الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشركة والوكالة
الشركة بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تحذف الهاء وقد يفتح أوله مع ذلك، وهي مصدر شرِك بكسر الراء، والاشتراك مصدر اشترك، وبضم الشين اسم للشيء المشترك، وهي الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدًا، وإن أردت شمول (أ) الشركة بين الورثة في مال المورث حذفت بالاختيار.
والوكالة بفتح الواو وقد تكسر مصدر وكل، وهي بمعنى التفويض والحفظ، تقول: وكلت فلانًا. إذا استحفظته، ووكَلت الأمر إليه. بالتخفيف، إذا فوضته إليه، وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقًا أو مقيدًا، والوكيل فعيل بمعنى مفعول.
711 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما". رواه أبو داود -أي تنتزع البركة من مالهما- وصححه الحاكم (1).
أعله ابن (ب) القطان بالجهل بحال سعيد بن حيّان (2)، وقد رواه عنه أيضًا ولده أبو حيان بن سعيد، لكنَّه ذكره ابن حبان في "الثقات"(3)، وذكر أنَّه
(أ) في جـ: شمولة.
(ب) ساقط من: جـ.
_________
(1)
أبو داود، كتاب البيوع، باب في الشركة 3/ 253 ح 3383، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 52.
(2)
سعيد بن حيان، التَّيميُّ، الكوفيُّ، وثقه العجلي. التقريب ص 234. وينظر تهذيب الكمال 10/ 399.
(3)
الثقات 4/ 280.
روى عنه أيضًا الحارث بن [سويد](أ)، لكن أعله الدارقطني (1) بالإرسال فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال: إنه الصواب، ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان. وفي الباب عن حكيم بن حزام رواه أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(2).
ولفظ أبي داود: "إن الله تعالى يقول" الحديث. ومعناه أنَّه تعالى معهما في الحفظ والرعاية والإمداد بمعونتهما في مالهما وإنزال البركة في تجارتهما، فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما، والتفسير بقوله: أي تنتزع البركة. ليس من الحديث، وإنَّما هو تفسير من المصنف رحمه الله تعالى.
712 -
وعن السَّائب المخزومي، أنَّه كان شريك النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحبًا بأخي وشريكي. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (3).
هو السَّائب بن أبي السَّائب، واسم أبي السَّائب صَيفيٌّ بفتح الصاد المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وكسر الفاء وتشديد الياء، المخزومي القرشي شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال له: السَّائب بن نُمَيلة. بضم النون وفتح الميم وسكون الياء تحتها نقطتان، كذا قاله ابن منده، وقال ابن عبد
(أ) في النسخ: شريد. وفي التلخيص 3/ 49: يزيد. والمثبت من الثقات، وينظر التاريخ الكبير 2/ 269.
_________
(1)
العلل 11/ 7.
(2)
ينظر التلخيص الحبير 3/ 49.
(3)
أحمد 3/ 425، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في كراهية المراء 4/ 261 ح 4836، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الشركة والمضاربة 2/ 768 ح 2287.
البر (1): السَّائب بن نميلة غير السَّائب بن أبي السَّائب. وجعله صحابيًّا آخر.
وقال: أخشى أن يكون حديثه مرسلًا. وقد اختلف في إسلامه وصحبته وشركته؛ فقال ابن إسحاق أنَّه قتل يوم بدر كافرًا. وروى ابن هشام (2) عن ابن عباس أنَّه ممن هاجر مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين. قال ابن عبد البر (3): وهذا أولى ما عول عليه في هذا الباب. وكذلك اختلف في شركته النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقيل: إنه الشريك. وقيل: الشريك ابنه عبد الله. وقيل: هو قيس بن السَّائب. وقال ابن عبد البر (4): السَّائب بن أبي السَّائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه، وكان من المعمرين؛ عاش إلى زمن معاوية، روى عنه مجاهد بن جبر، وكان مولى مجاهد بن جبر من فوق. والحديث لفظ الحاكم (5) عنه أنَّه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح قال: مرحبًا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري. وصححه الحاكم. ولابن ماجه: كنت شريكي في الجاهلية. ورواه أبو نعيم في "المعرفة"(6)، والطبراني في "الكبير"(7) من طريق قيس بن السَّائب. وروي أيضًا من طريق عبد الله بن السَّائب (8)، قال أبو حاتم في "العلل" (9):
(1) الاستيعاب 2/ 572 - 574، 576.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 712.
