الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(17) - (1515) - بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ
(118)
- 4271 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"،
===
(17)
- (1515) - (باب صفة الجنة)
أخرها؛ ليكون ختم الكتاب بها؛ تفاؤلًا بحسن الختام، رزقني الله وإياكم وجميع المسلمين حسن الختام.
(118)
- 4271 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم، ثقةٌ ثبت، من التاسعة.
(عن) سليمان (الأعمش) ثقةٌ، من الخامسة.
(عن أبي صالح) السمَّان، (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أعددت) وهيأت وادخرت في الجنة دار الكرامة (لعبادي الصالحين) أي: المراعين لحقوق الله وحقوق العباد المواظبين على القيام بها (ما لا عين رأت) أي: نعيمًا لم يبصر ذاته عين من عيون الخلق (ولا أذن سمعت) أي: ونعيمًا لم تَسْمَع وَصْفَه أذنٌ من آذان الخلق (ولا خطر على قلب بشر) أي: ونعيمًا لم يخطر ويظهر إدراك ماهيته وحقيقته على قلب أحد من البشر.
ويحتمل أن يكون المراد بالأولى: الصورة الحسنة، وبالثانية: الأصوات
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمِنْ بَلْهِ مَا قَدْ أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ
===
الطيبة، وبالثالثة: الخواطر المُفْرِحة؛ كما قيل، وعلى هذا المعنى؛ فالظاهر تكرارها ثلاث مرات لا ذكرها مرة؛ كما في الحديث. انتهى "سندي".
قوله: (ولا خطر) أي: وقع (على قلب بشر) زاد ابن مسعود في حديث: (ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل) أخرجه ابن أبي حاتم، وهو يدفع قول من قال: إنما قيل: لـ (بشر) لأنه يخطر بقلوب الملائكة.
قال الحافظ في "الفتح"(8/ 516): والأولى حمل النفي فيه على عمومه؛ فإنه أعظم في النفس. انتهى.
قوله: "أعددت لعبادي الصالحين" أي: هيأت وادخرت لعبادي الصالحين؛ أي: المراعين لحقوق الله وحقوق العباد (ما) موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ (أعددت)، (لا) نافية للجنس على سبيل الاحتمال تعمل عمل ليس، (عين) اسمها مرفوع، وجملة (رأت) خبرها، وكذا قوله:(ولا أذن سمعت) والمعنى: أعددت لعبادي الصالحين في دار الكرامة نعيمًا لا عين من عيون الخَلقِ رائية له، ولا أذن من آذانهم سامعة له.
أو أعددت لهم النعيم الذي لا عين من عيون الخلق رائية له، ولا أذن من آذان الخلق سامعة له، ويحتمل كون (عين) و (أذن) فاعلًا مقدمًا لما بعده على مذهب الكوفيين المجوزين تقدم الفاعل على فعله؛ لغرض السجع، وهو الموافق لما بعده من قوله:"ولا خطر على قلب بشر" والمعنى على هذا: أعددت لعبادي الصالحين ما لا رأته عين، ولا سمعته أذن، وما لا خطر وجرى على قلب بشر.
(قال أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه: (ومن بله ما قد أطلعكم الله عليه) كلام مقدم على ما بعده (ومن بله)(من) زائدة، والأولى: إسقاطها؛ كما في بعض الرواية؛ لأنه لا وجه لكلمة (من) ولذلك قال الخطابي: اتفقت النسخ
اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْرَؤُهَا (مِنْ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ).
===
على رواية: (من بله) والصواب: إسقاط كلمة (من). انتهى "سندي".
و(بله): اسم فعل أمر بمعنى: دع؛ أي: اترك، ولكن مسندة إلى الجماعة، والمعنى: قال أبو هريرة: اتركوا (ما قد أطلعكم الله عليه) من نعيم الجنة وعرفتموه من لذاتها؛ فالذي لم يطلعكم عليه أعظم وأعجب (إن شئتم) مصداق ذلك وشاهده .. " (اقرؤوا إن شئتم) قوله تعالى: ({فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ}) من نفوس الصالحين ({مَا أُخْفِيَ}) وادخر ({لَهُمْ}) في خزائن جنتي، حالة كونه ({مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}) أي: مما تقر وتسر به أعينهم، وحالة كونه ({جَزَاءً}) لهم ({بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}) (1)؛ أي: على ما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة.
(قال) أبو صالح بالسند السابق: (وكان أبو هريرة يقرؤها) أي: يقرؤ هذه الآية بلفظ: (من قرات أعين) بصيغة الجمع؛ جمع قرة؛ والقرة: كل ما تقر وتسر وتفرح به العين من النعيم، وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في "الكوكب الوهاج" فراجعه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في التفسير، في تفسير سورة السجدة، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، والترمذي في تفسير سورة السجدة.
فالحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة، والله أعلم.
(1) سورة السجدة: (17).
(119)
- 4272 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَشِبْرٌ فِي لْجَنَّةِ .. خيرٌ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا".
===
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي هريرة بحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(119)
- 4272 - (2)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن حجاج) بن أرطاة - بفتح الهمزة - ابن ثور بن هبيرة النخعي أبي أرطاة الكوفي القاصِ أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، من السابعة، مات سنة خمس وأربعين ومئة (145 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن عطية) بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبي الحسن، صدوق يخطئ كثيرًا وكان شيعيًّا مدلسًا، من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة ومئة (111 هـ). يروي عنه:(د ت ق).
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله تعالى عنه.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه حجاج بن أرطاة وعطية العوفي، وهما متفق على ضعفهما.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (لشبر) واحد؛ وهو ما بين طرفِ الإبهام وطرفِ الخنصر أو البنصر أو الوسطي؛ أي: لقدر مساحة شبر (في الجنة) أي: من الجنة .. (خير) أي: أفضل وأنفع (من) جميع نواحي (الأرض وما عليها) أي: وما على الأرض من الأشجار والنباتات والحيوانات العقلاء والبهائم، وما
(120)
- 4273 - (3) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ مَنْظُورٍ،
===
فيها من الجواهر والمعادن، وفي رواية:(من الدنيا وما فيها) وهو بمعنى الرواية الأولى؛ لأن المراد بالدنيا: الأرض.
قال السندي: قوله: "لشبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها" يكفي في خيريته أنه باق؛ لأن الباقي وإن قل خير من الفاني وإن كثر؛ لدوام نفعه، وأي نسبة بينهما، ثم ذاك هو الخير الخالص، وأما هذه، وإن لم يكن شرًا خالصًا .. فلا شك في غلبة الشر فيها.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه ضعيف؛ لضعف سنده، فهو: ضعيف متنًا وسندًا.
والأولى عندي أن يقال: هذا الحديث ضعيف السند؛ لما تقدم آنفًا، صحيح المتن بما بعده؛ لأنه بمعناه، وغرضه بسوقه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي هريرة بحديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(120)
- 4273 - (3)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي، صدوق مقرئ خطيب، من العاشرة، كبر فصار يتلقن في حديثه، فحديثه القديم أصح، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا زكريا بن منظور) بن ثعلبة، ويقال له: زكريا بن يحيى بن منظور، فنسب إلى جده؛ لشهرته به، القرظي أبو يحيى المدني، ضعيف، من الثامنة. يروي عنه:(ق). اتفقوا على ضعفه وتركه إلا أحمد بن صالح المصري؛ فإنه
حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَوْضِعُ سَوْطٍ في الْجَنَّةِ .. خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
===
قال: لا بأس به، لكنه لم ينفرد ابن منظور في الرواية عن أبي حازم؛ فقد تابعه أحمد بن منيع في "مسنده"، قال: حدثنا يعقوب هو ابن أبي ليلى عن أبي حازم، فذكره بإسناده ومتنه.
(حدثنا أبو حازم) سلمة بن دينار الأعرج التمار المدني القاصُّ مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابد، من الخامسة، مات في خلافة المنصور. يروي عنه:(ع).
(عن سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبي العباس المدني، الصحابي المشهور، له ولأبيه صحبة رضي الله تعالى عنهما، مات سنة ثمان وثمانين (88 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).
وهذا السند من رباعياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه زكريا بن منظور وهو متفق على ضعفه، ولكن له متابع، فلا يقدح في السند.
قلت: فحكمه: الصحة بغيره؛ كما بيناه.
(قال) سهل: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط) أي: قدر موضع يقع سوطًا كائن (في الجنة .. خير من الدنيا وما فيها) من زخارفها.
وخص السوط بالذكر؛ لأن العادة جرت بإلقاء سوطه في موضع يريد النزول فيه أولًا؛ لئلا يسبق إليه غيره؛ أي: لموضع وقوع السوط فيه في الجنة .. خير من الدنيا وما فيها؛ من زخارفها الظاهرة ومعادنها.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح، قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وأنس، وهذا حديث حسن صحيح، والنسائي في كتاب
(121)
- 4274 - (4) حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
===
الجهاد، باب فضل غدوة في سبيل الله، وعبد الرزاق في "مصنفه"، وأحمد في "مسنده".
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وإن كان فيه ابن منظور؛ لأن له متابعًا؛ كما بيناه آنفًا، ولأن له شواهد؛ كما بيناها أيضًا، فهذا الحديث: ضعيف السند، صحيح المتن، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة بحديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(121)
- 4274 - (4)(حدثنا سويد بن سعيد) بن سهل الهروي الأصل الأنباري النزول - بنون ثم موحدة - أبو محمد، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين، هو من قدماء العاشرة، مات سنة أربعين ومئتين (240 هـ) وله مئة سنة. يروي عنه:(م ق).
(حدثنا حفص بن ميسرة) العقيلي - مصغرًا - أبو عمر الصنعاني نزيل عسقلان، ثقةٌ ربما وهم، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين ومئة (181 هـ). يروي عنه:(خ م س ق).
(عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم؛ مولى عمر أبي عبد الله المدني، ثقةٌ عالم، وكان يرسل، من الثالثة، مات سنة ست وثلاثين ومئة (136 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن عطاء بن يسار) الهلالي أبي محمد المدني مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، ثقةٌ فاضل صاحب مواعظ وعبادة من صغار الثانية،
أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا.
===
مات سنة أربع وتسعين (94 هـ)، وقيل بعد ذلك. يروي عنه:(ع).
(أن معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبا عبد الرحمن المشهور من أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، شهد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، مات بالشام سنة ثماني عشرة (18 هـ).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) معاذ: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجنة مئة درجة) ودور.
قال ابن الملك: المراد بالمئة: الكثرة، وبالدرجة: المرقاة.
قال القاري: الأظهر أن المراد بالدرجات: المراتب العالية، قال تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} (1)؛ أي: ذوو درجات متفاوتة بحسب أعمالهم من الطاعات.
كما أن أهل النار أصحاب دركات متسافلة بقدر مراتبهم في شدة الكفر؛ كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2)، كذا في "التحفة"(3/ 225).
(كل درجة منها) أي: من تلك المئة؛ أي: مقدار ارتفاع كل درجة؛ ففي الكلام حذف مضافين، ويحتمل على بعد أن المراد: سعة كل درجة على تقدير مضاف واحد. انتهى "سندي".
(كل درجة منها)؛ أي: من تلك المئة؛ أي: مقدار سعة كل درجة منها مقدار
(1) سورة آل عمران: (163).
(2)
سورة النساء: (145).
مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض، وإنَّ أَعْلَاهَا الْفِرْدَوْسُ، وإِنَّ أَوْسَطَهَا الْفِرْدَوْسُ، وإِنَّ الْعَرْشَ عَلَى الْفِرْدَوْسِ؛ مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّة، فَإِذَا مَا سَأَلْتُمُ اللهَ .. فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ".
===
سعة (ما بين السماء والأرض، وإن أعلاها) أي: وإن أعلى تلك الدرجات المئة وأقربها إلى العرش (الفردوس) أي: تسمى الفردوس (وإن أوسطها) وأحسنها وأخيرها وأفضلها من حيث النظر إلى ما اشتملت عليه (الفردوس) أي: تسمى بالفردوس (وإن العرش) العظيم كالسقف (على الفردوس؛ منها) أي: من الفردوس (تُفجَّرُ) - بالبناء للمجهول - أي: تشقق وتجري (أنهار الجنة) كلها (فإذا ما سألتم الله) الجنة .. (فسلوه الفردوس).
قوله: "وإن أعلاها الفردوس" قال الحافظ في "الفتح"(6/ 12): الفردوس: هو البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل: هو الذي فيه العنب، وقيل: هو بالرومية، وقيل: بالقبطية، وقيل: بالسريانية، وبه جزم أبو إسحاق الزجاج. انتهى.
وقال في "القاموس": الفردوس: هو الأودية التي تنبت ضروبًا من النبت، والبستان يجمع كل ما في البساتين، يكون فيه الكروم، وقد يؤنَّث، عربية أو روميَّة نُقِلت أو سُريانية. انتهى.
(وإن أوسطها الفردوس) أي: أفضلها وخيرها (وإن العرش على الفردوس) أي: هو السطح للفردوس.
قال السيوطي في "حاشية الترمذي": قال ابن القيم: في كتابه: "نكت شتى وفرائد حسان": أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأعلاها ذاتا وقدرا وأوسطها عرش الرحمن جل جلاله، وكل ما كان أقرب إلى العرش .. كان أنور وأظهر وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها
(122)
- 4275 - (5) حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ،
===
وأجلها؛ لقربها من العرش؛ إذ هو سقفها، وكل ما بعد منه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير. انتهى "س".
وقال الطيبي: النكتة في الجمع بين الأعلى والأوسط: أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي؛ فإن وسط الشيء أفضله وخياره، وإنما كان كذلك؛ لأن الأطراف يتسارع إليه الفساد والخلل، والأوساط محمية محفوظة.
وقال ابن حبان: المراد بالأوسط: السعة، وبالأعلى: الفوقية.
(منها) أي: من الفردوس (تفجر) - بالبناء للمجهول - أي: تشقق وتجري (أنهار الجنة) أي: أصول الأنهار الأربعة؛ من الماء واللبن والخمر والعسل المذكورة في القرآن في سورة محمد بقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} (1).
(فإذا ما سألتم الله) الجنة .. (فسلوه) أي: فاطلبوا منه (الفردوس) لأنه أفضلها وأعلاها.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.
ثم استأنس المؤلف للترجمة بحديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(122)
- 4275 - (5)(حدثنا العباس بن عثمان) بن محمد البجلي أبو الفضل (الدمشقي) المعلم، صدوق يخطئ، من كبار الحادية عشرة، مات سنة تسع وثلاثين ومئتين (239 هـ). يروي عنه:(ق).
(1) سورة محمد: (15).
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ:
===
(حدثنا الوليد بن مسلم) القرشي مولاهم الدمشقي، ثقةٌ، من الثامنة، كثير التدليس والتسوية، مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا محمد بن مهاجر الأنصاري) الشامي أخو عمرو، ثقةٌ، من السابعة. يروي عنه:(م عم).
(حدثني الضحاك المعافري) - بفتح الميم والمهملة وكسر الفاء - الدمشقي البزاز، مقبول، من السادسة. يروي عنه:(ق).
(عن سليمان بن موسى) الأموي مولاهم الدمشقي الأشدق، صدوق فقيه في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل، من الخامسة. يروي عنه:(م عم).
(عن غريب) بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني أبي رشدين (مولى ابن عباس) ثقةٌ، من الثالثة، مات قبل المئة سنة ثمان وتسعين (98 هـ). يروي عنه:(ع).
(قال) غريب: (حدثني أسامة بن زيد) بن حارثة بن شراحيل الكلبي ذو البطين الأمير أبو محمد، صحابي مشهور رضي الله تعالى عنهما، مات سنة أربع وخمسين (54 هـ) بالمدينة وهو ابن خمس وسبعين. يروي عنه:(ع).
(قال) أسامة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم) أي: يومًا من الأيام (لأصحابه) رضوان الله عليهم.
وهذا السند من سباعياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه الضحاك المعافري، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وقال الذهبي في "طبقات التهذيب":
"أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُور يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ،
===
مجهول، وسليمان بن موسى، قال الحافظ: في بعض حديثه لين، وخلط قبل موته بقليل، والضحاك المعافري مقبول، والوليد بن مسلم كثير التدليس والتسوية، والعباس بن عثمان كثير الخطأ.
قال البوصيري: وبالجملة: في هذا الإسناد مقال، فحكمه: الضعف.
أي: قال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه الحاضرين عنده رضوان الله تعالى عليهم (ألا) حرف استفتاح وتنبيه؛ أي: ألا يوجد فيكم يا أصحابي (مشمر) - بضم الميم الأولى وكسر الثانية المشددة - من التشمير؛ وهو في الأصل: شدُّ الإزار على الحقوين، وهو كناية عن الجد والاجتهاد في طلب الشيء النفيس، والاهتمام في تحصيله بارتكاب أسبابه؛ أي: ألا يوجد فيكم يا معاشر الأصحاب مجد مجتهد (لـ) نيل (الجنة) وفوزها بإكثار العمل الصالح ليلًا ونهارًا؛ أي: ألا فيكم ساع لها غاية السعي طالب لها عن صدق رغبةٍ وكامل عزيمة ونيةٍ.
(فإن الجنة لا خطر) ولا مثيل ولا نظير (لها) في استحقاق الجد والاجتهاد في طلبها (هي) أي: الجنة التي رغبتكم في طلبها والاجتهاد في نيلها (ورب الكعبة) أي: أقسمت لكم برب الكعبة (نور) أي: دار نور (يتلألأ) يضيء ضوءًا عظيمًا لا نظير له (و) دار (ريحانة) - بفتح الراء وسكون الياء - والريحان: شجر معروف طيب الرائحة؛ أي: ودار شجرة عطرة (تهتز) أي: تتحرك بريح هابة عليها وتنشر منها ريحها الطيب (و) دار (قصر مشيد) أي: قصور رفيعة مرتفعة عالية مشيدة؛ أي: قوية البناء، لا يخاف منها الهدم والتهدم؛ لأنها خلقت للبقاء.
وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَة نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ في مُقَامٍ أَبَدًا، في حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، في دُور عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيةٍ"،
===
(و) دار (نهر مطرد) أي: دائم جريان مائه لا ينقطع؛ وهو بضم الميم وفتح الطاء المشددة وكسر الراء؛ أي: دائم جريان مائها لا انقطاع له ولا يبوسة؛ من اطرد الشيء؛ إذا تتابع بعضه بعضًا في الجريان (و) دار (فاكهة كثيرة) الأجناس والأنواع، لا يخاف منها الانقطاع بمجيء الصيف أو الشتاء (نضيجة) أي: مدركة منضجة قابلة للأكل في كل وقت لا نقص فيها (و) دار (زوجة حسناء) أي: كاملة الخلقة (جميلة) الألوان والصفات (و) دار (حلل) وجواهر (كثيرة) والحلل جمع حلية؛ وهو ما تتزين به النساء من الذهب والفضة وسائر الجواهر.
ودار (في مقام) - بضم الميم - لأنه من أقام الرباعي، والظرف قوله:(أبدًا) متعلق بقوله: (مقام) لأنه مصدر ميمي؛ أي: ودار في إقامة مؤبدة لا يعقبها فناء، ودار (في حبرة) - بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة - أي: ودار فيها حبرة؛ أي: كثرة نعمة وسعة عيش (و) دار (نضرة) أي: نضارة لأهلها ببريق ولمعان؛ لشدة صفائها.
