المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابُ الخِيَار الخيار: بكسر الخاء [المعجمة] (أ) اسم من الاختيار أو - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٦

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌ ‌بَابُ الخِيَار الخيار: بكسر الخاء [المعجمة] (أ) اسم من الاختيار أو

‌بَابُ الخِيَار

الخيار: بكسر الخاء [المعجمة](أ) اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. والمذكور في هذا الباب خيار المجلس وخيار الشرط.

661 -

عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يُخيِّر أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع". متفق عليه واللفظ لمسلم (1).

اللفظ في "الصحيحين" جميعًا من حديث الليث عن نافع عن ابن عمر.

قوله: "إذا تبايع الرجلان". ظاهره أوقعا العقد بينهما لا تساوما من دون عقد.

وقوله: "وكل واحد منهما بالخيار". ظاهر في أن كلا من المتبايعين له

(أ) ساقطة من: الأصل، ب.

_________

(1)

البخاري، كتاب البيوع، باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع 4/ 332 ح 2112، ومسلم، كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين 3/ 1163 ح 1531/ 44.

ص: 151

أن يختار الفسخ (1).

وقوله: "مما لم يتفرقا". وقع في هذا اللفظ كذا، ووقع في لفظ للنسائي (أ):"ما لم يفترقا". بتقديم الفاء. ونقل ثعلب عن المفضل (ب) بن سلمة أنه يقال (2): افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان. ورده ابن العربي بقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (3). فإنه ظاهر في التفرق بالكلام؛ لأنه بالاعتقاد، وأجيب بأن المراد به التفرق بالأبدان؛ لأن من خالف في العقيدة كان مفارقًا لمن خالفه ببدنه بحسب الأغلب، والحق أن ما ذكره [المفضل](جـ) هو في المعنى الحقيقي، ولكنه يخالف إلى المجاز اتساعًا.

وقوله: "أو يخير أحدهما". بإسكان الراء عطف على: "يتفرقا"، ويجوز النصب على أنَّ "أو" بمعنى "إلا أن".

وقوله: "أو يخير أحدهما الآخر" إلى آخره. اختلف في معنى هذا؛ فذهب الجمهور والشافعي إلى أن المراد به هو أنهما إذا اختارا إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذٍ، وبطل اعتبار التفرق، وحكى ابن المنذر عن أبي ثور أن المعنى أنه إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معينة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق، بل يبقي حتى تمضي مدة الخيار التي شرطاها، وهذا التأويل ظاهر في هذه الرواية، ويرد رواية مالك (4)

(أ) في جـ: النسائي.

(ب) في الأصل، جـ: الفضل. وينظر معجم الأدباء 19/ 163.

(جـ) في النسخ: الفضل.

_________

(1)

النسائي 17/ 247، 248.

(2)

غريب الحديث للخطابي 2/ 207، والفتح 4/ 327.

(3)

الآية 4 من سورة البينة.

(4)

الموطأ 2/ 671 (79).

ص: 152

وهي: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". وكذا رواية أيوب عن نافع: "ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". وربما قال: "أو يكون بيع خيار"(1). إلى هذا التأويل. وإن كان لفظ: "أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". أقرب إلى التفسير الأول.

وقيل في تأويل قوله: "إلا بيع الخيار". أي: إلا أن يكون بيع خيار. أي: هما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق. وهو قول يجمع التأويلين (أ) الأولين.

والحديث فيه دلالة على أنه يثبت خيار المجلس للمتبايعين، وأنه يمتد إلى أن يحصل الافتراق بالبدن بينهما. وقد ذهب إلى هذا علي وابن عباس وابن عمر (2) وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين الشعبي والحسن البصري وعطاء والزهري، ومن الأئمة الصادق وزين العابدين والإمام يحيى والشافعي أحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: والتفرق المبطل للخيار ما يسمى في العادة تفرقًا؛ ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفىِ الكبير التحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث؛ كفعل ابن عمر (3). فإن قاما جميعًا وذهبا معًا فالخيار باقٍ؛ لقضاء أبي برزة (4) بذلك مستندًا (ب) إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن

(أ) في جـ: المتأويلين.

(ب) في ب: مسندًا.

_________

(1)

البخاري 4/ 327 ح 2109، ومسلم 3/ 1163 عقب ح 1531/ 43.

(2)

ينظر شرح مسلم 10/ 173.

(3)

سيأتي تخريجه ص 159.

(4)

أبو داود 3/ 271 ح 3457، والبيهقي 5/ 270.

ص: 153

جُعل بينهما حائط أو سترة لم ينقطع، ولا بإمضاء أحدهما من دون الآخر، ولا بإكراههما على التفرق، ولا بجنون أحدهما أو نحوه.