(3)
الاستيعاب 2/ 573.
(4)
الاستيعاب 2/ 574.
(5)
الحاكم 2/ 61.
(6)
معرفة الصّحابة 4/ 115 ح 5751.
(7)
الطبراني 18، 363 ح 929.
(8)
ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2/ 33 ح 708، والطبراني في الأوسط 1/ 268 ح 871، وأبو نعيم في المعرفة 3/ 164 ح 4211.
(9)
العلل 1/ 126، 127.
وعبد الله ليس [بالقديم](أ).
713 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اشتركت أنا وعمار وسعد (ب) فيما نصيب يوم بدر. الحديث. رواه النَّسائيّ وغيره (1).
وأخرجه ابن أبي شيبة وابن عساكر (2)، وتمامه: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء.
الحديث فيه دلالة على صحة الشركة في المكاسب، وهي المسماة عند الفقهاء بشركة الأبدان، وحقيقتها أن يوكل كل منهما صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة. وقد ذهب إلى صحتها العترة جميعًا وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب الشَّافعي وابن حي إلى أنها لا تصح؛ لبنائها على الغرر؛ إذ لا يقطعان بحصول الربح لتجويز تعذر العمل.
والجواب بأن العبرة بالغالب، وتعذره نادر فلا حكم له.
وأعلم أن الشركة على أربعة أنواع، ودل على شرعيتها على جهة العموم الحديث المذكور في أول الباب، وعلى تفاصيلها أدلة خاصة بشركة الأبدان؛ هذا الحديث، وحديث البراء، وهو ما أخرجه البُخاريّ (3) عن
(أ) في النسخ: بالقوي. والمثبت من العلل. قال في العلل: عبد الله بن السَّائب ليس بالقديم وكان على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حدثًا، والشركة بأبيه أشبه.
(ب) زاد في جـ: وسعيد. وضرب عليها في ب.
_________
(1)
النَّسائيّ، كتاب المزارعة، باب شركة الأبدان 7/ 57، وكتاب البيوع، باب الشركة بغير مال 7/ 319، والطبراني 1/ 138 ح 297، والبيهقيّ، كتاب الشركة، باب الشركة في الغنيمة 6/ 79.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 14/ 387، وتاريخ دمشق 20/ 321، 43/ 382.
(3)
البُخاريّ 5/ 134 ح 2497، 2498.
سليمان بن أبي مسلم قال: سألت أبا المنهال عن الصرف يدًا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئًا يدًا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردُّوه". فهذه الشركة تحتمل شركة المفاوضة؛ وهي أن يخرج حران مكلفان مسلمان جميع نقدهما السواء جنسًا وقدرًا ثم يخلطا ويعقدا غير مفضلين في الربح والوضيعة، أو شركة العنان؛ وهي أن يعقدا على النقد بعد الخلط أو العرض بعد التشارك ولو متفاضلي المالين، فيتبع الربح والخسر بالمال، قال ابن بطال (1): أجمعوا أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرجه صاحبه ثم يخلطا ذلك حتَّى لا يتميز ثم يتصرفا جميعًا، إلَّا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه، وأجمعوا على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر؛ فمنعه الشَّافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلَّا الثوري. انتهى. [وزاد] (أ) الشَّافعي: ألا (ب) تختلف الصفة أيضًا؛ كالصحاح والكسرة. وجنح البُخاريّ إلى قول الثوري حيث قال في التبويب: باب الاشتراك في الذَّهب والفضة وما يكون فيه الصرف. وأراد بقوله: وما يكون فيه الصرف. أي كالدراهم المغشوشة والتبر وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال الأكثر: يصح في كل مِثلي. وهو الأصح عند الشَّافعية، وقيل: يختص بالنقد المضروب. وعند
(أ) في الأصل: وأراد.
(ب) في ب، جـ: إلَّا أن.
_________
(1)
شرح صحيح البُخاريّ لابن بطال 7/ 17، 18.