ويحتمل كون حسناء وما بعدها إلى هنا .. صفة لزوجة؛ والمعنى: وهي دار فيها زوجة حسناء الهيئة، جميلة الألوان والذات، ولها حلل كثيرة الأنواع والأجناس متصفة ببكارة قائمة بها أبدًا؛ كلما أتاها زوجها .. يجدها بكرًا، كائنة في حبرة؛ أي: في نعمة كثيرة وعيش دائم متصفة بنضرة؛ أي: نضارة وجهها وجميع بدنها؛ لأنها يرى عظام ساقها من وراء لحمها، ساكنة (في دور عالية) وقصور مرتفعة (سليمة) من قاذورات نساء الدنيا من الحيض ونحوه (بهية) الجسم والألوان.
قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللهُ"، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ.
(123)
- 4276 - (6) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
===
(قالوا) أي: قال الأصحاب الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم: (نحن) معاشر المسلمين (المشمرون) أي: المتشمرون المجدون المجتهدون بالأعمال الصالحة (لها) أي: لطلب الجنة (يا رسول الله، قال) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا): نحن المشمرون لها (إن شاء الله) تعالى تشمرنا لها؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
…
} الآية (1)، أمرهم بالتقييد بمشيئة الله (ثم) بعد ما حدث لهم هذا الحديث (ذكر) لهم فضائل (الجهاد، وحض) أي: حثهم (عليه) أي: على الجهاد بذكر فضائله؛ لأنه أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه ضعيف؛ لضعف سنده؛ لما تقدم آنفًا، وغرضه: الاستئناس به للترجمة، فالحديث: ضعيف متنًا وسندًا (12)(444).
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(123)
- 4276 - (6)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه: خمسة من ستة؛ يعني: إلا الترمذي (خ م د س ق).
(1) سورة الكهف: (23).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ
===
(حدثنا محمد بن فضيل) بن غَزْوَان - بفتح المعجمة وسكون الزاي - الضبي مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف رمي بالتشيع، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن عمارة بن القعقاع) بن شُبْرُمة - بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة - الضَّبِّي - بالمعجمة والموحدة - الكوفي، ثقةٌ أرسل عن ابن مسعود، وهو من السادسة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، ثقةٌ، من الثالثة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول زمرة) وجماعة (تدخل الجنة) من أمتي (على صورة القمر) وصفته في الإضاءة؛ أي: يكون على صفة القمر ليلة كماله في الجمال والإضاءة، أي: على صورته في كمال الصفاء وتمام النور لا في الاستدارة.
قال في "المرقاة": ولعل دخولها على صورة الشمس مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى.
قال القرطبي: والزمرة: الجماعة؛ والصورة هنا: بمعنى الصفة، يعني؛ أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وكماله؛ وهي ليلة أربعة عشر، وبذلك سمي القمر بدرًا في تلك الليلة، ومقتضى هذا أن أبواب الجنة
لَيْلَةَ الْبَدْر، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إِضاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ،
===
متفاوتة بحسب درجاتهم. انتهى من "المفهم".
وقد ورد بيان عددهم وكيفية دخولهم في حديث سهل بن سعد عند البخاري في كتاب الرقائق، ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون، أو سبع مئة ألف - لا يدري أبو حازم أيهما قال سهل - متماسكون آخذ بعضهم بعضًا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر (ليلة البدر، ثم الذين يلونهم) أي: يكون الذين يلون الزمرة الأولى في الدخول يدخلون الجنة حالة كونهم (على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة) أي: على صورة أشد كوكب شبيه بالدر إضاءة في السماء؛ يعني: أن الزمرة التي تلي الأولى تكون في ضوئها وجمالها؛ كأكثر كوكب ضياء في السماء.
وقال الطيبي في "شرح المشكاة"(10/ 238): أفرد المضاف إليه؛ يعني: (كوكب دري) ليفيد الاستغراق في النوع من الكوكب؛ يعني: إذا تقصيت كوكبًا كوكبًا .. رأيتهم كأشده إضاءة؛ والدري: هو المضيء المنير.
(لا يبولون ولا يتغوطون) أي: لا يخرج منهم البول ولا الغائط؛ وإنما لا تصدر ولا تخرج هذه الفضلات من أهل الجنة؛ لأنها أقذار مستخبثة، والجنة منزهة عن مثل ذلك، ولما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال .. لم تكن لها فضلة تستقذر، بل تستطاب وتستلذ، وهي التي عبر عنها بالمسك فيما بعد، بل يتولد عن تلك الأغذية أطيب ريح وأحسنه؛ كما في "الفتح".
(ولا يمتخطون) أي: ولا يخرج منهم المخاط؛ وهو ما يسيل من الأنف (ولا يتفلون) - بكسر الفاء وضمها - من بابي ضرب ونصر؛ أي: لا يبصقون؛
أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ،
===
من التفل؛ وهو البصاق؛ والتفل: رميُ الشيء من الفم؛ والمخاط: ما يسيل من الأنف.
والمعنى: ليس في أنفهم ولا فمهم من المياه الزائدة والمواد الفاسدة؛ ليحتاجوا إلى إخراجها، ولأن الجنة مساكن طيبة للطيبين، فلا يلائمها الأدناس والأوساخ. انتهى من "المرقاة".
(أمشاطهم) التي يسرحون بها الشعر (الذهب) أي: من الذهب (ورشحهم) أي: عرقهم (المسك) أي: كالمسك في طيب الرائحة؛ والرشح - بفتح الراء وسكون الشين -: العرق.
(ومجامرهم) قال العيني: جمع مجمرة - بكسر الميم وفتح الثانية - وهي المبخرة، سميت مجمرة؛ لأنها يوضع فيها الجمر؛ ليفوح به ما يوضع فيها من البخور، وهو مبتدأ، خبره:(الألوة) وفي "النهاية" - بفتح الهمزة وضم اللام وتشديد الواو المفتوحة -: هو العود الذي يتبخر به؛ يعني: العود الهندي؛ والمعنى: أن مجامرهم يبخر فيها مثل العود الهندي، ووقع في روايةٍ:(وقود مجامرهم الألوة).
وقال الأصمعي: هي فارسية عربت؛ معناها: العود الهندي الذي يتبخر به. انتهى.
وقال علي القاري في "المرقاة"(1/ 324): وهذا كله من اللذات المتوالية والشهوات المتعالية، وإلا .. فلا تلبد لشعورهم، ولا وسخ ولا عفونة لأبدانهم وثيابهم، بل ريحهم أطيب من المسك؛ فلا حاجة إلى التمشط والتبخر إلا لزيادة الزينة والتلذذ بأنواع النعم الحسية. انتهى.
وقال القرطبي: قد يقال هنا: أي حاجة في الجنة إلى الامتشاط ولا تتلبد
أَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
===
شعورهم ولا تتسخ، وأي حاجة إلى البخور وريحهم أطيب من المسك؟
فيجاب عن ذلك: أن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس لدفع ألمٍ اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شرابهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن رائحتهم، وإنما هي لذات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم عليه السلام:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} (1)، وحكمة ذلك: أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى من "المفهم".
(أزواجهم الحور العين) جمع حوراء؛ والحور في العين: شدة بياضها في شدة سوادها؛ والعين - بكسر العين - جمع عيناء؛ كبيض جمع بيضاء؛ وهي الواسعة العين، وفي "الصحاح": رجل أعين: واسع العين، والجمع عين، وأصله فعل بالضم، ومنه قيل لبقر الوحش: عين، وللثور: أعين، والبقرة: عيناء. انتهى من "المفهم".
(أخلاقهم على خلق رجل واحد) - روي بضمتين، وبفتح الخاء وسكون اللام - والمعنى على الأول: أنه شابه بعضهم بعضًا في الأخلاق الفاضلة، فيكون المعنى: أن أخلاقهم متساوية في الحسن والكمال، كلهم كريم الخلق؛ إذ لا تباغض ولا تحاسد ولا غِلَّ بينهم، ويؤيده ما روي مسلم في رواية همام:(أن لا اختلافَ بينهم ولا تباغض، قلوبُهم قَلْبُ واحدٍ).
والمعنى على الثاني: أنهم متشابهون فيما بينهم في الخلقة، ويؤيده ما جاء في نفس هذه الرواية:(أنهم على طول أبيهم آدم عليه السلام وعلى صورته).
(1) سورة طه: (118).
عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا".
(123)
- 4276 - (م) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ حَدِيثِ
===
والحاصل: أنهم متشابهون في الخلق والخلق جميعًا.
(على صورة أبيهم آدم) أي: على صفته في الخلقة، وفسره بقوله: هم (ستون ذراعًا) طولًا وارتفاعًا (في السماء) أي: في جهة العلو، وكل ما علاك .. فهو سماء؛ يعني بذلك: أن الله تعالى أعاد أهل الجنة إلى خلقة أصلهم الذي هو آدم، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله تعالى عليه في الجنة، وكان طوله فيها ستين ذراعًا في الارتفاع، من ذراع نفسه، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون مقدرًا بأذرعنا المتعارفة عندنا، ثم لم يزل خلق ولده وطولهم ينقص، كما جاء في الرواية الأخرى.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة وأنها مخلوقة، وفي كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، ومسلم في كتاب الجنة، باب أول زمرة تدخل الجنة، والترمذي في كتاب صفة الجنة، باب صفة نساء أهل الجنة وغيرهم.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم ذكر المؤلف المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقال:
(123)
- 4276 - (م) (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثل حديث
ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ.
(124)
- 4277 - (7) حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِب،
===
ابن فضيل، عن عمارة) غرضه: بيان متابعة أبي معاوية لابن فضيل، ولكنها ناقصة.
ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(124)
- 4277 - (7)(حدثنا واصل بن عبد الأعلى) بن هلال الأسدي أبو القاسم الكوفي، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ). يروي عنه:(م عم).
(وعبد الله بن سعيد) بن حصين الكندي أبو سعيد الأشج، ثقةٌ، من صغار العاشرة، مات سنة سبع وخمسين ومئتين (257 هـ). يروي عنه:(ع).
(وعلي بن المنذر) بن زيد الأودي الطَّرِيقي - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم قاف - أبو الحسن الكوفي صدوق يتشيع، قيل له: الطريقين؛ لأنه ولد في الطريق، من العاشرة، مات سنة ست وخمسين ومئتين (256 هـ). يروي عنه:(ت س ق).