قال الإمام يحيى: فإن استمر ناب عنه وليه، وكذا لو خرس ولم تمكنه الإشارة، ويثبت للوكيل، فإن مات انتقل إلى الأصل، وإن تقابضا ثم تبايعا صحَّ الثاني، إذ (أ) العقد الثاني إبطال للخيار، وإن مات المتعاقدان انتقل إلى الوارث وإلا فالحاكم، وييطل بإبطالهما إياه قولًا حال العقد أو بعده لا قبله، أو فعلا كبيع المبيع أو إعتاقه أو نحوه، والقول لمنكر التفرق والفسخ؛ إذ الأصل عدمهما. هذا تفريع قول من قال به.

وذهب زيد بن علي والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والعنبري والإمامية وغيرهم إلى عدم ثبوت خيار المجلس، وأنه بعد تفرق المتبايعين بالقول لا خيار حينئذٍ إلا بالشرط (ب)، محتجين بقوله تعالى:{إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (1). وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2). {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3). فلم يفصل، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع"(4). ولم يفصل ولا صرّح في رواية بقدر تفرقة الأبدان. وأخرج ابن أبي شيبة (5) بإسنادٍ

(أ) في ب: أو.

(ب) في جـ: بما شرط.

_________

(1)

الآية 29 من سورة النساء.

(2)

الآية 1 من سورة المائدة.

(3)

الآية 282 من سورة البقرة.

(4)

تقدم ح 619.

(5)

ابن أبي شيبة 7/ 128.

ص: 154

صحيح عن إبراهيم النخعي قال: البيع جائز وإن لم يتفرقا.

واختلفوا في الجواب عن حديث الباب؛ فقال بعضهم: لا يعمل (أ) به؛ لأنه معارض لما هو أقوى منه. وقال بعضهم: هو منسوخ بحديث: "المسلمون على شروطهم"(1). والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط، وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين (2)؛ وذلك لأن الاحتياج إلي اليمين يستلزم لزوم العقد، لأن ظاهره الإطلاق قبل التفرق [وبعده](ب)، وبقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن (جـ) وقع قبل التفرق لم يصادف محلًّا. وقد أجيب عن المعارضة والنسخ (د) بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع ممكن هنا بغير تعسف ولا تكلف. وقال بعضهم: هو من رواية مالك، وقد عمل بخلافه. ويجاب عنه بأن مخالفة الراوي لا تبطل العمل به بم لأن ذلك مبني على اجتهاده، ولعله ظهر له دليل أرجح في اجتهاده وهو غير راجح في نفس الأمر.

وقال بعضهم: هو معارض بعمل أهل المدينة. ونقل ابن السكن عن أشهب أنه مخالف لعمل أهل مكة أيضًا، وردّ بأنه قد عمل به جماعة من أهل المدينة كابن عمر، ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم ابن أبي ذئب، وهؤلاء من أكابر علماء المدينة في أعصارهم، ولا يحفظ خلافه عن أحد من

(أ) في جـ: يعلم.

(ب) ساقطة من: الأصل.

(جـ) في جـ: إذا.

(د) في جـ: الفسخ.

_________

(1)

سيأتي ح 704.

(2)

تقدم تخريجه ص 26.

ص: 155

علماء المدينة إلا ما روي عن ربيعة. وأما أهل مكة فإنه قد قال به عطاء وطاوس وغيرهما، ولم يعلم مخالف منهم، وقال ابن العربي (1): إنما لم يأخذ به مالك لأن وقت التفرق غير محدود، فأشبه بيع الغرر. ورد عليه بأن مالكا أثبت خيار الشرط وإن لم يحد بوقت معينٍ، فالغرر فيه موجود مع أنه غير مسلم أن في ذلك غررًا؛ لأن كلًّا [منهما] (أ) متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو [بالفعل] (ب). وقال بعضهم: لا يعمل به لأنه خبر واحد فيما تعم به البلوى. ورد بأن الذي تعم به البلوى إنما هو البيع، وأما الفسخ فلا؛ فإنه بحسب الأغلب أن البيعين [يرضيان](جـ) بما ابتاعا، وبأن ذلك غير مسلم، فإن المعتمد في قبول الرواية إنما هو عدالة الراوي وضبطه لما روى من غير فرق، وأن ذلك إنما هو إذا كانت العادة تقضي بأن مثل المنقول حقه ألا يخفى [كقتل](د) خطب على منبر وغيره، وأما الأحكام الجزئية فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغها إلى الآحاد والجماعة وهذا منها.

