الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى يوم القيامة، وبقاء النفس يحتاج إلى المعاوضة كما تقدم.
وأما حُكْمُه: فالمِلْك، وهو عبارة عن القدرة على التصرفات في المحلِّ شرعًا.
وأما شروطُه: فأنواع؛ منها في العاقد، وهو أن يكون عاقلا أو (أ) مُميِّزا. ومنها في الآلة، وهو أن يكون بلفظ الماضي. ومنها في المحل، وهو أن يكون مالًا متقومًا، وأن يكون مقدور التسليم. ومنها التراضي. ومنها شرط النفاذ، وهو المِلْك والولاية (1).
وأما ركنُه: فهو الإيجاب والقبول.
وأما أنواعُه: فثمانية؛ بيع العين بالنقود، كالثوب بالدراهم، وبيع المقايضة (ب)؛ وهو بيع العين بالعين، كالثوب بالعبد والدار بالثوب، وبيع النقد، بالنقد حاضرين أو أحدهما، أو في الذمة وهو الصرف، وبيع الدين بالعين وهو السلم، وبيع المساومة وهو الذي لا يلتفت فيه إلى الثمن السابق، وبيع المرابحة، وبيع التولية، وبيع المواضعة وهو ضد المرابحة؛ حيث يضع من رأس المال شيئًا (2).
باب شروطه وما نهي عنه منه
الشروط جمع شرط، والشرط في اللغة العلامة، وفي اصطلاح الفقهاء
(أ) ساقطة من: ب.
(ب) في جـ: المعاوضة.
_________
(1)
كشاف القناع 3/ 146، 173.
(2)
واليوم جدت أنواع من البيوع لا تدخل في هذا الحمر كالهاتف والحاسب وغيرها.
هو ما يلزم من عدمه عدم حكم أو سبب، سواء كان معلقا بكلمة شرط أو لا (1). وفي اصطلاح علماء العربية يطلق على تعليق جملة بأخرى، وعلى أداة التعليق، وعلى المعلق عليه بتقدير حصوله، والمراد هنا هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم.
والمذكور في هذا الكتاب من شروطه [هو](أ) ما أشير إليه في حديث جابر (2) من الشرط اللازم، وفي حديث بريرة (3) من الشرط المنهي عنه الذي ليس في كتاب الله، وغيره مما أشير إليه في أثناء الأحاديث، واستيفاء شروط البيع مستوفاة في كتب الفروع.
واختلف في ذلك عبارة الكتب، فمنهم من جعل الإيجاب والقبول شرطًا، كالإمام المهدي في "الأزهار"(4)، وكصاحب "المنهاج"(5)، ومنهم من جعل ذلك ركنًا كالغزالي (6).
وقوله: وما نهي عنه منه. يحتمل أن يريد بذلك ما نهي عنه من البيوع، وقد ذكر جملة من المنهيات في الكتاب، ويحتمل أن يريد ما نهي عنه من
(أ) في النسخ: هي. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
ينظر مغني المحتاج 1/ 184، وحاشية رد المحتار 1/ 94، والشرح الصغير 1/ 198، والمبدع في شرح المقنع 1/ 116.
(2)
سيأتي ح 621.
(3)
سيأتي ح 626.
(4)
ينظر السيل الجرار 3/ 7.
(5)
منهاج الطالبين 1/ 44.
(6)
الوسيط 3/ 8.
الشروط، وقد عرفت ذلك.
وأفرد الضمير المذكور في الوجهين في قوله: عنه. اعتبارًا بلفظ "ما"، وفي قوله: منه. الضمير عائد إلى مفرد البيوع، أو إلى مفرد الشروط المتقدم معنًى.
617 -
عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور". رواه البزار وصححه الحاكم (1).
هو (أ) أبو معاذ رفاعة بن رافع الزرقي الأنصاري (2)، شهد بدرًا، وشهد أبوه العَقَبتَيْن الأولى والثانية، وكان من الستة، وهو أحد النقباء الاثني عشر، وأحد السبعين، وهو ومعاذ بن عفراء (3) أول أنصاريين أسلما من الخزرج، وكان أول من قدم المدينة بسورة "يوسف". قيل: إنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة. واستشهد يوم أحد، ولم يحفظ عنه رواية سوى ما ثبت في "صحيح البخاري" (4) أنه كان يقول لابنه رفاعة: ما يسرني أني شهدت بدرًا بالعقبة. وظاهر هذا أنه لم يشهد بدرًا. وأما رفاعة فشهد المشاهد كلها،
(أ) في جـ: رفاعة هو.
_________
(1)
كشف الأستار، كتاب البيوع، باب أي الكسب أطيب 2/ 83 ح 1257، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 10.
(2)
ينظر الاستيعاب 2/ 497، وأسد الغابة 2/ 225، والاصابة 2/ 489.
(3)
ينظر الاستيعاب 3/ 1408، وأسد الغابة 5/ 198، والإصابة 6/ 140.
(4)
البخاري 7/ 312 ح 3993.
وشهد مع علي الجملَ وصفِّين.
روى عن رفاعة ابناه عبيد ومعاذ، وابن [أخيه](أ) يحيى بن خلَّاد (1)، وله في "صحيح البخاري" ثلاثة أحاديث، وخرج عنه أهل "السنن" سوى ابن ماجه، توفي أول زمن معاوية.
وهذا الحديث رواه المصنف في "التلخيص"(2) عن رافع بن خديج، وكذا صاحب "مشكاة المصابيح"(3) أخرجه عن أحمد (4)، عن رافع بن خديج، وكذا السيوطي في "الجامع الكبير"(5) ذكره في مسند رافع بن خديج. والله أعلم أيها أصح. ويحتمل أن المراد برفاعة هذا هو رفاعة بن رافع بن خديج، ولكنه سقط من لفظ المصنف: عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال في "التلخيص": الحاكم من حديث المسعودي، عن وائل بن (ب) داود، عن عباية (جـ) بن رافع بن خديج، عن أبيه، قال؛ قيل: يا رسول الله، أي المكاسب أطيب؟ فذكره.
ورواه الطبراني من هذا الوجه، إلا أنه قال: عن جده. وهو صواب؛
(أ) في الأصل، ب: أخته.
(ب) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من التلخيص والمستدرك، وينظر تهذيب الكمال 30/ 420.
(جـ) في حاشية ب: عباية بفتح وتخفيف الباء الموحدة والمثناة التحتية.
_________
(1)
ينظر الاستيعاب 4/ 1569، وأسد الغابة 5/ 471، والإصابة 6/ 693.
(2)
التلخيص الحبير 3/ 3.
(3)
مشكاة المصباح ح 2783.
(4)
أحمد 4/ 141.
(5)
الجامع الكبير ص 582.
فإنه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج.
وقول الحاكم: عن أبيه. فيه تجوُّز، وقد اختُلف فيه على وائل بن داود، فقال شريك: عنه، عن جُميع بن عمير، عن خاله أبي بُردة. وقال الثوري: عنه، عن سعيد بن عمير، عن عمه. رواهما الحاكم أيضًا. وأخرج البزار الأولَ، لكن قال: عن عمه. قال: وقد ذكر (أابن معين أ) أن عم سعيد بن عمير البراءُ بن عازب. قال (ب): وإذا اختلف الثوري وشريك فالحكم للثوري.
قال المصنف رحمه الله (1): وقوله: جُميع بن عمير. وهم، وإنما هو سعيد، والمحفوظ رواية من رواه عن الثوري عن وائل عن سعيد مرسلًا. قاله البيهقي، وقاله قبله البخاري. وقال ابن أبي حاتم في "العلل": المرسل أشبهُ، وفيه على المسعودي اختلاف آخر. أخرجه البزار من طريق إسماعيل بن [عمر](جـ) عنه عن وائل، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، والظاهر أنه من تخليط المسعودي (2)، [فإن](د) إسماعيل أخذ عنه بعد الاختلاط.
(أ- أ) في جـ: أبو سفيان.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في النسخ: عمرو. وكذا وقع في التلخيص. وذكره في التقريب على الصواب. وينظر تهذيب الكمال 3/ 154.
(د) في النسخ: قال. والمثبت من التلخيص.
_________
(1)
التلخيص الحبير 3/ 3.
(2)
تقدمت ترجمته في 3/ 18.
والحديث فيه دلالة على الحث على كسب الحلال، وأن أطيب الحلال ما عمله المرء بيده وكدح فيه.
وفي قوله: "كل بيع مبرور". دلالة على فضيلة التجارة، وأنها مساوية لما كسبه بيده وعمله.
والمبرور يحتمل أنه ما خلص عن اليمين الفاجرة التي تُنَفَّق بها السلعة، وعن الغش في المعاملة. وفي بعض الشروح (1) أنه المقبول في الشرع، بألا يكون فاسدا. وهذا بناءً على أنه لا يجوز الدخول في العقد الفاسد. والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، فقال الماوردي (2): أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة. والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة. قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل. وتعقبه النووي بما أخرجه البخاري (3) من حديث المقدام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أكل أحد طعاما قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد. قال: فإن كان زرَّاعًا فهو أطيب المكاسب؛ لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى (4): وفوق ذلك ما يكتسب من أموال
(1) ينظر فيض القدير 2/ 47.
(2)
ينظر روضة الطالبين 3/ 281، والفتح 4/ 304.
(3)
البخاري 4/ 303 ح 2072.
(4)
الفتح 4/ 304.
الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف المكاسب؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله وحده. انتهى. وهو داخل في كسب اليد.
618 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكة:"إن الله ورسوله حرم بيع الحمر والميتة والحنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال:"لا، هو حرام". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود؛ إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جَمَلوه ثم باعوه، فأكلوا ثمنه". متفق عليه (1).
قوله: "إن الله ورسوله حرَّم". وقع هكذا في "الصحيحين" بإفراد ضمير "حرَّم"، وكان الأصل "حَرَّما". قال القرطبي (2): إنه صلى الله عليه وسلم تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين. ولكنه جاء في بعض طرقه، في "الصحيح":"إن الله حرم". ليس فيه ذكر رسوله. وفي رواية لابن مردويه (3) من وجه آخر عن الليث: "إن الله ورسوله حرما". وقد وقع مثل هذا في حديث أنس في النهي عن أكل الحمر الأهلية: "إن الله ورسوله ينهيانكم"(4). ووقع في رواية النسائي (5) في هذا الحديث: "ينهاكم". وقد
(1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام 3/ 110 ح 2236، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام 3/ 1207 ح 1581/ 71.
(2)
الفتح 4/ 425.
(3)
ابن مردويه -كما في الفتح 4/ 425.
(4)
البخاري 7/ 124 ح 5528.
(5)
النسائي 7/ 232.
يجاب عنه بأن الجمع بين الضميرين إنما نُهي عنه غيرُ النبي صلى الله عليه وسلم، لما فيه من شائبة عدم رعاية التعطم، وأما في حقه صلى الله عليه وسلم فهو في أعلى مراتب المعرفة لجلال الله تعالى وتعظيمه، فلا يتوهم (أ) السامع مثل ذلك في حقه.
ووقع الإفراد في هذا الحديث لما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم ناشئا عن أمر الله تعالى، أو أنه حذف الخبر الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: إن الله حرم، وإن رسوله حرم. كقوله (1):
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ
…
ـدك راضٍ والرأي مُخْتَلِف
وفي الحديث دلالة على تحريم بيع ما ذكر، وهو مجمع على تحريم بيع الثلاثة. والعلة في التحريم هو (ب) النجاسة، فيتعدى الحكم إلى كل نجاسة، وكذا المتنجس المائع، إلا أن أبا حنيفة قال (2): يجوز للمسلم أن يوكل الذمي ببيع الخمر. وقال هو والناصر: إنه يجوز بيع الأزبال، سواء كانت مما يؤكل لحمه أم لا. وذهب بعض المالكية إلى جواز ذلك للمشتري دون البائع؛ لاحتياج المشتري دونه.
ويدخل في الميتة جثة الكافر إذا قتله المسلمون، كما بذل المشركون يوم
(أ) في جـ: يتهم.
(ب) كتب فوقه في الأصل: صح.
_________
(1)
نسب البيت في جمهرة أشعار العرب 2/ 675، والخزانة 4/ 275 إلى عمرو بن امرئ القيس، ونسب في كتاب سيبويه 1/ 75 إلى قيس بن الخطيم، وورد في ديوانه ص 173 ضمن الأشعار التي نسبت له.
(2)
ينظر المبسوط 15/ 71، 21/ 89.
الخندق عشرة آلاف درهم للنبي صلى الله عليه وسلم في جثة نوفل بن عبد الله، فلم يأخذها، ودفعه إليهم بغير عوض (1).
قال القاضي (2): تضمن هذا الحديث أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه، كما في الشحوم المذكورة في الحديث.
ورخص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير. حكاه ابن المنذر (3) عن الأوزاعي وبعض المالكية وأبي يوسف. فعلى هذا فيجوز بيعه.
واستثنى بعض العلماء من الميتة ما لا تَحُلُّه الحياة، كالشعر والصوف والوبر، فإنه طاهر (أ)، فيجوز بيعه. وهو قول أكثر المالكية والحنفية والهدوية إلا أن الهدوية قالوا (4): من غير نجس الذات، وهو الكلب والخنزير والكافر، فأما هذه فهو نجس.
واستثنى بعضهم مع هذه العظم والسن والقرن والظلف (5). وقال
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
ينظر سيرة ابن هشام 2/ 253.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 8.
(3)
ينظر الفتح 4/ 426.
(4)
ينظر السيل الجرار 1/ 31.
(5)
الظلف للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل، والخف لبعبر. النهاية 3/ 159.
بنجاسة الشعور، الحسن والليث والأوزاعي، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، فكأنها متنجسة عندهم بما (أ) يتعلق بها من رطوبات الميتة، لا نجسة العين، [نحو] (ب) قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنه يطهر إذا سُلِقَ بالماء.
والمشهور عن مالك أن الخنزير طاهر (1). فعلى هذا ليس العلة في منع البيع هو النجاسة، بل هو أنه ليس لهذه المذكورات منفعة مباحة مقصودة، أو المبالغة في التنفير عنها. وقد روي قول شاذ أنه يجوز بيع الخمر ويجوز بيع العنقود المستحيلِ باطنُه خمرًا (2).
والعلة في تحريم بيع الأصنام كونها ليس لها منفعة مباحة، وإن كانت بحيث إن كسرت ينتفع برضاضها، ففي صحة بيعها خلاف مشهور للشافعية (3)؛ منهم من منعه لظاهر النهي وإطلاقه، ومنهم من جوزه اعتمادًا على الانتفاع برضاضه، وتأول الحديث على ما لا ينتفع برضاضه، أو على كراهة التنزيه في الأصنام، وهو قوي حيث بيع بعد تكسيره.
وقوله: فقيل: يا رسول الله. قال المصنف رحمه الله (4): لم أقف على تسمية القائل. وفي رواية للبخاري: فقال رجل.
(أ) في جـ: لما.
(ب) في الأصل، جـ: ونحو، وفي الفتح: ونحوه.
_________
(1)
لم نجد رواية عن مالك بهذا، والمذكور هو مشهور مذهبه. ينظر حلية العلماء 1/ 243، والمجموع 2/ 568، والكافي 1/ 161.
(2)
ينظر الفتح 4/ 415.
(3)
ينظر صحيح مسلم 11/ 7، 8.
(4)
الفتح 4/ 425.
وقوله: أرأيت شحوم الميتة. إلخ، معناه: فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع؟ فإنها مقتضية لصحة البيع.
وقوله: "هو حرام". أي البيع. كذا فسره بعض العلماء، كالشافعي ومن تبعه. ومنهم من حمل قوله:"هو حرام". على الانتفاع، أي يحرم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة بشيء إلا ما خُصَّ به بدليل، كالجلد المدبوغ عند من قال به. وذهب الشافعي وأصحابه (1) إلى أنه يجوز الانتفاع بشحوم الميتة في طلاء السفن وفي الاستصباح بها وغير ذلك مما ليس بأكل ولا في بدن الآدمي. وبهذا قال عطاء بن أبي رباح ومحمد بن جرير.
واستدل الخطابي (2) على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها الكلاب (3)، فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة، ولا فرق.
وقال الإمام يحيى: يجوز إطعام الكلاب وتمكينها من الميتة. وقواه الإمام المهدي. وأجازت الهدوية الانتفاع بالنجاسة في الاستهلاكات، ومثلوها بتسجير التنور ونحوه.
وقال الإمام شرف الدين: من ذلك الاستصباح بالدهن المتنجس، وهذا مبني على القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى البيع دون الانتفاع. ويتأيد
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 6.
(2)
الفتح 4/ 425.
(3)
يعني كلاب الصيد.
هذا الوجه بما أخرجه أحمد (1) بلفظ: "إن الله حرم بيع الخنازير، وبيع الميتة، وبيع الخمر، وبيع الأصنام". قال رجل: يا رسول الله، فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن والجلود، ويستصبح بها. فظهر بهذا أن السؤال وقع عن بيعها.
وقوله: "لما حرم عليهم شحومها". أي أكل شحومها. والقرينة على تقدير المضاف هو أنه لو حرم عليهم العين لم يكن لهم حيلة فيما صنعوا من إذابتها.
وقوله: "جملوه". بفتح الجيم والميم، أي أذابوه، يقال: جمله إذا أذابه. والجميل: الشحم المذاب. وفي رواية مسلم (2): "أجملوها". وهو بمعنى جملوها.
وقوله: "ثم باعوه وأكلوا ثمنه". فيه دلالة على أن ما حرم بيعه حرم ثمنه.
وفي هذا الجواب تنبيه على اعتبار القياس؛ فإنه قاس تحريم (أالتحيل في بيع أ) هذه المحرمات بتحيل اليهود في بيع الشحوم المحرمة عليهم، وأن الحيلة التي يتوصل بها إلى تحليل محرم لا تجدي ولا تدفع عن مبتغيها الإثم.
وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة؛ فهل
(أ- أ) في جـ: بيع التحيل في.
_________
(1)
أحمد 3/ 326.
(2)
مسلم 3/ 1207 ح 1581/ 71.
يجوز الاستصباح ونحوه من الاستعمال (أ) غير الأكل، أو في غير البدن، أو يجعل من الزيت صابونا، أو يطعم العسل المتنجس النحل، أو يطعم الميتة كلابه، أو يطعم الطعام النجس دوابه؟ فيه خلاف بين السلف. الصحيح من مذهب الشافعي جواز جميع ذلك (1)، ونقله القاضي عياض (2) عن مالك وكثير من أصحابه، والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث. قال: وروي مثلُه عن علي وابن عمر وأبي موسى والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بَيَّنَه. وقالت الهدوية: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك إلا في الاستهلاكات. وقال به عبد الملك بن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح. والله أعلم.
619 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان [و] (ب) ليس بينهما بينة، فالقول ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان". رواه الخمسةُ وصححه الحاكم (3).
(أ) في ب: استعمال.
(ب) الواو ساقطة من النسخ، وأثبتناها من بلوغ المرام ص 167 ح 3 ومن مصادر التخريج.
_________
(1)
ينظر المجموع 4/ 335.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 7.
(3)
أبو داود، كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم 3/ 283 ح 3511، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان 3/ 570 ح 1270، والنسائي، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن 7/ 303، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان 2/ 737 ح 2186، وأحمد 1/ 466، والحاكم، كتاب البيوع، 2/ 48.
الحديث رُوي بألفاظ مختلفة، فرواه بهذا اللفظ إلا قولَه:"أو يتتاركان". فإنه بلفظ: "أو [يترادان] (أ) ". أحمد وأبو داود والنسائي (1)، وزاد فيه ابن ماجه:"والمبيع قائم بعينه". وكذلك لأحمد (2) في رواية: "والسلعة كما هي".
وللدارقطني (3) عن أبي وائل عن عبد الله، قال:"إذا اختلَف البيعان والمبيع مستهلَك، فالقول قول البائع". ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو وائل هذا هو عبد الله بن بَحِير (4) الصنعاني، بالباء الموحدة والحاء المهملة وبعدها ياء وراء، القاصُّ، شيخ لعبد الرزاق، وثقه ابن معين (5)، وقال ابن حبان (6): يروي العجائب التي كأنها معمولة، لا يحتج به، وما هو بعبد الله بن بَحِير بن رَيْسان (7). ولكنه مع هذا الاختلاف لا يقبل ما تفرد به بقوله:"والمبيع مستهلَك". وهي معارضة لقوله: "أو [يترادان] (ب) ".
(أ) في ب: يتردان.
(ب) في النسخ: يتردان. والمثبت مما تقدم.
_________
(1)
لم ترد لفظة: "يترادان" عند أبي داود والنسائي.
(2)
أحمد 1/ 466.
(3)
الدارقطني 3/ 21.
(4)
ضبط في الأصل: بُحَير. بضم الباء وفتح الحاء المهملة. وينظر المشتبه للذهبي ص 47.
(5)
تاريخ ابن معين برواية الدوري 4/ 158 ح 3690.
(6)
المجروحين 2/ 24، 25.
(7)
عبد الله بن بحير الصنعاني أبو وائل هو نفسه ابن ريسان. قال ابن حجر: قال الذهبي في التذهيب -وقرأته بخطه- لم يفرق بينهما أحد قبل ابن حبان، وهما واحد. تهذيب التهذيب 5/ 154.
ولأحمد عن الشافعي، والنسائي (1)، عن أبي عبيدة وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال هذا: أخذتُ بكذا وكذا. وقال هذا: بعتُ بكذا وكذا. فقال أبو عبيدة: أُتي عبد الله في مثل هذا، فقال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا فأمر بالبائع أن يُستحلف، ثم يخيَّرُ المبتاعُ؛ إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
وفيه انقطاع؛ لاختلافهم في سماع أبي عبيدة من أبيه عبد الله بن مسعود. وفيه أيضًا اختلاف على إسماعيل بن أمية في عبد الملك بن عمير، فقال يحيى بنُ (أ) سليم: عبد الملك بن عمير (2). ووقع في النسائي: عبد الملك بن عبيد. ورجح هذا أحمد والبيهقي (3)، وهو ظاهر كلام البخاري (4)، وقد صححه ابن السكن والحاكم، ورواه الدارقطني أيضًا (5): عبد الملك بن عبيدة، وقد رواه الشافعي (6) في "المختصر" عن سفيان [بن عيينة عن محمد](ب) بن عجلان عن عون بن عبد الله بن
(أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من سنن البيهقي. وينظر التاريخ الكبير 8/ 279، وتهذيب الكمال 31/ 365.
(ب) ساقط من النسخ. واستدركته من مصدر التخريج.
_________
(1)
أحمد 1/ 466، والنسائي 7/ 303.
(2)
البيهقي 5/ 333.
(3)
معرفة السنن والآثار 4/ 370 ح 3494. وفيه عبد الملك بن عبيدة. وهو مما يقال في اسم أبيه. ينظر تهذيب الكمال 18/ 363.
(4)
التاريخ الكبير 5/ 452.
(5)
الحاكم 2/ 48، والدارقطني 3/ 18.
(6)
معرفة السنن والآثار 4/ 369 ح 3492.
[عتبة](أ) بن مسعود عن ابن مسعود نحوه، بلفظ:"إذا اختلف المتبايعان، فالقول قول البائع، والمبتاعُ بالخيار". وفيه انقطاع. ورواه الدارقطني (1) من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده، وفيه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة.
وأخرج الطبراني في "الكبير"(2) عن علقمة عن عبد الله مرفوعًا: "البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا". ورواته ثقات، لكنه اختلف في عبد الرحمن بن صالح (3) أحدِ رواته.
وقد جزم الشافعي (4) أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شيء موصول، وذكره الدارقطني في "علله"(5) فلم يعرِّج على هذه الطريق، وأخرجه النسائي وأبو داود والبيهقي والحاكم (6) من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده، قال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف البيِّعان وليس بينهما بينة، فهو ما يقول
(أ) في النسخ: عيينة. والمثبت هو الصواب، وينظر تهذيب الكمال 22/ 453.
_________
(1)
الدارقطني 3/ 20.
(2)
الطبراني 10/ 88 ح 9987.
(3)
عبد الرحمن بن صالح الأزدي، كوفي سكن بغداد بجوار علي بن الجعد، صدوق يتشيع، توفي في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين. تاريخ بغداد 10/ 261، وتهذيب الكمال 17/ 177، والتقريب ص 343.
(4)
الأم 3/ 9.
(5)
علل الدارقطني 5/ 203 - 205.
(6)
النسائي 7/ 348، وأبو داود 3/ 283 ح 3511، والبيهقي 5/ 332، والحاكم 2/ 45.
رب السلعة أو يَتركان". وهذا لفظ النسائي، وهو (أ) أقرب إلى ما رواه المصنف هنا. والحاكم صححه من هذا الوجه وحسَّنه البيهقي، وقال ابن عبد البر (1): هو منقطع إلا أنه مشهور الأصل عند جماعة العلماء، تلقَّوه بالقبول وبنوا عليه كثيرا من فروعه. وأعله ابن حزم (2) بالانقطاع، وتابعه عبد الحق (3)، وأعله هو وابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه (ب) وجده. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" (4) بلفظ: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا". وهي من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده.
ورواها الطبراني والدارمي (5) من هذا الوجه فقال: عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود.
وانفرد عن ابن مسعود بهذه الزيادة، وهي قوله:"والسلعة قائمة"(6). ابن أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه، وهو ضعيف سيئ الحفظ (7).
وأما قوله فيه: "تحالفا". فلم يقع عند أحد منهم، وإنما عندهم:
(أ) في جـ: هذا.
(ب) في ب، جـ: ابنه.
_________
(1)
التمهيد 24/ 290.
(2)
المحلى 9/ 325، 326.
(3)
الأحكام الوسطى 3/ 270، 271.
(4)
وكذا عزاه إليه الحافظ في التلخيص 3/ 32.
(5)
الطبراني 10/ 215 ح 10365، والدارمي 2/ 250.
(6)
الطبراني في الأوسط 4/ 105 ح 3720.
(7)
تقدمت ترجمته في 1/ 162.
"والقول قول البائع، أو يترادان المبيع".
الحديث فيه دلالة على أن البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن، أو في المبيع، أو في شرط من شروطهما، ولم يكن بينهما بينة، فالقول قول البائع، ولكنه مع اليمين كما تقرر في القواعد الشرعية، أن من كان القول قوله فعليه اليمين.
وقوله: "أو يتتاركان". يعني مع تراضيهما على التتارك، وظاهره: وسواء كان المبيع مستهلكًا أو قائمًا.
ولا يقال: إنه مع الاستهلاك لا يتأتى التتارك؛ لأن المعنى من التتارك أن يرجع لكل واحد ما هو له. لأنا نقول: المعنى من التتارك أن يرجع لكل واحد ما هو له، وهو إما برجوع العين، أو مثل المثلي وقيمة القيمي مع التلف.
وأما رواية: "والمبيع مستهلك". فقد علمت ما فيها، ولكنه يذهب إلى العمل بظاهر الحديث أحد، بل في ذلك تفصيل في كتب الفروع.
وتفصيل الاختلاف؛ وهو أن القول قول البائع في نفي إقباض المبيع، والبينة على المشتري في أنه (أ) قبضه بإذن البائع حيث كان البائع ما قد قبض الثمن، وأما إذا قد قبض الثمن فالقول قول المشتري؛ لأن له أخذه كرها، والقول للبائع في عدم قبضه للثمن إلا ثمن المسلم ففي المجلس فقط، وفي قدر الثمن وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع، لأن له حق الحبس، لا بعده فللمشتري.