(قالوا) أي: قال كل من الثلاثة المذكورين: (حدثنا محمد بن فضيل) بن غزوان الضبي الكوفي، صدوق، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن عطاء بن السائب) أبي محمد الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، من الخامسة، مات سنة ست وثلاثين ومئة (136 هـ). يروي عنه:(خ عم).
عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْكَوْثَرُ نَهَرٌ في الْجَنَّة، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَب، مَجْرَاهُ عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، تُرْبَتُهُ
===
(عن محارب) بضم أوله وكسر الراء (ابن دثار) - بكسر المهملة وتخفيف المثلثة - السدوسي الكوفي القاضي، ثقةٌ إمام زاهد، من الرابعة مات سنة ست عشرة ومئة (116 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قال) ابن عمر: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكوثر) المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1)(نهر) جار ماؤه (في الجنة) وهو على وزن (فوعل) من الكثرة، والواو زائدة، يسمى به النهر؛ لكثر مائه وآنيته وعظم قدره وخيره، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر والخطر: كوثرًا.
(حافتاه) أي: في حافتيه وجانبيه - بتخفيف الفاء - أي: في جانبيه، قال في "القاموس": حافتي الوادي وغيره: جانباه؛ أي: حافتاه، والجمع حافات، وقوله:(حافتاه) بالألف على أنه مبتدأ، وخبره:(من ذهب) أي: في جانبيه ذهب.
وفي حديث أنس: (وحافتاه قباب اللؤلؤ) أخرجه الترمذي أيضًا، وهذا الحديث يعارض حديث ابن ماجه:(حافتاه من ذهب).
قلت: لا معارضة بينهما؛ لأن الحافتين تكونان من الذهب، وأما القباب من اللؤلؤ .. فتكون مبنية عليهما. انتهى "تحفة الأحوذي".
(مجراه على الياقوت والدر) أي: جريان مائه عليهما (ترجمته) أي: تراب
(1) سورة الكوثر: (1).
أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْك، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ".
(125)
- 4278 - (8) حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ،
===
أرضه (أطيب) ريحًا (من المسك، وماؤه) أي: ماء الكوثر (أحلى) أي: أشد حلاوة (من) حلاوة (العسل و) ماؤه (أشد بياضًا من الثلج) أي: من الماء المجمَّدِ.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب التفسير، باب في تفسير سورة الكوثر، وأخرجه أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده؛ ولأن له شواهد مما ذكرناه هنا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول، والله أعلم.
ثم استشهد المؤلف سادسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقال:
(125)
- 4278 - (8)(حدثنا أبو عمر الضرير) حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهيب الأزدي الدوري المقرئ الضرير الأصغر، سكن سامراء. روى عن: ابن عيينة، وأبي بحر البكراوي، وإسماعيل بن جعفر وقرأ عليه، وإسماعيل بن عياش، وعبد الوهاب الخفاف، وعلي بن حمزة الكسائي وقرأ عليه، ويزيد بن هارون، ووكيع، وجماعة من أقرانه، وغيرهم، وقرأ أيضًا على اليزيدي، وسليم بن عيسى، وشجاع بن أبي نصر الخراساني، ويروي عنه: ابن ماجه، وأبو زرعة، وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم، وقال: صدوق، وجماعة، قال أبو داوود: رأيت أحمد يكتب عنه، وقال الخطيب: كان يقرئ بقراءة الكسائي، واشتهر بها، قال البغوي: مات في شوال سنة ست وأربعين ومئتين (246 هـ). وقال ابن حبان: مات سنة ثمان وأربعين ومئتين (248 هـ)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
===
هكذا قال في "الثقات"، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال العقيلي: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان عالمًا بالقرآن وتفسيره. انتهى من "التهذيب" للعسقلاني.
وقال في "التقريب": لا بأس به، من العاشرة، مات سنة ست أو ثمان وأربعين ومئتين (248 هـ). يروي عنه:(ق). فهو مختلف فيه.
(حدثنا عبد الرحمن بن عثمان) بن أمية بن عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي أبو بكر البكراوي البصري. روى عن: محمد بن عمرو بن علقمة، وإسرائيل بن يونس، وحبيب بن الشهيد، وإسماعيل بن مُسْلمٍ المكي، وقرة بن خالد، وحماد بن سلمة، ويروي عنه عمرو بن عليٍّ، وبندار، وأبو عمر الضرير حفص بن عمر، وأحمد بن عبدة الضبي، قال الدوري عن يحيى بن معين: ضعيف، وقال الآجري عن أبي داوود: قال أحمد: لا بأس به، وقال في موضع آخر عن أبي داوود: صالح، ووثقه العجلي، فهو مختلف فيه، وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(د ق).
(عن محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق له أوهام، من السادسة، مات سنة خمس وأربعين ومئة (145 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدني، ثقةٌ فقيه، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه أبا عمر الضرير وعبد الرحمن، وهما مختلف فيهما، ولكن الحديث من المتفق عليه.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ في الْجَنَّةِ شَجَرَةَ يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِئَةَ سَنَةٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} ".
===
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة شجرة يسير الراكب) الفرس الجواد المضمر (في ظلها) وتحت أغصانها (مئة سنة) مما تعدون، حالة كونه (لا يقطعها) أي: لا ينتهي ولا يخرج من تحت ظلها؛ لسعته (واقرؤوا) أيها المؤمنون (إن شئتم) مصداق ذلك وشاهده قوله تعالى: ({وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}) (1).
وفي رواية مسلم: (إنَّ في الجنة لشجرةً) عجيبةً، نكر الشجرة؛ للتنبيه على اختلاف جنسها، بحسب شهوات أهل الجنة (يسير الراكب في ظلها) أي: في كنفها وذراها؛ وهو ما تستره أغصانها؛ والمراد بظلها: موضعه لو فرض هناك ظل، وهذا مبني على أن الجنة مضيئة بنفسها، فلا يمكن الظل فيها، (مئة سنة) مما تعدون؛ أي: مقدارها، وقد يكون ظلها: نعيمها وراحتها؛ من قولهم: (عيش ظليل).
وقال القرطبي: احتيج إلى تأويل الظل بما ذكر؛ احترازًا عن الظل في العرف؛ لأنَّهُ ما يقي حرَّ الشمس، ولا شمس في الجنة ولا برد ولا حر، وإنما هو نور يتلألأ. انتهى من "الأبي".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة، وفي كتاب التفسير، باب سورة الواقعة، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وصفة أهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام فلا يقطعها، والترمذي: في كتاب صفة الجنة، باب في صفة شجرة الجنة.
(1) سورة الواقعة: (30 - 31).
(126)
- 4279 - (9) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
===
والحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه؛ وإن كان سند المؤلف حسنًا؛ لأن له شواهد في "الصحيحين" وغيرهما ومتابعات، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم استشهد المؤلف سابعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له أيضًا رضي الله تعالى عنه، فقال:
(126)
- 4279 - (9)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي الخطيب المقرئ، صدوق، كَبِرَ فصار يَتلقَّن، فحديثه القديم أصح، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين) الدمشقي أبو سعيد كاتب الأوزاعي ولم يرو عن غيره، صدوق ربما أخطأ، قال أبو حاتم: كان كاتب ديوان، ولم يكن صاحب حديث، من التاسعة. يروي عنه:(ت ق).
(حدثني عبد الرحمن بن عمرو) بن أبي عمرو (الأوزاعي) الإِمام الفقيه المحدث الدمشقي، ثقةٌ، من السابعة، مات سنة سبع وخمسين ومئة (157 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثني حسان بن عطية) المحاربي مولاهم، أبو بكر الدمشقي، ثقةٌ فقيه عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثني سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي أحد العلماء
أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ في سُوقِ الْجَنَّة، قَالَ سَعِيدٌ: أَوَ فِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا .. نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ في مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا،
===
الإثبات الفقهاء الكبار، من كبار الثانية، قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أحدًا أوسع منه علمًا، مات بعد التسعين. يروي عنه:(ع).
(أنه) أي: أن سعيدًا (لقي أبا هريرة) رضي الله تعالى عنه في سوق المدينة؛ على ما يدل عليه السياق.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه هشام بن عمار، وهو مختلف فيه، وكذا شيخه عبد الحميد بن حبيب مختلف فيه.
(فقال أبو هريرة) لسعيد بن المسيب: (أسأل الله) وأرجوه (أن يجمع بيني وبينك) يا سعيد في الآخرة (في سوق الجنة) كما جمع بيننا في سوق المدينة.
قال السندي: قيل: سوق الجنة: مَجْمَع لأهلِ الجنة يجتمعون فيها في كل مقدار جمعة؛ أي: أسبوع، وليس هناك أسبوع حقيقة؛ لفقد الشمس والنهار والليل.
(قال سعيد) لأبي هريرة: (أ) تقول ذلك يا أبا هريرة؛ لأن الهمزة داخلة على محذوف (و) هل (فيها) أي في الجنة (سوق) يا أبا هريرة؛ ، والسوق في الأصل موضع مُعَدّ للتجارة لقضاء الحاجة فيها بالبيع والشراء (قال) أبو هريرة:(نعم) في الجنة سوق (أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها) أي: دخلوا الجنة .. (نزلوا فيها) أي: في منازل الجنة واستقروا فيها (بفضل) وثواب (أعمالهم) أي: بقدر زيادة طاعاتهم كمية وكيفية (فيؤذن لهم) معطوف على (نزلوا) أي: فيؤذن (في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا)
فَيَزُورُونَ اللهَ عز وجل، وَيُبْرِزُ لَهُمْ عَرْشَهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ في رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُور،
===
أي: يؤذن لهم بعد تمام مقدار سبعة من أيام الدنيا في زيارة الله عز وجل.