الهدوية التفصيل المذكور في حدي الشركتين. والنوع الرابع من الشركةِ هو شركة الوجوه؛ وهي أن يوكل كل من جائزي التصرف الآخر أن يجعل له فيما استدان أو اشترى جزءًا معلومًا.
واختلف العلماء في اعتبار العقد في الشركة؛ فظاهر إطلاق الجمهور أنَّه لا بد من العقد الذي يستكمل الشروط كغيرها من العقود، وعلق البُخاريّ (1) عن عمر ما يدل على عدم الاشتراط حيث قال: ويذكر أن رجلًا ساوم شيئًا فغمزه آخر، فرأى عمر أن له شركة. قال المصنف (2) رحمه الله: لم أقف على اسم الرجل، وهذا التعليق قد رواه سعيد بن منصور من طريق إياس بن معاوية، أن عمر أبصر (أ) رجلًا يساوم سلعة وعنده رجل فغمزه حتَّى اشتراها، فرأى عمر أنها شركة. وهذا يدل على أنَّه كان (ب لا يشترط ب) للشركة صيغة ويكتفى فيها بالإشارة إذا ظهرت القرينة، وهو قول مالك، وقال مالك أيضًا في السلعة تعرض للبيع فيقف من يشتريها للتجارة، فإذا اشتراها واحد منهم واستشركه الآخر لزمه أن يشركه؛ لأنَّه انتفع بترك الزيادة عليه.
714 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:"إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وَسقًا". رواه أبو داود (3) وصححه.
(أ) في ب، جـ: رأى.
(ب) في ب: لاشتراط، وفي جـ: لاشترط.
_________
(1)
البُخاريّ 5/ 136.
(2)
الفتح 5/ 136.
(3)
أبو داود، كتاب الأقضية، باب في الوكالة 3/ 313 ح 3632.
تمام الحديث: "فإن ابتغى منك آية فضع يدك على تَرْقُوَته". أخرجه أبو داود من طريق وهب بن كيسان عنه بسند حسن، ورواه الدارقطني (1) لكن قال:"خذ منه ثلاثين وسقًا، فوالله ما لمحمد تمرة غيرها". وعلق البُخاريّ (2) طرفًا منه في آخر كتاب الخمس. الحديث فيه دلالة على شرعية الوكالة، والإجماع على اعتبارها وتعلق الأحكام بالوكيل، وتمام الحديث فيه دلالة على العمل بالقرينة في مال الغير، وأنه يصدق الرسول لقبض العين، وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وحكاه في "شرح الإبانة" عن أبي طالب، قال الإمام المهدي في "الغيث": يعني مع غلبة الظن بصدقه. وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وقد ذكره الأزرقي لذهب الهادي، وبنت عليه الهدوية أنَّه لا يجوز مصادقة الرسول؛ لأنَّه مال الغير فلا يصح التصديق فيه. قال الفقيه محمد بن سليمان من الهدوية: إلَّا أن يغلب في الظن صدق الرسول جاز الدفع إليه. وعلى تتميم القول بما ذكر يحصل الاتفاق وينتفي الخلاف.
715 -
وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية. الحديث. رواه البُخاريّ (3) في أثناء حديثًا، وقد تقدم.
الحديث تقدم في كتاب البيع وما يتعلق به من الفقه (4).
(1) سنن الدارقطني 4/ 154، 155 ح 1.
(2)
البُخاريّ 6/ 236.
(3)
البُخاريّ، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام وغيره 5/ 137، وذكر الحافظ في الفتح 5/ 137 أن هذه الزيادة وقعت في نسخة الصغاني، قال: ولم أرها في شيء من النسخ غيرها. وأصل الحديث في كتاب المناقب 6/ 632 ح 3642.
(4)
تقدم ص 137 - 141.
716 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة. الحديث متفق عليه (1).
تمام الحديث: فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى، وأمَّا خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأمَّا العباس فهي عليّ ومثلها معها". ثم قال: "يا عمر، أما شعرت أن عمَّ الرجلِ صنوُ أبيه؟ ".