وهذا لا خلاف فيه إذا كان المبيع قد تلف أو خرج عن يد المشتري ببيع
(أ) زاد في ب: قد.
أو هبة، فإن كان باقيًّا في يد المشتري فثلاثة أقوال، فعند الهادي القول، قوله مطلقًا عند أبي العباس والفقهاء يتحالفان ويترادان المبيع، وعند المؤيد بالله إن كان الاختلاف في الجنس أو النوع أو الصفة تحالفا وترادَّا، كقول أبي العباس، وإن كان في المقدار فقولان، الأول: مثل قول الهادي، والثاني: التحالف والتراد، والخلاف في جنس الثمن ونوعه إذا لم يكن في البلاد (أ) نقد غالب، أو ادعى كل واحد غير نقد البلد، وإلا فالقول قول مدعي نقد البلد، إذ هو قرينة على صدق قوله، وأما إذا كان الاختلاف في جنس المبيع وعينه ونوعه ومكانه ولم يكن المشتري قد قبض المبيع ولا بينة لأحدهما، فإنهما يتحالفان؛ يحلف البائع: ما بعت منك كذا. ويحلف المشتري ما اشتريت منك كذا. وقيل: يحلف كل واحد منهما، يمينين: ما بعت منك كذا، والأخرى على الإثبات: لقد بعت منك كذا. وقيل: يمينًا واحدة على النفي والإثبات، فيقول: ما بعت منك كذا، ولقد بعت منك كذا. ويبطل العقد، قيل: بغير فسخ. وقيل: بفسخ الحاكم. وقيل: بفسخهما. وفي زيادة الصفة يجب على المشتري قبولها للتسامح في ذلك.
والوجه في التحالف هنا أن كل واحد مدعٍ ومدعى عليه، فيجب على كل واحد اليمين لنفي ما ادعي [عليه](ب)، وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي واليمين على المنكر"(1).
(أ) في جـ: البلد.
(ب) في الأصل، ب: إليه.
_________
(1)
سيأتي ح 1177.
وأما إذا أقاما البينة حكم للمشتري إن أمكن عقدان، وذلك بألا يضيفا إلى وقت واحد، فيحمل على عقدين، لكنه يلزم البائع تسليم ما بين به المشتري للبينة، وهو مصادق في قدر الثمن، فأعطى ما ادعاه، وهو الذي قامت به بينة المشتري، وإن لم يمكن عقدان بطل العقد بعد التحالف بحصول الجهالة في المبيع مع تساقط البينتين، وأما إذا اختلف البيِّعان في قبضه فالقول لمنكر قبضه، إذ الأصل عدمه، وكذا منكر تسليمه كاملًا، وكذا إن قبضه من دون زيادة، وكذا [القول](أ) لمنكر [تعيبه، إذ](ب) الأصل عدم العيب، وكذا إن هذا المدعي عيَّب؛ ينقص القيمة، إذ الأصل عدم ذلك، وكذا في أنه من قبل القبض فيما يحتمل أنه حدث قبل القبض، فالقول لمنكر ذلك، وإما إذا كان مما يعلم أنه متقدم من عند البائع، فالقول للمشتري، وكذا في إنكار الرضا بالعيب أو ما يجري مجراه، أو أن المبيع أكثر مما أقر به البائع مع الاتفاق على الثمن، فالقول لمنكر ذلك، والقول للمسلم إليه في قيمة رأس المال إذا اختلفا بعد التلف، والله أعلم.
620 -
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. متفق عليه (1).
(أ) في الأصل، ب: يقول.
(ب) في الأصل، جـ: تعيينه إذا.
_________
(1)
البخاري، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب 4/ 426 ح 2237، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي والنهي عن بيع السنور 3/ 1198 ح 1567.
الحديث فيه دلالة على تحريم ما ذكر؛ فإن النهي حقيقة في التحريم، والنهي عن ثمن الكلب عام في كل كلب، معلما كان أو غيره، مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ولا قيمة على متلفه، وبهذا قال الجمهور. وقال مالك: لا يجوز بيعه، وتجب القيمة على متلفه. وعنه كالجمهور، وعنه كقول أبي حنيفة: يجوز بيعه وتجب القيمة. وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.
وروى أبو داود (1) من حديث ابن عباس مرفوعًا: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا". وإسناده صحيح، وروى أيضًا (2) بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا](أ): "لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن".
والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي وغيره نجاسته، وهي حاصلة فيما يحرم اقتناؤه وفيما يجوز. ومن لا يقول بنجاسته؛ العلة النهي عن اتخاذه والأمر بقتله؛ ولذلك خص منه ما أذن في اتخاذه، ويدل عليه حديث جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. أخرجه النسائي بإسناد رجاله ثقات، إلا أنه طعن في صحته (3).
(أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 426.
_________
(1)
أبو داود 3/ 277 ح 3482.
(2)
أبو داود 3/ 277 ح 3484.
(3)
النسائي 7/ 216، 355.
ووقع في حديث ابن عمر عند ابن أبي حاتم (1) بلفظ: نهى عن ثمن الكلب، وإن كان ضاريا. يعني مما يصيد، وسنده ضعيف. قال أبو حاتم: هو [منكر](أ).
وفي رواية لأحمد (2): نهى عن ثمن الكلب، وقال:"طعمة جاهلية".
ونحوه للطبراني (3) من حديث ميمونة بنت سعد.
وقال القرطبي (4): مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب وكراهة بيعه، ولا يفسخ إن وقع، وكأنه لما لم يكن عنده نجسًا، وأذن في اتخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهًا؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق. قال: وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة للقدر المشترك من الكراهة، أعم من التنزيه والتحريم، إذ كل منهما منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، فإنَّا عرفنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع، لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي (5).
(أ) في النسخ: شك. والمثبت من العلل.
_________
(1)
العلل 1/ 386 ح 1153.
(2)
أحمد 3/ 353.
(3)
الطبراني 25/ 36 ح 63.
(4)
الفتح 4/ 427.
(5)
ينظر المحصول في علم أصول الفقه 1/ 208 (القسم الثالث).
وقوله: ومهر البغي. بفتح الباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد التحتانية. وأصل البغاء الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد. والمراد بالمهر هنا هو ما تأخذه الزانية على الزنى، سماه مهرًا مجازا، وهو مجمع على تحريمه، وللفقهاء تفصيل فيه، وهو أنه إذا أعطاها ذلك بالعقد على التمكين مظهرا أو مضمرا، [أو](أ) حصل العقد على مباح حيلةً، فإنه يصير كالغصب إلا في أربعة أحكام، وهو أنه يطب ربحه، ويبرأ من رد إليها، ولا أجرة [عليها، إذ](ب) لم تستعمل ذلك الذي أعطيت، ولا يتضيق عليها الرد إلا بالطلب، وإن لم يكن كذلك وإنما كان مضمرًا التمكين من الزنى لزمها التصدق بذلك.
وللمؤيد بالله تفصيل، وهو أنه إن غلب في ظنها أنه إنما أعطاها لأجل التمكين لزمها التصدق، وإن غلب في ظنها أنه أعطاها لغير ذلك جاز لها الأخذ، والعبرة بقصد المعطي، واستدل بهذا على أن الأَمَةَ إذا أكرهت على الزنى، فلا مهر لها. وفي وجه للشافعية أنها تستحق المهر، واختار صاحب "الهدي" (1) أنه يجب التصدق في جميع الأطراف. قال: لأن الدافع قد دفعها باختياره في مقابلة عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه، فهو كسب خبيث يجب التصدق به، ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله. وأطال الكلام في ذلك. وروى
(أ) في الأصل، جـ: و.
(ب) في الأصل: عليها إذا، وفي جـ: عليهما إن.
_________
(1)
ينظر زاد المعاد 5/ 778، 782.
عن الإمام ابن تيمية التردد في أصل المسألة، والميل إلى مثل هذا، والله أعلم.
وقوله: وحلوان الكماهن. والحلوان بضم المهملة مصدر: حلوته حلوانا إذا أعطته، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلًا بلا كلفة، وقد يطلق على مهر البنت إذا أخذه أبوها لنفسه، قالت امرأة تمدح زوجها (1):
لا يَأْخُذُ الحُلْوَانَ مِنْ بَنَاتِنا
وقد أجمع السلمون على تحريم حُلوان الكاهن. قال الخطابي (2): الكاهن الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم [أن](أ) له قرينا من الجن وتابعةً تلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمي عرافا، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب استدل بها على مواقعها؛ كالرجل يسرق، فيعرف أنه المظنون بالسرقة، والمرأة بالزنية فيعرف مَنْ صاحبها، ونحو ذلك، ومنهم من كان يُسمي المنجمَ كاهنا، وهو وإن لم يكن كاهنا، فحكمه حكم الكاهن. وكذلك الذي يعرف الأمور بالضرب بالحصا وغير
(أ) في ب: أنه.
_________
(1)
أمالي القالي 2/ 276، وتفسير القرطبي 5/ 24، وفي الأمالي: بناتيا.
(2)
معالم السنن 4/ 228، 229.
ذلك مما يتعاناه العرافون من استطلاع الغيب، فحديث النهي يشمل هؤلاء كلهم، والنهي عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم، ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهنا، وربما سموه عرافا، وهو غير داخل في النهي.
621 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه كان على جمل له أعيا، فأراد أن يسيِّبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي (أ) وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، قال:"بعنيه بوُقيَّة". قلت: لا. ثم قال: "بعنيه". فبعته بوقية، واشترطت حُمْلانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري فقال:"أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك". متفق عليه (1)، وهذا السياق لمسلم.
قوله: أعيا. أي: كَلَّ عن السير.
وقوله: "بعنيه بوُقيَّة". هي لغة صحيحة، وقد سبق ذلك، ويقال: أوقية. وهي أشهر.
وفيه دلالة على أنه لا بأس بطلب البيع من مالك السلعة وإن لم يعرضها للبيع.
وقوله: حُملانه. هو بضم الحاء المهملة، أي الحمل عليه.
وقوله: "أتُراني؟ ". بصيغة المجهول، أي: تظنني.
(أ) في جـ: له.
_________
(1)
البخاري، كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز 5/ 314 ح 2718، ومسلم، كناب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه 3/ 1221 ح 715/ 109.
والماكسة، قال أهل اللغة (1): هي المكالمة في النقص الثمن، وأصلها النقص، ومنه مكس الظالم، وهو ما ينقصه ويأخذه من أموال الناس.
وفي قوله: "بوُقيَّة" قد ورد في رواية: "بخمس أواق". وفي رواية: "بأوقيتين ودرهم أو درهمين". وفي رواية: "بأوقية ذهب". وفي بعضها: "بأربعة دنانير". وذكر البخاري اختلاف الروايات، وزاد:"بثمانمائة درهم"(2)، وفي رواية "بعشرين دينارا" وفي رواية أحسبه:"بأربع أواق". قال البخاري: وقول الشعبي: "بوقية". أكثر.
قال القاضي عياض (3): قال أبو جعفر الداودي: [ليس لأوقية الذهب قدر معلوم](أ)، وأوقية الفضة أربعون درهما. قال: وسبب اختلاف هذه الروايات أنهم رووا بالمعنى، وهو جائز، فالمراد وقية ذهب كما فسره في رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر، ويحمل عليها رواية من روى:"أوقية". مطلقا، وأما من روى:"خمس أواق". فالمراد خمس أواق من الفضة، وهي بقدر قيمة أوقية الذهب في ذلك الوقت، فيكون الإخبار بأوقية الذهب عما وقع به العقد، وعن أواق الفضة عما حصل به [الإيفاء](ب)، ولا يتغير الحكم، ويحتمل أن يكون هذا كله زيادة على الأوقية، كما قال في رواية: فما زال يزيدني. وأما رواية: "أربعة دنانير". فموافقة أيضًا؛ لأنه يحتمل أن
(أ) كذا في النسخ، وفي شرح مسلم: أوقية الذهب قدرها معلوم.
(ب) في النسخ: الاتفاق. والمثبت من مسلم بشرح النووي 11/ 31، 32.
_________
(1)
النهاية 4/ 349، واللسان (م ك س).
(2)
قال الحافظ ابن حجر: ووقع للنووي أن في بعض روايات البخاري "ثمانمائة درهم" وليس ذلك فيه أصلا، ولعله أراد هذه الرواية -يعني رواية "مائتي درهم"- فتصحفت. الفتح 5/ 320.
(3)
ينظر مسلم بشرح النووي 11/ 31، 32، وعمدة القاري 11/ 216، 13/ 298.
تكون أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير، وأما رواية "أوقيتين". فيحتمل أن إحداهما وقع بها البيع والأخرى زيادة، كما قال: وزادني أوقية.
والحديث فيه دلالة على أنه يصح البيع للدابة واستثناء الركوب. وقد ذهب إلى هذا الجمهور مطلقا، واحتج به أحمد ومن وافقه في جواز بيع الدابة ويشترط البائع لنفسه الركوب. وقال مالك: يجوز ذلك إذا كان مسافة الركوب قريبة، وحدُّه ثلاثة أيام. وحمل هذا الحديث على هذا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة أو كثرت، ولا ينعقد البيع. واحتجوا بالحديث الآتي في بيع الثُّنْيا (1)، وبالحديث الآتي في النهي عن بيع وشرط (2)، وأجابوا عن حديث جابر هذا بأنها [قضية](أ) عين تتطرق إليها الاحتمالات، قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع. قالوا: ويحتمل أن يكون الشرط ليس في نفس العقد، وإنما يضر الشرط إذا كان في نفس العقد، فلعل الشرط كان سابقًا فلم يؤثر، ثم تبرع النبي صلى الله عليه وسلم بإركابه.
ويمكن الجواب بأن حديث النهي عن بيع الثُّنْيا ليس مطلقا، وتمامه:"إلا أن تُعْلم". ومفهومه صحة الثنيا المعلومة، وهو المدعَى.
وأما حديث النهي عن بيع وشرط ففيه مقال، مع إمكان تأويله بالشرط المجهول، أو ما يتضمن رفع المقصود بالبيع، والقرينة على التأويل هذا،
(أ) في النسخ: قصة، وأثبته كما سيأتي في الصفحة التالية.
_________
(1)
سيأتي ح 641.
(2)
سيأتي ح 636.
والجمع ما أمكن هو الواجب.
وأما كونها قضية عين مع ظهور الأمر فيها فهو غير قادح، وقولهم: أراد أن يعطه الثمن. إلى آخره. يرده قوله: "أتُراني ماكستك؟ ". فإنه يدل على وقوع صورة البيع، وإن كان المقصود هو إعطاء الثمن، ولكنه قد أفاد الطلوب؛ لوقوع صورة البيع.
وقولهم: إن الشرط ليس في نفس العقد. ظاهره أن الشرط متواطأ عليه عند العقد، والمتواطأ عليه في حكم المقرون بالعقد، فالأولى ما ذهب إليه الجمهور من صحة مثل هذا الشرط، وكذا كل شرط يصح إفراده بالعقد؛ كإيصال المبيع إلى المنزل، وخياطة الثوب، وسكنى الدار.
وقد روي عن عثمان (أ) أنه باع دارًا واستثنى سكونها شهرًا، ولم ينكر عليه. كذا رواه في "الشفا"، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد: أحدها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في انبعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه. الثانية: جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته للبيع. الثالثة: جواز المماكسة في البيع. وفي تمام القصة فوائد غير هذه.
622 -
وعنه، قال: أعتق رجل منَّا عبدًا له عن [دبر](ب)، لم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه. متفق عليه (1).
(أ) في ب: عمر.
(ب) في النسخ: دبره. والمثبت من مصدري التخريج.
_________
(1)
البخاري، كتاب العتق، باب بيع الدبر 5/ 165 ح 2534، ومسلم، كتاب الأيمان، باب جواز بيع الدبر 3/ 1289 ح 997/ 58.
وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب المدبر والمكاتب وأم الولد في آخر الكتاب (1). وفيه دلالة على صحة بيع المدبر، وسيأتي الخلاف في جواز بيعه مستوفًى إن شاء الله تعالى.
623 -
وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"ألقوها وما حولها وكلوه". رواه البخاري، وزاد أحمد والنسائيِ (2): في سمن جامد.
الحديث فيه دلالة على أن الميتة نجس، وأنه ينجس [بملاقاتها](أ) ما كان رطبا، ولذلك أمر بإلقائها وما حولها. والمراد بـ "ما حولها" ما لاصق الميتة، والقصة يتأتى (ب) وقوعها فيما لا يكون صليب الجمود؛ لأنه (جـ) لا يضر ملاقاة النجس لما كان جامدا إلا [أن](د) تتخلله رطوبة، وإنما يكون كذلك فيما كان فيه انعقاد يتخلل أجزاءه رطوبة ينغمس فيه ما وقع فيه، وما كان مائعا لا يتأتى فيه فصل ما حول النجاسة وتمييزها عن سائر أجزائه.
وفي الأمر بإلقائه دلالة على أنه لا يجوز أكل الدهن المتنجس ولا
(أ) في النسخ: بملاقتها. وكتب في حاشية ب: كذا في نسخة المؤلف ولعله بملاقاتها.
(ب) في جـ: تنافي.
(جـ) بعده في جـ: ما.
(د) ساقط من: الأصل، ب.
_________
(1)
سيأتي في شرح الحديث 1196.
(2)
البخاري، كاب الذبائح والصيد، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب 9/ 667 ح 5538، وأحمد 6/ 330، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة، باب الفأرة تقع في السمن 7/ 178.
الانتفاع به في شيء، إذ لو جاز الانتفاع به لما أمر بإلقائه، وفي ذلك تفويت مال، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع به في غير بدن الآدمي.
وقوله: وزاد أحمد. الزيادة قد وقع معناها في حديث أبي هريرة [الآتي](أ).
624 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رواه (ب أحمد وب) أبو داود (1)، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم (2).
الحديث أخرجه أبو داود من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة باللفظ المذكور هنا. قال أبو داود: قال الحسن: قال عبد الرزاق: ربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة. فهذا اللفظ فيه دلالة على أنه حفظ عن معمر الوجهين وأنه لم يَهِمْ، وكذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(3)، فيندفع ما حكم به البخاري عليه من الوهم؛ لأنه إنما حكم بخطئه بناء على
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب - ب) ساقط من: جـ.
_________
(1)
أحمد 2/ 232، 233، وأبو داود، كتاب الأطعمة، باب في الفأرة تقع في السمن 3/ 364 ح 3842.
(2)
ينظر علل الترمذي ص 298 ح 552، 553، وعلل ابن أبي حاتم 2/ 12 ح 1507.
(3)
ابن حبان 4/ 238 ح 1394.
عدم اتفاق روايته من الوجهين، ورأى أنه ثابت من حديث ميمونة: فحكم بالوهم علي الطريقة المروية عن أبي هريرة. قال الترمذي (1): سمعت البخاري يقوال: التفصيل في حديث أبي هريرة خطأ، والصواب أنه في حديث ميمونة.
وفيه اختلاف آخر، فرواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه (2)، وتابعه عبد الجبار الأيلي عن الزهري (3).
قال الدارقطني (4): وخالفهما أصحاب الزهري، فرووه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وهو الصحيح. وقد أنكر جماعة فيه التفصيل اعتمادا على عدم وروده في طريق مالك ومن تبعه، لكن ذكر الدارقطني (5) في "العلل" أن يحيى القطان رواه عن مالك، وكذلك النسائي (6) رواه من طريق عبد الرحمن عن مالك مقيدا بالجامد، وأنه أمر أن تُقوَّر وما حولها فيُرمى به. وكذا ذكر البيهقي (7) من طريق حجاج بن منهال عن ابن [عيينة](أ) مقيدا بالجامد، وكذا أخرجه
(أ) في النسخ: عقبة. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
الترمذي 4/ 225، 226 عقب ح 1798.
(2)
البيهقي 9/ 354 من طريق يحيى بن أيوب به.
(3)
البيهقي 9/ 354، وفي المعرفة 7/ 284 ح 5763 من طريق عبد الجبار به، وينظر علل أبن أبي حاتم 2/ 12 ح 1507، وعلل الدارقطني (5 / ق 178 - مخطوط).
(4)
علل الدارقطني 7/ 286.
(5)
علل الدارقطني (5 / ق 178 - مخطوط).
(6)
النسائي 8/ 11 من طريق عبد الرحمن به.
(7)
معرفة السنن والآثار 7/ 282 ح 5761.
إسحاق بن راهويه (1) في "مسنده" عن ابن عيينة، ووهم مَن غلَّطه فيه ونسبه إلى التغير في آخر عمره، وقد تابعه أبو داود الطالسي في "مسنده"(2) عن ابن عيينة. والله أعلم.
واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو لتصحيح اللفظ الوارد، وأما الحكم فهو ثابت، فإن طرحها وما حولها والانتفاع بالباقي لا يكون إلا في الجامد، ويفهم منه أن الذائب يلقى جميعه؛ إذ العلة إنما هي المباشرة، (أولا اختصاص أ) في الذائب بالمباشرة وتمييز البعض عن البعض. والله أعلم.
625 -
وعن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن السنور والكلب، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم والنسائي (3)، وزاد: إلا كلب صيد.
هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي، تابعي روى عن جابر بن عبد الله كثيرا.
(أ- أ) في جـ: لاختصاص.
_________
(1)
إسحاق بن راهويه 1/ 204، 205 ح 1.
(2)
الطيالسي 4/ 436 ح 2839.
(3)
مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي والنهي عن بيع السنور 3/ 1199 ح 1569/ 42، والنسائي، كتاب الصيد، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد 7/ 190، 191.
النهي عن ثمن الكلب متفق عليه من حديث أبي مسعود، وأخرج مسلم هذا من حديث جابر ورافع بن خديج (1)، وزاد النسائي استثناء كلب الصيد. ثم قال: هذا منكر. وروى الترمذي (2) من وجه آخر عن أبي هريرة (1) استثناء كلب الصيد. لكنه من رواية أبي المُهَزِّم عنه، وهو ضعيف (3).
وقد تقدم الكلام في ثمن الكلب مستوفى في حديث أبي مسعود. والحديث فيه دلالة على النهي عن ثمن السنور، وظاهر النهي التحريم، لا سيما وقد قرنه بثمن الكلب. وقد ذهب إلى هذا أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد، كما حكى ابن المنذر (4). وقالوا: لا يجوز بيعه. محتجين بالحديث. وظاهره سواء كان له نفع أو لا، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يجوز بيعه ويحل ثمنه إذا كان له نفع ولكنه يكره، وحملوا النهي على التنزيه، وكان النهي عن ذلك ليعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به كما هو الغالب.
وما ذكر الخطابي (5) وابن عبد البر (6) أن الحديث ضعيف، فهو مردود؛
(أ) ساقط من: النسخ. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر التلخيص الحبير 3/ 3، 4.
_________
(1)
مسلم 3/ 1199 ح 1568.
(2)
الترمذي 3/ 578 ح 1281.
(3)
يزيد بن سفيان أبو المهزم، وقيل: عبد الرحمن بن سفيان، التميمي، البصري، متروك. التقريب ص 76، وتهذيب الكمال 34/ 327.
(4)
ينظر الإشراف على مذاهب أهل العلم 3/ 210.
(5)
معالم السنن 3/ 130.
(6)
التمهيد 8/ 402، 403.
فإن الحديث كما عرفت أخرجه مسلم وغيره. وقول ابن عبد البر: لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة (1). مردود، لأن مسلما قد رواه في "صحيحه" من رواية معقل بن [عبيد](أ) الله (2) عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة أيضًا، والله أعلم.
626 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني (أ). فقلت: إن أحب أهلك أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها. فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق". ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه واللفظ للبخاري (3). وعند
(أ) في النسخ: عبد. والمثبت من مسلم بشرح النووي 10/ 134. وينظر الجرح والتعديل 8/ 286، وتهذيب الكمال 28/ 274.
(ب) في ب: أعيتني، وفي جـ: أعينني.
_________
(1)
تقدمت ترجمته في 4/ 132.
(2)
معقل بن عبيد الله الجزري، أبو عبد الله العبسي، مولاهم، صدوق يخطئ. التقريب ص 540، وتهذيب الكمال 28/ 274.
(3)
البخاري، كتاب المكاتب، باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس 5/ 190 ح 2563، =
مسلم: قال: "اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء".
قوله: جاءتني بريرة. هي بفتح الباء الموحدة وراءين مهملتين بينهما ياء مثناة من أسفل، مولاة لعائشة، قيل: إنها نَبَطيَّة. بفتح النون والباء الموحدة. وقيل: قِبْطيَّة. بكسر القاف وسكون الموحدة. وقيل: إن اسم أبيها صفوان، وإن له صحبة. واختلف في مواليها؛ ففي رواية أسامة عن عائشة أنها كانت لناس من الأنصار (1). وكذا عند النسائي (2) من رواية سماك، ووقع في بعض الشروح أنها لآل أبي لهب، وهو وهم من قائله، انتقل [وهمه من] (أ) أيمن. وقيل: لآل بني هلال. أخرجه الترمذي (3) من رواية جرير. ويمكن الجمع. وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق، وعاشت إلى خلافة معاوية، و [تفرست](ب) في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة وبشرته بذلك، وروى هو ذلك عنها (4). روت عنها عائشة وابن عباس وعروة بن الزبير.
قوله: كاتبت. على وزن فاعلت، من المكاتبة، وهي العقد بين السيد
(أ) في النسخ: إلى أم. والمثبت من الفتح 9/ 405. وأيمن هو أيمن الحبشي المكي أحد رواة قصة بريرة عن عائشة كما جاء في الفتح. وينظر تهذيب الكمال 3/ 451.
(ب) في الأصل: بشرت.
_________
= ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1142 ح 1504.
(1)
أحمد 6/ 180، وأبو يعلى 7/ 414 ح 4436 من طريق أسامة بن زيد عن القاسم عن عائشة.
(2)
النسائي 6/ 165.
(3)
الترمذي 3/ 460، 461 ح 1154، بدون ذكر آل بني هلال. وينظر الفتح 9/ 405.
(4)
ينظر الاستيعاب 4/ 1795.
وعبده، وهي مأخوذة من الكَتْبِ بمعنى الجمع والضم، لضم نجوم الكتابة بعضها إلى بعض، أو من الكتب الذي هو الخط، لضم الحروف بعضها إلى بعض، أو مأخوذة من الكتب الذي هو بمعنى الإلزام، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1). لما كان العقد لازما بين السيد والعبد، وكأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء، والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي يكاتب عليه.
وقوله: في كل عام أوقية. فيه دلالة على شرعية التنجيم في الكتابة، وأنه في بعض روايات مسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بريرة قالت: إن أهلها كاتبوها على تسع أواقي في تسع سنين؛ كلَّ سنة أوقية. ولكنه لا يدل على تحتم التنجيم. وقد ذهب الشافعي والهادي وأبو طالب وأبو العباس إلى أن التأجيل والتنجيم شرط في الكتابة، وأن أقله نجمان. قال الفقيه علي الوشلي: ولو في ساعتين. وقال الفقيه حسن النحوي: بل كأقل أجل السلم وهو ثلاثة أيام. واستقواه الإمام المهدي في "البحر"، واحتج على التنجيم بقول علي رضي الله عنه: الكتابة علي نجمين (2). وبفعل عثمان رضي الله عنه، فإنه غضب على مملوكه فقال: لأكاتبنك على نجمين (3). وذهب مالك وأحمد والجمهور أنه يجوز عقد الكتابة على نجم واحد، قالوا: لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} (4). ولم يفصل.