(فيزورون الله عز وجل أي: يأتونه في مقدار تمام الأسبوع من أيام الدنيا (ويبرز) أي: يُظْهِرُ الله (لهم عَرْشَه) العظيم من الإبراز؛ وهو الإظهار (ويتبدى) - بتشديد الدال - أي: يَظْهَرُ ويتجلَّى ربُّهم (لهم) بنفسه (في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم) أي: لأهل الجنة في تلك الروضة (منابر) أي: كراسي مرتفعة (من نور، و) توضع لهم (منابر من لؤلؤ): وهو جوهر بحريٌّ بَرَّاق؛ أي: له لمعان، وهو نوع من الحجارة البيض (و) توضع لهم (منابر) أي: كراسي (من ياقوت): وهو جوهر بحري أبيض صاف (ومنابر من زبرجد) - بفتح الزاي والموحدة فراء ساكنة فجيم مفتوحة - وهو جوهر بحري أزرق (و) توضع لهم (منابر) أي: كراسي (من ذهب ومنابر من فضة).
أي: والحاصل: أنه توضع لهم منابر وكراسي مِمَّا ذُكِرَ متفاوتة بحسب مراتبهم عند الله عز وجل، ومقادير أعمالهم وأحوالهم عنده سبحانه (و) يجلسون مُرتَّبِينَ كذلك حتى (يجلس أدناهم) وأقلهم منزلة (و) الحال أنه (ما فيهم) أي: ما في أهل الجنة (دنيءٌ) أي: دُونُ المنزلة وخسيسُ العمل، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل يجلس، والجار والمجرور في قوله:(على كثْبَان المسك والكافورِ) متعلق بـ (يجلس) أي: يجلس أقلهم عملا ومنزلةً (على كثبان) ورمال (المسك والكافور) قال الطيبي: وهذا الكلام يسمى عند البديعيين تتميمًا؛ صونًا للكلام مما يتوهم من قوله: (أدناهم) الدناءةُ؛
مَا يُرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، هَلْ تَتَمَارَوْنَ في رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ "،
===
والمراد به: الأدنى في المرتبة لا الدناءة في العمل (على كثبان المسك) - بضم الكاف وسكون المثلثة - جمع كثيب: وهو التلُّ من الرمل المستطيل؛ من كثَبْتُ الشيء؛ إذا جَمعْتَه.
(والكافور) بالجر معطوف على (المسك).
وقوله: (ما يُرَون) - بصيغة المبني للمجهول - من الإراءة؛ والضمير إلى الجالسين على الكثبان؛ أي: لا يَظُنُّون ولا يتوهمون (أن أصحاب الكراسي) أي: المنابر (بأفضل منهم مجلسًا) حتى يحزنوا بذلك لقولهم على ما يحكى عنهم في التنزيل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (1)، بل إنهم واقفون في مقام الرضا، ومتلذذون بحال التسليم بما جرى به القضاء؛ والمعنى: أنه يجلس الأدنون على كثبان المسك والكافور رضًا بها، والحال أنهم ما يظنون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا ومرتبةً، فيأخذهم الحسد والغِلُّ.
قال سعيد: (قال أبو هريرة: قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله؛ هل نرى ربنا) في ذلك اليوم؟ يعني: يوم القيامة، فـ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤال أبي هريرة:(نعم) تَرَوْنَ ربكم أيها المؤمنون رؤيةً واضحةً، لا شك فيها (هل تتمارون) أي: هل تشكون؛ لأنه من تفاعل؛ من المرية؛ بمعنى: الشك، لا من المراء؛ بمعنى: النزاع؛ أي: هل تشكون (في رؤية الشمس) أي: هل في رؤيتكم الشمس (والقمر) أي: وفي رؤيتكم القمر (ليلة البدر؟ ) أي: ليلة أربعة عشر عند كمال نوره؟ احترز به عن
(1) سورة فاطر: (34).
قُلْنَا: لَا، قَالَ: "كَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ في رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ عز وجل، وَلَا يَبْقَى في ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَحَدٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللهُ عز وجل مُحَاضَرَةً؛ حَتَّى إِنَّهُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْكُمْ: أَلَا تَذْكُرُ يَا فُلَانُ يَوْمَ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ يُذَكِّرُهُ بَعْضَ غَدَرَاتِهِ في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى،
===
الهلال وعن القمر في غير ليلة أربعة عشر؛ لأنه لم يكن حينئذ في نهاية النور.
قال أبو هريرة: (قلنا) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا) نشك في رؤية الشمس والقمر، فـ (قال) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كذلك) أي: كما لا تشكون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر (لا تتمارون) ولا تشكون (في رؤية ربكم عز وجل، ولا يبقى في ذلك المجلس) أي: في مجلس محاضرة الرب (أحد) منكم (إلا حاضره) وخاطبه (الله عز وجل محاضرة) أي: مخاطبةً مشافهةً بلا واسطة ولا ترجمان (حتى إنه) عز وجل (يقول للرجل منكم): أيها المؤمنون (ألا تذكر يا فلان) أي: تتذكر (يوم عملت كذا وكذا) من السيئات؛ (يذكره) أي: يذكر الله أحدكم (بعض غدراته) وخياناته لربه (في الدنيا) بارتكاب المعاصي (فيقول) أحدكم لربه: (يا رب؛ أفلم تغفر لي) تلك الغدرات (فيقول) الرب: (بلى) قد غفرت لك غدراتك وخيانتك.
قوله: "إلا حاضره محاضرة" قال التوربشتي رحمه الله تعالى: الكلمتان - بالحاء المهملة والضاد المعجمة - والمراد بذلك: كَشْفُ الحجاب، والمقاولة مع العبد من غير حجاب ولا ترجمان، وبيَّنه الحديثُ الآخر؛ وهو قوله: (ما منكم من أحد إلا ويكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان
…
) الحديث.
والمعنى: خاطبه الله مخاطبةً، وحاوره محاورةً.
(يا فلان) وفي رواية الترمذي: (يا فلانَ بن فلانٍ) بالفتح والضم في الأول وبنصب (ابن) وصرف (فلان) وهما كنايتان عن اسمه واسم أبيه، وروى أحمد
فَبِسَعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ .. غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ،
===
وأبو داوود عن أبي الدرداء مرفوعًا: ، إنكم تدعون يوم القيامة باسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم".
قوله: "أتذكر يوم عملت كذا وكذا" أي: مما لا يجوز في الشرع، فكأنه يتوقف الرجل فيه، ويتأمل فيما ارتكبه من معاصيه (فيذكره) - بتشديد الكاف - أي: فيعلمه الله (بعض غدراته) - بفتح الغين المعجمة والدال المهملة - جمع غدرة - بالسكون - بمعنى: الغدر؛ وهو ترك الوفاء بالعهد؛ والمراد: معاصيه؛ لأنه لم يَفِ بتركها الذي عبد الله إليه في الدنيا (أفلم تغفر لي؟ ) أي: أدخلتني الجنة فلم تغفر لي ما صدر مني من المعصية (فيقول) الرب جل جلاله: (بلى) أي: غفرت لك.
(فبسعة مغفرتي) بفتح السين ويُكْسَر (بلغت) أي: وصلْتَ (منزلتك هذه) التي أنت فيه الآن، قال الطيبي؛ عطف على مقدر؛ أي: غفرت لك فبلغت بسعة رحمتي هذه المنزلة الرفيعة، والتقديم دل على التخصيص.
أي: بلوغك تلك المنزلة كائن بسعة رحمتي لا بعملك (فبينما) وفي بعض النسخ: (فبينا) بلا ميم (هم) أي: أهل الجنة (على ذلك) وفي بعض النسخ: (كذلك) والكاف بمعنى: على؛ أي: على ما ذكر من المحاضرة والمحاورة (غشيتهم) أي غطتهم (سحابة) كثيفة (من فوقهم) من جهة العرش (فأمطرت) أي: أنزلت (عليهم طيبًا) - بكسر الطاء المهملة وسهون الياء - أي: طيبًا عظيمًا؛ أي: قوي الرائحة (لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط) ولفظة: (قط) كلمة مستغرقة لما مضى من الزمان ملازمة للنفي؛ أي: لم يجدوا قط شيئًا طيبًا مثل ريح ذلك الطيب.
ثُمَّ يَقُولُ: قُومُوا إلى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ، قَالَ: فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فِيهِ مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إلى مِثْلِه، وَلَمْ تَسْمَعِ الآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوب، قَالَ: فَيُحْمَلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا لَيْسَ يُبَاعُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُشْتَرَى، وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ
===
(ثم) بعد ذلك الطيب (يقول) الله لهم: (قوموا إلى ما أعددت) وهيأت وادخرت (لكم من الكرامة) والمنزلة (فخذوا) ها هنا (ما اشتهيتم) وأحببتم منها (قال) النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو هريرة مرفوعًا حقيقةً أو موقوفًا في حكم المرفوع؛ كما في "التحفة"(فنأتي) نحن معاشر أهل الجنة (سوقًا) عظيمًا (قد حفت به الملائكة) - بتشديد الفاء بالبناء للفاعل أو للمفعول - أي: أحاطت به الملائكة، أو أمرت الملائكة بإحاطتها وحراستها (فيه) أي: ذلك السوق (ما لم تنظر) ولم تبصر (العيون) أي: عيون الخلق (إلى مثله) وشبهه (ولم تسمع الأذان) أي: آذان الخلق - بمد الهمزة جمع أذن - أي: وما لم تسمع الآذان بمثله من الأصوات الحسية المطربة (و) ما (لم يخطر) - بضم الطاء - أي: وما لم يخطر مثله (على القلوب) أي: قلوب الخلق.
(قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو هريرة؛ كما مر نظيره: (فيحمل لنا) أي: تحمل لنا الملائكة أو الولدان مما في ذلك السوق (ما اشتهينا) إلى قصورنا وأحبتنا حالة كون ذلك السوق (ليس يباع فيه شيء) مما فيه (ولا يشترى) مما فيه شيء (وفي ذلك السوق يلقى) ويرى (أهل الجنة بعضهم بعضًا) والسوق هو يذكر ويؤنث، فلذلك أنثه تارة، وذكره تارة، والتأنيث أكثر وأشهر (فيقبل) من الإقبال؛ أي: فيأتي (الرجل) من أهل الجنة (ذو المنزلة المرتفعة، فيلقى) أي: يرى ذلك الرجل المرتفع (من هو دونه) في المنزلة
وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ، فَيَرُوعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاس، فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ لَهُ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ، أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلى مَنَازِلِنَا فَتَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا،
===
(و) الحال أنه (ما فيهم) أي: في أهل الجنة (دنيء) أي: خسيس العمل (فيروعه) أي: فيُحْزِنُ ذلك المرتفع (ما يرى عليه) أي: على الأدنى (من اللباس) الدون (فما ينقضي) ويتم (آخر حديثه) أي: حديث ذلك المرتفع مع ذلك الأدنى (حتى يتمثل) ويتصور (له) أي: لذلك المرتفع (عليه) أي: على ذلك الأدنى لباس (أحسن) وأجمل (منه) أي: من لباس المرتفع.
قوله: (فيروعه ما يرى) أي: يبصره (عليه من اللباس) الضمير المجرور يحتمل أن يرجع إلى (من) فيكون الشروع مجازًا عن الكراهة مما هو عليه من اللباس، ويدل عليه قوله:(فما ينقضي آخر حديثه) أي: ما أُلقيَ في روعه من الحديث، وضمير المفعول فيه عائد إلى من (حتى يتخيل عليه) بصيغة البناء للفاعل، وفي نسخة؛ يعني من "المشكاة" بالبناء للمفعول؛ أي: حتى يتصور له (ما هو أحسن منه) أي: يظهر عليه أن لباسه أحسن من لباس صاحبه.
(وذلك) أي: سبب ما ذكر من التخيل والتمثل (أنه) أي: أن الشأن والحال (لا ينبغي لأحد أن يحزن) - بفتح الزاي - أي: أن يغتم (فيها) أي: في الجنة فيحزن هنا لازم؛ من حزن - بالكسر - لا من باب نصر؛ فإنه متعد وهو غير مناسب هنا (قال) النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو هريرة؛ كما مر نظيره أيضًا: (ثم ننصرف) ونرجع من ذلك السوق (إلى منازلنا) وقصورنا (فتتلقانا) من التلقي؛ كما في "الترمذي" وفي نسخة: (فتلقانا) من اللقاء؛ كما في بعض النسخ؛ أي: تستقبلنا أو فتلقانا (أزواجنا) من نساء الدنيا ومن الحور العين
فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا؛ لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجَمَالِ وَالطِّيبِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْه، فَنَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ عز وجل، وَيَحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا".
===
(فيقلن) لنا: أتيتم (مرحبًا) أي: مكانًا واسعًا لا ضيق فيه (و) رجعتم (أهلًا) أي: وجدتم عيالًا لكم، والله (لقد جئت) وأتيت لنا (وإن بك) يا زوجي؛ أي: والحال أن بك يا زوجي (من الجمال) أي: من جمال الجسم (و) من رائحة (الطيب أفضل) وأجمل وأطيب (مما) أي: من الجمال والطيب الذي (فارقتنا) في الدنيا وأنت (عليه) أي: على ذلك الجمال والطيب.
(فنقول) نحن لأزواجنا في جواب ما قلن لنا: وذلكن الذي قلتن لنا من زيادة الجمال والطيب لنا يحق ويثبت لنا (إنا جالسنا) أي: لأنا جالسنا (اليوم) في محاضرة (ربنا الجبار) أي: الذي يجبر عباده على ما يشاء (عز) أي: اتصف بكل الكمالات (وجل) أي: تنزه من كل النقائص (ويحقنا) أي: يثبت لنا ويجب علينا ويليق بنا (أن ننقلب) ونرجع إليكن يا أزواجنا (بمثل) وشبه (ما انقلبنا) به ورجعنا عليه من محاضرة ربنا؛ من الانقلاب بمعنى: الانصراف.
قوله: (ويحقنا) - بكسر الحاء وتشديد القاف - وفي "القاموس": من حق الشيء؛ إذا وجب، ووقع بلا شك، وحقه: أوجبه، لازم ومتعد؛ فالمعنى: يوجبنا ويلزمنا، ويمكن أن يكون من باب الحذف والإيصال؛ أي: يحق لنا ويليق بنا.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا؛ كما مر آنفًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
(127)
- 4280 - (10) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْرَقُ أَبُو مَرْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ،
===
ثم استشهد المؤلف ثامنًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(127)
- 4280 - (10)(حدثنا هشام بن خالد) بن زيد بن مروان (الأزرق أبو مروان الدمشقي) صدوق، من العاشرة، مات سنة تسع وأربعين ومئتين (249 هـ). يروي عنه:(د ق).
(حدثنا خالد بن يزيد) بن عبد الرحمن (بن أبي مالك) وقد ينسب إلى جد أبيه، أبو هاشم الدمشقي، ضعيف مع كونه فقيهًا، وقد اتهمه ابن معين، من الثامنة، مات سنة خمس وثمانين ومئة (185 هـ) وهو ابن ثمانين. يروي عنه:(ق). قال أبو زرعة الدمشقي وأحمد بن صالح المصري: ثقةٌ، وقال ابن حبان: هو من فقهاء الشام، كان صدوقًا في الرواية، ولكنه يخطئ.
قلت: ووثقه أيضًا العجلي، وقال أبو مسهر: ولد سنة خمس ومئة (105 هـ) ومات سنة خمس وثمانين ومئة (185 هـ).
(عن أبيه) يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، اسمه هانئ، وقد ينسب إلى جده، الهمداني - بالسكون - الدمشقي القاضي، صدوق ربما وهم، من الرابعة، مات سنة ثلاثين ومئة (130 هـ)، أو بعدها. يروي عنه:(د س ق).
قال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي، فقال: من فقهاء أهل الشام وهو ثقةٌ، وسئل عنه أبو زرعة، فأثنى عليه خيرًا، وقال الدارقطني والبرقاني: من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات". انتهى "عسقلان".
(عن خالد بن معدان) الكلاعي الحمصي أبي عبد الله، ثقةٌ عابد يرسل كثيرًا، من الثالثة، مات سنة ثلاث ومئة (103 هـ)، وقيل بعد ذلك. يروي عنه:(ع).
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ .. إِلَّا زَوَّجَهُ اللهُ عز وجل ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً؛ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْحُورِ الْعِين، وَسَبْعِينَ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ أَهْلِ النَّار،
===
(عن أبي أمامة) صدي بن عجلان الباهلي الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين (86 هـ). يروي عنه:(ع).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه هشام بن خالد وخالد بن يزيد، وهما مختلف فيهما.
(قال) أبو أمامة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما) منكم (من أحد) أيها المؤمنون (يدخله الله الجنة .. إلا زوّجه الله عز وجل أي: أنكحه (ثنتين وسبعين زوجة) أي: جعلهن زوجات له يعقد نكاحه عليهن، وقيل: قرنهن به من غير عقد تزويج (ثنتين) منهن (من الحور العين) أي: نصيبه منهن (وسبعين من ميراثه من أهل النار).
ويؤخذ من هذا الحديث: أن الله عز وجل أعد لكل واحد من الناس زوجتين في الجنة، فمن حرم ذلك بدخوله النار من أهلها .. وزعت زوجاتهم على أهل الجنة؛ كما توزع المنازل التي أعدت في الجنة لمن دخل النار من أهلها على أهل الجنة؛ كما يوضحه حديث:(ما من أحد إلا وله منزلان؛ منزل في الجنة ومنزل في النار؛ فإذا مات ودخل النار .. ورث أهل الجنة منزله في الجنة)، ومصداق ذلك قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (1).
وظاهره: استواء أهل الجنة في هذا العدد من الزوجات؛ اثنتين منهن بطريق الأصالة، وسبعين بطريق الوراثة من أهل النار.
(1) سورة المؤمنون: (10).
مَا مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ .. إِلَّا وَلَهَا قُبُلٌ شَهِيٌّ، وَلَهُ ذَكَرٌ لَا يَنْثَنِي" قَالَ هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ:"مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"؛ يَعْنِي: رِجَالًا دَخَلُوا النَّارَ فَوَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ نِسَاءَهُمْ؛ كَمَا وُرِثَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
===
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منهن) أي: ما من تلك الزوجات الاثنتين والسبعين (واحدة .. إلا ولها قبل) وفرج (شهي) أي: مُشْتَهٍ للاستمتاع به؛ لعدم المانع فيه (وله) أي: والحال لزوجهن (ذكر لا ينثني) أي: لا يضعف ولا ينعطف ولا يفتر عن الجماع؛ فهو كناية عن وفور قوة الجماع فيه. انتهى "سندي".
(قال هشام بن خالد) شيخ المؤلف بالسند السابق في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (من ميراثه من أهل النار؛ يعني) النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من أهل النار": (رجالًا دخلوا النار، فورث أهل الجنة نساءهم؛ كما ورثت) بالبناء للمفعول (امرأة فرعون) وزوجه: آسية بنت مزاحم لعبد صالح من أهل الجنة.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ولكن له شاهد من حديث أبي هريرة، ذكره محمد بن يحيى بن أبي عمر في "مسنده"، وأخرجه الطبراني أيضًا في "الكبير"، وأبو نعيم في "صفة الجنة"، وابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "البعث".
ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا؛ كما مر آنفًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم استشهد المؤلف تاسعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(128)
- 4281 - (11) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَل، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
===
(128)
- 4281 - (11)(حدثنا محمد بن بشار) بن عثمان بندار العبدي البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا معاذ بن هشام) بن أبي عبد الله سنبر الدستوائي البصري، صدوق ربَّما وهم، من التاسعة مات سنة مئتين (200 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا أبي) هشام بن أبي عبد الله الدستوائي البصري، اسم أبيه: سنبر؛ كما مر آنفًا، ثقة ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ومئة (154 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن عامر) بن عبد الواحد (الأحول) البصري، صدوق، يخطئ، من السادسة؛ وهو عامر الأحول الذي يروي عن عائذ بن عمرو المزني الصحابي، ولم يدركه. يروي عنه:(م عم)، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وقال ابن عدي: لا أرى برواياته بأسًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهو مختلف فيه.
