الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب اللقطة
اللقطة بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين.
وقال عياض (1): لا يجوز غيره. وقال الزمخشري في "الفائق"(2): بفتح القاف، والعامة تسكنها. كذا قال. وجزم الخليل (3) بأنها بالسكون، قال: وأما بالفتح فهو اللاقط. وقال الأزهري (4): هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع أهل اللغة والحديث عليه هو الفتح.
وقال ابن بري (5): التحريك للمفعول. وقال بعضهم (6): اسم للملتقط كالضُّحَكة والهُمَزة، وأما المال الملقوط فهو بسكون القاف، نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس، وفيها لغتان أخريًان أيضًا، لقاطة بضم اللام، ولَقَط بفتح اللام والقاف بغير هاءٍ، [ووجه](أ) بعض المتأخرين فتح القاف في لقطة في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختصت به، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها، فسميت باسم الفاعل لذلك.
768 -
عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". متفق عليه (7).
(أ) في الأصل، ب: ورجح.
_________
(1)
مشارق الأنوار 1/ 362.
(2)
الفائق 1/ 391.
(3)
العين 5/ 100.
(4)
تهذيب اللغة 16/ 250.
(5)
اللسان (ل ق ط).
(6)
النهاية 4/ 264.
(7)
البخاري، كتاب اللقطة، باب إذا وجد تمرة في الطريق 5/ 86 ح 2431، ومسلم، كتاب =
الحديث فيه دلالة على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به ولا يجب التعريف به، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمنعه من أكلها إلا تورعًا؛ خثسية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق، ولم يذكر تعريفًا، فدل على أن الآخذ يملكها بمجرد الأخذ، والظاهر أن جواز الأخذ إنما هو فيما كان (أ) لقطة مجهولة المالك، وأما ما كان مالكه معلومًا فلا يجوز أخذه وإن كان يسيرًا إلا بإذن من مالكه. وقد روى مثل هذا ابن أبي شيبة (1) عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت (5): لا يحب الله الفساد. يعني أنها لو تُركت فلم تؤخذ وتؤكل لفسدت، ومثل هذا هو مجزوم به عند الأكثر، وأشار الرافعي إلى تخريج وجه فيه. وقد يورد إشكال؛ وهو أنه كيف تركها صلى الله عليه وسلم في الطريق مع أن إلى الإمام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة [و](جـ) صرف ذلك في مصرفه؟! وأجيب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها للحفظ، وإنما تورع من أكلها، وليس في الحديث ما يدل على مخالفة ذلك، أو أنه تركها عمدًا لينتفع بها من يأخذها ممن تحل له الصدقة، وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له، لا ما جرت العادة بالإعراض عنه لحقارته. والله أعلم.
769 -
وعن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله
(أ) في جـ: يكون.
(ب) في ب: قال. وفي جـ: قلت.
(جـ) في الأصل، ب: أو.
_________
= الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله
…
2/ 752 ح 1071/ 164، 165.
(1)
ابن أبي شيبة 6/ 459.
عن اللقطة، فقال:"اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها". قال: فضالة الغنم؟ قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب". قال: فضالة الإبل؟ قال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها". متفق عليه (1).
770 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرِّفها". رواه مسلم (2).
هو أبو طلحة، وقيل: أبو عبد الرحمن. زيد بن خالد الجهني، من جهينة بن زيد، نزل الكوفة، روى عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء بن يسار، مات بالكوفة سنة ثمان وسبعين، ويقال: مات في آخر أيام معاوية وهو ابن خمس وثمانين سنة. وقيل في وفاته غير ذلك (3).
قوله: جاء رجل. هكذا في رواية مالك عن ربيعة، وجاء في البخاري (4): جاء أعرابي. وزعم ابن بشكوال (5) وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن.
قال المصنف (6) رحمه الله: ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئًا من ذلك، وفيه بُعْد أيضًا، لأنه لا يوصف بأنه أعرابي. وقيل: السائل هو الراوي.
(1) البخاري، كتاب اللقطة، باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه 5/ 91 ح 2436، ومسلم، كتاب اللقطة 3/ 1346 ح 1722. واللفظ لمسلم.
(2)
مسلم، كتاب اللقطة 3/ 1351 ح 1725.
(3)
ينظر الاستيعاب 2/ 549، وأسد الغابة 2/ 284، والإصابة 2/ 603.
(4)
البخاري 5/ 80 ح 2427.
(5)
غوامض الأسماء 2/ 841، 842.
(6)
الفتح 5/ 80.
وفيه بُعْد إيضًا؛ لما ذكرناه، ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني (1) من وجه آخر (أ) عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه: إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في رواية أحمد (2) عن زيد بن خالد بالشك أنه السائل، أو رجل آخر. وفي رواية ابن وهب (3) عن زيد بن خالد: أتى رجل وأنا معه. فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل، ثم [ظفرت] (ب) بتسمية السائل فيما أخرجه الحميدي والبغوي وغيرهما عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم أوثق وعاءها". فذكر الحديث، وقد ذكر أبو داود (4) طرفًا منه تعليقًا ولم يسق لفظه، وكذلك البخاري في "تاريخه" (5). وروى ابن أبي شيبة والطبراني (6) من طريق أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله، الورق يوجد عند القرية؟ قال:"عرفها حولًا" الحديث. وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه، وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي (7). وروى الإسماعيلي في "الصحابة" من طريق مالك عن ابن عمر عن أبيه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال:"إن وجدت من يعرفها فادفعها" الحديث.