(1) الآية 103 من سورة النساء.
(2)
ابن أبي شيبة 6/ 390.
(3)
البيهقي 10/ 320، 321.
(4)
الآية 33 من سورة النور.
وأجيب بأن ذلك مطلق، والآثار عن الصحابة في حكم المرفوعة مبينة لما لم يذكر في الآية. ولا بد في الأجل أن يكون معلومًا حذرًا من الجهالة، كسائر العقود.
وقوله: فأعينيني. بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، كذا لأكثر رواة البخاري، وفي رواية الكشميهني (1): فأعيتني. بصيغة الخبر من الإعياء، والضمير للأواق، وهو متجه المعنى، أي أعجزتني عن تحصيلها.
وفي هذه القصة دلالة على أنه يجوز بيع المكاتب عند تعسر الإيفاء لمال الكتابة إلى من يعتقه برضاه، وظاهر القصة أنها لم تكن قد سلمت شيئًا، والحكم مع تسليم البعض كذلك، إلا أن فيه خلافا؛ فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه يعتق إذا قد سلم نصف مال الكتابة ويطالب بالباقي (2). وفي رواية عنه أنه يعتق بقدر ما أدى من مال الكتابة (3). وروي عن شريح أنه يعتق إذا قد أدى شيئًا. وفي رواية عنه: الثلث (4).
وقد اختلف العلماء في بيع المكاتب على ثلاثة أقوال، فذهب طائفة من العلماء إلى جواز بيعه، منهم عطاء (5) والنخعي وأحمد ومالك في رواية عنه، وفي رواية أنه يعتق بالأداء إلى المشتري، فإن عجز استرقه. وحجتهم ظاهر
(1) ينظر الفتح 5/ 190.
(2)
النسائي في الكبرى 3/ 197 ح 5025.
(3)
ابن أبي شيبة 6/ 152، والبيهقي 10/ 326.
(4)
عبد الرزاق 8/ 411 ح 15737.
(5)
ينظر مصنف عبد الرزاق 8/ 428 ح 15798.
قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب رق ما بقي عليه درهم"(1).
وذهب ابن مسعود وربيعة وأبو حنيفة والشافعي وبعض المالكية ومالك في رواية عنه إلى أنه لا يجوز بيعه، قالوا: لأنه قد خرج عن ملك السيد، بدليل تحريم الوطء والاستخدام، وكبيع ما قد بيع. وظاهر خلافهم عدم الجواز مطلقا، سواء فسخ عقد الكتابة أو لم يفسخ، والظاهر من استدلالهم وتأويلهم خبر بريرة بأن ذلك بعد الفسخ، وأن مع الفسخ يتفقون على جواز البيع. وذهب الهادي وأبو طالب وغيرهما إلى أنه يجوز بيعه برضاه إلى من يعتقه وإن لم يفسخ، واحتجوا بما وقع في حديث بريرة، فإن البيع كان إلى من يعتق، وظاهره أنه من دون فسخ. وقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن ذلك ليس شراء للرقبة، وإنما هو من شراء الكتابة ويدل عليه ما وقع في رواية: فإن أحبوا أن أقضي عنكِ كتابتكِ ويكون ولاؤك لي. فإنه يشعر بأن المشترى هو الكتابة لا الرقبة، وأنه من باب قضاء الكتابة خاصة، ولكنه يضعفهما ما وقع في رواية:"ابتاعي". وأنه هل قال بذلك قائل معين: إنه يصح شراء الكتابة نفسها أو يؤدي مال الكتابة ويكون الولاء للمؤدي؟ والظاهر أنه لم يقل به أحد.
وفي الحديث دلالة على أن شرط البائع لهذا الأمر، وكذا ما أشبهه من الشروط، وهو ما لا يكسب البيع ولا الثمن جهالة ولا يرفع موجب العقد، لا يفسد العقد، بل يلغو الشرط ويصح العقد. وسيأتي الكلام في الشروط.
(1) أبو داود 4/ 19 ح 3926 من حديث عمرو بن العاص.
وقوله: "خذيها". ظاهر في أن الشراء لنفس الرقبة، وأن ذلك صحيح.
وقوله: "واشترطي لهم الولاء". ثبتت هذه اللفظة في رواية هشام بن عروة عن أبيه، وانفرد بها دون غيره، ولكنه ثَبَتٌ حافظ مقبول ما تفرد به.
واختلف العلماء في تأويل هذا، فقال الشافعي والمزني (أ): معناه: اشترطي عليهم الولاء. واللام بمعنى "على". وقد ورد مثل هذا كثيرا مثل قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1). وقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} (2). وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} (3). وقد ضعف هذا بأنه لو كان كذلك لم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم اشتراط الولاء. وقد يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر. وقيل: معناه: أظهري لهم حكم الولاء. وقيل: أراد بذلك الزجر والتوبيخ لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان بين لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما ظهر منهم المخالفة قال لعائشة ذلك. ومعناه: لا تبالي، لأن اشتراطهم مخالفة للحق وتعنت وتماد في الباطل، فلا يكون ذلك للإهانة، بل مثل قوله:{كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (4). والمقصود من ذلك الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط، وأن وجوده وعدمه سواء. وقيل: إن اشتراط الولاء مأذون فيه في هذه القصة بخصوصها، والغرض من الإذن فيه هو القصد إلى بيان إبطاله، مثل ما وقع منه صلى الله عليه وسلم الإذن بالإحرام بالحج أولًا،
(أ) في ب: المرافي، وفي جـ: المراقي، وفي حاشية جـ كالمثبت، وينظر مختصر المزني ص 328.
_________
(1)
الآية 7 من سورة الإسراء.
(2)
الآية 52 من سورة غافر.
(3)
الآية 107 من سورة الإسراء.
(4)
الآية 50 من سورة الإسراء.
ثم أمرهم بفسخه إلى العمرة لبيان حكم العمرة؛ ليكون ذلك أثبت في بيان الحكم.
وقد أشكل على كثير من العلماء صدور مثل (أ) هذا من النبي صلى الله عليه وسلم وإباحته لعائشة، وفي ذلك بحسب ظاهره خداع وغرر للبائع من حيث إنه معتقد عند صدور البيع أنه بقي له بعض النافع، وانكشف الأمر على خلاف ذلك، حتي إنه روي عن يحيى بن أكثم (1) إنكار هذا اللفظ الذي فيه اشتراط الولاء، وقد روي عن الشافعي قريب منه، ولكنه بعد تحقق الوجوه في التأويل التي مرت ينزاح الإشكال بالكلية من دون ورود في بعضها، وفي بعضها يرد، وبتحقيق الجواب يذهب الإشكال.
وقوله: "شروطا ليست في كتاب الله". يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله، ويراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة، فإن الشريعة كلها في كتاب الله؛ إما بغير واسطة كالمنصوص في القرآن، وإما بواسطة كقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (2).
وقوله: "قضاء الله أحق". أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع. "وشرط الله أوثق". أي باتباع حدوده.
وقوله: "وإنما الولاء لمن أعتق". "إنما" للحصر، بدليل أنها وقعت ردًّا لمن أراد أن يكون له الولاء من دون إعتاق، فلو لم تكن للحصر لما حصل
(أ) ساقط من: ب، جـ
_________
(1)
ينظر معالم السنن 4/ 65.
(2)
الآية 7 من سورة الحشر.
الزجر للمذكورين ومنعهم عما أرادوه.
فائدة: ذكر ابن أبي شيبة (1) في "الأوائل" بسند صحيح أن بريرة أول مكاتب في الإسلام. ويرد عليه مكاتبة سلمان، فإنها قبل ذلك. ويجمع بينهما بأنها أول في النساء، وسلمان في الرجال. وقيل: إن أول مكاتب أبو أمية عبد عُمر (2). وكانت مكاتبة بريرة في السنة التاسعة أو العاشرة؛ لأن في القصة شفاعة العباس لمغيث، وهو إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من الطائف، وكان ذلك في أواخر سنة ثمان (3)، ويؤيد ذلك قول ابن عباس أنه رأي مغيثا في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته (4).
627 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد، فقال: لا تباع ولا توهب ولا تورث، ليستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة. رواه مالك والشافعي والبيهقي (5)، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم.
وأخرجه الدارقطني مرفوعًا وموقوفًا (6)، وقال: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر. وكذا قال عبد الحق (7). قال صاحب "الإلمام": المعروف فيه
(1) ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 411.
(2)
الفتح 9/ 411.
(3)
الفتح 9/ 409.
(4)
البخاري 9/ 407 ح 5283.
(5)
مالك، كتاب العتق والولاء، باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة 2/ 776 ح 6، والبيهقي، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له 10/ 342.
(6)
الدارقطني 4/ 134، 135.
(7)
الأحكام الوسطى 4/ 22.
الوقف، والذي رفعه ثقة. قيل: ولا يصح مسندًا. وقد أخرج ابن ماجه (1) من حديث ابن عباس بلفظ: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقها ولدها". وفي إسناده حسين بن عبد الله (2)، وهو ضعيف جدا. قال البيهقي (3): وروي عن ابن عباس من قوله.
وأخرج البيهقي (4) من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: "أعتقك ولدك". وهو معضل. وقال ابن حزم (5): صح هذا بسندٍ رواته ثقات عن ابن عباس. ثم ذكره من طريق قاسم بن أصبغ عن محمد بن مصعب عن عبيد الله بن عمرو، وهو الرتي، عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس. وتعقبه ابن القطان بأن قوله: عن محمد بن مصعب. خطأ، وإنما هو عن محمد -وهو ابن وضَّاح- عن مصعب -وهو ابن سعيد المصيصي- وفيه ضعف.
وقد أخرج أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا: "أيّما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دُبُر منه"(6).
وفي إسناده الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي، قال في
(1) ابن ماجه 2/ 841 ح 2516.
(2)
تقدت ترجمته في 3/ 384.
(3)
البيهقي 10/ 349.
(4)
البيهقي 10/ 350.
(5)
المحلى 10/ 253، وفيه "مصعب بن محمد" بدلا من "محمد بن مصعب".
(6)
أحمد 1/ 303، وابن ماجه 2/ 841 ح 2515، والدارقطي 4/ 130، 131، والحاكم 2/ 19، والبيهقي 10/ 346.
"الكاشف"(1): ضعفوه. وقد روى عنه ابن المبارك وغيره من الأئمة.
وفي رواية للدارقطني والبيهقي (2) من حديث ابن عباس أيضًا: "أم الولد حرة وإن كان سقطًا". وإسناده ضعيف. والصحيح أنه من قول ابن عمر.
وأخرج الحاكم (3) وابن عساكر وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جَالسا عند عمر إذ سمع صائحةً فقال: يا يَرْفأ، انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء، فقال: جارية من قريش تُباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فهل تعلمون كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (4). ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تُباع أم امرئ فيكم وقد أوسع الله لكم! قالوا: فاصنع ما لدا لك. فكتب إلى الآفاق ألا تباع أمُّ حرٍّ؛ فإنها قطيعة، وإنه لا يحل.
وهذه الآثار والحديث فيه دلالة على أن الأمة إذا ولدت من سيدها حرُم بيعها، وقد ذهب إلى هذا الأكثر من الأمة. وسواء كان الذي يريد بيعها سيدها أو وارثه، وسواء كان الولد باقيا أو غير باق.
وذهب الناصر والإمامية وبشر المَرِيسِي وداود الظاهري إلى جواز بيعها.
(1) الكاشف 1/ 170.
(2)
الدارقطني 4/ 131، والبيهقي 10/ 346.
(3)
الحاكم 2/ 458.
(4)
الآية 22 من سورة محمد.
قال الصادق والباقر والإمامية: إلا أن يموت سيدها ولها منه ولد باق فإنها تَعتِق. وإن لم يكن لها ولد باق، فقال الناصر: إنه يملكها أولاد سيدها من غيرها. وفي رواية: أنها تَعتِق حيث له ولد من غيرها. قالوا: لا سيأتي من حديث جابر (1)؛ ولأن عليا رضي الله عنه رجع عن تحريم بيعها.
فقد أخرج عبد الرزاق (2) عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عَبيدة السلماني المرادي: سمعتُ عليا يقول: اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، ثم رأيت بعدُ أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفُرْقَةِ.
وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد، ورواه البيهقي (3) من طريق أيوب.
وقال ابن أبي شيبة (4): حدثنا أبو خالد الأحمر عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عَبيدة عن علي قال: [استشارني](أ) عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها إذا ولدت عَتَقَتْ، فعمل به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال الشعبي: فحدثني ابن سيرين أنه قال لعَبيدة: فما ترى أنت؟ قال: رأي علي وعمر في الجماعة أحب إلي من قول عليٍّ حين أدركه الاختلاف.
(أ) في النسخ: استشار. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
سيأتي ح 628.
(2)
عبد الرزاق 7/ 291، 292 ح 13224.
(3)
البيهقي 10/ 343.
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 436، 437.
والجواب عن ذلك أن حديث جابر يحتمل أنه كان في أول الأمر، وأن ما ذُكر ناسخ، وأيضًا فإنه راجع إلى التقرير، وما ذُكر قولٌ، وعند التعارض القول أرجح، وأما رجوع علي فظاهره أنه رجوعٌ عن اجتهاد إلى اجتهاد، وهو معارض باجتهاد عمر وموافقة الصحابة له لما قال ذلك في محضر من الصحابة. مع أنه قد صرح القاسم بن إبراهيم في رواية "الجامع" أن من أدرك من أهله يكونوا يثبتون رواية بيع أمهات الأولاد عن علي. وروي في "الجامع" أن عليا رضي الله عنه أوصى لأمهات أولاده في مرضه. قال محمد بن منصور المرادي: وهذا يدل على أنهن يَعتِقن بعد موته. وقال ابن قدامة في "الكافي"(1): إن عليا لم يرجع رجوعًا صريحًا، إنما قال لعَبيدة وشريح: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الاختلاف (2). وهذا واضح في أنه لم يرجع عن اجتهاده، وإنما أذن لهم أن يقضوا باجتهادهم الموافق لرأي من تقدم.
قال ابن قدامة (1): وقد روى صالح عن أحمد (أ) أنه قال: أكره بيعهن، وقد باع علي بن أبي طالب. قال أبو الخطاب: فظاهر هذا أنه يصح مع الكراهة. فعرفت أنه لا حجة في ذلك لا سيما مع هذا التردد، والجزم بالقول الأول. وقد ادعى الإجماع على المنع من بيعهن جماعة من المتأخرين، وأفرد الحافظ ابن
(أ) زاد في النسخ: بن عيسى. وهو خطأ، والمثبت من مصدر التخريج، وصالح هو ابن الإمام أحمد بن حنبل. ترجمته في السير 12/ 529، وينظر المغني 14/ 585.
_________
(1)
الكافي 4/ 207.
(2)
وكيع في أخبار القضاة 2/ 399.
كثير الكلام على هذه المسألة في جزء مفرد، قال: وتلخص لي عن الشافعي نفسه فيها أربعة أقوال، وفي المسألة من حيث هي ثمانية أقوال. والله أعلم.
628 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نبيع سراريَّنا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا يرى (أ) بذلك بأسًا. رواه النسائي، وابن ماجه، والحاكم، وصححه ابن حبان (1).
وأخرجه أحمد، والشافعي، والبيهقي، وأبو داود، والحاكم (2)، وزاد: في زمن أبي بكر. وفيه: فلما كان عمر نهانا فانتهينا. ورواه الحاكم (3) من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف.
قال البيهقي: ليس في شيء من الطرق أنه اطلع على ذلك وأقرهم عليه صلى الله عليه وسلم.
والجواب أن الرواية المذكورة تدل على اطلاعه عليه وتقريرهم، فإن قوله: حيٌّ لا يرى بذلك بأسًا. فيه دلالة على ذلك. فإنه إذا كان الرواية
(أ) في مصادر التخريج: نرى. عدا الشافعي وابن حبان ففيهما: يرى. وينظر ما سيأتي في كلام المصنف.
_________
(1)
النسائي في الكبرى، كتاب العتق، باب في أم الولد 3/ 199 ح 5039، وابن ماجه، كتاب العتق، باب أمهات الأولاد 2/ 841 ح 2517، والدارقطني، كتاب المكاتب، 4/ 135 ح 37، وابن حبان، كتاب العتق، باب أم الولد 10/ 165، 4323.
(2)
أحمد 3/ 321، والشافعي في السنن المأثورة 1/ 293 ح 286، والبيهقي 10/ 348، وأبو داود 4/ 26 ح 3954، والحاكم 2/ 18، 19، والزيادة عند أبي داود والحاكم.
(3)
الحاكم 2/ 19.
بالياء في: لا يرى. فالأمر واضح في ذلك، وقد قال المصنف رحمه الله تعالى (1): إن في رواية ابن أبي شيبة ما يدل على ذلك.
وأما إذا كانت الرواية بالنون في: لا نرى. كما ذكره ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود"، فليس فيه تصريح باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فيستقيم كلام البيهقي، إلا أنه يرد عليه ما سيأتي في حديث جابر في النكاح: كنا نعزل والوحي ينزل (2). وأن مثل هذا له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تحقيق هذا المبحث. فحينئذ يتم (أ) الاحتجاج بالحديث، وأن ذلك باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. والحديث قد عرفت من احتج به والجواب.
629 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. رواه مسلم (3) وزاد في رواية: وعن بيع ضراب الجمل.
وأخرجه أصحاب "السن" من حديث إياس بن عَبْدٍ، وصححه الترمذي (4)، وقال أبو الفتح القشيري (5): هو على شرطهما.
(أ) زاد في جـ: هذا.
_________
(1)
التلخيص الحبير 4/ 218.
(2)
سيأتي ح 846.
(3)
مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع فضل الماء الذي يكون بالفلاة
…
3/ 1197 ح 1565/ 34، 35.
(4)
أبو داود 3/ 276 ح 3478، والترمذي 3/ 571 ح 1271، والنسائي 7/ 307، وابن ماجه 2/ 828 ح 2476.
(5)
التلخيص الحبير 3/ 67.
وأخرج الشافعي (1) عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ". زاد ابن حبان في "صحيحه"(2): "فيهزل المال ويجوع العيال"(2).
قال البيهقي (3): هذا هو الصحيح بهذا اللفظ، وكذا رواه الزعفراني عن الشافعي.
قال البيهقي: وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة". وروي من وجه ضعيف من حديث أبي هريرة، ومن مرسل الحسن.
الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز بيع ما فضل من الماء عن كفاية صاحبه.
قال العلماء: وصورة ذلك أن يجتمع في أرض مباحة ماء فيسقي الأعلى، ثم يفضل عن كفايته، فليس له المنع، كذا إذا اتخذ حفرة في أرض مملوكة يجتمع فيها الماء، أو حفر بئرا فيستقي (أ) منه ويسقي أرضه فليس له منع ما فضل.
وظاهر الحديث يدل على أنه يجب عليه بذل ما فضل عن كفايته لشرب أو طهور أو سقي زرع، وسواء كان في أرض مباحة أو مملوكة، وقد ذهب
(أ) في جـ: فيسقي.
_________
(1)
الشافعي في السنن المأثورة 1/ 385 ح 527.
(2)
ابن حبان 11/ 332 ح 4956.
(3)
معرفة السنن والآثار 4/ 535.
إلى هذا العموم ابن القيم في "الهدي النبوي"(1)، وقال: إنه يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ؛ لأن له حقا في ذلك، فلا يمنعه استعمال ملك الغير. وقال (2): إنه نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة للراعي (أ). ومثله ذهب إليه المنصور بالله وأبو جعفر والإمام يحيى في الحطب والحشيش. ثُم قال (2): وأيضًا فإنه لا فائدة لإذن صاحب الأرض؛ لأنه ليس له منعه من الدخول، بل يجب عليه تمكينه، فغاية ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرام عليه شرعًا، لا يحل له منعه من الدخول، فلا فائدة في توقف دخوله على الإذن، وإنما يحتاج إلى الإذن في الدخول في الدار إذا كان فيها سكن؛ لوجوب الاستئذان، وأما إذا لم يكن فيها سكن فقد قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} (3). وهذا من ذاك. هذا معناه.
واعلم أن من احتفر بئرا أو نهرا فهو أحق بمائه إجماعا؛ ولكنه حق لا ملك. وقد ذهب إلى هذا أبو العباس وأبو طالب والمؤيد وأبو يوسف وأحد وجهي أصحاب الشافعي ومالك ورواية عن أحمد، فعلى هذا إن له أن ينتفع به ولا يمنع الفضلة. وذهب بعض الفقهاء والإمام يحيى وأحد قولي المؤيد وأحد وجهي أصحاب الشافعي ورواية عن أحمد أنه ملك لكن عليه بذل الفضلة لغيره؛ لما أخرجه أبو داود (4): يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل
(أ) في جـ: للرعي.
_________
(1)
زاد المعاد 5/ 800.
(2)
زاد المعاد 5/ 804.
(3)
الآية 29 من سورة النور.
(4)
أبو داود 2/ 130 ح 1669 من حديث امرأة يقال لها: بهيسة عن أبيها.
منعه؟ قال: "الماء". قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال:"الملح". قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال:"أن تفعل الخير خير لك". وقال عمر: ابن السبيل أحق بالماء من [التانئ](أ) عليه (1). ذكره أبو عبيد (2).
وفي حكم الماء المعادن الجارية (5) في الأملاك؛ كالقار والنفط والمومياء والملح، وكذا الكلأ النابت.
وكره أحمد إجارة أرض النهر والبئر كان كانتا مملوكتين، قال: لأن ذلك حيلة إلى بيع الماء الذي فيه، وهذه إنما هي تحسين في اللفظ. وكذا من أقام على معدن فأخذ منه حاجته لم يجز له بيع باقيه بعد نزعه عنه، وكذلك من سبق إلى الجلوس في رحبة أو طريق واسعة فهو أحق بها ما دام جالسًا، فإذا استغنى عنها وأجر مقعده لم يجز له ذلك، وكذلك الأرض المباحة إذا كان فيها عشب أو كلأ فسبق بدوابه إليها فهو أحق برعيه ما دامت دوابه فيها، فإذا خرج منها وأراد بيعه منع منه.
وأما الماء المحرز في الآنية والظروف فهو مخصص من ذلك بالقياس على الحطب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة من حطب
(أ) في النسخ: الباني. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) بهامش ب: بيع المعادن.
_________
(1)
أراد أن ابن السبيل إذا مر بركية عليها قوم مقيمون فهو أحق بالماء منهم، لأنه مجتاز وهم مقيمون. يقال: تنأ فهو تانئ. إذا أقام في البلد وغيره. النهاية 1/ 198.
(2)
الأموال ص 374، 375 ح 738.
فيبيع، فيكف الله بها وجهه، خير له من أنه يسأل الناس أُعطِي أو مُنع" (1).
فالصحيح جواز بيعه، وأنه لا يجب بذله إلا لمضطر.
وكذلك بيع البئر والعين أنفسهما فإنه جائز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رُومةُ يوسع بها على المسلمين وله (أ) الجنة؟ ". أو كما قال. فاشتراها عثمان من يهودي وسبَّلها للمسلمين، وكان اليهودي يبيع ماءها، واشترى نصفها باثني عشر ألفا، ثم قال اليهودي: اختر؛ إما أن تأخذها يومًا واخذها يومًا، وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا. فاختار يومًا ويومًا، فكان الناس يستَقون منها يوم عثمان لليومين، فقال اليهودي: أفسدت علي بئري، فاشتر باقيها. فاشتراه بثمانية آلاف (2). فدلّ على صحة بيع البئر، وجواز تسبيلها ولو كان المسبل مشاعًا، وصحة بيع ما يغترف منها، وجواز قسمة الماء بالمهايأة (3)، وعلى كون المالك أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك، ولا ينقض ما مر من أنه يجوز الدخول إلى الملك لأخذ الماء والكلأ؛ لأن هذا كان في صدر الإسلام قبل ضعف شوكة اليهود في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم صالحهم في مبادئ الأمر على ما في أيديهم، ثم استقرت الأحكام وجرت على الموافق
(أ) في جـ: فله.
_________
(1)
البخاري 5/ 46 ح 2373 من حديث الزبير بن العوام.
(2)
ذكر القصة ابن عبد البر في الاستيعاب 3/ 1039، والمرفوع أخرجه أحمد 1/ 70، والنسائي 6/ 46، 233، 234 من حديث الأحنف بن قيس. وأخرجه أحمد 1/ 74، 75، والترمذي 5/ 585 ح 3703 من حديث ثمامة بن حزن القشيري.
(3)
المهايأة: قسمة المنافع. المبدع 10/ 126، والفروع 6/ 441.
والمعاند (1)، ولله الحمد والمنة.
وحمل الخطابي النهي على التنزيه، ولكنه لا دليل على ذلك (2)، والظاهر التحريم.
وقوله: وعن ضراب الجمل. معناه: نهى عن أجرة ضراب الجمل.
وهو عَسْبُ الفعل، بفتح العين المهملة وإسكان السين المهملة، وهو مذكور بهذا اللفظ في حديث آخر (3).
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في أجرة الفعل وغيره من الدواب للضرب؛ فذهب العترة والشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وآخرون إلى أن استئجاره لذلك باطل، والأجرة حرام، ولا يستحق مالكه عوضًا، وإذا فعل المستأجر لا يلزمه شيء من الأجرة. قالوا: وعلة النهي أنه غرر ومجهول وغير مقدور على تسليمه. وقال جماعة من الصحابة والتابعين ومالك وآخرون: إن ذلك جائز إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة، أو تكون الضربات معلومة؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي منفعة مقصودة. وحملوا النهي على التنزيه والحث على مكارم الأخلاق، كما وقع النهي عن إجارة الأرض للزرع لهذه العلة. ولكنه خلف الظاهر من غير دليل. والله أعلم.
630 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
(1) سبحان من له الأمر والنهي، وهذه الأيام يجري يهود ما يريدون على الموافق والعاند، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
(2)
كذا قال المصنف، وقال الحافظ في الفتح 5/ 32: والنهي عند الجمهور للتنزيه. وقال الخطابي في معالم السنن 3/ 128: أما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي على التحريم، فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر.
(3)
هو الحديث الآتي.
عَسْب الفحل. رواه البخاري (1).
631 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبَل الحبَلة، وكان بيعًا يبتاعه (أ) أهل الجاهلية؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تُنتَج الناقة ثم تُنتَج التي في بطنها. معلَّق عليه واللفظ للبخاري (2).
632 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. متفق عليه (3).
قوله: نهى عن بيع حبل الحبلة. إلى آخره. هو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة فيهما، وهو مصدر حَبِلت تَحْبَل حَبَلا، والحبلة جمع حابل؛ مثل ظلمة وظالم، وكتبة وكاتب. وحابل بغير تاء، ويقال: حابلة بالتاء. والتاء فيه للمبالغة أو للإشعار بالأنوثة، وقد ورد نادرًا حابلة. وحَبَلة في أصله مصدر سمي به المحبول، وأكثر استعمال الحبل في الآدميات. قال أبو عبيد (4): ولم يرد في غير الآدميات إلا في هذا الحديث. وأثبت صاحب "المحكم"(5) ذلك في غير هذا الحديث.
(أ) في جـ: تبتاعه. وفي البخاري: يتبايعه.
_________
(1)
البخاري، كتاب الإجارة، باب عسب الفعل 4/ 461 ح 2284.
(2)
البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة 4/ 356 ح 2143، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة 3/ 1153 ح 1514/ 5، 6.