قوله: بعث. وفي لفظ للبخاري: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة. وفي لفظ له: بالصدقة. والمراد بالصدقة هنا هي غير صدقة الفطر؛ لأنَّه لم يكن يبعث لها ساعيًا، ويحتمل أنها الزكاة كما هو الظاهر، وقال ابن القصار المالكي (2): الأليق أنها صدقة تطوع؛ لأنَّه لا يظن بهؤلاء الصّحابة أنهم يمنعون الفرض.
وقوله: فقيل. القائل عمر، وقد ورد مصرحًا به في رواية ابن عباس. وابن جميل قيل: إنه كان منافقًا ثم تاب بعد ذلك. حكاه المهلب وجزم القاضي حسين في "تعليقه" أن فيه نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} (3) الآية. انتهى. والمشهور أنها نزلت في ثعلبة (4)، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد (5): فقال بعض من يلمز. أي يعيب. قال المصنف (6)
(1) البُخاريّ، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3/ 331 ح 1468، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تقديم الزكاة ومنعها 2/ 676، 677 ح 983.
(2)
ينظر شرح ابن بطال على صحيح البُخاريّ 3/ 500.
(3)
الآية 75 من سورة التوبة.
(4)
تفسير البغوي 4/ 75، وتفسير القرطبي 8/ 210.
(5)
الأموال ص 705.
(6)
الفتح 3/ 333.
رحمة الله تعالى عليه: وابن جميل لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي حسين المروزي الشَّافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشَّيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن [بَزِيزة](أ) سماه حميدًا، ولم أر ذلك في كتاب ابن بَزِيزة، ووقع في رواية [ابن جريج] (ب): أبو جهم بن حذيفة. بدل ابن جميل، وهو خطأ؛ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنَّه كان أنصاريًّا.
وقوله: "ما ينقم". بكسر القاف؛ أي ما ينكر أو ما يكره.
وقوله: "أغناه الله ورسول". إنَّما ذكر صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنَّه كان سببًا لدخوله في الإسلام، فأصبح غنيًّا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من الغنائم، وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأنَّه إذا لم يكن عذر إلَّا ما ذكر من أن الله أغناه، فلا عذر له. وفيه التعريض بكفران النعمة وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.
وقوله: "احتبس". أي حبس. وقوله: "أعْتُده". بضم المثناة جمع عَتَد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم كما ساقه المصنف "أعتاده"، وهو جمعه أيضًا، وهو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة. يقال: فرس عتد. أي صلب، أو معد للركوب، أو سريع الوثوب، أقوال، ولبعض الرواة "أعبده" بالموحدة جمع عبد، حكاه عياض، والأول هو المشهور، وقد استدل بهذا البُخاريّ على إخراج العروض في الزكاة، أو أنَّه
(أ) غير منقوطة في الأصل، ب، وفي جـ: بريره. والمثبت من الفتح 3/ 333. وهو عبد العزيز بن إبراهيم بن بزيزة المالكي. ينظر شجرة النور الزكية ص 190، وتبصير المنتبه 1/ 79.
(ب) في النسخ: ابن جرير. والمثبت من مصنف عبد الرَّزاق 4/ 18 ح 6826، وتغليق التعليق 3/ 27.
شرى بالزكاة السلاح وغيره إعانة في سبيل الله، ويحتمل أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أجاز له ذلك، أو جعله وكيلًا في قبض زكاته ولشراء ممَّا ذكر نيابة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالوكالة له منه. وأجاب الجمهور بأجوبة؛ أحدها أن المعنى أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد؛ حملًا على أنَّه لم يصرح بالمنع، وإنَّما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله:"تظلمون خالدًا". أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه؟! وثانيها أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه. ثالثها أنَّه جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله كما هو جواب البُخاريّ، وهو حجة للحنفية في جواز إخراج القيمة عن الزكاة، وسيأتي في كتاب الوقف، ويؤخذ منه صحة تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد الواقف، وقال ابن دقيق العيد (1): إن القضية عينية محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها في شيء. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادًا وعدم تصرف، إذ (أ) قد يطلق التحبيس على ذلك، فلذلك لم ينهض الاستدلال، إذ الاستدلال إنما يكون بنص أو ظاهر.