وقال بعضهم: هو مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده. ورد بأن القياس مع النص لا يعتبر.

وقال بعضهم: إنه محمول على الاستحباب تحسينًا للمعاملة. وقال بعضهم: هو محمول على الاحتياط للخروج من الخلاف. وكلاهما خلاف الظاهر.

وقالت طائفة: المراد بالتفرق هو التفرق بالقول كما في عقد النكاح

(أ) ساقطة من النسخ. والمثبت من الفتح.

(ب) في الأصل، ب: بالعقد.

(جـ) في الأصل: مرضيان.

(د) في الأصل: كفعل.

_________

(1)

الفتح 4/ 330.

ص: 156

والإجارة والعتق. ورد بأنه قياس مع الفرق؛ لأن البيع ينقل منه ملك رقبة المبيع [ومنفعته](أ) بخلاف النكاح ونحوه.

وقال بعضهم: المراد بالمتبايعين المتساومان. ورد بأنه مجاز والحمل علي الحقيقة أو ما يقرب منها أولى. وقال الطحاوي (1)(ب): استعمال البائع في المساوم شائع في اللغة. واحتج بآيات وأحاديث، ورد بأن استعماله مجاز عند القرينة لا تقتضي حمله عليه عند عدم القرينة كما في غيره من المجازات. وقال من قال بهذا القول: وقت التفرق في الحديث هو ما بين قول البائع: بعتك هذا بكذا. و [بين](جـ) قول المشتري: اشتريت. قالوا: فالمشتري بالخيار في قوله: اشتريت. أو تركه، والبائع بالخيار إلى (د) أن يوجب المشتري. وهكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان من الحنفية، وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك. قال عيسي بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرقا قبل القبول؛ فإن القبول يتعذر. قالوا: لا بد من الرجوع إلى المجاز على المذهبين، أما على القول بالتفرق بالأقوال فلأنه لا يسمى بيعا قبل تمام العقد؛ لأنه مستقبل، واسم الفاعل حقيقة في الحال مجاز في المستقبل، وعلى القول بأن التفرق بالأبدان هو بعد تمام الصيغة قد مضى، فهو مجاز في الماضي. ورد بأنا لا نسلم أنه مجاز في الماضي بل هو حقيقة فيه كما ذهب إليه الجمهور بخلاف المستقبل فمجاز اتفاقًا، وعلى قول من يقول: إنه مجاز في الماضي. فهو

(أ) في الأصل: وشفعته.

(ب) زاد في الأصل: روي.

(جـ) ساقط من الأصل.

(د) في جـ: إلا.

_________

(1)

شرح معاني الآثار 4/ 15.

ص: 157

أقرب المجازين؛ لقربه من الحقيقة، لتحقق قيام الفاعل بالوصف، وفي المستقبل مجاز بعيد، فالحمل على القريب عند تعذر الحقيقة هو الأولى.

وقال بعضهم: العمل بظاهر الحديث متعذر فيتعين التأويل؛ وذلك لأن المتبايعين إن اتفقا في الفسخ أو الإمضاء لم يثبت لواحد منهما على الآخر خيار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمع بين النقيضين وهو مستحيل. وأجيب بأن الخيار إنما هو في الفسخ، وأما الإمضاء فلا حاجة إلى اختياره فإنه مقتضى العقد مع السكوت.

وقال بعضهم: هذا الحديث معارض بحديث ابن عمرو؛ أخرجه أبو داود مرفوعًا (1): "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". فإن قوله: "أن يستقيله". يدل على نفوذ البيع وأن تُؤول الاستقالة بالفسخ، فللمعترض أن يتأول قوله:"بالخيار". أي: بالاستقالة. فإذا تعارض التأويلان رجع إلى الترجيح. ويرد عليه بأن الترجيح مع المثبت لخيار المجلس؛ وذلك لأن حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخيار على الاستقالة؛ لأنه لو كان المراد بها الاستقالة حقيقة لم يكن للمفارقة معنى، فتعين حملها على الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء؛ فقالوا (2): معناه: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع (أ)، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم. وحملوا نفي الحل على الكراهة؛ لأنه لا يليق [بالمروءة](ب) وحسن معاشرة

(أ) في جـ: المبيع.

(ب) في الأصل: في المروءة.

_________

(1)

سيأتي ح 662.

(2)

الترمذي 3/ 550 عقب ح 1247.

ص: 158

المسلم، إلا (أ) أن اختيار الفسخ حرام. قال ابن حزم (1): احتجاجهم بحديث ابن عمرو على أن التفرق بالقول تذهب معه فائدة الحديث؛ لأنه يلزم منه حل التفرق، سواء خشي أن يستقيله أو لا؛ لأن الإقالة تصح قبل التفرق وبعده.