(3)
البخاري، كتاب العتق، باب بيع الولاء وهبته 5/ 167 ح 2535، ومسلم، كتاب العتق، باب النهي عن بيع الولاء وهبته 2/ 1145 ح 1506.
(4)
الفتح 4/ 357.
(5)
المحكم 3/ 272، 273.
وقوله: وكان بيعًا. إلخ، وقع هذا التفسير في "الموطأ" (1) متصلا بالحديث. قال الإسماعيلي (2): وهو مدرج. يعني من كلام نافع، ومثله ذكر الخطب في "المدرج"(3)، وذكره البخاري (4) في ذكر أيام الجاهلية، وساقه بالتفسير المذكور عن ابن عمر، فأفهم أنه من تفسير ابن عمر، وجزم بذلك ابن عبد البر (5).
وهذه الرواية فيها إنتاج ولد الناقة. ووقع في رواية [عبيد الله](أ) بن عمر حمل ولد الناقة من دون اشتراط الإنتاج (6). وفي رواية جويرية: أن تُنتج الناقة ما في بطنها من دون أن يكون نتاجها قد حمَل أو أُنتِج (7). وبظاهر هذه الرواية قال سعيد بن المسيب فيما رواه عنه مالك (8).
وعلى هذه الروايات اختلف العلماء في هذا المنهي عنه هل هو حيث يؤجل بثمن الجزور إلى أن يحصل النتاج المذكور أو أنه يبيع منه النتاج؟ وذهب إلى الأول مالك والشافعي وجماعة (9)، وعلة النهي هو جهالة
(أ) في النسخ: عبيد، والمثبت من مصدري التخريج.
_________
(1)
الموطأ 2/ 653 ح 62.
(2)
الفتح 4/ 357.
(3)
الفصل للوصل المدرج في النقل 1/ 359 ح 34.
(4)
البخاري 7/ 149 ح 3843.
(5)
التمهيد 13/ 313.
(6)
البخاري 7/ 149 ح 3843، ومسلم 3/ 1154 ح 6/ 1514.
(7)
البخاري 4/ 435 ح 2256.
(8)
الموطأ 2/ 654 ح 63.
(9)
الأم 3/ 37، 7/ 256.
الأجل، وذهب إلى الثاني (أ) أبو عبيد (1). وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي وأكثر أهل اللغة (2)، وبه جزم الترمذي (3). وعلة النهي هو كونه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه، وهو داخل في بيع الغرر، وقد أشار إلى هذا البخاري، حيث صدر الباب ببيع الغرر، وأشار إلى التفسير الأول، [وذكر](ب) الحديث في باب السَّلم، ورجح الأول لكونه موافقًا للحديث، وإن كان كلام أهل اللغة موافقًا للثاني، [لكن قد روى الإمام أحمد (4) من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر ما يوافق الثاني] (جـ) ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع، يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة، فنهوا عن ذلك.
فكان محصل الخلاف: هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول، هل المراد بالأجل ولادة الأم أو وزيادة ولدها؟
وعلى الثاني، هل المراد بيع الجنين الأول أو جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوال.
(أ) زاد في النسخ: أبو عبيدة و. وكتب كلمة غير واضحة في ب فوق قوله: أبو عبيد. وينظر المغني 6/ 300.
(ب) في النسخ: فذكر. والمثبت يقتضيه السياق.
(جـ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 358.
_________
(1)
غريب الحديث 1/ 208.
(2)
الفتح 4/ 358.
(3)
الترمذي 3/ 531 عقب ح 1229.
(4)
أحمد 2/ 144، 155.
وحكى صاحب "المحكم"(1) عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة الكرمة، وأن المراد النهي عن بيع ثمر العنب قبل أن يصلح، كما نهى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تُزْهِي. وعلى هذا فالحَبْلة بسكون الباء الموحدة، والروايات بالتحريك، لكنه قد حكي في الحبلة بمعنى الكرمة أيضًا فتح الباء، ولم ينفرد ابن كيسان بذلك، فقد حكاه ابن السكيت في كتاب "الألفاظ"(2)، ونقله القرطبي في "المفهِم"(2) عن أبي العباس المبرد.
والجزور: بفتح الجيم وضم الزاي: البعير ذكرا كان أو أنثى، وهو مؤنث، وإن أطلق على مذكر تقول: هذه الجزور.
وتُنْتَج: بضم أوله وفتح ثالثه؛ أي تلد ولدًا. والناقة: فاعل، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة المجهول.
وقوله: نهى عن بيع الولاء وعن هبته. فيه دلالة على عدم صحته وهبته وتحريم ذلك؛ وذلك لأن الولاء حق يثبت بوصف وهو الإعتاق ولا يُنقل عن مستحقه؛ ولذلك شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالنسب وقال: "هو لحُمة كلحمة النسب"(3). وقد قال بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، وأجاز بعض السلف نقله، ولعله لم يبلغهم الحديث. كذا قال النووي في "شرح مسلم"(4).
633 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) المحكم 3/ 272.
(2)
الفتح 4/ 358.
(3)
ابن حبان 11/ 325، 326 ح 4950، والحاكم 4/ 341، والبيهقي 10/ 292، من حديث ابن عمر.
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 148.
عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. رواه مسلم (1).
بيع الحصاة اختلف فيه فقيل: هو أن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم. وقيل: هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. وقيل: هو أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع. أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من حصى ويقول: لي بكل حصاة درهم. وقيل: أن يمسك أحدهما حصاة بيده ويقول: أي وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول: أي شاة أصبتها (أ) فهي لك بكذا. وهذه الصور كلها متضمنة للغرر، لما في الثمن أو المبيع من الجهالة، ولفظ الغرر يشملها، وإنما أفردت لكونها كانت يبتاعها أهل الجاهلية، فجاء (ب) الإسلام بالنهي عنها، وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لما كانت الحصاة تعتبر فيه.
وقوله: وعن بيع الغرر. الغرر. بفتح الغين المعجمة والراء المهملة المكررة؛ فَعَل، وهو إما بمعنى مغرور به فيكون بمعنى اسم المفعول، وإضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول، أو هو في معناه المصدري، وتكون إضافة
(أ) في ب: أصابتها.
(ب) في ب، جـ: في.
_________
(1)
مسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر 3/ 1153، 1513/ 4.
البيع إليه للملابسة، ويكون المعنى البيع الذي صحبه الغرر، ومعناه: الجذاع الذي هو مظنة ألا يرضى به عند تحققه أحد التبايعين لمنافاته لغرضه، فيكون من الأكل للمال بالباطل غير داخل في قوله تعالى:{إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1). وهو أن يكون إما لعدم القدرة على تسليمه، كبيع العبد الآبق والفرس النافر والطير في الهواء، أو لكونه معدومًا أو مجهولًا، أو لا يتم ملك البائع له كالسمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وكذا بيع ثوب من ثياب أو شاة من شياه غير مخير فيه مدة معلومة، فإن هذا فيه غرر غير محتاج إلى ارتكابه، وقد يحتمل بعض الغرر ويصح البيع معه إذا دعت إليه الحاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع، أو كان الغرر حقيرا، وذلك كبيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، فإن ذلك مجمع عليه، وكذا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وعلى جواز الشرب من السقاء بالعوض مع الجهالة، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هذا أجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء، قال العلماء: مدار البطلان على الغرر، وصح فيما ذكرنا مع وجود الغرر لكون الحاجة تدعو إليه ولا يمكن الاحتراز عنه، أو كان الغربيّ حقيرًا لقيام الإجماع على الاغتفار فيما ذكر، ووقع الخلاف في [بيع](أ) العين
(أ) في الأصل: مع، وفي ب: منع.
_________
(1)
الآية 29 من سورة النساء.
الغائبة؛ فمن جوزه فبناه على أن الغرر مغتفر حقير (أ) كالمعدوم، ومن منع منه فبناه على اعتبار ما فيه من الغرر وأنه غير حقير مغتفر، وكذا في بيع الكامن الذي يدل فرعه عليه كالجزر والبصل والثوم ونحو ذلك مما كان الكامن هو المقصود بالبيع، حيث قد بلغ حد الانتفاع به، فهي معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها، ففيها غرر يسير وهو محتاج إلى البيع لانتفاع الناس بذلك.
وقد ذهب إلى جواز بيع ذلك أبو يوسف ومحمد وصححه القاضي زيد للهدوية، وقال الناصر ومالك: إنه يجوز إذا قد ظهرت أوراقه، إذ هو علامة صلاحه للانتفاع به. وقال الإمام المهدي: إن ذلك لا يصح على ظاهر مذهب الهدوية سواء ظهرت أوراقه أم لا؛ لما فيه من الغرر والجهالة، فهو مثل بيع الحوت في الماء. ويجاب عنه بأن ذلك مغتفر وهو لا يزيد على ما في بيع الجوز واللوز والفستق والبيض من الغرر، وقد اغتفر ذلك. والله أعلم.
634 -
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله". رواه مسلم (1).
وفي لفظ من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم وأحمد (2) قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشترى الطعام ثم يباع حتى يُستوفى. وأخرج مسلم وأحمد (3) من حديث جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتعت طعامًا فلا
(ب) زاد في النسخ: وليس. والمثبت من شرح النووي على مسلم 10/ 157.
_________
(1)
مسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض 3/ 1162 ح 1528/ 39.
(2)
مسلم 3/ 1162 ح 1528/ 40، وأحمد 2/ 329.
(3)
مسلم 3/ 1162، 1529/ 41، وأحمد 3/ 392.
تبعه حتى تستوفيه".
وأخرج أحمد (1) من حديث حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال:"إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه".
وأخرج الدارقطني وأبو داود من حديث زيد بن ثابت (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وسيأتي قريبًا في حديث ابن عمر (3).
وأخرج السبعة إلا الترمذي وابن ماجه (4) من حديث ابن عمر قال: كانوا يبتاعون الطعام جزافا في أعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتي ينقلوه. وفي لفظ في "الصحيحين"(5): حتى يحولوه. وللسبعة إلا الترمذي (6): "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". ولأحمد (7): "من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه". ولأبي داود والنسائي (8):
(1) أحمد 3/ 403.
(2)
الدارقطني 3/ 12 ح 34، وأبو داود 3/ 280 ح 3499.
(3)
سيأتي ح 638.
(4)
البخاري 4/ 247 ح 2131، ومسلم 3/ 1161 ح 1527/ 37، وأبو داود 3/ 279 ح 3494، والنسائي 7/ 287، وأحمد 2/ 15، 21، 142، وهو عند ابن ماجه 2/ 750 ح 2229.
(5)
هو لفظ مسلم.
(6)
البخاري 4/ 347 ح 2133، ومسلم 3/ 1161 ح 36/ 1526، وأبو داود 3/ 279 ح 3492، والنسائي 7/ 285، وابن ماجه 2/ 749 ح 2226، وأحمد 2/ 46، 59، 77، 108. وعند أبي داود وابن ماجه:"يستوفيه" بدل: "يقبضه".
(7)
أحمد 2/ 111.
(8)
أبو داود 3/ 279 ح 3495، والنسائي 7/ 286.
نهي أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. أخرجه السبعة إلا الترمذي (1).
الحديث فيه دلالة على أن الطعام ليس لمشتريه أن يبيعه حتى يكتاله، والمراد منه قبضه، تدل عليه رواية:"يستوفيه". إلا أنه لما كان الأغلب في الطعام أن يكون قبضه بالكيل، ذكر لفظ الكيل في الاستيفاء، وقد اعتبر خصوصية هذا الحكم بالطعام ابن المنذر فقال: إن هذا الحكم يختص بالطعام لا غيره من سائر المبيعات. محتجًّا باتفاقهم على أن من شرى عبدًا فأعتقه قبل قبضه أن العتق صحيح، قال: والبيع كذلك. وهو مردود عليه بحديث حكيم بن حزام، فإنه عام للطعام وغيره، وأيضًا فالعلة المعتبرة مُعدية إلى الغير، وذهب مالك إلى أن الطعام إذا شُري جزافًا جاز بيعه قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم (أ) بأن الجزاف يُرى فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد مرة حديث ابن عمر مرفوعًا:"من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتي يقبضه". ويجاب عنه: بحديث حكيم، وحديث زيد بن ثابت،
(أ) في ب: لهما.
_________
(1)
البخاري 4/ 349 ح 2135، ومسلم 3/ 1160 ح 1525/ 30، وأبو داود 3/ 280 ح 3497، والنسائي 7/ 286، وابن ماجه 2/ 749 ح 2227، وأحمد 1/ 270.
وحديث ابن عمر الذي أخرجه السبعة.
وذهب ابن عباس والعترة والشافعي ومحمد إلى أنه لا يجوز البيع للمشتري قبل القبض مطلقًا، وهو الذي استنبطه ابن عباس وقال: لا أحسب كل شيء إلا مثله. وأخرج البخاري (1) عن طاوس: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مُرْجأ. معناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم (2) قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يبتاعون بالذهب [والطعام](أ) مُرْجَأ. أي فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلًا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا، هذا كلامه فأفهم أن ذلك من باب الربا، وأنه كأن الدراهم هي التي بيعت متفاضلة، وحينئذ فالحكم عام في كل مبيع لوجود العلة المُعَدّية.
وخص أبو حنيفة هذا الحكم بما كان ينقل، وأما غير المنقول فيحل بيعه قبل القبض، محتجًّا بحديث زيد بن ثابت فإن ذلك في المنقول (ب).
وأجيب إما بعموم حديث حكيم بن حزام، أو بالقياس؛ لوجود العلّة.
(أ) ساقطة من: الأصل.
(ب) في جـ: المنقولات.
_________
(1)
البخاري 4/ 347 ح 2132.
(2)
مسلم 3/ 1160 ح 1525/ 31.
قال القرطبيُّ: وهذه الأحاديث حجة على عثمان حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. ونسب في "البحر" الخلاف هذا إلى عثمان البتي.
فائدة: أخرج الدارقطني من حديث جابر (1): نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان؛ صالح البائع وصاع المشتري. ونحوه للبزار (2) من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. فهو يدل على أنه إذا اشترى الشيء مكايلة وقبضه ثم باعه لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله علي من اشتراه ثانيا. وبذلك قال الجمهور، وقال عطاء (3): يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقًا. وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول. والأحاديث المذكورة ترد عليهما، وكأن العلة في ذلك هي لما يجوز من النقص في ذلك؛ فإعادة الكيل لإذهاب الخداع.
وفي حديث ابن عمر: كانوا يبتاعون الطعام جزافا. هو مثلث الجيم والكسر أفصح، يدل على جواز بيع الصبرة جزافًا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، إلا أنه يثبت الخيار للمشتري عند الهدوية إذا علم قدرها البائع دون المشتري، وعن مالك لا يصح فيما علم قدرها البائع فقط.
قال ابن قدامة (4): يجوز بيع الصبرة جزافًا، لا نعلم فيه خلافًا إذا جهل البائع والمشتري قدرها، فإن اشتراها جزافا، ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن
(1) الدارقطني 3/ 8 ح 24.
(2)
كشف الأستار 2/ 86 ح 1265.
(3)
الفتح 4/ 351.
(4)
المغني 6/ 201.
أحمد، ونقلُها قبضُها. انتهى.
635 -
وعنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. رواه أحمد والنسائي وصححه والترمذي وابن ماجه (1). ولأبي داود (2): "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا".
وأخرجه الشافعي (3)، وهو في بلاغات مالك (4). قال الترمذي: حسن صحيح، وفي الباب عن ابن عمر وابن عمرو وابن مسعود.
وحديث ابن مسعود رواه أحمد (5) من طريق عبد الرحمن ابنه عنه بلفظ: نهى عن صفقتين في صفقة.
وحديث ابن عمر رواه ابن عبد البر (6) من طريق ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين عن هشيم [عن](أ) يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر مثله.
وحديث ابن عمرو رواه الدارقطني (7) في أثناء حديث.
(أ) في النسخ: بن. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 30/ 272، 32/ 517.
_________
(1)
أحمد 2/ 432، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيعتين في بيعة 7/ 296، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة 3/ 533 ح 1231. والحديث لم أقف عليه عند ابن ماجه. وينظر تحفة الأشراف 11/ 11، 20.
(2)
أبو داود، كتاب البيوع، باب فيمن باع بيعتين في بيعة 3/ 272 ح 3461.
(3)
الأم 7/ 291.
(4)
الموطأ 2/ 663 ح 72.
(5)
أحمد 1/ 398.
(6)
التمهيد 24/ 388.
(7)
الدارقطني 3/ 74، 75 ح 282.
قال سماك في تفسيره: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا. رواه أحمد (1).
وقد يفسر بأن يقول: بعتك عبدي بعشرة على أن تبيعني جاريتك بكذا.
وعلة النهي على الأول، عدم استقرار الثمن ولزوم الربا على قول من يمنع بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّسَاء. وعلى (أ) الثاني، لتعليقه بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه، فلم يستقر الملك.
وقوله: "فله أوكسهما أو الربا". يعني أنه إذا فعل ذلك فهو لا يخلو عن أحد النقصين؛ إما الأوكس الذي هو الأقل، أو الربا (ب في ذلك ب). وهذا مما يؤيد التفسير الأول.
636 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه في "علوم الحديث" من رواية أبي حنيفة عن عمرٍو المذكور بلفظ: نهى عن بيع وشرط. ومن هذا [الوجه](جـ) أخرجه
(أ) زاد في جـ: الوجه.
(ب- ب) ساقط من: ب، جـ.
(جـ) ساقطة من النسخ. والمثبت من بلوغ المرام ص 171.
_________
(1)
أحمد 1/ 398.
الطبراني في "الأوسط"، وهو غريب (1).
حديث: نهى عن بيع وشرط. بيض له الرافعي في "التذنيب" واستغربه النووي (2)، وقد رواه ابن حزم في "المحلى" والخطابي في "العالم"(3) والطبراني في "الأوسط" و "الحاكم" في "علوم الحديث" من طريق محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن (أ) سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب في قصة طويلة مشهورة.
قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: ورويناه في الجزء الثالث من مشيخة بغداد للدمياطي، ونقل فيه عن ابن أبي الفوارس أنه قال: حديث غريب. انتهى.
والقصة هي: قال عبد الوارث: دخلت الكوفة فوجدت ثلاثة من فقهائها وهم؛ أبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة عن بيع وشرط فقال: يبطلان. ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك فقال: يصح العقد ويبطل الشرط. ثم سألت ابن شُبرمة فقال: يصحان. فعدت إلى أبي
(أ) في ب: عن.
_________
(1)
أبو داود، كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده 3/ 281 ح 3504، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك 3/ 535 ح 1234، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع 7/ 288، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن 2/ 737 ح 2188، ولم يذكر الجملتين الأوليين، وأحمد 2/ 174، 175، 206، والحاكم 2/ 17، وفي معرفة علوم الحديث ص 128، والطبراني في الأوسط 4/ 335 ح 4361.
(2)
ينظر التلخيص الحبير 3/ 12.
(3)
المحلى 9/ 410، ومعالم السنن 3/ 140.
(4)
التلخيص الحبير 3/ 12.
حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. ثم دخلت على ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه أجاز العقد وأبطل الشرط في خبر بَريرة (1). ثم دخلت على ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا علم لي بما قالا، ولكنه صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بعيرًا واشترط ظهره إلى المدينة (2)، فصح البيع والشرط. وفي رواية ابن حزم: قدمت مكة. ومثله رواه الخطابي وفيها: قلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة.
قوله: "لا يحل سلف وبيع". هو حيث يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النَّساء وعنده أن ذلك لا يجوز، فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة، وكلتا الصورتين محرم والعقد فيهما فاسد.
وقوله: "ولا شرطان في بيع". اختلف في تفسير ذلك؛ فقال أبو حنيفة وزيد بن علي: هو أن يقول: بعت هذا نقدا بكذا، وبكذا نسيئة. وقال أبو العباس: هو أن يشترط البائع ألا يبيع المشتري السلعة ولا يهبها. وقيل: هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا. كذا ذكره الإمام المهدي في "الغيث"، والأول أقرب إلى لفظ الحديث.
وقوله: "ولا ربح ما لم يضمن". قيل معناه: ما لم يملك. وذلك هو الغصب، فإنه غير ملك للغاصب، فإذا باعه وربح في ثمنه لم يحل له الربح، ووجب عليه التصدق به، نص عليه الهادي في "الأحكام"، وقال المؤيد: إنه
(1) تقدم ح 626.
(2)
تقدم ح 621.
يحل له الربح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"(1). وقواه الإمام يحيى.
وقيل: معناه: ما لم يقبض. لأن السلعة المشتراة قبل قبضها هي ليست في ضمان المشتري إذا تلفت، بل تكون في ضمان البائع، بمعنى أنها تتلف من ماله، وتسمية ذلك غير مضمون مجاز.
وقوله: "ولا بيع ما ليس عندك". قد فسر أيضًا بالغصب؛ لأنه لما كان الغاصب مأمورا بتفريغ ساحته وتبرئة ذمته من الغصب فهو ليس عنده، وقد فسر أيضًا [بالبيع](أ) قبل القبض. وكلاهما محتملان.
وفي حديث حكيم بن حزام في رواية أبي داود والنسائي (2) أنه قال: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، فأبتاع له من السوق؟ قال:"لا تبع ما ليس عندك". ما يدل على أن المقصود به النهي عن بيع الشيء قبل أن يملكه وإن كان في نيته تملكه لأجل تسليمه إلى المشتري، وهو الأولى، والله أعلم.
637 -
وعنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُرْبان. رواه مالك قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به (3).
وأخرجه أبو داود وابن ماجه (4)، وفي إسناده راو لم يسم، وسمي في رواية لابن ماجه ضعيفة عبد الله بن عامر الأسلمي (5). وقيل: هو ابن
(أ) في الأصل: بالمبيع، وفي ب: المبيع.
_________
(1)
سيأتي ح 654.
(2)
أبو داود 3/ 281 ح 3503، والنسائي 7/ 289.
(3)
الموطأ 2/ 609 ح 1.
(4)
أبو داود 3/ 281 ح 3502، وابن ماجه 2/ 738 ح 2192.
(5)
تقدمت ترجمته في 3/ 42.
لهيعة (1). وهما ضعيفان.
ورواه الدارقطني والخطيب (2) في "الرواية عن مالك" من طريق الهيثم بن اليمان عنه عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب، وعمرو بن الحارث ثقة (3)، والهيثم ضعفه الأزدي (4)، وقال أبو حاتم (5): صدوق. وذكر الدارقطني أنه تفرد بقوله: عن عمرو بن الحارث.
قال ابن عدي (6): إنه يقال: إن مالكا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة. ورواه البيهقي (7) من طريق عاصم [بن](أ) عبد العزيز عن (ب) الحارث [بن](جـ) عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب، وقال عبد الرزاق في "مصنفه" (8): أخبرنا الأسلمي عن زيد بن أسلم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله.
قوله: عن بيع العُرْبان. هو بضم المهملة، ويقال: أربان. بالهمزة،
(أ) في النسخ: عن. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 6/ 348.
(ب) بعده في النسخ: عمرو بن. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 3/ 79.
(جـ) في النسخ: عن.
_________
(1)
تقدمت ترجمته في 1/ 175.
(2)
ينظر التلخيص الحبير 3/ 17.
(3)
عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، مولاهم المصري، أبو أيوب، ثقة، فقيه، حافظ. التقريب ص 419، وينظر تهذيب الكمال 21/ 570.
(4)
ينظر الضعفاء والمتروكين 3/ 180، وميزان الاعتدال 4/ 326.
(5)
الجرح والتعديل 9/ 86، 87.
(6)
الكامل 4/ 1471.
(7)
البيهقي 5/ 343.
(8)
عبد الرزاق -كما في التلخيص الحبير 3/ 17.
ويقال: عربون. وذكر مالك في تفسيره هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري ثم يقول الذي اشترى أو اكترى: أعطيك دينارًا أو درهمًا على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمن السلعة وإلا فهو لك. وكذلك فسره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم.
قد اختلف الناس في جواز هذا البيع؛ فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل، وأبطله أصحاب الرأي لذلك، وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع (1)، وروي عن عمر رضي الله عنه (2)، ومال أحمد إلى القول بإجازته وقال: أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر؟ يعني أنه أجازه. والله أعلم.
638 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلِك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم (3).
الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يحوزه إلى رحله، والظاهر أن المراد به القبض، ولكنه عبّر عنه بما ذكر لما كان
(1) ابن أبي شيبة 7/ 305.
(2)
ابن أبي شيبة 7/ 306، وأحمد في مسائله (1230 - رواية عبد الله).
(3)
أحمد 5/ 191، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى 3/ 280 ح 3499، وابن حبان، كتاب البيوع، ذكر الخبر المصرح بأن حكم الطعام وغيره من الأشياء المبيعة فيه سواء 11/ 360 ح 4984، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 39، 40.
غالب قبض المشتري هو الحيازة إلى المكان الذي يختص به، وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند الجمهور أن ذلك قبض، والخلاف للشافعي في ذلك مع تفصيل، وذلك أنه إذا كان مما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالنقل، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع فيه. وفي قولٍ أنه يكفي فيه التخلية، وما كان لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، والظاهر معه.
وقوله: فلما استوجبته. في رواية لأبي داود: فلما استوفيته. المراد منه العقد، وظاهر اللفظ أنه قبضه ولم يكن قد حازه إلى رحله كما يدل عليه قوله: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. والله أعلم.
639 -
وعنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأعطي هذه من هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء". رواه الخمسة وصححه الحاكم (1).
الحديث لفظ أبي داود، وغيره بلفظ: فقال: "لا بأس به بالقيمة". وفي رواية: "لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء". وفي
(1) أبو داود، كتاب البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق 3/ 247 ح 3354، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف 3/ 544 ح 1242، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة 7/ 281، 282، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب 2/ 760 ح 2262، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 44.
لفظ [للنسائي (1)](أ): "ما لم يفرق بينكما شيء".
قال الترمذي والبيهقي (2): لم يرفعه غير سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وعلق الشافعي في "سنن حرملة" القول به على صحته، وروى البيهقي (3) من طريق أبي داود الطالسي قال: سئل شعبة عن حديث سماك هذا، فقال شعبة: أيوب عن نافع عن ابن عمر. ولم يرفعه. وحدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر. ولم يرفعه. وحدثنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم، عن ابن عمر. ولم يرفعه، ورفعه لنا سماك (4). انتهى.
وقوله: بالبقيع. بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي (5): في بقيع الغرقد. قال النووي (6): ولم يكن كثرت إذ ذاك فيه القبور. وقال ابن باطيش: لم أر مَنْ ضبطه، والظاهر أنه بالنون.
الحديث فيه دلالة على أنه يجوز أن يقضي عن الذهب الفضة، وعن الفضة ذهبًا؛ لأن ابن عمر كان يبيع بالدنانير، فيلزم المشتري في ذمته له دنانير وهي الثمن، ثم يقبض (ب) عنها دراهم وبالعكس، وهذا مصرح به في
(أ) في النسخ: لأبي داود. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 25.
(ب) في ب، جـ: يقضي.
_________
(1)
النسائي الكبرى 4/ 34 ح 6180.
(2)
الترمذي 3/ 544 عقب ح 1242، والبيهقي 5/ 284.
(3)
معرفة السنن والآثار 4/ 353 ح 3468.
(4)
ينظر علل الدارقطني (4 / ق / 72 - أمخطوط)، والتلخيص الحبير 3/ 26، وإرواء الغليل 5/ 173.