(أ) في ب: أخرجه.
(ب) في النسخ: ظفر، والمثبت من الفتح 5/ 80.
_________
(1)
الطبراني 5/ 290 ح 5253.
(2)
أحمد 4/ 115.
(3)
مسلم 3/ 1348 ح 2/ 1722.
(4)
أبو داود 2/ 137، 138 ح 1701 - 1703.
(5)
التاريخ الكبير 8/ 362.
(6)
ابن أبي شيبة -كما في المطالب العالية 4/ 27 ح 1578 - والطبراني 22/ 226 ح 597.
(7)
النسائي في الكبرى 3/ 423 ح 5829.
وإسناده واهٍ جدًّا. وروى الطبراني (1) من حديث الجارود العبدي قال: قلت: يا رسول الله، اللقطة نجدها؟ قال:"انشُدها ولا تكتم ولا تغيِّب" الحديث.
قوله: فسأله عن اللقطة. هكذا في أكثر الروايات، وفي لفظ البخاري: عما يلتقطه. وزاد مسلم في رواية: والذهب والفضة. وهو كالمثال، وإلا فاللقطة تشمل ذلك وغيره.
وقوله: "اعرف عفاصها
…
" إلخ. هذا لفظ مسلم، والعِفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي يكون فيه النفقة، جلدًا كان أو غيره. وقيل له: العفاص. أخذًا من العفص وهو [الثني؛ لأن الوعاء] (أ) يثنى على ما فيه. وقد وقع في زوائد "المسند" لعبد الله بن أحمد: "وخرقتها" [بدل] (5) "عفاصها". والعفاص أيضًا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة، فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني كما جاء في بعض روايات مسلم، وحيث لا يذكر فالمراد به الأول، والغرض منه معرفة الآلات التي تحفظ النفقة، و [يلتحق] (جـ) بذلك حفظ الجنس والقدر، والكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، والذرع فيما يذرع، والعدد فيما يعدّ. وقد جاء في رواية لمسلم: "عفاصها ووكاءها وعددها". وقال جماعة من الشافعية: [يستحب](د) تقييدها بالكتابة خوف النسيان. وقد اختلفت
(أ) في النسخ: المثنى لأن العفص. والمثبت من الفتح 5/ 81.
(ب) في النسخ: تعدل. والمثبت من الفتح.
(جـ) في الأصل: يلحق.
(د) في النسخ: يستحق. والمثبت من الفتح 5/ 81.
_________
(1)
الطبراني 2/ 298، 299 ح 2120، 2121.
روايات الحديث، فقد جاء معرفة هذه الأشياء قبل التعريف كما جاء في رواية مسلم، كما ذكر في هذا الكتاب، وقد جاء التعريف مقدمًا كما في البخاري، وعطف معرفة هذه الأشياء بـ "ثم"، وهو يقتضي أن التعريف سابق. قال النووي (1): يمكن الجمع بينهما بأن يكون مأمورًا بالمعرفة في حالتين؛ فيعرفها بالعلامات وقت الالتقاط (أ) حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها معرفة أخرى تَعَرُّفًا وافيًا محققًا؛ ليعلم قدرها وصفتها حتى يردها إلى صاحبها إذا أتى. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): ويحتمل أن تكون "ثم" بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبًا (ب [فلا مخالفة ولا] ب) يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون القصة واحدة والمخرج واحدا، وإنما يحسن ذلك لو كان المخرج مختلفًا أو تعددت القصة، واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء؛ الأظهر الوجوب؛ لظاهر الأمر، وقيل: مستحب. وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط ويستحب بعده.
وظاهر الحديث أن اللقطة يجوز ردها للواصف بل يجب ذلك، وأصرح من حديث الباب ما في البخاري (3):"فإن (جـ) جاء أحد يخبرك بها". وفي
(أ) في ب: التقاطه.
(ب- ب) في الفتح: ولا تخالفا.
(جـ) في جـ: فإذا.
_________
(1)
صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 23.
(2)
الفتح 5/ 81.
(3)
البخاري 5/ 80 ح 2427.
لفظ: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه".