(عن أبي الصديق الناجي) بكر بن عمرو، وقيل: بكر بن قيس، قال ابن معين وأبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحافظ: بصري ثقة، من الثالثة، مات سنة ثمان ومئة (108 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه عامرًا الأحول، وهو مختلف فيه.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ .. كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَشْتَهِي".
(129)
- 4282 - (12) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
===
(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة) أي: فرضًا وتقديرًا، ولكن لا يشتهي، وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهوية: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة) على سبيل الفرض والتقدير، فكلمة (إذا) هنا وضعت موضع (لو) المفيدة للفرض والتقدير. انتهى "سندي".
(كان حمله) أي: كان حمل الولد في بطن الأم (ووضعه) أي: ولادته (في ساعة واحدة) لأن الانتظار أشد من الموت، ولا موت في الجنة ولا حزن؛ أي: كان الولد ووجد له في ساعة واحدة (كما يشتهي) أي: على أي كيفية وكمية شاءها من ذكورة أو أنوثة، زوج أو فرد، توءمة أو غيرها.
وفي رواية الترمذي زيادة: (وسنه) أي: كمال سنه؛ وهو الثلاثون سنة.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء لأدنى أهل الجنة من الكرامة، وقال: هذا حديث حسن غريب.
قلت: ودرجته: الحسن؛ لكون سنده حسنًا؛ لما مر آنفًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم استشهد المؤلف عاشرًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(129)
- 4282 - (12)(حدثنا عثمان) بن محمد (بن أبي شيبة)
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
===
إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، أخو أبي بكر بن أبي شيبة، ولكن أكبر منه بسنتين، ثقة، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين ومئتين (239 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخره يهم من حفظه، مات سنة ثمان وثمانين ومئة (188 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي الكوفي، ثقة، من الخامسة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة (132 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة، من الخامسة، مات سنة ست وتسعين (96 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن عبيدة) - مكبرًا - ابن عمرو السلماني الكوفي، ثقة مخضرم، من الثانية، تابعي كبير فقيه ثبت، كان شريح إذا أشكل عليه شيء .. سألة، مات سنة اثنتين وسبعين (72 هـ)، أو بعدها، والصحيح أنه مات قبل سنة سبعين. يروي عنه:(ع).
(عن عبد الله بن مسعود) الهذلي الكوفي الصحابي المشهور صاحب النعلين رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) ابن مسعود (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها) أي: من النار (و) أعلم أيضًا (آخر أهل الجنة
دُخُولًا الْجَنَّةَ؛ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى،
===
دخولًا الجنة) أتى بالإظهار في موضع الإضمار؛ دفعًا لما يتوهم من عود الضمير على النار لو قال: (دخولًا فيها) وإلا .. فمقتضى المقام أن يقال: (دخولًا فيها).
قال القاري: الظاهر أنَّهما متلازمان، فالجمع بينهما للتوضيح، ولا يبعد أن يكون احترازًا مما عسى أن يتوهم من حبس أحد في الموقف من أهل الجنة حينئذ، هو؛ أي: ذلك الآخر: (رجل يخرج من النار حبوًا) أي: مشيًا على اليدين والركبتين، وقيل: على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على يديه ومقعدته، وفي رواية الترمذي:(زحفًا) قال أهل اللغة؛ ابن دريد وغيره: والزحف هو المشي على الاست مع إشرافه بصدره، فحصل من هذا أن الحبو والزحف متماثلان أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما .. حمل على أنه في حال يزحف، وفي حال يحبو، والله أعلم.
(فيقال) من جهة الله سبحانه وتعالى (له) أي: لذلك الرجل: (اذهب فأدخل الجنة، فيأتيها) أي: فيأتي ذلك الرجل على باب الجنة (فيخيل إليه) أي: فيتصور إلى ذلك الرجل في رأي عينيه (أنها) أي: أن الجنة (ملأى) أي: مملوءة بأهلها (فيرجع) ذلك الرجل إلى موضع مناجاة الرب (فيقول: يا رب؛ وجدتها) أي: وجدت الجنة (ملأى) أي: مملوءة بأهلها، ففي أيِّ محل أَدْخُلُ منها؟
(فيقول الله: اذهب فأدخل الجنة، فيأتيها) أي: فيأتي ذلك الرجل الجنة (فيخيل إليه أنها ملأى) أي: فيتصور إليه أنها مملوءة بأهلها،
فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ إِنَّهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ: اذْهَب فَادْخُلِ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنيَا، فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي أَوْ أَتَضْحَكُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ "،
===
(فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى) ففي أي محل أدخل منها؟ (فيقول الله سبحانه) وتعالى: (اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع) إليه تعالى (فيقول: يا رب؛ إنها ملأى، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة؛ فإن لك) في الجنة (مثل الدنيا) أي: قدر الأرض المعمورة في الدنيا (وعشرة أمثالها) أي: عشرة مقدارها (أو) قال الراوي أو النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا) أي: عشرة مقدارها، والشك من الراوي أو ممن دونه.
قال الأبي: والأظهر أنه يعني بالدنيا: المعمور من الأرض؛ لتقديره في بعض الطرق: يملك ملك الدنيا، وإنما يملك منها المعمور فقط. انتهى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول) الرجل لربه عندما قال له: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها): (أتسخر) وتهزأ (بي) يا رب (وأنت الملك) المالك لكل مخلوق من الجنة والنار وأهلهما؟ !
(أو) قال النبي صلى الله عليه وسلم أو الراوي: (أتضحك بي) يا رب (وأنت الملك) المالك للجنة ونعيمها.
قال النووي: وهذا شك من الراوي؛ هل قال: (أتسخر بي) أو قال: (أتضحك بي) فإن كان الواقع في نفس الأمر (أتضحك بي) .. فمعناه: (أتسخر بي) لأن الساخر يضحك في العادة ممن يسخر به، فوضع الضحك موضع السخرية مجازًا.
قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَكَانَ يُقَالُ:"هَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا".
===
(قال) عبد الله بن مسعود: (فـ) والله (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك) عند ذلك (حتى بدت) وظهرت عند ضحكه (نواجذه) أي: أنيابه؛ والنواجذ - بالجيم والذال - قال الجمهور من أهل اللغة وغيرهم: المراد به هنا: الأنياب، وقال المازري: هي الضواحك؛ أي: الثَّنايا؛ لأن ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم.
وقال الأصمعي: هي الأضراس، وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة، ولكن الصواب ما قدمناه عن الجمهور.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (فكان) الشأن (يقال) عند الناس: (هذا) الرجل الذي يعطى مثل الدنيا وعشرة أمثالها: هو (أدنى) وأقل (أهل الجنة منزلًا) أي: درجة؛ وإنما قالوا ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وهو الصادق المصدوق.
وأما معنى: (أتسخر بي) هنا .. ففيه أقوال ثلاثة:
أحدها: ما قاله المازري: أنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث دون لفظه؛ لأنه عاهد الله مرارًا ألا يسأله غير ما سأل، ثم غدر فحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدَّر الرجلُ أن قولَ الله تعالى:(ادخل الجنة) وتردده إليها وتخييلَ كونها مملوءة .. ضربٌ من الإطماع له والسخرية به؛ جزاء لما تقدم من غدره وعقوبة له، فسمى الجزاء على السخرية: سخرية، فقال: أتسخر بي؛ أي: أتعاقبني بالإِطماع.
والقول الثاني: ما قاله أبو بكر الصَّيْرفيُّ: أن معناه: نفي السخرية التي لا تجوز على الله تعالى؛ كأنه قال: أعلم أنك لا تهزأ بي؛ لأنك رب العالمين،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وما أعطيتني من جزيل العطاء وأضعاف مثل الدنيا حق، ولكن العجب: أنك أعطيتني هذا وأنا غير أهل له، والهمزة في (أتسخر) للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، قال: وهذا كلام منبسطٍ متدلل.
والقول الثالث: ما قاله القاضي عياض: من أنه يكون هذا الكلام صدر من هذا الرجل وهو غير ضابط لما قاله؛ لما ناله من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشًا وفرحًا، فقال: وهو لا يعتقد حقيقةَ معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الآخر: إنه لم يضبط نفسه من الفرح، فقال: أنت عبدي وأنا ربك، والله أعلم.
وأعلم: أنه وقع في الروايات: (أتسخر بي) وهو صحيحٌ، يقال: سخرت منه وسخرت به، والأولى هو الأفصح الأشهر، وبه جاء القرآن، والثاني فصيح أيضًا، وقد قال العلماء: إنه إنما جاء بالباء؛ لإرادة معناه؛ كأنه قال: أتهزأ بي.
وفي هذا الحديث جواز الضحك، وأنَّه ليس بمكروه في بعض المواطن ولا بمسقط للمروءة، إذا لم يجاوز به الحد المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال، والله أعلم.
قوله: (ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: إنما ضحك له رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجابًا وسرورًا بما رأى من كمال رحمته تعالى ولطفه على عبده المذنب وكمال الرضا عنه. انتهى "س".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار وفي غيره، ومسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا منها، والترمذي في كتاب صفة جهنم.
(130)
- 4283 - (13) حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
===
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم استشهد المؤلف حادي عشره لحديث أبي هريرة الأول بحديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(130)
- 4283 - (13)(حدثنا هناد بن السري) - بكسر الراء الخفيفة - ابن مصعب التميمي أبو السري الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثلاث وأربعين ومئتين (243 هـ). يروي عنه:(م عم).
(حدثنا أبو الأحوص) سلام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي، ثقة متقن صاحب حديث، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ومئة (179 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني، ثقة، من الثالثة، مات سنة تسع وعشرين ومئة، وقيل قبل ذلك. يروي عنه:(ع).