(5)
معرفة السنن 4/ 352 ح 3467.
(6)
تهذيب الأسماء واللغات 2/ 39.
رواية أبي داود وتبويب "باب اقتضاء الذهب من الورق". ولفظه: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؛ آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع؛ فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؛ آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء".
وفي هذا تصريح بأن النقدين جميعًا غير حاضرين، والحاضر أحدهما وهو غير اللازم في الذمة، فبيَّن الحكم بأنهما إذا فعلا ذلك فحقُّه ألا يفترقا إلا وقد قبض ما هو لازم عوض ما في الذمة، ولا يجوز أن يقبض البعض من الدراهم ويبقى بعض في ذمة من عليه الدنانير عوضًا عنها ولا العكس، لأن ذلك من باب الصرف، والشرط فيه ألا يفترقا وبينهما شيء.
وأما قوله: "بسعر يومها". فهو في رواية لأبي داود، والظاهر أنه غير شرط، وإن كان ذلك أمرا أغلبيا في الواقع، يدل على ذلك قوله:"فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". كما سيأتي في حديث عبادة (1)، والله أعلم.
640 -
وعنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّجْش. متفق عليه (2).
النجش بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة، وهو في اللغة تنفير
(1) سيأتي ح 667.
(2)
البخاري، كتاب البيوع، باب النجش 4/ 355 ح 2142، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه 3/ 1156 ح 1516.
الصيد واستثارته من مكانه ليصاد. يقال: أنجشت الصيد أنجُشه بالضمة نجشًا، فسمي الناجش في السلعة ناجشا؛ لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها، وقال ابن قتيبة (1): أصل النجش [الخَتْل](أ)، وهو الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش. لأنه يختل الصيد ويحتال له، وكل من استثار شيئًا فهو ناجش. أو من النجش بمعنى الاستتار، لأنه يستر قصده، ومنه قيل للصائد: ناجش لاستتاره. وقال الهروي: قال أبو بكر: النجش المدح والإطراء. وعلى هذا معنى الحديث: لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بلا رغبة. والصحيح الأول. كذا ذكره النووي (2).
وفي الشرع: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع؛ لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره، وقد يقع ذلك بمواطأة البائع، وقد لا يكون، وقد يكون من البائع وحده؛ مثل أن يخبر بأنه اشتراها بكذا ليخدع الشتري، وهو حرام لما فيه من الخديعة.
قال ابن بطال (3): أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك؛ فنقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عن الحنابلة إن كان بمواطأة البائع أو منه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية. ومثل هذا ذكر الإمام الهدي في "البحر" للهدوية قياسًا على
(أ) في الأصل: الختن.
_________
(1)
غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 199.
(2)
شرح مسلم 10/ 159، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 160، 161.
(3)
شرح ابن بطال على البخاري 6/ 270.
المُصَرَّاة، والبيع صحيح عند الهدوية والشافعية والحنفية، لأن النهي عائد إلى أمر مفارق للبيع وهو قصد الخداع، فلم يقتض الفساد.
وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش بما ذكر، وقيد ابن عبد البر (1) وابن العربي (2) وابن حزم (3) أن التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل. قال ابن العربي: فلو أن رجلًا رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها، فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشًا عاصيا، بل يُؤْجر على ذلك بنيته. وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، لأن ذلك من النصيحة. ويجاب عن ذلك بأن النصيحة تحصل بغير إيهام أنه يريد الشراء، وأما مع هذا فهو خداع وغرور، وقد أخرج البخاري (4) في "الشهادات" في باب قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (5). عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يُعْط، فنزلت. قال ابن أبي أوفي: الناجش آكل ربا خائن. وأخرجه الطبراني (6) من وجه آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعًا، لكن قال:"ملعون". بدل: خائن. انتهى.
وأطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشتري به أنه ناجش؛ لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير، فاشتركا في الحكم لذلك، وحيث كان الناجش غير البائع فقد يكون آكل ربا إذا جعل له البائع جُعلا.
وأخرج عبد الرزاق (7) من طريق عمر بن عبد العزيز أن غلامًا له باع
(1) التمهيد 13/ 348.
(2)
الفتح 4/ 356.
(3)
المحلى 9/ 468.
(4)
البخاري 5/ 286 ح 2675.
(5)
الآية 77 من سورة آل عمران.
(6)
الطبراني كما في مجمع الزوائد 4/ 83، والفتح 4/ 356.
(7)
عبد الرزاق 8/ 201، 202 ح 14882.
شيئًا فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفِّقه لكان كاسدًا. فقال له عمر: هذا نجش لا يحل. فبعث مناديًا فنادى أن [البيع](أ) مردود، وأن [النجش](ب) لا يحل. وفي هذا ردٌّ على ابن عبد البر وابن العربي، والله أعلم.
641 -
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تعلم. رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي (جـ)(1).
والمحاقلة؛ قال أبو عبيد (2): هي بيع الطعام في سنبله، مأخوذ من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه.
وأخرج الشافعي في "المختصر"(3) عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن
(أ) في الأصل: المبيع.
(ب) في الأصل: المبيع، وفي ب، جـ: البيع. والمثبت من مصدر التخريج.
(جـ) في هامش ب: وابن حبان في صحيحه له تلخيص.
_________
(1)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في المخابرة 3/ 259 ح 3404، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن الثنيا 3/ 585 ح 1290، والنسائي، كتاب المزارعة، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع واختلاف ألفاظ الناقلين للخبر 7/ 37، وكتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثنيا حتى تعلم 7/ 296، وأحمد 3/ 313. وأصل الحديث في مسلم 3/ 1175 ح 1536 - 85.
(2)
غريب الحديث 1/ 229، 230.
(3)
مختصر المزني ص 81.
جابر أن المحاقلة أن يبيع الرجلُ الرجلَ الزرع بمائة فَرَق (1) من الحنطة، والمزابنة أن يبيع الثمر على رءوس النخل بمائة فَرَق من تمر. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أفسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم. وهو متفق عليه (2) من حديث سفيان نحوه. واتفقا (3) عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ: نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الكرم بالزبيب كيلًا. وأخرجه عنه الشافعي في "الأم"(4)، قال الشافعي: وتفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم منصوصًا، ويحتمل أن يكون من رواية مَن رواه.
وفي النسائي (5) عن رافع بن خديج، والطبراني (6) عن سهل ابن سعد.
[إن](أ) المحاقلة مأخوذة من الحقل جمع حقلة. قاله الجوهري، وهي الساحات جمع ساحة.
وعن مالك أن المحاقلة هي أن تكرى الأرض ببعض ما تنبت، وهي المخابرة. ولكن في هذه الرواية عطف المخابرة عليها يُبْعد هذا التفسير، وسيأتي تفسير المخابرة في المزارعة إن شاء الله تعالى.
والمزابنة بالزاي المعجمة والباء الموحدة والنون، مفاعلة من الزَّبْن بفتح
(أ) كذا في النسخ، وفي التلخيص الحبير 3/ 29: تنبيه. وهو الصواب.
_________
(1)
الفرق: مكيال يسع ستة عمر رطلا. النهاية 3/ 437.
(2)
البخاري 5/ 50 ح 2381، ومسلم 3/ 1174 ح 1536/ 81.
(3)
البخاري 4/ 377 ح 2171، ومسلم 3/ 1171 ح 1542/ 72.
(4)
الأم 3/ 62، 63.
(5)
النسائي 7/ 33.
(6)
الطبراني كما في التلخيص الحبير 3/ 29.
الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع الشديد، ومنه سُميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها، وقيل للبيع الخصوص: المزابنة. كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، وقد ورد في تفسير المزابنة غير ما ذكر؛ فأخرج البخاري (1) عن ابن عمر أن المزابنة أن تبيع الثمر بكيل: إن زاد فلي، كان نقص فعلي. وهذا من القمار.
وأخرج مسلم (2) عن نافع أن المزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا، وبيع الزرع بالحنطة كيلًا. فدخل فيها المحاقلة وستأتي.
وقال مالك (3): المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده، إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان يجري الربا فيه أو لا، فتدخل فيه سورة القمار وما يلزم من الربا.
قال ابن عبد البر (4): نظر مالك إلى معنى المزابنة لغةً، وهي المدافعة، ويدخل فيها القمار والمخاطرة.
وبعضهم فسّر المزابنة بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهو خطأ. وقيل: هي المزارعة على الجزء، وقيل غير ذلك. والعلة في النهي عن جميع
(1) البخاري 4/ 377 ح 2172.
(2)
مسلم 3/ 1171 ح 1542/ 72.
(3)
الموطأ 2/ 625، 626.
(4)
الاستذكار 19/ 161.
ذلك هو؛ إما الربا لعدم علم التساوي، أو القمار، أو الغرر على ما عرفت، وعلى القول بأن المزابنة تختص [بالتمر](أ)، فالجمهور على أنه يلحقه جميع ما شاركه في العلة. وقال بعضهم: يختص بالنخل.
وقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى علي تحريم بيع الرطب بالتمر (ب) في غير العرايا، وأنه ربا.
وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة صافية، وهي المحاقلة، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعًا. وقال أبو حنيفة: إن كان مقطوعًا جاز بيعه بمثله من اليابس. وسيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص (1) عدم جوازه، والله أعلم.
وقوله: وعن المخابرة. هي من المزارعة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
وقوله: وعن الثنيا إلا أن تعلم. المراد بها الاستثناء في البيع، وذلك بأن يبيع شيئًا ويستثني بعضه، ولكنه إن كان ذلك البعض معلومًا صحت؛ نحو أن يبيع أشجارًا أو أعنابًا ويستثني واحدة معينة، فإن ذلك يصح اتفاقًا، وأما لو باع الصُّبرة إلا بعضها، أو هذه الأشجار والثياب إلا بعضها، فلا يصح البيع؛ لأن الاستثناء مجهول، وأما: بعتك هذه الثياب إلا ثوبًا. فإن خير في ذلك مدة معلومة بأن يقول: أختاره في يوم أو يومين. أو نحو ذلك، صح
(أ) في الأصل، ب: بالثمر.
(ب) في ب: بالثمر.
_________
(1)
سيأتي ح 679.
ذلك عند الهدوية؛ لأنه باشتراط الاختيار مدة معلومة يصير المستثنى في حكم المعلوم، وذلك حيث كان المبيع مختلفًا، وأما إذا كان مستويًا فإنه لا يصح، لعدم استقرار المبيع، وكذا إذا كان المستثنى مشاعًا مثل: إلا ربعها أو ثلثها. فإنه يصح، ومنع مالك أن يستثنى ما يزيد على الثلث.
وأما إذا باع الصُّبرة من الطعام أو الثمر من الشجر واستثنى آصُعًا فإنه يبطل البيع عند الجمهور من العلماء، وقال مالك وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك ما لم يزد على قدر ثلث المبيع. وقال أبو مضر من الهدوية: إنه يصح الاستثناء. وظاهر كلامه مطلقًا.
والوجه في النهي عن الثنيا هو الجهالة، وما كان معلومًا انتفت فيه العلة فخرج عن حكم النهي، وقد نبه النص على العلة بقوله: إلا أن تعلم. وقول أبي مضر قريب إن لم يكن قد سبقه الإجماع، والله أعلم.
642 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة. رواه البخاري (1).
قوله: عن المحاقلة. تقدم الكلام فيها.
قوله: والمخاضرة. هو بالخاء والضاد المعجمتين، وهي مفاعلة من الخضرة، والمراد به بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها، قال يونس بن القاسم (2): المخاضرة بيع الثمار قبل أن تطعم والزرع قبل أن يشتد ويفرك منه.
وقد اختلف العلماء فيما يصح بيعه من الثمار وما لا، فالزرع أو الثمر إذا كان قد بلغ الحد الذي ينتفع به، ولم يكن قد صلح بأخذ الثمر ألوانه واشتداد الحب؛ فذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة والشافعي إلى
(1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة 4/ 404 ح 2207.
(2)
الفتح 4/ 404.
أنه يصح البيع بشرط القطع -قال المؤيد بالله وأبو حنيفة: أو يسكت عن القطع- ويؤاخذ المشتري بالقطع، وأما إذا شرط البقاء فلا يصح اتفاقًا، وأما إذا قد بلغ حدَّ الصلاح، وذلك باشتداد الحب واسوداد العنب وأخذ الثمر ألوانه، فبيعه صحيح وفاقًا، إلا أن يشترط المشتري بقاءه. فظاهر قول المؤيد بالله وأبي طالب أنه لا يصح البيع، واختاره الإمام المهدي، وأحد قولي أبي العباس أنه لا (أ) يصح، وجمع الأستاذ بين القولين، بأنه إذا كانت المدة معلومة صحَّ عند الجميع، وإن كانت غير معلومة لم يصح، وأما إذا كان ذلك الثمر مما قد صلح بعضه وبعضه غير صالح فبيعه غير صحيح.
وذهبت الحنفية إلى جواز بيع الثمار وإن لم يبد صلاحها، ولو لم يكن ينتفع بها في الحال، قالوا: لأنه مال متقوم؛ إما لكونه منتفعًا به في الحال أو في المال، كما لو اشترى ولد جارية مولودا، فإنه يجوز كان لم يكن منتفعًا به في الحال، وهذا إذا اشتراها مطلقًا أو شرط القطع، وأما شرط البقاء فيفسد البيع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقدُ، وهو شغل ملك البائع، أو صفقتان في صفقة، وهو إعارة وإجارة في بيع، وكذا بعد الصلاح وقد تناهى كمالها إلى وقت الجداد (1)، فيفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد بن الحسن: إنه جوز ذلك استحسانًا لتعارف الناس. قال: وأما قبل الصلاح فلأنها تحدث آخرًا بعد البيع، فإذا شرط الترك فقد شرط الأجزاء المعدومة، فيفسد العقد، وما قد تناهى لا يزيد وإنما ينقص، فلم يكن شرطًا لمعدوم فيصح، وهما يقولان: شرط الانتفاع بملك غيره. وهو شرط لا يقتضيه العقد.
(أ) ساقط من: ب، جـ.
_________
(1)
الجداد، بالفتح والكسر: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها. النهاية 1/ 244.
ولو اشترى الثمرة التي لم يتناه صلاحها شراء مطلقا من غير شرط الترك وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته، بأن يقوَّم قبل الإدراك ويُقوم بعد الإدراك، فيتصدق بما زاد من قيمته إلى وقت الإدراك؛ لحصوله بجهة محظورة، كان تركها بعد ما تناهى صلاحها لم يتصدق بشيء؛ لأن هذا تغيُّر حالة لا تحقق زيادة، وهذا في الثمرة، وأما الزرع إذا اشترط بقاءه إلى الإدراك فالشرط (أ) فاسد باتفاق بين أبي حنيفة وصاحبيه (1)، ويقول محمد: إنه لا تعامل للناس فيه بخلاف الثمار. هكذا فصل الكلام في "شرح القُدوري".
وقوله: والملامسة. هي مس الثوب ولا ينظر إليه، وأخرج البخاري (2) عن الزهريّ أن الملامسة لمس الرجل الثوب بيده بالليل أو بالنهار، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون بيعهما من غير نظر ولا تراض. ولأبي عوانة (3) هو أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، أو يتنابذ القوم السلع كذلك، فهذا من أبواب القمار.
وفي رواية ابن ماجه (4) من طريق سفيان عن الزهريّ: المنابذة أن يقول: ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي. وللنسائي (5) من حديث أبي هريرة:
(أ) في ب، جـ: فالشراء.
_________
(1)
ينظر تحفة الفقهاء 2/ 79.
(2)
البخاري 10/ 278 ح 5820.
(3)
أبو عوانة 3/ 256 ح 4867.
(4)
ابن ماجه 2/ 733 ح 2170 من كلام سفيان بن عيينة.
(5)
النسائي 7/ 260، 261.
الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك (أ) ثوبي بثوبك. ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا، والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك. فيشتري كل منهما من الآخر، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر.
وأخرج أحمد (1) عن عبد الرزاق عن معمر: المنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة أن يلمس الثوب بيده [ولا ينشره](ب) ولا يقلبه، إذا مسه وجب البيع.
ولمسلم (2) عن أبي هريرة أن الملامسة أن يلمس كل واحد منهما (جـ ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، لم ينظر كل واحد منهما جـ) إلى ثوب صاحبه. وهذا تفسير أبي هريرة أنسب لبقاء المفاعلة على حقيقتها من الطرفين.
واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور، وهي أوجه للشافعية (3)؛ أصحها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول له صاحب الثوب: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك،
(أ) في ب، جـ: أبيع.
(ب) ساقط من: الأصل.
(جـ- جـ) ساقط من: ب.
_________
(أ) أحمد 3/ 95. وفيه: عبد الرزاق عن ابن جريج، ولكن ذكره الحافظ في أطراف المسند 6/ 260، والفتح 4/ 359 من طريق أحمد عن عبد الرزاق عن معمر به. وكذا أخرجه أبو داود 3/ 252 ح 3377، والنسائي 7/ 261 من طريق عبد الرزاق.
(2)
مسلم 3/ 1152 ح 1511/ 2.
(3)
المجموع 9/ 416، ومغني المحتاج 2/ 31.
ولا خيار لك إذا رأيته. الثاني: أن [يجعلا](أ) نفس اللمس بيعًا؟ بغير صيغة زائدة. الثالث: أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس وغيره. والبيع باطل على التأويلات كلها، وعلة البطلان مختلفة في ذلك. فالأول: العلة فيه عند مَنْ يثبت خيار الرؤية هو أنه شرط يرفع موجب العقد، إذ موجبه ثبوت الخيار، وعند الشافعية أن ذلك في حكم بيع الغائب وهو لا يصح بيعه. والثاني: أن ذلك من باب المعاطاة، فعند من يجيزها في المحقَّرات يقول بأن ذلك النهي في غير المحقَّر. ولهذا قال الرافعي: إن الأئمة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف [الذي](ب) في المعاطاة. والثالث: مثل الأول عند من يثبت خيار المجلس، وأما عند من لا يثبته فشرط عدم الخيار إذا كان خيار العيب يبطل عند الهدوية والبيع صحيح إذا لم يكسب العقد جهالة. وعند المؤيد بالله وغيره يصح الشرط، فلعلهم يحملون النهي على الكراهة.
والمنابذة اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال؛ وهي أوجه للشافعية، أصحها أن يجعلا نفس النبذ بيعًا كما تقدم في الملامسة. (جـ يعني مع صيغة البيع جـ).
والثاني: أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة. والثالث: أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار، وفيه ما تقدم في الملامسة.
واختلفوا في تفسير النبذ؛ فقيل: هو طرح الثوب. وقيل: هو نبذ الحصاة. والصحيح أنه غيره.
واعلم أنه قد استدل بقوله في تفسير الملامسة، وهو أن يمس الثوب ولا
(أ) في الأصل، ب: يجعل.
(ب) في الأصل، جـ: الثاني.
(جـ-جـ) ساقط من: جـ.
ينظر إليه، على بطلان بيع الغائب، وهو قول الشافعي في الجديد، وعن أبي حنيفة والعترة: يصح مطلقًا، ويثبت الخيار إذا رآه. وحكي عن مالك والشافعي أيضًا، وعن مالك: يصح إن وصفه وإلا فلا. وهو قول الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأبي ثور، واختاره البغوي والروياني من الشافعية وإن اختلفوا في تفاصيله، ويؤيده قوله في رواية أبي عوانة التي تقدمت: لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها. واستدل به على بطلان بيع الأعمى مطلقا، وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب، لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخيار، وقيل: يصح إذا وصف له غيره. وبه قال مالك وأحمد، وقالت الهدوية وغيرهم وأبو حنيفة: إنه يصح مطلقا. والله أعلم.
643 -
وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الركبان، ولا حاضر لباد". قلت لابن عباس: ما قوله: "لا يبع حاضر لباد"؟ قال: لا يكون له سمسارًا. متفق عليه، واللفظ للبخاري (1).
قوله: "لا تلقَّوا الركبان". التلقي يكون ابتداؤه من خارج السوق الذي تباع فيه السلعة. يدل عليه حديث عبد الله بن عمر، أخرجه البخاري (2)؛ قال: كنا نتلقي الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يُبلغَ به سوقُ الطعام.
وهذا اللفظ مبين في حديث آخر عن ابن عمر أن التلقي لا يكون في
(1) البخاري، كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ 4/ 370 ح 2158، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي 3/ 1157 ح 1521/ 19.
(2)
البخاري 4/ 375 ح 2166.
السوق، وهو؛ قال: كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه. أخرجه البخاري (1). فدل على أن القصد إلى أعلى السوق لا يكون تلقِّيًا، وأن منتهى التلقي ما فوق السوق. وجمع البخاري بين الروايتين في باب منتهى التلقي لينبه على ذلك، وأن الحديث يفسر بعضه بعضًا. وذهب الهدوية والشافعية إلى أن التلقي لا يكون إلا خارج البلد، لأنهم إذا نظروا إلى المعنى المناسب للمنع، وهو تغرير الجالب أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو من تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل دخول البلد فنادر.
والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقًا كما هو ظاهر الحديث، وهو قول أحمد وإسحاق. وعن الليث كراهة التلقي ولو في الطريق، ولو على باب البيت حتى تدخل السلعة السوق. وظاهر النهي إطلاق التلقي باعتبار منتهاه، فيتناول طول المسافة وقصرها، وهو ظاهر إطلاق الشافعية والهدوية، وقيد المالكية محل النهي بحد مخصوص ثم اختلفوا فيه؛ فقيل: ميل. وقيل: فرسخان. وقيل: مسافة القصر .. وهو قول الثوري.
والنهي ظاهر في التحريم، ولكنه حيث كان قاصدًا للتلقي عالمًا بالنهي فيه، كان خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشترى، ففي إثمه وجهان للشافعية، أظهرهما التحريم؛ والعلة في ذلك هو ما فيه من الخداع للبائع والإضرار بأهل المصر. وقال أبو حنيفة والأوزاعي: يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس، فإن أضر كُرِه.
وإذا تلقى واشترى؛ فعند الهدوية والشافعي أن البيع صحيح؛ لأن النهي لم
(1) البخاري 4/ 375 ح 2167.
يرجع إلى نفس العقد ولا إلى وصف ملازم، فلا يقتضي النهي الفساد، ولكنه يثبت الخيار للبائع عند الشافعي مطلقًا، وحجته حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن خزيمة، من طريق (أ) أيوب (1). وأخرجه مسلم (2) من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ:"لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". وسيأتي.
ومقتضى أصل الهدوية أنه لا يثبت الخيار إلا مع الغبن، كالمصرّاة. واختاره النووي (3) قال: فإن كان الشراء بأرخص من سعر البلد أو أكثر فوجهان؛ أصحهما: أنه لا خيار له؛ لعدم الغرر (ب). والثاني: ثبوته؛ لإطلاق الحديث.
والحديث فيه دلالة على أن العلة في النهي هو نفع (جـ) البائع وإزالة الضرر عنه، وقال مالك: العلة هو نفع أهل السوق. وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي، محتجين بحديث ابن عمر (4):"لا تلقَّوا السلع حتى تهبطوا بها السوق". وذهب جمع من العلماء إلى أن البيع فاسدٌ للنهي، ومستندهم أن
(أ) زاد في النسخ: أبي. وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني راوي الحديث عن ابن سيرين. ينظر مصادر التخريج، وتهذيب الكمال 3/ 457.
(ب) في شرح مسلم: الغبن.
(جـ) في جـ: بيع.
_________
(1)
أبو داود 3/ 266 ح 3437، والترمذي 3/ 524 ح 1221، وابن خزيمة -كما في الفتح 4/ 374.
(2)
سيأتي ح 644.
(3)
شرح مسلم 10/ 163.
(4)
البخاري 4/ 373 ح 2165، ومسلم 3/ 1156، 1517/ 14.
النهي يقتضي الفساد مطلقا. قال الإمام أبو عبد الله المازري (1): فإن قيل: المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي ألا يغبن البادي؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه السائل إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الواحد، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشرع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد في قبالة واحدٍ، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية، وهو لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا، [تناقض](أ) بين المسألتين، بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة. انتهى.
وشرط بعض الشافعية في النهي أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي. وذكر إمام الحرمين في سورة التلقي المحرَّم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل. وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول. وذكر أبو إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم. وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت
(أ) في الأصل: تنافي.
_________
(1)
شرح مسلم 10/ 163.
له ولو لم يكن هناك تلقٍّ، لكن صرّح الشافعية أن كون إخباره كذبًا ليس شرطًا لثبوت الخيار، وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر له الغبن، فهو المعتبر وجودًا وعدما.
وقوله: "لا تلقّوا الركبان". وصف الركبان خرج مخرج الأغلب في أن الجالب يكون عددًا ويكون راكبًا، فلو كان الجالب واحدًا أو مشاة فالحكم واحد.
وقوله: "لا يبع حاضر لباد". فسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسارا. بسينين مهملتين، هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره بأجرة، ولذلك بوب البخاري: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وباب من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر. وذكر حديث ابن عباس في البابين (1).
وفي كتب الحنفية (2): نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئًا يحتاج إليه أهل البلد. وقال بعضهم: هو أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه [بلدي] (أ) فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. فجعلوا الحكم منوطًا بالبادي ومن شاركه في معناه. قال: وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضر، وإضرار أهل البلد بالإشارة
(أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 371.
_________
(1)
البخاري 4/ 370، 372 ح 2158، 2159.
(2)
ينظر شرح فتح القدير 6/ 477، وحاشية ابن عابدين 5/ 102.
عليه [بألا يبادر بالبيع](أ). وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدًا، وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه. قال: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك.
وقال ابن المنذر (1): اختلفوا في هذا النهي؛ فالجمهور على أنه للتحريم بشرط العلم بالنهي، وأن يكون [المتاع](ب) المجلوب مما تعم الحاجة إليه، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع. وزاد بعض الشافعية عموم الحاجة، وأن يكون ذلك المتاع مما تحصل به التوسعة في البلد لا إذا كان حقيرًا. وظاهر الحديث عدم التقييد بشيء من ذلك، ولكن هذه المعاني مستنبطة لتعليل الحكم، وفي تخصيص العموم بها تفصيل؛ فصل ذلك الإمام ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (2)؛ قال: واعلم أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ، ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء؛ فحيث يظهر ظهورًا كبيرًا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورًا قويًّا فاتباع اللفظ أولى، فأما ما ذكر في اشتراط أن يلتمس البدوي ذلك، فلا يقوى؛ لعدم دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه ظاهرًا، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعي
(أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 4/ 371.
(ب) في ب: المباع.
_________
(1)
الفتح 4/ 371.
(2)
شرح عمدة الأحكام 3/ 115.
دعوى مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد، فكذلك أيضًا أنه متوسط في الظهور؛ لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد، وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه، كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه، ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية (1)؛ وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أَوْ لا؟ ويظهر لك هذا باعتبار ما ذكرناه من الشروط. انتهى.
وظاهر أقوال العلماء على أن النهي شامل لمن كان بأجرة وبغيرها؛ لإطلاق سائر الأحاديث الواردة.
والبخاري جعل حديث ابن عباس مقيدًا لما أطلق من الأحاديث، فاعتبر أن يكون بأجرة، وأما بغير أجرة فهو من باب النصيحة والمعاونة، ولذلك بوب: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له "(2). ورخص فيه عطاء. وأخرج حديث جرير مرفوعًا، وفي آخره: والنصح لكل مسلم (3). انتهى.