قال ابن عبد البر (2): قد أكثر المالكية والحنفية من الكلام لرد الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيء.

662 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البائع والمبتاع بالخيار حتَّى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله". رواه الخمسة إلا ابن ماجة، والدارقطني وابن خزيمة وابن الجارود (3). وفي رواية (4):"حتَّى يتفرقا عن مكانيهما".

تقدم الكلام في الحديث قريبًا، روي أن ابن عمر كان إذا بايع رجلًا فإن أراد أن يتم بيعه قام فمشى هنيهة فرجع إليه. وقد ذكره الرافعي أيضًا وهو متفق عليه (5).

(أ) في جـ: لا.

_________

(1)

المحلى 9/ 311.

(2)

التمهيد 14/ 11.

(3)

أحمد 2/ 183، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في خيار المتبايعين 3/ 271 ح 3456، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا 3/ 550 ح 1247، والنسائي، كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما 7/ 251، والدارقطني، كتاب البيوع 3/ 50 ح 207، وابن الجارود، أبواب القضاء في البيوع 196/ 2 ح 620.

(4)

هي رواية الدارقطني.

(5)

البخاري 4/ 326 ح 2107، ومسلم 3/ 1163، 1164 ح 1531/ 45.

ص: 159

وللترمذي (1): وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعًا وهو قاعد قام ليجب له.

وفي البخاري (2) قصة لابن عمر مع عثمان في ذلك. ولعل ابن عمر لم يبلغه النهي المذكور.

663 -

وعن ابن عمر قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه يُخْدَع في البيوع، فقال:"إذا بايعت فقل: لا خِلابة". متفق عليه (3).

الرجل سماه ابن الجارود في "المنتقى"(4) من طريق سفيان عن نافع أنَّه حَبَّان بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة، وكذلك في رواية ابن إسحاق، وذُكر في رواية ابن إسحاق أنَّه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغَبْن (5). وقد أخرجه أحمد وأصحاب "السنن" وابن حبان والحاكم (6) من حديث أنس بلفظ: أن رجلًا كان يبايع وكان في [عقدته](أ) - أي إدراكه - ضعف.

وقوله: "لا خِلَابة". بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، أي: لا خديعة. و"لا" لنفي الجنس، أي: لا خديعة في الدين؛ لأن الدين

(أ) في الأصل: عقله.

_________

(1)

الترمذي 3/ 547، 548 ح 1245.

(2)

البخاري 4/ 334 ح 2116.

(3)

البخاري، كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع 4/ 337 ح 2117، ومسلم، كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع 3/ 1165 ح 1533.

(4)

المنتقى 2/ 158 ح 567 من طريق سفيان عن محمد بن إسحاق عن نافع.

(5)

أحمد 2/ 129 بدون ذكر اسمه.

(6)

أحمد 3/ 217، وأبو داود 3/ 280، 281 ح 3501، والترمذي 3/ 552 ح 1250، والنسائي 7/ 252، وابن ماجة 2/ 788 ح 2354، وابن حبان 11/ 430 - 432 ح 5049، 5050، والحاكم 4/ 101.

ص: 160

النصيحة. زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى (1) عنه: "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد". فبقي حتَّى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمان عثمان، فكان إذا اشترى شيئًا فقيل له: إنك غبنت فيه. رجع فيشهد له رجل من الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثا، فيرد له دراهمه.

والحديث فيه دلالة على أنَّه يثبت الخيار لمن يُغبن في الشراء والبيع جميعًا إذا حصل الغبن، وقد ذهب إلى هذا أحمد ورواية عن مالك، ولكن إذا كان الغبن فاحشا لمن لم يعرف قيمة السلعة، وذهب إليه المنصور والإمام يحيى، وقيده البغداديون من المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة. وكأن هذا التقييد فهموه لما علم من أنَّه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن في كثير من الأحوال، ولأن القليل يُتسامح به في مجرى العادات، وأن من رضي بالغبن بعد معرفته فذلك لا يُسمى غبنًا، وإنما هو من باب المساهلة في البيع وقد أثني على ذلك.

وقد روي في "البحر" عن الناصر مثل هذا ولكنه أطلق.

وذهب الجمهور من العلماء إلى عدم ثبوت الخيار بذلك؛ لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير فرق بين أن يحصل غبن أو لا. وأجابوا عن حديث حَبَّان بأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل لي الخيار لضعف عقله؛ لما روي أنَّه رمي بحجر في

(1) البيهقي 5/ 273 من طريق يونس بن بكير. والحربي في غريب الحديث 1/ 29، وابن ماجة 2/ 789 ح 2355، والدارقطني 3/ 55 ح 220، والبيهقي 5/ 274 من طريق عبد الأعلى.