وقوله: "فهي عليَّ ومثلها معها". هذا لفظ مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد، وفي البُخاريّ من رواية شعيب عن أبي الزناد:"فهي عليه صدقة ومثلها معها". وفي رواية ابن إسحاق عن أبي الزناد: "هي عليه ومثلها معها". وتابعه ابن جريج عن الأعرج بمثله، فعلى رواية:"عليَّ" يحتمل أن
(أ) في ب: أو.
_________
(1)
شرح عمدة الأحكام 2/ 193.
يكون تحمل عنه بها، فيستفاد منه صحة أن يتبرع الغير بالزكاة، وقد ورد نظير ذلك في حديث تحمل أبي قتادة عن الميت، وقوله:"الآن بردت عليه"(1). ويحتمل أنَّه قد كان استسلفها منه صدقة تلك السنة والسنة المستقبلة، وقد أخرج التِّرمذيُّ وغيره (2) من حديث عليٍّ ذلك، وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني (3) من طريق موسى بن طلحة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنا كُنَّا احتجنا، فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين". وهو مرسل. وروي أيضًا في الدارقطني (4) موصولًا بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني (5) أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا، فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل". وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضًا هو والطبراني (6) من حديث أبي رافع نحو هذا، وإسناده ضعيف أيضًا. ومن حديث ابن مسعود (7): تعجل من العباس صدقة سنتين. وفي إسناده محمد بن ذكوان (8)، وهو ضعيف، ولو ثبت -أي رواية التعجيل- لكان رافعًا للإشكال. وقيل: المعنى أنَّه استلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يعاض
(1) تقدم ص 283.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 63 ح 679، والدارقطني 2/ 124 ح 5.
(3)
الدارقطني كما في الفتح 3/ 333.
(4)
الدارقطني 2/ 124 ح 6.
(5)
الدارقطي 2/ 124، 125 ح 7، 8.
(6)
الدارقطني 2/ 125 ح 9، والطبراني في الأوسط 8/ 28 ح 7862.
(7)
البزار 4/ 303، 304 ح 1482، والطبراني 10/ 87، 88 ح 9985.
(8)
محمد بن ذكوان البصري، الأزدي الجهضمي مولاهم، خال ولد حماد بن زيد ووهم من جعله اثنين. ضعيف. التقريب ص 477، وضعفه أيضًا البُخاريّ وأبو حاتم والنَّسائيُّ ووثقه ابن معين. ينظر تهذيب الكمال 25/ 180، والكامل لابن عدي 6/ 2206.
بذلك، وقد استبعد ما ذكر من الاحتمالين بأنه لو كان كذلك لنبه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر ألا يطالب العباس، وهو مدفوع؛ لأنَّه يجوز أنَّه ترك ذلك اعتمادًا على حسن ظن عمر بالعباس، أو أن العباس يبين لعمر مثل ذلك فيقبل منه، ولم يقع من العباس البيان، فبين ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا محذور في ذلك. وأمَّا رواية:"عليه صدقة ومثلها". فالمعنى أنها عليه صدقة لازمة ومثلها، فقيل: إنه أخرها عنه في ذلك العام إلى العام القابل، فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عبيد (1). وفعل ذلك رفقًا به، وقيل: لأنَّه كان استدان حين فادى عقيلًا وغيره، فصار من جملة الغارمين. فالمعنى: هي عليه صدقة ينتفع بها مصروفة فيه ومثلها، وإن ذلك كان قبل تحريم الزكاة على بني هاشم، ويدل عليه رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند ابن خزيمة (2) بلفظ:"فهي له ومثلها". وقال البيهقي (3): اللام بمعنى "على" لتتفق الروايات؛ لأنَّ المخرج إليه واحد. وإليه مال ابن حبان (4). وقيل: معناه: فهي له؛ أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه؛ لأنني التزمت عنه بإخراجه، فيوافق رواية:"فهي عليَّ ومثلها". وقال بعضهم: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة [بأن] (أ) يؤدي ضعف ما وجب عليه كما في قوله تعالى:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (5). ولكن
(أ) في الأصل، ب: وأن. وينظر الفتح 3/ 334.
_________
(1)
ينظر الأموال ص 706.
(2)
ابن خزيمة 4/ 48، 49 ح 2329.