وظاهر نهي بيع الحاضر للبادي التحريم، وقد ذهب إليه الشافعي والجمهور، وذهب عطاء ومجاهد والهادي وأبو حنيفة إلى أن ذلك جائز مطلقًا ولا يكره. قالوا: كتوكيله، ولحديث النصيحة. قالوا: وحديث النهي منسوخ. والجواب أن ذلك لا يصلح لإطلاقه، وهذا خاص، وغاية ما
(1) ينظر شفاء الغليل للغزالي ص 80.
(2)
الفتح 4/ 370.
(3)
البخاري 4/ 370 ح 2157.
يحتمل من النسخ -لو صح- تأخره عن حديث النهي، على القول بأن الحاظر المتقدم لا يكون مخصِّصًا ولا مقيِّدًا. والصحيح خلافه، ومع عدم معرفة التاريخ، فيُرجّح الحظر إلا عند من يقول: ترجح الإباحة.
وذهب المؤيد بالله وغيره إلى أنه محمول على نهي التنزيه لا التحريم. ورجح الإمام المهدي في "البحر" التحريم حيث كان فيه إضرار.
وعلى القول بتحريم البيع فهو صحيح كما تقدم في التلقي، ولا يفسخ البيع، وهو مذهب الشافعية وجماعة من المالكية. وقال بعض المالكية: يفسخ البيع ما لم يفت.
وكذا يكون حكم الشراء، فلا يشتري حاضر لباد، ولذلك قال البخاري (1): باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة. استعمالًا للفظ البيع في البيع والشراء. قال ابن حبيب المالكي (2): الشراء للبادي مثل البيع، لقوله عليه السلام:"لا يبع بعضكم على بيع بعض". فإن معناه الشراء، وعن مالك في ذلك روايتان، وكرهه ابن سيرين. أخرج أبو عوانة (3) في "صحيحه" عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت: "لا يبع حاضر لباد". أنُهِيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نعم. قال محمد: وصدق، إنها كلمة جامعة. وقد أخرجه أبو داود (4) عن ابن سيرين عن أنس بلفظ: كان يقال: لا يبع حاضرٌ لبادٍ. وهي كلمة جامعة؛ لا يبيع له شيئًا ولا يبتاع له شيئًا. وقال إبراهيم النخعي: إن العرب تقول: بع لي ثوبًا. أي اشتر. والله أعلم.
(1) الفتح 4/ 372.
(2)
تفسير غريب الموطأ 2/ 392 - 394.
(3)
أبو عوانة 3/ 274 ح 4946.
(4)
أبو داود 3/ 267 ح 3440.
644 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الجلَب، فمن تلقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". رواه مسلم (1).
قوله: "لا تلقَّوا الجلَب". هو بفتح اللام مصدرٌ بمعنى المجلوب، يقال: جلب الشيء. جاء به من بلد إلى بلد للتجارة، وقد تقدم الكلام على حكم ذلك قريبًا.
645 -
وعنه رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتَكفأ ما في إنائها. متفق عليه (2). ولمسلم:"لا يسوم المسلم على سوم المسلم"(3).
تقدم الكلام على بيع الحاضر للبادي.
وقوله: ولا تناجشوا. عطف على قوله: نهى. من حيث المعنى؛ لأن معناه: لا يبيع حاضر لبادٍ ولا تناجشوا. وأتي بصيغة المفاعلة؛ لأن الناجش إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يُفعل (أ) له مثله. أو (ب) أنه بمعنى: فعل؛ أي: لا تنجشوا.
(أ) في ب: يفعله.
(ب) في جـ: و.
_________
(1)
مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم تلقي الجلب 3/ 1157 ح 1519/ 17.
(2)
البخاري، كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه، .... 4/ 353 ح 2140، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، .... 3/ 1155 ح 1515/ 12.
(3)
مسلم 3/ 1154 ح 9 - 1515.
وقوله: ولا يبيع الرجل على بيع أخيه. روي برفع المضارع على أن "لا" نافية، وهو إخبار في معنى النهي، ويحتمل الجزم على أنها ناهية، وإثبات الياء كما في قراءة:(إنه من يتقي ويصبر)(1). على أنه عومل المجزوم معاملة غير المجزوم فتركت الياء، ويدل على النهي رواية الكشميهني (2) بحذفها. وكذا الكلام في:(أولا أ) يخطب، و: لا (ب) يسوم.
وصورة البيع على البيع هو أنه إذا وقع البيع بخيار فيأتي في مدة الخيار، ويقول للمشتري: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أحسن منه. وكذا الشراء على الشراء وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. ونحوه.
وقوله: لا يسوم المسلم على سوم المسلم. صورته أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقدا، فيقول للبائع: أنا أشتريه منك. بعد أن كانا قد اتفقا على الثمن. وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك جميعه، وأن فاعله عاصٍ مع التصريح بذلك، وأما إذا لم يصرح ففيه وجهان للشافعية. وليس منه بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد، وقد بوب على ذلك البخاري (3) وقال: باب بيع المزايدة. وورد في ذلك صريحًا ما أخرجه أحمد
(أ - أ) ساقط من: ب.
(ب) ساقط من: ب.
_________
(1)
الآية 90 من سورة يوسف. والقراءة بإثبات الياء هي قراءة ابن كثير في رواية قنبل. انظر النشر 2/ 223.
(2)
ينظر الفتح 4/ 353.
(3)
الفتح 4/ 354.
وأصحاب السنن واللفظ للترمذي (1)، وقال: حسن. عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم باع حِلسًا وقدحًا، وقال:"مَنْ يشتري هذا الحلس والقدح؟ ". فقال رجل: آخذهما بدرهم. فقال: "من يزيد علي درهم؟ ". فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. وعلق البخاري (2) عن عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسًا ببيع المغانم ممن يزيد. ووصله ابن أبي شيبة (3) عن عطاء ومجاهد. وروى هو وسعيد بن منصور (4) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، كذلك كانت تباع الأخماس.
وقال الترمذي (5) عقيب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسًا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. وكأنه نظر إلى حديث ابن عمر رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر إلا الغنائم والمواريث (6). فقيَّد به حديث أنس، وقد أخذ بظاهره الأوزاعي وإسحاق، وجعَلا الجواز مختصًّا بهما.
وأقول: إن حديث ابن عمر ليس في البيع فيمن يزيد، بل ظاهره أنه (أ) ولو بعد الرضا بالسوم، فيعارضه حديث السوم على السوم بعد الرضا،
(أ) ساقط من: ب.
_________
(1)
أحمد 3/ 114، وأبو داود 2/ 123 ح 1641، والترمذي 3/ 522 ح 1218، وابن ماجه 2/ 740 ح 2198، والنسائي 7/ 259.
(2)
الفتح 4/ 354.
(3)
ابن أبي شيبة 6/ 60.
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 58.
(5)
الترمذي 3/ 522.
(6)
أًحمد 2/ 71.
ويحتاج إلى النظر في ذلك وسلوك الجمع بين الخاص والعام، ويلزم الشافعي ومن ذهب إلى العمل بالخاص مطلقًا ما ذهب إليه الأوزاعي وإسحاق، ولا يقيد (أ) حديث أنس كما أشار إليه الترمذي، لاختلاف المعنى فيهما، ولذا قال ابن عبد البر (1): إنه لا يحرم البيع فيمن يزيد اتفاقا. وعن إبراهيم النخعي: إنه يكره. وكأنه يحتج بما أخرجه البزار (2) من حديث سفيان بن وهب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع المزايدة. ولكنه في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
وأورد البخاري (3) في هذا الباب حديث جابر، أن رجلا أعتق غلامًا له عن دُبُر؛ فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من يشتريه مني؟ ". فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه. واعترضه الإسماعيلي وقال: ليس من بيع المزايدة؛ فإنه أن يعطي واحد ثمنا، ثم يعطي به غيرُه زيادة عليه. وأجاب ابن بطال بأن شاهد الترجمة منه قوله في الحديث:"من يشتريه مني؟ ". قال: فعرضه للزيادة ليستقضي فيه للمفلس الذي باعه عليه، والله أعلم.
وقد فسر الحاجة في رواية ابن خلان بأنها الدَّين، وذكره البخاري (4) في باب من باع مال الفلس فقسمه بين الغرماء [أو](ب) أعطاه حتى ينفق على
(أ) في ب: يعتد.
(ب) في النسخ: و. والمثبت من المصدر.
_________
(1)
التمهيد 18/ 191.
(2)
كشف الأستار 2/ 90 ح 1276.
(3)
البخاري 4/ 354 ح 2141.
(4)
البخاري 5/ 65 ح 2403.
نفسه، وفي رواية النسائي (1) أنه باعه بثمانمائة درهم فأعطاه وقال:"اقض دينك". وبيَّن مسلم وأبو داود والنسائي (2) اسم الرجل بأنه من الأنصار، اسمه [أبو](أ) مذكور واسم الغلام يعقوب.
وقوله: ولا يخطب على خطبة أخيه. في مسلم زيادة: "إلا أن يأذن له". وفي رواية له: "حتى يذر"(3). والنهي يدل على تحريم ذلك، وقد أجمعوا على تحريمها إذا كان قد صرح بالإجابة ولم يأذن ولم يترك، فإن تزوج والحال هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ، وهذا مذهب الجمهور. وقال داود (4): يفسخ النكاح. وعن مالك روايتان، وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده.
أما إذا عرَّض له بالإجابة ولم يصرح، ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي؛ أصحهما لا تحرم. وكذا مقيد في كتب الهدوية الرضا بالتصريح. وقال بعض المالكية: لا تحرم حتى يرضوا بالتزوج، ويسمي المهر. واستدل على اشتراط التصريح بالإجابة بحديث فاطمة بنت قيس (5) فإنها قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها مع ذلك لأسامة، وقد يقال: يحتمل أنه لم يعلم
(أ) ساقط من: الأصل، ب.
_________
(1)
النسائي 8/ 246.
(2)
مسلم 2/ 692، 693 ح 997، وأبو داود 4/ 26، 27 ح 3957، والنسائي 7/ 304.
(3)
مسلم 2/ 1034 ح 1414.
(4)
ينظر شرح مسلم 9/ 197.
(5)
مسلم 2/ 1114 ح 1480/ 36.
أحدُهما بخطبة الآخر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة لا أنه خطب له.
وهو خلاف الظاهر، والمعتبر في الرضا إن كانت المرأة بالغة وهو كُفء، فرضاها، وإن كان غير كُفء فرضا الولي مع رضاها، لأن له حقا في المنع، وإن كانت صغيرة فرضا الولي وحده.
وفي قوله: أخيه. يحتمل العمل بالمفهوم، وأنه لو كان غير أخ بأن يكون كافرا فلا تحريم؛ وهو حيث تكون المرأة كتابية وكان يستجيز نكاحها، وبه قال الأوزاعي. وقال جمهور العلماء: تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضًا. ويجيبون بأن التقييد خرج مخرج الغالب فلا يعمل بالمفهوم.
وأما الفاسق فقال الأمير الحسين في "الشفاء" و "الزوائد" على مذهب الناصر وابن القاسم المالكي: إنه يجوز؛ عملًا بالمفهوم. وقول الجمهور على خلف ذلك، وفي التقييد ما عرفتَ، وزاد في "الزوائد" الجواز إذا كان قريبا، قيل: أو علويًّا. والأول على خلاف ذلك، ولا وجه لهذا.
والخِطبة هنا بكسر الخاء، وأما الخُطبة في الجمعة والعيد والحج وغير ذلك وعند عقد النكاح فبضمها.
وقوله: ولا تسأل المرأة. إلى آخره، يروى مرفوعًا أيضًا ومجزوما، وكسر اللام لالتقاء الساكنين، ومعناه نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج الطلاق لزوجته، وأن ينكحها ويصير لها من النفقة والمعروف والمعاشرة ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بالإكفاء، لما كان في الصحفة من باب التمثيل، كأن ما ذكر لما كان معدودا للزوجة فهو في حكم ما قد جمعته في الصحفة لتستمع به، فإذا ذهب عنها فكأنها قد كفأت الصحفة وخرج ذلك منها، فعبر عن ذلك المجموع المركب بالمركب المذكور للشبه بينهما.
قال الكسائي: كفأت الإناء كببته، وكفأته وأكفأته أَمَلته. وفي
"المصباح"(1) كفأته كَفْأً من باب [نفع](أ)، أي: كببته، أي: قلبته على رأسه، وقد يكون بمعنى أملته. انتهى.
والمراد بأختها غيرُها؛ سواء كانت من النسب أو أختها في الإسلام. ولعله يأتي في التقييد هنا مثل ما مر، والله أعلم.
646 -
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ فَرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم (2)، لكن في إسناده مقال، وله شاهد.
الحديث المقال في إسناده من جهة حيي بن عبد الله المعافري مختلف فيه (3)، وله طريق أخرى عند البيهقي (4) غير متصلة من طريق العلاء بن كثير الإسكندراني عن أبي أيوب، ولم يدركه، وله طريق أخرى عند الدارمي في "مسنده"(ب) كتاب "السنن (5) ". وفي الباب
(أ) في الأصل، ب: منع.
(ب) زاد في ب: في.
_________
(1)
المصباح المنير (ك ف ى).
(2)
أحمد 5/ 412، 413، والترمذي، كتاب السير، باب في كراهية التفريق بين السبي 4/ 114 ح 1566، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 55.
(3)
حيي بن عبد الله بن شريح المعافري المصري، قال الحافظ: صدوق يهم، وضعفه أحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، وقال ابن معين: ليس به بأس. التقريب ص 185، وتهذيب الكمال 7/ 488.
(4)
البيهقي 9/ 126.
(5)
الدارمي 2/ 227، 228.
من حديث عبادة بن الصامت: "لا يفرق بين الأم وولدها". قيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية". أخرجه الدارقطني والحاكم (1)، وفي سنده عندهما عبد الله بن عمرو الواقعي (2) وهو ضعيف، رماه علي بن المديني بالكذب، وتفرد به عن سعيد بن عبد العزيز. قال الدارقطني (3).
وفي "صحيح مسلم"(4) من حديث سلمة بن الأكوع في الحديث الطويل الذي أوله: خرجنا مع أبي بكر فغزونا فزارة. الحديث. وفيه: وفيهم امرأة ومعها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر ابنتها، فطلبها النبي صلى الله عليه وسلم مني وأرسل بها إلى مكة ليفادى بها أسارى من المسلمين.
فيستدَل به على جواز التفريق، وبوب عليه أبو داود (5)، والظاهر أن البنت قد كانت بلغت؛ ولذا احتج به فيما ذكر. وكذا قال في "المنتقى" (6): هو حجة في جواز التفريق بعد البلوغ.
والحديث فيه دلالة على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها، وظاهره عام في الملِك أو في الجهات. والظاهر أنه لم يذهب إلى هذا العموم أحد. ومثله:
(1) الدارقطني 3/ 68، والحاكم 2/ 55.
(2)
عبد الله بن عمرو بن حسان الواقعي، قال أبو حاتم: ليس بشيء، ضعيف الحديث، كان لا يصدق. وكذبه الدارقطني. الجرح والتعديل 5/ 119، ولسان الميزان 3/ 320.
(3)
الدارقطني 3/ 68.
(4)
مسلم 3/ 1375 ح 1755.
(5)
أبو داود 3/ 64.
(6)
منتقى الأخبار كما في نيل الأوطار 5/ 194.
"لا تُوَلَّهُ والدة بولدها"(1). فيحمل ذلك على التفريق في الملك بالبيع كما هو صريح في حديث على الآتي، وهو نصٌّ في البيع (أ)، ويقاس عليه سائر الإنشاءات؛ كالهبة والنذر، وهو ما كان باختيار المفرق. أما التفريق بالقسمة فليس باختياره، فإن سبب المِلك قهري وهو الميراث، ويدل بظاهره على صحة الإخراج عن المِلك؛ لوقوع التفريق المستحق صاحبه للعقوبة، فلو كان لا يصح الإخراج عن المِلك لم يتحقق التفريق، وسيأتي استيفاء الكلام في الذي بعده. وظاهر الحديث [عدم] (ب) التفريق ولو بعد البلوغ. قال في "الغيث" (2): ولكنه خصه الإجماع في الكبير كما في العتق، ولعل مستند الإجماع إن صحَّ حديث عبادة بن الصامت، وهو متأيد وإن كان ضعيفًا بحديث مسلم المار. وعند المنصور بالله وأحد قولي الناصر حدُّ التحريم إلى سبع سنين، وكأنهما أخذا ذلك من الحضانة، لا وجه له. والنص ورد في الوالدة وولدها والأخوين، ويقاس سائر الأرحام المحارم على ذلك بجامع الرحامة: والعتق.
647 -
وعن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما ففرَّقت بينهما. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(أ) في جـ: المبيع.
(ب) في الأصل، جـ: عموم.
_________
(1)
البخاري في التاريخ الكبير 6/ 477 من حديث عيينة بن عاصم بن سعر عن أبيه عن جده، وابن عدي 6/ 2414 من حديث أنس، والبيهقي 8/ 5 من حديث أبي بكر الصديق.
(2)
هو كتاب "الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار" للإمام المهدي أحمد بن يحيى. ينظر أعلام المؤلفين الزيدية ص 206.
"أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا". رواه أحمد ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان (1).
الحديث أخرجوه من رواية الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه في "العلل"(2) أن الحكم إنما سمعه من ميمون بن أبي شبيب عن علي، وميمون لم يدرك عليًّا. وقال الدارقطني في "العلل" (3) بعد حكاية الخلاف فيه: لا يمتنع أن يكون الحكم سمعه من عبد الرحمن ومن ميمون، فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا.
والحديث فيه دلالة على أن هذا البيع باطل أو فاسد، فإن الارتجاع يصح فيهما. وقد ذهب إلى الأول الشافعي في أخير قوليه، والسيد يحيى من مفرعي مذهب الهادي، وذهب الفقيه يحيى من المفرعين أيضًا إلى أنه فاسدٌ، وذهب أبو حنيفة وقول الشافعي القديم (4) إلى أنه ينعقد مع العصيان. ولعل حجتهم ما أشير إليه في الحديث الأول، والأمر بالارتجاع للغلامين يحتمل أن يكون ذلك بعقد جديد برضا المشتري، والله أعلم.
فائدة: وفي البهيمة وولدها وجهانِ؛ لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تعذيب
(1) أحمد 1/ 97، 127، وابن الجارود، كتاب البيوع 2/ 162 ح 575، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 54، وكتاب الجهاد 2/ 125، وابن القطان -كما في نصب الراية 4/ 26.
(2)
علل ابن أبي حاتم 1/ 386.
(3)
علل الدارقطني 3/ 274.
(4)
الذي في المجموع 9/ 444 في التفريق بين الأخ وسائر محارمه، فالمذهب أنه يكره ولا يحرم، ولم يتعرض للقديم، وينظر روضة الطالبين 10/ 258.
البهائم. ويجوز كالذبح، وهو الأصح، بخلاف الآدمي للحرمة، والله أعلم.
648 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعِّر لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق، إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلِمة في دم ولا مال". رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن حبان (1).
وأخرجه ابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وغيره [عن](أ) أنس (2)، وإسناده على شرط مسلم، وصححه الترمذي أيضًا. ولأحمد وأبي داود (3) من حديث أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر. فقال:"بل أدعو الله". ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعِّر. فقال:"بل الله يخفض ويرفع". وإسناده حسن. ولابن ماجه والبزار والطبراني في "الأوسط"(4) من حديث أبي سعيد نحو
(أ) في النسخ: وعن. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
أحمد 3/ 156، 286، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التسعير 3/ 270 ح 3451، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير 3/ 605 ح 1314، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر 2/ 741 ح 2200، وابن حبان، كتاب البيوع، باب التسعير والاحتكار 11/ 307 ح 4935.
(2)
الدارمي 2/ 249، وأبو يعلى 5/ 245 ح 2861.
(3)
أحمد 2/ 337، 372، وأبو داود 3/ 270 ح 3450.
(4)
ابن ماجه 2/ 742 ح 2201، والطبراني 6/ 110 ح 5955.
حديث أنس، وإسناده حسن أيضًا، وللبزار (1) من حديث علي نحوه، وعن ابن عباس في "الطبراني الصغير"(2)، وعن أبي جحيفة في "الكبير"(3)، وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(4) من حديث علي، وقال: إنه حديث لا يصح.
الغلاء [ممدود](أ): هو ارتفاع الثمن على ما يعتاد. وقوله: "إن الله هو المسعِّر". يعني أن الله سبحانه يفعل ذلك هو وحده بإرادته، فإذا أراد ارتفاع السعر ارتفع، وإذا أراد انحطاطه انحط.
والقابض المقتر، والباسط الموسع. وفي تقديم القابض على الباسط هنا وفي قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (5). تأنيس لذي الحاجة لرجاء اليسر بعد العسر الذي هم فيه.
والحديث فيه دلالة على أن التسعير مظلمة؛ لقوله: "وليس أحد منكم يطلبني بمظلِمة". لكون (ب) الجواب عن السؤال الذي سألوه عنه، وهو التسعير.
والظاهر أن ذلك في القوت، وإذا كان مظلِمة فهو غير جائز، وقد ذهب إلى هذا جمهور العلماء. وعن مالك أنه يجوز للإمام التسعير ولو في
(أ) في النسخ: مقصور. وهو خطأ، ينظر تهذيب اللغة 8/ 190، واللسان والتاج (غ ل و).
(ب) في ب، جـ: ليكون.
_________
(1)
البزار 3/ 113 ح 899.
(2)
الطبراني في الصغير 2/ 7 ح 767.
(3)
الطبراني في الكبير 22/ 125 ح 322.
(4)
الموضوعات 2/ 238، 239.
(5)
الآية 245 من سورة البقرة.
القوتين (1). وقال في "شرح القُدُوري": لا ينبغي للسلطان أن يسعِّر علي الناس، وإذا رفع هذا الأمر إلى القاضي واضطرت الناس، فإنه يأمر المحتكر بالبيع لما فضل عن قوته وقوت أهله، وإذا خاف الإمام على أهل المصر الهلاك أخذ الطعام من المحتكر وفرقه عليهم، فإذا وجدوا ردوا مثله. انتهى.
وعند الهدوية أنه يكلَّف البيع، فإن لم يبع باع عنه الإمام والحاكم. وقال الإمام شرف الدين: إن المحتكر إذا طلب زيادة على قيمة وقته سَعّر عليه، وإلا أدى إلى أن يَقصد الضرار بأن يرسم ثمنه ما لا يَقدر عليه.
وذكر مثل هذا القاضي عبد الله الدواري: وإن جهل ثمن مثله كان إلى نظر الحاكم؛ بأن يقيسه على ما مضى في مثل هذه الشدة، وإن زادت زاد، وإن نقصت نقص. وهذا قريب من قول مالك.
وأما في غير القوتين فقال الإمام المهدي في "الغيث": إنه استصلح الأئمة المتأخرون تقدير سعر ما عدا القوتين في بعض الأحوال؛ كاللحم والسمن، رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم. والحديث يرد على الجميع.
649 -
وعن معمر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطئ". رواه مسلم (2).
هو معمر -بفتح الميم وسكون العين وفتح الميم- بن عبد الله، من بني عدي بن كعب، القرشي العدوي، ويقال له: معمر بن أبي معمر. أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، وتأخرت هجرته إلى المدينة، ثم هاجر إليها وسكن فيها، وحديثه في أهل المدينة، روى عنه سعيد بن المسيب وبُشر -
(1) يعني بالقوتين قوت الناس وقوت البهائم. ينظر حاشية ابن عابدين 6/ 400، وما سيأتي في ص 116.
(2)
مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات 3/ 1228 ح 1605/ 130.
بضم الباء الموحدة وسكون المهملة- بن سعيد (1). [والحديث](أ) أخرجه الترمذي (2) أيضًا.
وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه الحاكم (3) بلفظ:"من احتكر يريد أن يغالي بها المسلمين فهو خاطئ، وقد برئ منه ذمة الله". ومن حديث ابن عمر: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون". أخرجه ابن ماجه والحاكم وإسحاق والدارمي وأبو يعلى والعقيلي في "الضعفاء" بإسناد ضعيف (4). ومن حديث ابن عمر: "من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه". أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى (5)، زاد الحاكم:"وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله". وفي إسناده أصبغ بن زيد اختلف فيه (6)، وكثير بن مرة (7) جهله ابن
(أ) في النسخ: الحديث و. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
ينظر تهذيب الكمال 28/ 314.
(2)
الترمذي 3/ 567 ح 1267.
(3)
الحاكم 2/ 12.
(4)
ابن ماجه 2/ 728 ح 2153، والحاكم 2/ 11، وإسحاق -كما في نصب الراية 4/ 261، والتلخيص الحبير 3/ 13 - والدارمي 2/ 249، وأبو يعلى -كما في نصب الراية 4/ 261، والتلخيص الحبير 3/ 13 - والعقيلي 3/ 231، 232، كلهم من حديث عمر بن الخطاب إلا العقيلي فمن حديث ابن عمر.
(5)
أحمد 2/ 33، والحاكم 2/ 11، 12، وابن أبي شيبة 7/ 212 ح 20651، وكشف الأستار 2/ 106 ح 1311، وأبو يعلى 10/ 115، 116 ح 5746.
(6)
أصبغ بن زيد بن علي الجهني، الوراق، أبو عبد الله الواسطي، كاتب المصاحف، صدوق يغرب. التقريب ص 113، ووثقه ابن معين، وقال أحمد والنسائي: ليس به بأس، وضعفه ابن سعد. وينظر تهذيب الكمال 3/ 308.
(7)
كثير بن مرة الحضرمي الحمصي، ثقة، ووهم من عده من الصحابة. التقريب ص 460.
حزم وعرفه غيره، وقد وثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة، واحتج به النسائي، وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1). قال المصنف (2): وقد وهم. و (أ) أبو حاتم قال (ب)(3): هو منكر. حكاه عنه ابنه.
وغير ذلك من الأحاديث.
والاحتكار هو أن يشتري الشيء ليبيعه في وقت غلائه، وظاهر الحديث يدل على منع الاحتكار مطلقا؛ سواء كان في الأقوات أو في غيرها، وذهب إلى هذا العموم أبو يوسف، فقال: كل ما أضر بالناس حبسُه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو ثيابًا. وعن محمد أنه لا احتكار في الثياب، وإنما هو في الحنطة والشعير والتمر (جـ) الذي هو قوت الناس. وقريب منه قول أبي حنيفة.
وكذا قوت البهائم، ومذهب الهدوية أنه في قوت بني آدم وقوت البهائم، وكذا في مذهب الشافعية؛ قال أصحاب الشافعي: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة؛ وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا اشتراه أو جاءه من قريته في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار، ولا تحريم فيه. كذا ذكره النووي (4).
(أ) ساقط من: ب.
(ب) في جـ: وقال.
(جـ) في ب: والتمر.
_________
(1)
ينظر تهذيب الكمال 24/ 158، 159، وينظر المحلى 9/ 718، وطبقات ابن سعد 7/ 448، والموضوعات 2/ 242.
(2)
التلخيص الحبير 3/ 14.
(3)
علل ابن أبي حاتم 1/ 392.
(4)
شرح مسلم 11/ 43.