ص: 161

بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحصون، فأصاب رأسَه مأمومةٌ فتغير بها لسانه وعقله، لكن لم يخرج بذلك عن حد التمييز فيكون حكمه حكم الصبي المأذون له، فيثبت له الخيار مع الغبن، ولأنه صلى الله عليه وسلم لقنه اشتراط الخيار بقوله:"لا خِلابة". فكأنه قال: الشراء والبيع مشروط بعدم الخديعة. فإذا انتفى الشرط بطل البيع، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لقنه ذلك ليقول عند المعامل له لينبهه بأنه ليس من أهل البصيرة، ليَعْمل معامله بما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم من نصيحة المتبايعين كما في حديث (أ) حكيم بن حزام:"فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما" الحديث (1).

وقال ابن العربي (2): الخديعة في هذه [القصة](ب) يحتمل أن تكون في العيب، أو في الكذب، أو في الثمن، أو في الغبن، فلا يحتج بها في الغبن بخصوصه، وهي قضية خاصة لا عموم فيها. قال: وأما ما روي عن عمر أنَّه كلم في البيوع فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ ثلاثة أيام. فمداره على ابن لهيعة وهو ضعيف. انتهى، وهو كما قال. أخرجه الطبراني والدارقطني وغيرهما (3) من طريقه. ويرد عليه بأن في الرواية أنَّه كان يغبن في البيوع، فتعين أن العلة الغبن من المحتملات.

واستدل بعضهم بالحديث أنَّه إذا قال: لا خِلابة ثبت الخيار وإن لم

(أ) في ب، جـ: خبر.

(ب) في الأصل، ب: الصفة.

_________

(1)

البخاري 4/ 309 ح 2079، ومسلم 3/ 1164 ح 1532/ 47.

(2)

عارضة الأحوذي 6/ 8.

(3)

الطبراني -كما في التلخيص الحبير 3/ 21 - والدارقطني 3/ 57، والبيهقي 5/ 274.

ص: 162

يكن فيه غبن، والجواب عنه بالتقييد في الرواية أنَّه كان يغبن، واستدل به البعض على أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام من غير زيادة، ولأنه حكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه مثل المُصَرَّاة. وبعض المالكية قال: إنما قصره على ثلاث لأنه كان معظم بيعه في الرقيق، وكأنه ما يتبين الخديعة في ذلك إلا فيها، وهذا يحتاج إلى ثبت.

واعلم أن الهدوية أثبتوا الخيار لمن تصرف عن الغير، وفي الصبي المميز، واحتجوا بهذا الحديث، وهو يستقيم إذا صح أن حَبَّان حصل في عقله نقص حتَّى صار كالصبي المميز الَّذي ينفذ عقده بالإذن أو الإجازة. وروي أن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، احجر عليه. فدعاه فنهاه، فقال: لا أصبر عليه. فقال: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة"(1). وفي هذا احتمال أنَّه طُلب الحجر لضعف التمييز أو للسفه، وفيه دلالة على صحة منع من هذا حاله من التصرف ونفوذه بالإذن إذا لم يغبن.

فائدة: روى مسلم تمام الحديث: فكان إذا بايع يقول: لا [خيابة](أ). بمثناة من تحت بدل اللام، هكذا في جميع نسخ مسلم (2)، قال القاضي (3): ورواه بعضهم: "لا خيانة". بالنون بدل الباء الموحدة. قال: وهو تصحيف. قال: ووقع في بعض الروايات في غير مسلم (4): خذابة. بالذال

(أ) في الأصل، ب: خلابة.

_________

(1)

تقدم ص 160 من حديث أنس.

(2)

ينظر شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 177.

(3)

مشارق الأنوار 1/ 250.

(4)

الدارقطني 3/ 54 ح 217، والحاكم 2/ 22، والبيهقي 5/ 273.

ص: 163

المعجمة، والصواب الأول، وكان الرجل ألثغ لا يفصح باللام. وهذا اللفظ غير متعين عند من أثبت العمل به، فيصح أن يبدل بلفظ: لا خديعة، أو لا غش، أو غير ذلك. وقال ابن حزم (1) من الظاهرية: لا بد أن يأتي بلفظ: لا خلابة. ويرد عليه بما ورد في مسلم من إبداله اللام بالياء كما عرفت، وله أن يفرق دين ما فات فيه جوهر الكلمة جميعه وما فات فيه البعض. والله أعلم.

عدة أحاديث الباب ثلاثة.

(1) المحلى 9/ 400.

ص: 164