(3)
البيهقي -كما في الفتح 3/ 334.
(4)
صحيح ابن حبان 8/ 69.
(5)
الآية 30 من سورة الأحزاب.
التعليل بقوله: "أما علمت يا عمر" إلى آخره. ممَّا يؤيد أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تحمل ذلك عنه؛ لما له من الحق العظيم وتنزيله منزلة الأب، فلا ينبغي أن ينسب إليه ترك الواجب، وزيادة المثل تنبيه للعباس أن حق مثله الزيادة على الواجب فضلًا عن إخراج الواجب. والله سبحانه أعلم.
وفي الحديث دلالة على بعث العمال على قبض الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغني بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، [والعتب](أ) على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بما ينقصه، وعدم العاجلة بالعقوبة، وأخذ الزكاة كرهًا عسى أن يرجع إلى الامتثال وتسليم ما يجب عليه، وتحمل الإمام عن بعض المسلمين، والاعتذار عن البعض، وحسن التأويل، وذكر الحديث في هذا الباب لكون العامل وكيلًا عن الإمام. والفقهاء اختلفوا في تصرَّف العامل؛ هل هو بالوكالة أو بالولاية، أو لما في إخراج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن العباس، ونيابته في الزكاة هو جار مجرى الوكالة وإن كان ذلك بالضمانة ألصق. والله أعلم.
717 -
وعن جابر رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثًا وستين، وأمر عليًّا أن يذبح الباقي. الحديث. رواه مسلم.
تقدم (1) الكلام عليه بطوله في كتاب الحج، والبدن التي نحرها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة؛ ساق من المدينة ثلاثًا وستين، والتتمة من البدن التي وصل بها على رضي الله عنه من اليمن، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان وصل مكّة، وفي
(أ) في الأصل: والعيب.
_________
(1)
تقدم في 5/ 289 - 312.
الحديث دلالة على صحة التوكيل في ذبح الهدي، وهو مجمع عليه إذا كان الذابح مسلمًا، وإن كان كافرًا كتابيًّا صح عند الشَّافعية بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه، ولفظ مسلم: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَر وأشركه في هديه. وقوله: ما غير. بالغين المعجمة والباء الموحدة المفتوحة؛ أي: ما بقي. وقوله: وأشركه في هديه. ظاهره أنَّه شاركه في نفس الهدي. قال القاضي عياض (1): وعندي أنَّه لم يكن شريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه. قال: والظاهر أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نحر البُدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثًا وستين كما جاء في رواية التِّرمذيِّ (2)، وأعطى عليًّا عليه السلام البدن التي جاءت معه من اليمن، وهي تمام البدن، ويكون المراد أنَّه جعل عليًّا شريكًا في ثواب الهدي لا أنَّه ملكه بعد أن جعله هديًا، ويحتمل أن عليًّا أحضر الذي جاء به، فرآه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فملكه نصفه فصار شريكًا له، وساق الجميع هديًا فصارا شريكين فيه لا في الذي ساقه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أولًا.
وفيه أيضًا دلالة على أنَّه يستحب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم واحد، ولا يؤخر بعضها إلى بعد يوم النحر.
718 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العَسيف قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" الحديث. متَّفقٌ عليه (3).
(1) شرح صحيح مسلم 8/ 192.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 178، 179 ح 815.
(3)
البُخاريّ، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود 4/ 491، 492 ح 2314، 2315، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1324، 1325 ح 1697، 1698.
الحديث سيأتي الكلام عليه مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب الحدود (1)، وذكره في هذا الباب؛ لأنَّ المأمور وكيل عن الإمام في إقامة الحد، والظاهر أن ذلك من باب الولاية وليس من الوكالة، والفرق بين تصرَّف الوكيل والمولى مستوفى في كتب الفروع، وبوب البُخاريّ: باب الوكالة في الحدود. وأورد هذا الحديث وغيره وقال المصنف (2) رحمه الله تعالى بعد أن ساق الكلام على أحاديث الباب: فإن الإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه وولاه غيره، كان ذلك بمنزلة توكيله لهم في إقامته. انتهى.
(1) سيأتي ح 1002.
(2)
الفتح 4/ 492.