واعلم أن الأحاديث الواردة في الباب وردت مطلقة ومقيدة بالطعام، وما كان على هذا المنوال فالواجب عند الجمهور إلَّا يقيَّد المطلق بالمقيَّد؛ لعدم التعارض بينهما، بل يبقى المطلق على إطلاقه، إلا عند أبي ثور، فإنه يحمل المطلق على المقيد، فكان الأَولى العمل بالإطلاق في تحريم الاحتكار، ولا يقيد بالقوتين إلا أن ينظر إلى الحكمة المناسبة للتحريم، وهي دفع الضرر عن عامة الناس، والأغلب في دفع الضرر عن العامة إنما يكون في القوتين، فيقيد الإطلاق بالمناسب. وقد احتيج إلى ذلك في كثير من العمومات والمطلقات، ولعل ذلك هو الحامل للأكثر إلى تقييد الاحتكار في القوتين، ولا يصح أن يكون التقييد وقع بمذهب الصحابي الراوي كما أخرج مسلم (1) عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر، فقيل له: فإنك تحتكر. فقال: إن معمرًا راوي الحديث كان يحتكر. قال ابن عبد البر وآخرون (2): كانا يحتكران الزيت. فظاهر جواب سعيد التقييد بمذهب الصحابي، وهو يحتمل أن معمرًا وسعيدًا قيَّداه بالقوتين كمذهب الجمهور.
وقوله: "إلا خاطئ". الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم، وهو صريح في التحريم. والله أعلم.
650 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُصَروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر". متفق عليه (3).
(1) مسلم 3/ 1227 ح 1605/ 129.
(2)
ينظر الاستذكار 20/ 72، وشرح مسلم 11/ 43.
(3)
البخاري، كتاب البيوع، باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة 4/ 361 ح 2148، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم النجش وتحريم التصرية 3/ 1155 ح 1515/ 11.
ولمسلم (1): "فهو بالخيار ثلاثة أيام". وفي رواية له علقها البخاري (2): "ورد معها صاعًا من طعام لا سمراء". قال البخاري: والتمر أكثر.
قوله: "لا تُصَروا". هو بضم التاء وفتح الصاد بوزن تُزَكُّوا من صرّى يُصرّي كزُكَّى يُزَكِّي، و"الإبل" مفعوله، وضبطه بعضهم بفتح أوله وضم ثانيه من صَرَّ يَصُر. والأول أصح، أنه من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته، وليس من: صررت الشيء إذا ربطته، يدل عليه اسم المفعول، فإنه قيل: مصرَّاة. ولم يُقل: مصرورة. وإن كان المعنيان ثابتين في اللغة. وبعضهم ضبطه بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول ورفع الإبل.
والمصراة: التي صُرِّي لبنها وحُقِن فيه وجُمع فلم يحلب أياما. وأصل التصرية حبس الماء؛ يقال منه: صَرَّيتُ الماء. إذا حبستَه، وكذا قال البخاري، وهو قول أبي [عبيد] (أ) وأكثر أهل اللغة (3). وقال الشافعي (4): هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها.
وقوله: "الإبل والغنم". لم يذكر البقر، والحكم واحد، ولذلك ترجم البخاري الباب بباب النهي للبائع ألا يحفِّل الإبل والغنم والبقر، ولعله لم يذكر في الحديث لغلبة التصرية عندهم فيهما.
(أ) في النسخ: عبيدة. والمثبت من معالم السنن 3/ 112، وفتح الباري 4/ 362.
_________
(1)
مسلم كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة 3/ 1158 ح 1524/ 23، 24.
(2)
مسلم 3/ 1158 ح 1524/ 25، والبخاري 4/ 361 عقب ح 2148.
(3)
غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 241، 242، وتهذيب اللغة 12/ 224، والصحاح (ص ر ى)، والنهاية 3/ 27.
(4)
مختصر المزني ص 82.
وقوله: "لا تصروا". ظاهره النهي عن التصرية مطلقًا، وقد جزم به بعض الشافعية، لما فيه من إيذاء الحيوان، وقد ورد تقييد ذلك في رواية النسائي (1):"لا تصروا الإبل والغنم للبيع". وفي رواية له (2): "إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة فلا يحفِّلها". وهذا هو أرجح عند الجمهور، ويدل عليه التعليل بالغرر والتدليس، وبأن إيذاء الحيوان لا يصلح علة للنهي، لما (أ) فيه من الضرر اليسير الذي لا يستمر فيغتفر لتحصيل المنفعة.
وقوله: "فمن ابتاعها". أي اشتراها.
وقوله: "بخير النظرين". أي الرأيين.
وقوله: "بعد أن يحلبها". كذا في رواية ابن خزيمة والإسماعيلي، و "بعد" ظرف زمان مضاف إلى "أن يحلبها"، وفي رواية بحذف "بعد" و "إن يحلبها" بكسر "إن". على الشرطية وجزم "يحلبها"، وظاهره أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، ولو ظهرت التصرية بغير الحلب فالخيار ثابت.
وقوله: "إن شاء أمسك". أي أبقاها على ملكه، وهو يقضي بصحة بيع المصراة وثبوت الخيار.
وقوله: "وإن شاء رَدَّ". في الحديث دلالة على أن الرد بالتصرية فوري؛ لأن الفاء في قوله: "فهو بخير النظرين". تدل على التعقيب من دون تراخٍ، وقد ذهب إلى هذا بعض الشافعية، وذهب البعض منهم والهادي والناصر إلى أن الرد على التراخي، ونقل أبو حامد والرُّوياني على ذلك نص الشافعي (3) إلى أنه على التراخي، محتجين برواية: "فله الخيار
(أ) في جـ: بما.
_________
(1)
النسائي 7/ 253.
(2)
النسائي 7/ 252، 253.
(3)
الأم 7/ 100.
ثلاثا" (1). وهي مقدمة علي رواية الإطلاق. وأجاب الأولون بأن هذه الرواية محمولة على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثلاث، لكون الغالب أنها لا تُعلَم في دون ذلك، لجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه.
قال المصنف رحمه الله تعالى (2): ويؤيده أن في بعض روايات أحمد والطحاوي (3) من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة: "فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها".
واختلفوا في ابتداء الثلاثة الأيام، فقالت الحنابلة: هي من بعد بيان التصرية. وعند الشافعية هي من عند العقد، وقيل: من التفرق. ويلزم على هذا أن يكون الفور أوسع من الثلاث في بعض الصور، وهو ما إذا تأخر بيان التصرية إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ، وأن يفوت المقصود من التوسع بالمدة.
وقوله: "وصاعًا من تمرٍ". منصوب عطفا على الضمير المفعول في "ردها"، ولا يصح ذلك ظاهرًا؛ لأن الصاع مغروم ابتداءً لا مردود، فيتخرج على العطف بتقدير ما يصح معه المعنى [لظهوره](أ)، فيقدر: وأعط صاعًا. مثل قوله (4):
(أ) في النسخ: لظهور. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الفتح 4/ 362، 363.
(2)
الفتح 4/ 363.
(3)
أحمد 2/ 259، والطحاوي في شرح المعاني 4/ 17.
(4)
لا يعرف قائله، وقال الفراء في معاني القرآن 1/ 14: أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه. وقال البغدادي في خزانة الأدب 3/ 139، 140: ولا يعرف قائله، ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده فيه.
* علفتها تبنًا وماءً باردًا *
بتقدير: أسقيت. ويجوز أن يكون مفعولا معه على ما ذهب إليه بعضهم من صحة مصاحبته للمفعول به.
واعلم أن ظاهر الحديث أن الواجب رد صاع واحد ولو تعددت المصراة، وإن اشتراها صفقتين تعدد الصاع، وإن اشتراها صفقة واحدة؛ فنقل ابن قدامة الحنبلي (1) عن الشافعي تعدد الصاع بتعددها، وذهب ابن حزم (2) إلى عدم التعدد، وقال ابن عبد البر (3): لا يجب في لبن شياه أو نوق أو بقر عدة إلا الصاع. وإذا كان اللبن باقيًا فذهبت الهدوية إلى أنه يتعين ردُّه، وسيأتي قريبا. وللشافعي وجهان: يجب، لأنه أقرب إلى مستحقه. والثاني: لا، لأن طراوته ذهبت، ولا (أ) يلزم البائع قبوله. واتباع لفظ الحديث أولى.
والحديث يدل على أنه يثبت الخيار بالتصرية فيما ذكر من الإبل والغنم، واختلف العلماء القائلون بالرد، هل يقصر على ذلك أو يلحق به غيره؛ فذهب داود إلى الاقتصار على ذلك، وقالت الحنابلة وبعض الشافعية: يختص ذلك بالنعم. فزادوا البقر، فكأنهم جمعوا في الحكم بينها بالقطع بنفي الفارق، وكأن الوارد بناء على ما كان أغلب في ذلك العصر، وبعضهم عمم الحكم في مأكول اللحم، وأشار إلى ذلك البخاري؛ حيث ترجم الباب بباب النهي للبائع ألا يحفِّل الإبل والغنم والبقر وكل محفّلة.
(أ) في ب: فلا.
_________
(1)
المغني 6/ 222.
(2)
المحلى 9/ 721.
(3)
التمهيد 18/ 212.
والتحفيل بالحاء المهملة والفاء التجميع، تقول: ضرع حافل. أي عظيم، واحتفل القوم؛ إذا كثر (أ) جمعهم، ومنه سمي المَحْفِل، فعطْفُ ذلك من عطف العام على الخاص؛ لإلحاق غير النعم فيه من مأكول اللحم بالنعم. واختلفوا في غير المأكول كالأتان والجارية، فالأصح ثبوت الرد، إذ اللبن مقصود، ولا يرد به عوض، وبه قالت الحنابلة في الأتان دون الجارية.
وقوله: في رواية علقها البخاري. يعني [عن](ب) ابن سيرين ووصلها مسلم عنه.
وقوله: "صاعًا من طعام لا سمراء". اختلفت الرواية عن ابن سيرين في تفسير السمراء؛ فأخرج الطحاوي (1) من طريق أيوب عن ابن سيرين، أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية. وروى ابن أبي شيبة (2) وأبو عوانة (3) من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين:"لا سمراء". يعني الحنطة. وروى ابن المنذر (4) من طريق ابن عون عن ابن سيرين، أنه سمع أبا هريرة يقول:"لا سمراء". أي: ليس بِبُرٍّ.
وقد اختلفت أيضًا الروايات في الحديث؛ فجاء عن ابن سيرين على أربع روايات، ذكر التمر والخيار ثلاثًا، وذكر التمر بدون الثلاث، والطعام مع
(أ) في ب: كبر.
(ب) في الأصل، ب: على.
_________
(1)
شرح معاني الآثار 4/ 19.
(2)
ابن عبد البر في التمهيد 18/ 204 من طريق ابن أبي شيبة.
(3)
أبو عوانة 3/ 277 ح 4958.
(4)
ابن المنذر كما في الفتح 4/ 364.
الثلاث وبدونها.
وأخرج البزار (1) من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ: "إن ردّها ردّها ومعها صاع من بُر لا سمراء". وهذه الرواية تعارض التصريح بالتمر معارضة واضحة دون رواية الطعام، لأن الطعام يحتمل أن يراد به التمر. وأتبعه بقوله:"لا سمراء". لئلا يتوهم أن المراد بالطعام القمح، ويراد بالسمراء معنى القمح المطلق لا النوع المخصوص، ولكنه يبعده رواية أحمد (2) بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث البخاري، وفيه:"وإن ردها ردّ معها صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر". فإن العطف بـ: "أو" يقتضي التخيير بين التمر والطعام، ومن لازِمِه أن يكون غيره. إلا أنه يحتمل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي لا [تخييرًا](أ) في الحكم، فيُرجَع إلى الروايات التي لا احتمال فيها، وهي رواية التمر، ولذلك قال البخاري: والتمر أكثر. والكثرة مرجحة، ويندفع بهذا ما قال بعض الحنفية: إن هذا الاختلاف قادح في العمل بالحديث. فإن الكثرة من وجوه الترجيح. وأما ما أخرجه أبو داود (3) من حديث ابن عمر بلفظ: "إن ردَّها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا". ففي إسناده ضعف. وقال ابن قدامة (4): إنه متروك الظاهر بالاتفاق.
(أ) في النسخ: تخيير. والمثبت من الفتح 4/ 364.
_________
(1)
البزار -كما في الفتح 4/ 364.
(2)
أحمد 4/ 314.
(3)
أبو داود 3/ 268، 269 ح 3446.
(4)
المغني 6/ 218.
والحديث فيه دلالة على أنه يرد بدل اللبن الصاع. وقد ذهب إلى هذا جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود (1) وأبو هريرة (2)، ولا مخالف من الصحابة. وقال به من التابعين ومن بعدهم [من](أ) لا يحصى عدده، وسواء كان اللبن قليلا أو كثيرا والتمر قوتا في البلد أو لا. وقال زفر: يتخير بين صاع تمر أو نصف صاع بر. وقال به ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية، [وقالا] (ب): تصح قيمة الصاع من التمر. وفي رواية (جـ) عن مالك وبعض الشافعية كذلك؛ إلا أنهم قالوا: يتعين قوت البلد قياسًا على زكاة الفطر. وحكى البغوي اتفاق الشافعية أنه يصح التراضي بغير التمر من قوت أو غيره، وأثبت ابن كَجٍّ الخلاف في ذلك، وحكى الماوردي الخلاف فيما إذا عجز عن التمر، هل يلزم قيمته ببلده أو بأقرب البلاد إليه التي فيها التمر؟ وبالثاني قال الحنابلة. وذهبت الهدوية إلى أنه يجب رد اللبن بعينه إن كان باقيا، أو مثله إذا كان تالفا، أو قيمته يوم الرد حيث لم يوجد المثل، وفي مذهب الهدوية خلاف؛ هل اللبن مثلي أو قيمي؟
والخلاف للحنفية في أصل المسألة، وقالوا: لا يرد بعيب التصرية، ولا يجب رد الصاع من التمر، واعتذروا عن حديث المصراة بأعذار شتى؛ فمنهم من طعن في رواية أبي هريرة، وأنه لم يكن كابن مسعود وغيره من
(أ) في الأصل: ما.
(ب) في النسخ: وقال: لا. والمثبت موافق لما في الفتح 4/ 364.
(جـ) زاد في النسخ: عمر. والمثبت من الفتح 4/ 364.
_________
(1)
البخاري 4/ 361 ح 2149.
(2)
عبد الرزاق 8/ 197، 198 ح 14862.
فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ من روايته ما خالف القياس الجلي. وهو كلام بيّن الضعف، ساقط عن الاعتبار، مفصح بخذلان قائله وتنكبه عن سواء الصراط، فإن أبا هريرة هو المتسع (أ) في العلوم النبوية الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسط رداءه للعلم، وحفظ وعاءً من العلم، والإقدام على الطعن على مثله من الأعلام بدعة وضلالة، وقد اعتذر أبو هريرة عن انفراده بغرائب العلوم واللطائف حيث قال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا (1). مع أنه قد شارك أبا هريرة غيره في هذا الحديث؛ فأخرجه أبو داود (2) عن ابن عمر، وكذا الطبراني (3) وأبو يعلى (4) من حديث أنس، والبيهقي في "الخلافيات"(5) من حديث عمرو بن عوف المزني، وأحمد (2) من رواية رجل من الصحابة، وقال ابن عبد البر (6): هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من حيث النقل.
ومنهم من أعله بالاضطراب، والجواب أن الطرق الصحيحة لا اضطراب فيها، ورواية التمر أكثر، فكان الترجيح لها.
ومنهم من قال: إنه معارض لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ
(أ) في ب: المنبع.
_________
(1)
البخاري 4/ 287 ح 2047.
(2)
تقدم تخريجه ص 123.
(3)
الطبراني 12/ 419 ح 13545.
(4)
أبو يعلى 5/ 154، ح 2767.
(5)
البيهقي كما في الفتح 4/ 365.
(6)
التمهيد 18/ 208.
مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1). ويجاب عنه بأن ذلك هو مثل، بالنظر إلى أنه عوض عن المتلف، إلا أنه جُعل على مقياسٍ واحد؛ دفعا للشجار لو لم يكن كذلك، [إذ](أ) يحصل التشاجر في مقدار الحليب، والاحتياط في قدره لا يكاد يتم، إذ الآخذ (ب) في الأغلب يتلف (جـ) الحليب عقيب حلبه؛ لعدم معرفته للتصرية، وإنما ينكشف من بعد، فضبط بهذا الضابط الذي لا يختلف، ولهذا نظائر في الشرع في أروش الجنايات من غير نظر إلى كيفية الجناية من الكبر والصغر.
ومنهم من قال: هو منسوخ بحديث ابن عمر؛ النهي عن بيع الدين بالدين. أخرجه ابن ماجه وغيره (2). ووجه الدلالة أن لبن المصراة يصير دينًا في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر نسيئة صار دينًا بدين. وهو للطحاوي (3). وأجيب بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، وبأن ذلك ليس مما ذكر؛ فإنه يرده مع المصراة حاضرا وليس بنسيئة، وتعلقه بذمة الراد [قبل الرد](د) ليس بيعا، إذ لا يكون البيع إلا برضا من له
(أ) في الأصل، ب: إذا.
(ب) في جـ: لا حد.
(جـ) في جـ: بتلف.
(د) ساقط من: الأصل، ب.
_________
(1)
الآية 126 من سورة النحل.
(2)
كذا في النسخ، والفتح، والحديث ليس في مطبوعة سنن ابن ماجه ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 21 والبيهقي 5/ 290.
(3)
شرح معاني الآثار 4/ 21.
الحق (أإذا ألزمه أ) بقبض ذلك عند الحضور.
ومنهم من قال: ناسخه حديث: "الخراج بالضمان". أخرجه أصحاب "السنن"(1) عن عائشة، ووجه الدلالة منه أن اللبن فضلة من فضلات المصراة، ولو هلكت المصراة لكان من ضمان المشتري، فكذلك فضلاتها. والجواب بأن المغروم هو ما كان فيها قبل البيع مُصَرّى، لا الحادث بعد البيع.
ومنهم من قال: ناسخه الأحاديث الواردة في [رفع](ب) العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعة قبل ذلك. وأجيب بأنه لا عقوبة على المشتري، فإن التصرية من البائع.
ومنهم من قال: ناسخه حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا"(2). قاله محمد بن شجاع، ووجه الدلالة أن التفرق يقطع الخيار، وظاهر الخيار العموم، فيعم خيار المصراة وغيرها. ويجاب بأن الحنفية لم يقولوا بمضمون هذا الحديث ولم يثبتوا خيار المجلس، فكيف يحكمون بنسخه؟ وبأنهم يثبتون خيار العيب بعد التفرق، ويجاب عن الأول بأنهم إنما تأولوا التفرق بأن المراد به تفرق الأقوال، بأن يتم اللفظان فينبرم العقد، فيراد بالخيار هو الرجوع عن أحد الركنين قبل حصول الآخر، وبه يندفع الثاني أيضًا.
ومنهم من قال: هو خبر واحد يفيد الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به، وذلك لأنه تقرر وعلم من الأدلة أن ضمان المتلف إن كان مثليًّا
(أ- أ) في جـ: أو إلزامه.
(ب) في الأصل: دفع.
_________
(1)
سيأتي ح 654.
(2)
سيأتي ح 661.
فبالمثل، وإن كان قيميًّا فبالقيمة، فاللبن إن كان مثليًّا ضمن بمثله، وإن كان قيميًّا قوِّم بأحد النقدين وضمن (أ) بذلك، فكيف يضمن بالتمر أو [البر](ب)؟ أيضًا فإنه كان الواجب أن يختلف الضمان بتقدير اللبن، ولا يقدَّر الصاع قلّ أو [كثر](جـ). والجواب عنه بأن رد الخبر لمخالفته لقياس الأصول غير مسلم؛ لأن خبر الواحد هو من جملة الأصول التي تثبت بها الأحكام، وإنما كان يُرد لو خالف نصًّا قطعيًّا، فإنه يطرح لئلا يعمل بالمظنون ويترك المقطوع، وأما مخالفته لقياس الأصول فلا؛ فإن القياس هنا متضمن للعموم في جميع المتلفات، وهذا خاص، والخاص مقدم على العام، على أنه غير مسلم القياس الذي ذكر على عمومه، فإن الدية قد فرضت من الإبل والغنم والبقر وليست من أي المذكورين، وأيضًا فإنه إذا أتلف شاة فيها لبن فإن ضمانها بالتقويم، ولا يضمن اللبن الذي فيها بالمثل، وبأنه إنما سلك في ذلك بتقدير الصاع لقطع التشاجر؛ لعدم الوقوف علي حقيقته، لجواز الاختلاط بالحادث بعد البيع، فقطع الشارع النزاع وقدره بحدٍّ لا يبعد دفعًا للخصومة، وقدره بأقرب شيء إلى اللبن، فإنهما كانا قوتًا في ذلك الزمان، ولهذا نظائر، وهو في ضمان الجنايات كالموضحة، فإن أرشها مقدر مع الاختلاف في الكبر والصغر، والغرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك جميعه دفع التشاجر.
قالوا: و (د) خالف قياس الأصول من حيث إن اللبن التالف إذا كان
(أ) في جـ: فضمن.
(ب) في الأصل، ب: اللبن و.
(جـ) في الأصل، ب: أكثر.
(د) زاد في جـ: ما.
موجودًا عند العقد فقد نقص جزءٌ من المبيع فيمتنع الرد، وإن كان حادثا عند المشتري فهو غير مضمون، ومن حيث إنه جعل الخيار فيه ثلاثًا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس وخيار الرؤية، ومن حيث إنه لو باع شاة بصاع تمر ثم ردها وصاعًا، فقد استحقها البائع وثمنها، ويلزم في هذه الصورة الربا، فإنه لو ردَّ الشاة وصاعًا، والبائع يرد له الصاع، فكأنه باع شاةً وصاعًا بصاع. ومن حيث إنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها حيث كان اللبن موجودًا. ومن حيث إنه يلزم [منه](أ) إثبات الرد بغير عيب؛ لأنه لو كان نقصان اللبن عيبا لثبت به الرد من دون تصرية ولا شرط؛ لأنه لم يشرط الرد.
وأجيب عن الأول بأن النقص إنما يمنع الرد إذا لم يكن لاستعلام العيب، وهو هنا لاستعلام العيب فلا يمنع. وعن الثاني بأن المصراة انفردت بالمدة المذكورة؛ لأنه لا يتبين حكم التصرية في الأغلب إلا بها بخلاف غيرها. وعن الثالث بأنه إنما استحق الصاع عوض اللبن لا عوض الشاة. وعن الرابع بأن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسخ. وعن الخامس بأنه غير موجود متميز؛ لأنه مختلط باللبن الحادث، فقد تعذر ردّه بعينه بسبب الاختلاط، فيكون مثل ضمان العبد المغصوب الآبق. وعن السادس بأن الخيار يثبت بالتدليس والتغرير للمشتري، وهو أيضًا في حكم خيار الشرط من حيث المعنى، فإن المشتري لما رأى ضرعها مملوءا، فكأن البائع شرط له أن ذلك عادة لها، وقد ثبت لهذا نظائر مثل ما تقدم في تلقي الجلائب.
ومنهم من حمل الحديث على سورة مخصوصة؛ وهو حيث اشترى
(أ) ساقط من: الأصل، ب.
بشرط أنها تحلب قدرًا معلومًا وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد. قال: فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صحَّ العقد، وإن لم يتفقا بَطَلَ ووجب رد الصاع من التمر؛ لأنه كان قيمة اللبن يومئذ. وأجيب بأن الحديث فيه تعليق الحكم بالتصرية، وهذا القائل بفساد الشرط سواء وجدت التصرية أم لا، فهو تأويل متعسف غير مقبول.
قال ابن عبد البر (1): هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلس عليه، وفي أن التدليس لا يفسد أصل العقد، وأن أمد الخيار ثلاثة أيام، وفي تحريم التصرية وثبوت الخيار بها.
وقد روى أحمد وابن ماجه (2)، عن ابن مسعود مرفوعًا:"بيع المحفّلات خِلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم". وفي إسناده ضعف. وقد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق [موقوفًا](أ) بإسناد صحيح (3). وروى ابن أبي شيبة (4) من طريق قيس بن أبي [حازم](ب) قال: كان يقال: التصرية خِلابة. وإسناده صحيح.
واختلف القائلون بخيار التصرية لو كان عالما بالتصرية، هل يثبت به الخيار؟ فيه وجه للشافعية، الأرجح أنه لا يثبت، وكذا عند الهدوية لا يثبت إلا إذا جهل قدر التصرية.
ولو صرّي ثم صار ذلك اللبن عادة هل له الرد؟ فيه وجه لهم، وعند
(أ) ساقط من: الأصل، ب.
(ب) في النسخ: حاتم. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 24/ 10.
_________
(1)
التمهيد 18/ 205.
(2)
أحمد 1/ 433، وابن ماجه 2/ 753 ح 2241.
(3)
ابن أبي شيبة 6/ 214 - 216، وعبد الرزاق 8/ 198 ح 14865.
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 215.
الهدوية لا يثبت الرد أيضًا، والحنابلة تخالف في المسألتين.
ولو تصرت بنفسها أو صرّاها المالك لنفسه ثم باعها، فيه خلاف؛ مَن نظر إلى المعنى المقتضي أثبته، ومن نظر إلى أن أحكام التصرية خارجة عن القياس خصه بمورده، وكذا لو كان الضرع مملوءا لحما فظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك، هل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية. وأما لو اشترى غير مصراة وبان فيها عيب بعد الحلب؛ فعند الشافعي يردها مجانا، وعند الهدوية يرده إن كان الفسخ بحكم ويضمن التالف، وإن كان بالتراضي فلا رد. وقال البغويُّ (1): يرد صاعًا من تمر. والله أعلم.
651 -
وعن ابن مسعود قال: من اشترى شاة محفلة فردّها، فليردّ معها صاعا. رواه البخاري (2)، وزاد الإسماعيلي (3): من تمر.
الحديث أخرجه عن ابن مسعود موقوفًا من رواية يزيد بن زريع عن سليمان التيمي.
وهكذا أخرجه الأكثرون عن معتمر بن سليمان التيمي موقوفًا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن معاذ عن معتمر مرفوعًا، وذكر أن رفعه غلط، وخالف الأكثرين أبو خالد الأحمر فأخرجه عن سليمان التيمي بإسناد الأكثرين مرفوعًا، أخرجه عنه الإسماعيلي (3) وأشار إلى وهمه، وقد اعتمد المصنف رحمه الله قول الأكثرين فوقفه على ابن مسعود كما فعله البخاري.
وفي قوله: فليرد معها. أي: بعدها. لأن قوله: فردها. بسبب متقدم.
(1) الفتح 4/ 368.
(2)
البخاري، كتاب البيوع، باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم 4/ 361 ح 2149.
(3)
الإسماعيلي -كما في الفتح 4/ 368.
ويحتمل أن معنى "فردها": فأراد ردّها. فتكون "مع" للمعية. وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفى.
652 -
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام؟ ". قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني". رواه مسلم (1).
الصُّبْرة، بضم الصاد المهملة وسكون الباء الموحدة، وهي الكومة المجموعة من الطعام، سميت صبرة لإفراغ بعضها علي بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب:[صبير](أ). كذا قاله الأزهري (2).
وقوله: أصابته السماء. أي المطر.
وقوله: "مَنْ غَشَّ فليس مني". بياء المتكلم. قال النووي (3): كذا في الأصول وهو صحيح. قال: ومعناه عند أهل العلم: ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي. كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله: لست مني. وهكذا في نظائره، مثل قوله:"من حمل علينا السلاح فليس مني". وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مثل هذا القول. بل يمسك عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. انتهى.