(عن زيد بن أبي مريم) هذا تحريف من النساخ في أكثر متن هذا السنن، والصَّواب:(عن بريد) مصغرًا (ابن أبي مريم) مالك بن ربيعة السلولي البصري. روى عن: أبيه وله صحبة، وعن أنس بن مالك، ويروي عنه: أبو إسحاق السبيعي، ثقة، من الرابعة، مات سنة أربع وأربعين ومئة (144 هـ). يروي عنه:(عم).
(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ؛ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ؛ أَجِرْه مِنَ النَّارِ".
===
(قال) أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل الجنة ثلاث مرات .. قالت الجنةُ: اللهم؛ أدخله الجنة، ومن استجار) أي: استعاذ (من النار ثلاث مرات .. قالت النار: اللهم؛ أجره) أي: أَمِّنْهُ (من النار).
قوله: (من سأل الجنة) بأن قال: اللهم؛ إني أسألك الجنة، أو قال: اللهم؛ أدخلني الجنة (ثلاث مرات) أي: كرره في مجالسَ أو في مجلسٍ بطريق الإلحاح على ما ثبت أنه من آداب الدعاء (قالت الجنةُ) بلسانِ الحال أو بلسان المقال؛ لقدرته تعالى على إنطاق الجمادات، وهو الظاهر، وفيه الحث على كثرة سؤال الجنة والتعوذ من النار.
(اللهم؛ أدخله الجنة) أي: دخولًا أوليًا أو لحوقًا آخريًا.
(ومن استجار) أي: استحفظ (من النار) بأن قال: اللهم؛ أجرني من النار .. (قالت النار: اللهم؛ أجره) أي: احفظه (من النار) أي: من دخوله أو خلوده فيها.
قال الطيبي: وفي وضع الجنة والنار موضع ضمير المتكلم تجديد ونوع من الالتفات.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، والنسائي في كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من حر النار، وفي "عمل اليوم والليلة"(ص 52)، باب من استجار بالله ثلاث مرات من النار وسأل الجنة ثلاث مرات، والحاكم في "المستدرك" في كتاب
(131)
- 4284 - (14) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
===
الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ودرجة هذا الحديث: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
ثم استشهد المؤلف ثاني عَشَرِهِ لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له أيضًا رضي الله تعالى عنه، فقال:
(131)
- 4284 - (14)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي، ثقة متقن له تصانيف، من العاشرة، مات سنة خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه:(خ م د س ق).
(وأحمد بن سنان) بن أسد بن حبان - بكسر المهملة بعدها موحدة - أبو جعفر القطان الواسطي، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة تسع وخمسين ومئتين (259 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(خ م د س ق).
(قالا: حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضَّرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان (الأعمش) الكاهلي الكوفي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي صالح) ذكوان السمان، ثقة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ؛ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ؛ فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ .. وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ".
===
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم) أيها الناس (من أحد .. إلا له منزلان؛ منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات) أحدكم أيها الناس (فدخل النار) بكفره أو نفاقه، لا بالمعاصي، ولو كانت كبائر؛ لأنه لا يخلد في النار، فلا يورث منزله .. (ورث أهل الجنة منزله) الذي كان له على طريق الأصالة (فـ) شاهد (ذلك) أي: شاهد إرث أهل الجنة منزله؛ أي: مصداقه وشاهده (قوله تعالى: {أُولَئِكَ}) الفاعلون المتصفون بالأعمال المذكورة قبل هذه الآية: ({هُمُ الْوَارِثُونَ})(1) لمنازل أهل النار التي كانت لهم في الجنة بطريق الوراثة عنهم.
ختم المؤلف كتابه بهذه الكلمة؛ تفاؤلًا بإرثه وفوزه من ذلك الميراث الذي كان لأهل الجنة.
قال ابن جرير: معنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ؛ أي: من عمل بما ذكر في هذه الآيات .. فهم الوارثون؛ أي: يرثون منازل أهل النار من الجنة.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
(1) سورة المؤمنون: (10).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: خمسة عشر حديثًا:
الأول للاستدلال، والخامس للاستئناس، والسابع للمتابعة، واثنا عشر للاستشهاد.
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا المجلد:
من الأبواب: سبعة عشر بابًا.
ومن الأحاديث: مئة وثلاثة وثلاثون حديثًا، منها: اثنا عشر للاستئناس، وسبعة عشر للاستدلال، واثنان للمتابعة، والباقي للاستشهاد.
والله ولي التوفيق
وهذا آخر ما أكرمني الله به من هذا المجلد بإتمامه بعد أن عاقني العوائق وصرفني عنه المعائق، وبتمامه تَمَّ هذا الشرحُ المبارك في أواخر ليلة الأربعاء المباركة (16) من شهر شعبان المبارك، من سنة:(1436) من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصَّلاة والصِّلات والتحية، وعلى آله وصحبه وجميع الأمة المحمدية، الموافق لـ (3) حزيران يونيو (2015 م).
فالحمد لله على توفيقه في الابتداء، والثناء له على تيسيره إلى الانتهاء، والشكر له على ما أكرمنا به في هذا السنن المبارك من الخدمات، بقدر فَهْمِنا والطاقات، والصلاة والسلام على من هو منبع الحِكَم والعلومات، سيدنا محمد وعلى آله وجميع الصحابات، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم المحاسبات، ما تعاقبت الليالي والأيام والعصورات.
* * *
وقد مكثتُ في تسويد هذا الشرح: زهاء عشر سنوات، بعدما رجعت إليه من بعدما طبع الجزء الأول منه وانتشر، في تاريخ:(4) رمضان (1421 هـ) مع ما لازمني من الشواغل والعوائق.
ولقد أجاد من قال:
وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يحاوله
…
واستعمل الصبر إلا فاز بالظفرِ
* * *
ثم الحمد لله على ما حبانا، والشكر له على ما أولانا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويردَّ عنه جدل منكره وجاحده، ويطمس عنه عين حاسده وكائده، ممن هدفه كشف العورات، وستر الحسنات، وإظهار السيئات، وإفشاء الوصمات، مع أن به أسوأ العورات، وأقبح البسمات.
وقد مُلِئَ بأمثاله هذا الزمان، والعياذ بالله الرحيم الرحمن، من شرور هذا الفتَّان.
والمرجو ممن نظر إليه بعين القبول والرغبة لديه: أن يصلح خطأه وسقْطَته، ويُزيلَ زلَلَه وهفَوْتَه، بعد التأمُّل والإمعان، لا بمجرد النظر والعيان؛ لأن الإنسان مركز الجهلِ والنسيان، لا سيما حليف البَلَاهة والتَّوان، وأسيرُ الشهوات والنَّومان؛ ليكون ممن يدفع السيئة بالحسنة، لا مما يجازي الحسنة بالسيئة.
علمني الله وإياكم علوم السالفين، وجنَّبني وإياكم زُيوف الخالفين، وأدَّبَني وإياكم بآداب الأخيار، وزيَّنني وإياكم بحُلُيِّ الأبرار، وطهرني وإياكم من دَنَس الفُجَّار، وأذَاقني وإياكم كُؤوسَ المعارف والأسرار، وجعلني وإياكم ممن أعرض عن دار الفناء، وجعلَ هدفه دار البقاء.
ورزقني وإياكم منه صلى الله عليه وسلم شفاعة يوم الحسرة؛ جبرًا لما فاتني وإياكم من بيعة يوم الشجرة، مع مَشْرَبِ العارفين، ومنسك العابدين، ولذَّة الواصفين، وخمرة العاشقين، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، عليه صلوات الله وسلامه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وجميع الأولياء والمقربين، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين
وما ألْطفَ قول من قال في نداء ربه:
يا رب يا رب يا مَنْ لا شريكَ له
…
يا سامع الصوت يا من جَلَّ عن صممِ
يا رب يا رب يا ذا الجود يا أَمَلي
…
يا ذا الجلال ويا ذا اللُّطْفِ في الأممِ
وما أحسن قولَ القائل:
وما مِن كاتبٍ إلا سيَفنَى
…
ويُبقِي الدَّهْرُ ما كتَبَتْ يدَاهُ
فلا تكتبْ بكفك غير شيءٍ
…
يسرُّك في القيامة أن تراهُ
آخر:
حمدًا لربنا على جمعه
…
ثم غفرانه لمؤلفه
ولناشره ولطابعه
…
ولقارئه ولسامعه
ولوالِدِيهِ وكلِّ من
…
أسدى له الإسعاف في تعلُّمه
ثم صلاة الله على حبه
…
محمد وآله وحزبه
وقال بعض العارفين:
لا تَخضَعَن لمخلوق على طمعٍ
…
فإن ذلك نقصٌ منك في الدينِ
لن يملك العبدُ أن يعطيك خَرْدَلةً
…
إلا بإذن الذي سَوَّاكَ مِن طِينِ
فلا تصاحب غَنِيًّا تَسْتَعِينُ به
…
وكُنْ عفيفًا وعظِّمْ حرمةَ الدينِ
واسْترزق الله مِمَّا في خزائنِه
…
فإن رِزْقَك بيْنَ الكافِ والنونِ
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
سافرْ تجدْ عوضًا عمن تفارقه
…
وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصبِ
إني وجدت وقوف الماء يفسده
…
إن سال طاب وإن لم يجر لم يَطِبِ
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست
…
والسهم لولا فراق القوس لم يُصِبِ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام؛ صلِّ وسلم أفضل الصلوات وأزكى السلام، على سيدنا ومولانا محمد من أرسلته رحمةً للأنام، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته السادات الكرام، صلاة تحل بها العقد، وتفكُّ بها الكرب، صلاة أرقى بها مراقي الإخلاص، وأنال بها غاية الاختصاص، صلاة دائمة بدوامك، باقية ببقائك، عدد ما أحاط به علمك، وجرى به قلمك.
هذه الصلاة من الكبريت الأحمر، علَّمَنِي بها، وأجازني فيها بعضُ العارفين في منامي في المَحْبَس، فعليك بها في حال الشدة والكروب.
* * *