *
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث ابن مسعود بحديث آخر لأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(36)
- 4189 - (5)(حدثنا هارون بن إسحاق) بن محمد بن مالك الهمداني - بالسكون - أبو القاسم الكوفي، صدوق، من صغار العاشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(ت س ق).
(وعبد الله بن سعيد) بن حصين الكندي أبو سعيد الأشج الكوفي، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة سبع وخمسين ومئتين (257 هـ). يروي عنه:(ع).
قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبيهِ وَعَمِّه، عَنْ جَدِّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:
===
كلاهما (قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي - بسكون الواو - أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد، من الثامنة، مات سنة اثنتين وتسعين ومئة (192 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبيه) إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الكوفي، ثقة، من السابعة. يروي عنه:(ع).
(و) عن (عمه) أي: عن عم عبد الله بن إدريس، واسمه داوود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري - بزاي مفتوحة ومهملة وكسر الفاء - أبي يزيد الكوفي الأعرج، ضعيف، من السادسة، مات سنة إحدى وخمسين ومئة (151 هـ). يروي عنه:(ت ق). ولا يضر ضعفه السند؛ لأنه إنما ذكر على سبيل المقارنة، وهو غير مقصود في السند.
كلاهما رويا (عن جده) أي: عن جد عبد الله بن إدريس، واسم الجد: يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي - بواو ساكنة بعدها مهملة - أبو داوود الكوفي، مقبول، من الثالثة. يروي عنه:(ت ق). ووثقه ابن حبان، وقال العجلي: ثقة ثبت. روى هذا الجد عن: أبي هريرة، وعلي، وعدي بن حاتم، وجابر بن سمرة، وروى عنه: ابناه؛ إدريس وداوود.
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) أبو هريرة: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما) استفهامية؛ أَيْ: أَيُّ عمل (أكثر ما) موصولة أو موصوفة؛ أي: أي أكثر العمل الذي (يدخل الجنة) أهل الجنة؟ ولم أر من ذكر اسم السائل، فـ (قال) رسول الله صلى الله
"التَّقْوَى وَحُسْنُ الْخُلُقِ"، وَسُئِلَ: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ قَالَ: "الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ".
===
عليه وسلم في جواب السائل: أكثر العمل الذي يدخل أهل الجنة الجنة هو (التقوى) أي: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
قوله: (يدخل) - بضم الياء - من الإدخال؛ أي: سئل عن أكثر أسباب إدخالهم الجنة مع الفائزين، فقال: أكثر أسباب في إدخالهم الجنة (التقوى) ولها مراتب متفاوتة؛ أد ناها: التقوى من الشرك.
(وحسن الخلق) - بضمتين - أي: مع الخلق؛ وأدناه: ترك أذيَّتهم، وأعلاه: الإحسان إلى من أساء إليه منهم.
(وسئل) النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا (ما أكثر ما يدخل النار؟ ) أي: سئل: أي سبب أكثر من الأسباب التي تدخلهم النار؟
فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤال ذلك السائل: أكثر الأسباب في إدخالهم النار (الأجوفان: الفم والفرج) لأن المرء غالبًا بسببهما يقع في مخالفة الخالق بتكلمه بكلمة الشرك، وقذفه للناس، وشتمه إياهم، وبزناه بفرجه يقع في الكبائر.
قال الطيبي في "شرحه على المشكاة": قوله: (تقوى الله) إشارة إلى حسن المعاملة مع الخالق؛ بأن يأتي بجميع ما أمر به من المأمورات، وينتهي عما نهى عنه، و (حسن الخلق) إشارة إلى حسن المعاملة مع الخلق.
وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة، ونقيضهما لدخول النار، فأوقع الفم والفرج مقابلا لهما، أما الفم .. فمشتمل على اللسان، وحفظه ملاك أمر الدين كله، وأكل الحلال رأس التقوى كلها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وأما الفرج .. فصونه أعظم مراتب الدين، قال تعالى جل شأنه:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1)؛ لأن هذه الشهوة أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، ومن ترك الزنا خوفًا من الله تعالى، مع القدرة، وارتفاع الموانع، وتيسر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة .. وصل إلى درجة الصديقين، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (2).
ومعنى الأكثرية في القرينتين: أن أكثر أسباب السعادة الأبدية الجمع بين هاتين الخصلتين، وأن أكثر أسباب الشقاوة السرمدية الجمع بين هاتين الخصلتين.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث ابن مسعود.
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: خمسة أحاديث:
الأول للاستدلال، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم
(1) سورة المؤمنون: (5).
(2)
سورة النازعات: (40 - 41).