وفي الحديث دلالة على تحريم الغش، وأن (ب) فاعله ليس من المقتدين
(أ) في النسخ: صبر. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) بعده في جـ: كان.
_________
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا" 1/ 99 ح 164/ 102.
(2)
الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري 1/ 210.
(3)
شرح مسلم 1/ 108، 109.
بالنبي صلى الله عليه وسلم. والغش مجمع على تحريمه عند المتَشرعين، مذموم مرتكبه بفطرة العقول.
653 -
وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحّم النار على بصيرة".
رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن (1).
هو أبو سهل عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، قاضي مَرْو، تابعيّ من مشاهير التابعين وثقاتهم، سمع أباه وسمرة بن جندب وعمران بن حصين وعبد الله بن مُغَفّل، وروى عنه ابنه سهل وحسين المكَتِّب وعبد الله بن مسلم المروزي الأسلمي، مات بِمَرْوَ، وله عند المَراوِزة حديث كثير.
والحديث أيضًا أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2) من حديث بريدة، وهو بزيادة:"حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يعلم [أنه] (أ) يتخذه خمرا، فقد تقدم في النار على بصيرة". والزيادة هي أيضًا في رواية الطبراني.
قوله: "أيام القطاف". أي الأيام التي يقطف فيها العنب للانتفاع به. وهو يدل على تحريم البيع المذكور؛ لاستحقاق [البائع](ب) دخول النار، وهو
(أ) في الأصل، ب: أن.
(ب) ساقط من: الأصل، ب.
_________
(1)
الطبراني في الأوسط 5/ 294 ح 5356.
(2)
البيهقي في شعب الإيمان 5/ 17 ح 5618، 5619.
مع القصد محرم إجماعًا، والحديث يدل عليه، وأما من دون قصد، فذهب الهادي إلى جوازه مع الكراهة. وتأوله المؤيد بالله بأن ذلك مع الشك في فعله، وأما إذا علم فهو محرم. ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في المعصية. وأما ما كان لا يفعل إلا للمعصية؛ وذلك مثل آلات الملاهي كالمزامير والطنابير ونحوهما، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا، وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون به على حرب المسلمين، فإن ذلك لا يجوز، إذ فيه إعانة لهم، إلا أن يباع بأفضل منه، جاز.
وقوله: "اقتحم (أ) النار". أي: دخل النار. "على بصيرة". أي: عِلْم منه بالسبب الموجب لدخوله. والله أعلم.
654 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الخراج بالضمان". رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان (1).
الحديث أخرجه الشافعي وأحمد (2) وأصحاب "السنن" والحاكم من طريق عروة عن عائشة مطولًا، وهو أن رجلًا اشترى غلامًا في زمن
(أ) كذا في النسخ، ولفظ الحديث في الصفحة السابقة:"تفحم".
_________
(1)
أبو داود، كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا 3/ 282 ح 3508، 3510، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا 3/ 581، 582 ح 1285، 1286، والنسائي، كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان 7/ 255، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان 2/ 753، 754 ح 2243، وأحمد 6/ 49، وابن الجارود، أبواب القضاء في البيوع 2/ 200 ح 627، وابن حبان، باب خيار العيب، ذكر البيان بأن مشتري الدابة إذا وجد بها عيبا بعد أن نتجت
…
11/ 298 ح 4927، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 15. وينظر تصحيح ابن القطان في التلخيص الحبير 3/ 22.
(2)
الشافعي في مسنده 2/ 295 ح 480 - شفاء العي، وأحمد 6/ 80.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فكان](أ) عنده ما شاء الله، ثم ردّه من عيب وجده فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". وأخرجوه مختصرًا.
وأخرجه الشافعي (1) أيضًا من طريق أخرى عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خُفاف، أنه ابتاع غلامًا، فاستغله ثم أصاب به عيبا، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده ورد غلته، فأخبره عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فرد عمر قضاءه، وقضى لمخلد بالخراج.
الخراج: الغلة والكراء. ومعناه أن المبيع (ب) إذا كان له دخل وغلة، فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها، فإذا ابتاع رجل أرضًا فاستغلها، أو ماشية فنُتِجها، أو دابة فركبها، أو عبدًا فاستخدمه، ثم وجد به عيبا، فله أن يرد الرقبة، ولا شيء عليه فيما انتفع به؛ لأنها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت من ضمان المشتري، فوجب أن يكون الخراج له. وقد ذهب إلى هذا الشافعي وقال: ما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة، أو كراء أو غيره من الفوائد الفرعية والأصلية، فهو سواء، ويرد المبيع ما لم يكن ناقصًا عما أخذه. وذهب أهل الرأي إلى أن المشتري يستحق الفوائد الفرعية كالكراء، وأما
(أ) في الأصل، ب: وكان.
(ب) في جـ: البيع.
_________
(1)
الشافعي في مسنده 2/ 297 ح 481 - شفاء العي.
الفوائد الأصلية كالثمر، فإن كانت باقية ردّها مع الأصل، وإن كانت تالفة امتنع الرد واستحق الأرش. وذهب مالك إلى التفرقة في الفوائد الأصلية فقال: الصوف والشعر يستحقهما المشتري، والولد لا يستحقه، بل يرده مع أمه. ولعله يقول: مع تلفه. مثل قول أهل الرأي. وذهبت الهدوية إلى التفرقة بين الأصلية والفرعية؛ فقالوا: يستحق المشتري الفرعية، وأما الأصلية فتصير في يد المشتري أمانة، فإن ردّ المشتري المبيع بالحكم وجب الرد ويضمن التالف، وإن كان بالتراضي لم يردها. وهذا ما لم تكن متصلة [بالمبيع](أ) وقت الرد، فإن كانت متصلة وجب الرد لها إجماعًا. هذا تفصيل الأقوال، وظاهر الحديث يقضي بما ذهب إليه الشافعي.
واختلف العلماء فيما إذا كان المعيب أمة وقد وطئها المشتري، ثم انكشف فيها العيب؛ فذهب الهدوية والحنفية إلى أنه يمتنع الرد، لأن الوطء جناية. قالوا: وكذلك المقدمات والجناية من حيث إنه لا يحل وطء الأمة لأصل المشتري ولا لفصله، فقد عيبها بذلك، ولكنه يرجع على البائع بأرش العيب. وقال بهذا الثوري وإسحاق بن راهويه. وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وقال مالك: إن كانت ثيبًا ردّها ولا يرد معها شيئًا، وإن كانت بكرا فعليه ما نقص من ثمنها. وقال الشافعي: إن كانت ثيبًا ردّها ولا شيء عليه، وإن كانت بكرا لم يكن له ردها، ورجع بما نقص من أصل الثمن.
وقاست الحنفية الغصب على البيع؛ من أجل أن ضمانها على
(أ) في الأصل: فالبيع، وفي ب: بالبيع.
الغاضب، فلم يجعلوا عليه رد الغلة، واحتجوا بعموم الحديث. وهو إنما ورد في البيع، وهو عقد يكون بين المتعاقدين بالتراضي، وليس الغصب بعقد وعن تراض بين المتعاقدين، فيكون هذا فرقًا بينهما، فلا يصلح أن يكون من باب القياس، وأما إذا قيل: هو من باب العموم. والعموم لا يقصر على سببه، فلا يرد هذا.
قال الخطابي (1): والحديث مبهم؛ لأن قوله: "الخراج بالضمان". يختمل أن يكون معناه أنه يملك الخراج بضمان الأصل، ويحتمل أنه في معنى أَن ضمان الخراج [بضمان](أ) الأصل، واقتضاء العموم [من](ب) اللفظ المبهم ليس [بالبين الجواز](جـ)، والحديث في نفسه ليس بالقوي، إلا أن أكثر العلماء قد استعملوه في البيوع، والأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه. انتهى.
655 -
وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري به أضحية أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى ترابًا يربح فيه. رواه الخمسة إلا النسائي (2)، وقد أخرجه البخاري (3) ضمن حديث ولم
(أ) في النسخ: بخراج. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) ساقط من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج.
(جـ) في الأصل: المسين، وغير منقوطة في ب، وفي جـ: المتين. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
معالم السنن 3/ 148، 149.
(2)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف 3/ 253 ح 3384، والترمذي، كتاب البيوع، باب (34) 3/ 558 ح 1258، وابن ماجه، كتاب الصدقات، باب الأمين يتجر فيه فيربح 2/ 803 ح 2402، وأحمد 4/ 375.
(3)
البخاري، كتاب المناقب، باب 6/ 632 ح 3642.
يسق لفظه، وأورد (أ) له الترمذي (ب)(1) شاهدًا من حديث حكيم بن حزام.
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني (2)، وفي إسناده سعيد بن زيد (3) أخو حماد، مختلف فيه، عن أبي لبيد لِمَازة بن زبَّار (جـ)(4)، وقد قيل: إنه مجهول. لكنه وثقه ابن سعد (5)، وقال حرب: سمعت أحمد أثنى عليه. قال المنذري و [النووي](د): إسناده حسن صحيح؛ لمجيئه من وجهين.
وقد رواه البخاري (6) من طريق ابن عيينة عن شبيب بن غرقدة (هـ): سمعت الحي يحدثون عن عروة. ورواه الشافعي (7) عن ابن عيينة، وقال: إن صح قلت به. وقال في "البويطي"(8): إن صح حديث عروة فكل من باع أو
(أ) في ب: زاد.
(ب) زاد في جـ: وابن ماجه.
(جـ) غير منقوطة في الأصل، وفي ب: زناد، وفي: زياد. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 5.
وينظر التاريخ الكبير 7/ 251، والجرح والتعديل 7/ 182، والتقريب ص 464.
(د) في النسخ: الثوري، والمثبت من التلخيص 3/ 5.
(هـ) في ب: غرقد. وينظر تهذيب الكمال 12/ 370.
_________
(1)
الترمذي، كتاب البيوع، باب (34) 3/ 558 ح 1257.
(2)
الدارقطني 3/ 10 ح 29.
(3)
تقدمت ترجمته في 2/ 59.
(4)
لمازة بن زبار، الأزدي، الجهضمي، أبو لبيد البصري، صدوق ناصبي. التقريب ص 464.
(5)
الطبقات الكبرى 7/ 213.
(6)
البخاري 6/ 632 ح 3642.
(7)
الأم 4/ 33.
(8)
ينظر التلخيص 3/ 5، والفتح 6/ 634.
أعتق ملك غيره ثم رضي (أ)، فالبيع والعتق جائز، ونقل المزني عنه أنه ليس بثابت عنده. قال البيهقي (1): إنما ضعفه لأن الحي غير معروفين. وقال في موضع آخر: هو مرسل؛ لأن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة، وإنما سمعه من الحي. قال الخطابي (2): هو غير متصل؛ لأن الحي حدثوه عن عروة. وقال الرافعي في "التذنيب": مرسل.
قال المصنف رحمة الله عليه (3): والصواب أنه متصل، في إسناده مبهم، وفي الشاهد الذي أورده أبو داود من حديث حكيم ضعيف؛ من حيث إن في إسناده عن شيخ من أهل المدينة وهو مجهول. قال البيهقي: ضعف من أجل هذا الشيخ. انتهى.
وفيه مخالفة لهذا الحديث؛ لأن فيه أنه أعطاه دينارًا يشتري به أضحية، فاشترى به ثم باعها بدينارين، ثم اشترى بدينار، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وأضحية، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته.
الحديث فيه دلالة على أن عروة شرى ما لم يُوكَّل بشرائه، وباع كذلك؛ لأنه أعطاه دينارًا لشراء أضحية، فلو وقف على الأمر لشرى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض، وهذا الذي فعله هو العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة وقد وقعت، وذهب إلى صحة العقد الموقوف جماعة من السلف؛ منهم علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر والهادي والمفرعون على
(أ) في ب: لم يضر.
_________
(1)
السنن الكبرى 6/ 112.
(2)
معالم السنن 3/ 90.
(3)
التلخيص الحبير 3/ 5.
مذهبه، وذهب الشافعي وأصحابه والناصر إلى القول بعدم صحته، وأن الإجازة لا تصححه؛ محتجين بأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبع ما ليس عندك". وهو شامل للمعدوم وملك الغير، والحديث تردد الشافعي في صحته، وعلق القول به على صحته، وقد قال به في القديم، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز البيع لا الشراء، [و](أ) لعله يفرق بينهما بأن البيع إخراج عن ملك المالك، وللمالك حق في [استبقاء](ب) ملكه، فإذا أجاز فقد أسقط حقه؛ بخلاف الشراء، فإنه إثبات لملك (جـ)، فلا بد من تولِّي المثبت لذلك. وذهب إلى العكس مالك، ولعله للجمع بين الحديثين وهو:"لا تبع ما ليس عندك". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (1)، وحديث عروة، فيعمل منه بما لم يعارض. وذهب الجصاص إلى صحته في بعض؛ وهو ما إذا وكل بشراء شيء فشرى بعضه، لا في غير ذلك.
ويدل حديث [عروة](د) على جواز بيع الأضحية وإن تعينت بالشراء لإبدال المثل، وقد ذهب إليه الهدوية، وزيادة الثمن لا تطيب، ولذلك أمره بالتصدق.
ويستنبط من هذا أن فوائد الأضحية والهدي يجب التصدق بهما،
(أ) ساقطة من: الأصل، ب.
(ب) في النسخ: استيفاء. والمثبت من سبل السلام 2/ 507.
(جـ) في جـ: الملك.
(د) في النسخ: حكيم. والمثبت هو الصواب، والمراد حديث الباب.
_________
(1)
أبو داود 3/ 281 ح 3503، والترمذي 3/ 534، ح 1232، والنسائي 7/ 289 من حديث حكيم بن حزام.
وظاهر هذا أنه يجوز التصدق ولو قبل الذبح، وإن كان الهدوية قالوا: إنه لا يتصدق إلا بعد الذبح. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالبركة دلالة على أنه يُشكَر الصنيع لمن فعل المعروف، ويجازَى ولو بالدعاء.
656 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص. رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف (1).
وأخرجه أحمد (2) من حديث شهر بن حوشب. وللترمذي (3) منه شراء المغانم، وقال: حديث غريب. وكذا أخرجه النسائي (4) من حديث ابن عباس، وأبو داود وأحمد (5) من حديث أبي هريرة.
وشهر تكلم (أ) فيه جماعة، كالنضر بن شميل والنسائي وابن عدي ويحيى بن سعيد وغيرهم (6). وقال البخاري (7): شهر حسن الحديث.
(أ) في ب: يتكلم.
_________
(1)
ابن ماجه، كتاب التجارات، باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها وضربة الغائص 2/ 740 ح 2196، والدارقطني، كتاب البيوع 3/ 15 ح 44.
(2)
أحمد 3/ 42.
(3)
الترمذي 4/ 112 ح 1563.
(4)
النسائي 7/ 346.
(5)
أبو داود 3/ 250 ح 3369، وأحمد 2/ 387.
(6)
ينظر تهذيب الكمال 12/ 582، 583.
(7)
ينظر سنن الترمذي 5/ 56 عقب ح 2697.
وقوَّى أمره. وقال يعقوب بن شيبة (1): شهر ثقة طعن فيه بعضهم. وروي عن أحمد أنه قال: ما أحسن حديثه (2). وهو حمصي.
الحديث فيه دلالة على عدم صحة بيع ما ذكر، أما الحمل الذي في بطن الحيوان واللبن في الضرع فهو مجمع على ذلك؛ لما فيه من الغرر، وقد تقدم (3).
وأما العبد الآبق فهو منهي عن بيعه، والعلة تعذر التسليم وإن كان ذاته معلومة متميزة (أ)؛ ولذلك قال الفقهاء: إنه يثبت الخيار للبائع والمشتري ويصح البيع.
وأما شراء المغانم قبل القسمة فلعدم الملك، وكذا الصدقات قبل القبض، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يستقر ملك المتصدَّق عليه إلا بعد القبض. واستثنى الفقهاء من ذلك بيع المصدق للصدقة قبل القبض بعد التخلية، فإن ذلك يصح؛ لأنهم جعلوا التخلية كالقبض في حقه. وضربة الغائص هو أن يقول: أغوص في البحر غوصة بكذا، فما خرج فهو لك. والعلة في ذلك هو الغرر.
657 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". رواه أحمد (4)، وأشار إلى أن الصواب وقفه.
الحديث فيه دلالة على المنع من شراء السمك وهو في الماء، والعلة في
(أ) في الأصل: مشهرة، وكتب فوقها في جـ: مشتهرة.
_________
(1)
ميزان الاعتدال 2/ 284.
(2)
بحر الدم ص 207، والجرح والتعديل 4/ 382.
(3)
ينظر ما تقدم ص 62 - 65.
(4)
أحمد 1/ 388.
ذلك هو لا فيه من الغرر؛ لأنه يتجافي في الماء، ويُرى ما هو حقير عظيما.
وظاهر الحديث الإطلاق، وللفقهاء تفصيل في ذلك؛ وهو أنه إن كان في ماء كثير لا يمكن أخذه إلا بتصيد ويجوز عدم الأخذ، فالبيع غير صحيح، وإن كان فيما لا يفوت فيه ويؤخذ بتصيد، فالبيع صحيح، ويثبت فيه خيار [بعد](أ) التسليم، وإن كان لا يحتاج إلى تصيد، فالبيع صحيح ويثبت فيه خيار الرؤية. وهذا التفصيل يؤخذ من الأدلة، والتعليل المقتضي للإلحاق مخصص للعموم، والله أعلم.
658 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تُطعِم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع. رواه الطبراني في "الأوسط" والدارقطني، وأخرجه أبو داود في "المراسيل" لعكرمة وهو الراجح، وأخرجه أيضًا موقوفًا على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي (1).
قوله: أن تباع ثمن حتى تُطعِم. تُطعِم: بضم التاء وكسر العين. أي: يبدو صلاحها ويطيب أكلها، والنسبة إليها (ب) مجاز عقلي، وسيأتي الكلام في ذلك.
وقوله: ولا سماع صوف على ظهر. فيه دلالة على عدم صحة ذلك،
(أ) في الأصل، ب: بعذر.
(ب) في ب: إليه.
_________
(1)
الطبراني في الأوسط 4/ 101 ح 3708، والدارقطني، كتاب البيوع 3/ 14 ح 42، وأبو داود في المراسيل، باب في المفلس ص 168 ح 182، 183، والبيهقي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيع الصوف على ظهر الغنم 5/ 340.
وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة والشافعي؛ لأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحي ويؤدي إلى ضرر الحيوان؛ ولذلك إن ذلك إنما هو في الحي دون المذكى. وذهب الثوري ومالك وأبو يوسف إلى صحة البيع، قالوا: لأنه مشاهد يمكن تسليمه فيصح كمِن (أ) المذبوح، والحديث موقوف على ابن عباس. والجواب أنه قد روي وإن كان مرسلًا، ولكنه قد تعاضد المرسل والموقوف فقوي، فصح العمل بذلك، والغرر حاصل فيه، وقد صحَّ النهي عن بيع الغرر (1).
وقوله: ولا لبن في ضرع. فيه دلالة كذلك على عدم الصحة في ذلك ولما فيه من الغرر. وذهب سعيد بن جبير إلى صحة ذلك؛ قال: لأنه كالمال في الكيس، ورزمة من الثياب في ظرف (ب)، ولأنه صلى الله عليه وسلم سمى الضرع خزانة؛ لقوله فيمن يحلب شاة غيره بغير إذنه:"يعمد أحدكم إلى خزانة أخيه فيأخذ ما فيها"(2). والجواب كالأول، والحديث ليس التسمية حقيقة، بل هو استعارة، والله أعلم.
659 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح. رواه البزار (3)، وفي إسناده ضعف.
الحديث أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وهو
(أ) في جـ: لكن.
(ب) في جـ: طرق.
_________
(1)
تقدم ح 633.
(2)
البخاري 5/ 88 ح 2435، ومسلم 3/ 1352 ح 1726/ 13 بنحوه.
(3)
كشف الأستار، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الملاقيح والمضامين 2/ 87 ح 1267.
ضعيف (1). وقد رواه مالك في "الموطأ"(2) عن الزهري عن سعيد مرسلًا، قال الدارقطني في "العلل" (3): تابعه معمر، ووصله عمر بن قيس عن الزهري، وقول مالك هو الصحيح.
وفي الباب عن عمران بن حصين أخرجه ابن أبي عاصم (4)، وعن ابن عباس أخرجه الطبراني [في "الكبير"](أ) والبزار (5)، وعن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق (6) بإسناد قوي.
المضامين: المراد بها ما في بطون الإبل. والملاقيح: هو (ب) ما في ظهور الجمال. وهو يدل على عدم صحة بيع ذلك، وهو إجماع، وقد تقدم.
660 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلمًا بيعته أقال الله عثرته". رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم (7).
(أ) ساقط من: الأصل.
(ب) ساقط من: ب، جـ.
_________
(1)
صالح بن أبي الأخضر اليمامي، مولى هشام بن عبد الملك، نزل البصرة، ضعيف، يعتبر به. التقريب ص 271، وينظر تهذيب الكمال 13/ 8.
(2)
الموطأ 2/ 654 ح 63.
(3)
العلل 9/ 183.
(4)
ابن أبي عاصم -كما في التلخيص الحبير 3/ 7.
(5)
الطبراني 11/ 230 ح 11581، وكشف الأستار 2/ 87 ح 1268.
(6)
عبد الرزاق 8/ 21 ح 14138.
(7)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في فضل الإقالة 3/ 272 ح 3461، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الإقالة 2/ 741 ح 2199، وابن حبان، كتاب البيوع، باب الإقالة 11/ 404، 405 ح 5029، 5030، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 45.
الحديث صححه الحاكم (1) من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "من أقال مسلما أقاله الله عثرته يوم القيامة". قال أبو الفتح القشيري (أ): هو على شرطهما. وصححه ابن حزم (2). وقال ابن حبان (3): ما رواه عن الأعمش إلا حفص بن غياث (ب)، ولا عن حفص إلا يحيى بن معين، ورواه عن الأعمش أيضًا مالك بن سُعَير (جـ)، تفرد به عنه زياد بن يحيى الحساني.
وأخرجه البزار (4)، ثم أورده من طريق إسحاق الفروي عن مالك عن [سمي] (د) عن أبي صالح بلفظ:"من أقال نادما". وقال: ابن إسحاق تفرد به.
وذكره الحاكم في "علوم الحديث"(5) من طريق معمر عن محمد بن واسع عن أبي صالح، وقال: لم يسمعه معمر من محمد، ولا محمد من
(أ) في ب، جـ: التسترى. وهو ابن دقيق العيد أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القوصي القشيري الشافعي. ينظر طبقات الشافعية الكبرى 9/ 207، والدرر الكامنة 4/ 210.
(ب) بعده بهامش ب، جـ: وهو ثبت إذا حدث من كتابه، ويتقى بعض حفظه. كذا في الكاشف. وينظر الكاشف للذهبي 1/ 180.
(جـ) بعده بهامش ب، جـ: ضعفه أبو داود، وقال أبو حاتم: صدوق. كذا في الكاشف. وينظر الكاشف 3/ 101.
(د) من الأصل، ب: شمر.
_________
(1)
لفظ الحاكم: "من أقال مسلما أقال الله عثرته".
(2)
المحلى 9/ 605.
(3)
ابن حبان 11/ 406.
(4)
البزار كما في التلخيص الحبير 3/ 24.
(5)
علوم الحديث ص 18.
أبي صالح.
وأخرجه عبد الرزاق (1) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا بلفظ: "من أقال مسلما بيعته أقال الله نفسه يوم القيامة، ومن وصل صفًّا وصل الله خَطْوَه يوم القيامة".
وأخرجه البيهقي (2) عن أبي هريرة بلفظ: "من أقال نادما أقاله الله يوم القيامة".
وأخرجه ابن النجار (3) بلفظ: "من أقال أخاه المؤمن عثرته في الدنيا أقاله الله عثرته يوم القيامة".
الحديث فيه دلالة على ندبية الإقالة. والإقالة في اللغة: الرفع (4). وفي الشرع: رفع العقد الواقع بين المتعاقدين، وهي مشروعة إجماعًا، ولا بد من اللفظ المفيد (أ) لذلك، وهو لفظ: أقلت. أو: أنت مُقال. أو: أقالك الله، علي ما جرى به العرف.
واعلم أن الإقالة لها أحكام وشرائط مفصلة في كتب الفروع؛ فشروطها اللفظ المفيد (أ) لذلك كما عرفته، وأن تكون بين المتعاقدين مالكين أو وَليَّينْ لا وكيلين بالبيع والشراء، ويصح التوكيل بها، وأن تكون في مبيع باق جميعه
(أ) في جـ: المقيد.
_________
(1)
عبد الرزاق 2/ 56 ح 2468.
(2)
البيهقي 6/ 27.
(3)
ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد 16/ 195.
(4)
ينظر المصباح المنير (ق ى ل).
أو بعضه؛ فتصح الإقالة فيما بقي لم يزد زيادة متصلة، وأما المنفصلة فتكون للمشتري، ولا يمنع، وتكون بالثمن الأول، ويلغو (أ) اشتراط خلافه ولو في الصفة (ب)، وأحكامها أن تكون بيعًا في حق الشفيع؛ يعني أن للشفيع أن يشفع بعد الإقالة ولو كانت شفعته قد بطلت من قبلها، وهذا مجمع عليه إلا رواية عن أبي ثور أنها فسخ مطلقًا، وإنما كانت كذلك لأنها في المعنى مبادلة بمالين، وهذا هو معنى البيع، وفي حق غير الشفيع فسخ اعتبارًا باللفظ، وليس لفظها لفظ البيع فاعتبر اللفظ، وإنما لم يعكس؛ لأن اللفظ قائم بالمتعاقدين فاعتبرناه في حقهما، وتعين اعتبار المعنى في حق غير المتعاقدين وهو الشفيع عملًا بالجهتين جميعًا.
ومن أحكامها إذا كانت فسخًا أنه لا يعتبر المجلس في الغائب، ولا تلحقها الإجازة، ويصح قبل القبض، ويصح البيع قبله بعد الإقالة، ويصح أن تكون مشروطة بشرط مستقبل، ويصح أن يتولى طرفيها (جـ) واحد ولا يرجع عنها قبل قبولها، وهذا إذا أتى بلفظ الإقالة. وإن أتى بلفظ الفسخ فهي فسخ في حق الشفيع وغيره، فلا تثبت فيه الشفعة.
وهذه التفاصيل من الأحكام والشروط لم يدل عليها الحديث ودلالته علي كونها بين المتبايعين لقوله: "بيعته". ولفظ: "أقال" لا يدل على اشتراط هذا اللفظ (د)؛ لأن المقصود إنما هو تحصيل المعنى وهو رفع العقد، وكونه مسلمًا حكم أغلبي، أو لأنه لما كان المقصود الترغيب لإدراك الثواب
(أ) زاد في جـ: شرط.
(ب) بعده بهامش ب: يجوز أن يصله بشرط أن يسلم له الثمن دراهم بيض والثمن سود.
(جـ) في ب: طرفها.
(د) في ب: المعنى.
الأخروي، والثواب الكامل إنما هو في حق المسلم، فخص بالذكر لذلك.
وقوله: "أقال الله عثرته". مراد به غفران الزلة، وعبّر عنه بالإقالة للمشاكلة، ولأنه يلزم من غفران الزلة رفع تبعتها. والإقالة هي رفع العقد، فهو من باب المجاز المرسل إطلاقًا للازم على الملزوم، والمشاكلة محسنة لذلك. والله أعلم.