أخرجه مسلم وأخرجه أحمد وأبو داود (1)، وقال أبو داود (2): إن هذه الزيادة رواها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة. وقد تمسك [به](أ) من حاول تضعيفها فلم يصب، بل هي صحيحة، مع أنه قد وافق حمادَ بنَ سلمة الثوريُّ، أخرجه النسائي وأحمد (3)، فزال عن الزيادة الشذوذ. وقد ذهب إلى ذلك أحمد ومالك فقالا: يجب الرد للواصف. إلا أن مالكًا وأصحابه فصَّلوا في ذلك فقالوا: إنه يجب مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد. قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث. قالوا: ولا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك إذا زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين، وكذلك اختلفوا إذا جهل الوصف وجاء بالعفاص والوكاء، وأما إذا غلط فيها فلا شيء له، وأما إذا عرف أحد العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى؛ فقيل: لا شيء له إلا بمعرفته لهما جميعًا. وقيل: يدفع إليه بعد الاستبراء. وقيل: إن ادعى الجهالة استبرئ، وإن غلط لم يدفع إليه. واختلفوا هل تحتاج إلى يمين بعد الوصف؟ فقال ابن القاسم: بغير يمين. وهو ظاهر الحديث. وقال أشهب: بيمين. وقد ذكر مثل ذلك أبو مضر للهادي والمؤيد بالله، وأنه يجب الرد إذا غلب في ظنه صدق الواصف فيما بينه وبين الله؛ لأن العمل بالظن واجب. وقد ضعف
(أ) في جـ: بها.
_________
(1)
مسلم 3/ 1350، 1351 ح 1723/ 10، وأحمد 5/ 126، وأبو داود 2/ 138 ح 1703.
(2)
أبو داود 2/ 139 عقب ح 1708.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 422 ح 5825، وأحمد 5/ 126.
هذا التعليل بأنه لا يجب فيما يخشى من عاقبته التضمين. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يجوز الرد للواصف إذا غلب في الظن الصدق، ولا يجب إلا ببينة. وذكر مثل هذا في "شرح الإبانة" وقال: هو قول عامة أهل البيت وعلماء الفريقين. يعني الحنفية والشافعية. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد"(1): وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى؛ لظاهر الحديث، فمن غلَّب الأصل قال: لا بد من البينة. ومن غلَّب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة أبو حنيفة والشافعي؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف عفاصها ووكاءها". يحتمل أن يكون ذلك لأجل ألا تلتبس بماله، وليس لأجل الرد، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمال المخالف لها إلا أن تصح الزيادة المذكورة في الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها. قال: وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه، فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب، لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإن ذلك الاحتمال حاصل مع البينة. وقال الخطابي (3): إن صحت الزيادة لم تجز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "اعرف عفاصها
…
" إلخ. وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة. قال: ويتأول قوله: "اعرف عفاصها". على أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله، أو لتكون الدعوى فيها معلومة. والله أعلم. وذكر غيره من الفوائد أيضًا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن فيها تنبيهًا على حفظ المال، فإنه إذا نبّه على حفظ الوعاء، كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى.
(1) بداية المجتهد 2/ 230.
(2)
الفتح 5/ 79.
(3)
معالم السنن 2/ 86.
وقوله: "ووكاءها". الوكاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم كالوعاء. وقرأ بها الحسن (1) في قوله تعالى: (وُعاء أخيه)(2). وقرأ سعيد بن جبير: (إعاء). بقلب الواو همزة (3).
وقول: "ثم عرفها سنة". هو بالتشديد للراء وكسرها، أي اذكرها للناس. قال العلماء: محل ذلك المحافل؛ كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له [نفقة](أ). ونحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات.
وقوله: "سنة". أي متوالية، فلو عرفها سنة متفرقة لم يكف، ويكون التعريف في كل يوم مرتين، ثم مرة في كل أسبوع، ثم في كل شهر. وقال في "الانتصار": ولا يجب الإفراط في التعريف حتى يشغل أوقاته به ولا يفرط. والأولى أن يوكل ذلك إلى ظن الملتقط، وهو إن جوز وجود من سمع الإنشاد غير من قد سمعه أوَّلًا فجل ذلك، وأما إذا كان الحاضرون عنده هم من كان قد سمع الإنشاد فلا تحب الإعادة. والله أعلم.
وقوله: "سنة". ظاهر هذا أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وهو في حديث زيد بن خالد الجهني في جميع طرقه. وادَّعى القاضي زيد من الهدوية الإجماع أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وتبعه الإمام المهدي في "البحر"، ولكنه قد ورد في حديث أبي بن كعب ثلاثة أحوال من رواية سلمة بن كهيل، ولكنه قال شعبة: إنه سأله بعد عشر سنين فقال: عرفها عامًا واحدًا. وقد
(أ) في النسخ: سنة. والمثبت من الفتح 5/ 82.
_________
(1)
مختصر الشواذ لابن خالويه ص 69، والبحر المحيط 5/ 332.
(2)
الآيه 76 من سورة يوسف.
(3)
وكذلك قرأ بها عيسى بن عمر الثقفي. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 69، والمحتسب لابن جني 1/ 348، والبحر المحيط 5/ 332.
بينه أبو داود الطيالسي (1) في "مسنده" أيضًا، فقال في آخر الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا. وقد رواه بغير شك عن شعبة عن سلمة بن كهيل جماعة، وأخرجها مسلم (2) من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة. وقال: قالوا في حديثهم جميعًا: ثلاثة أحوال. إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه: عامين أو ثلاثة. وجمع بعضهم بين الزيادة المذكورة في حديث أبي وبين حديث الجهني، بأن حديث أبي مبني على الورع والتعفف من التصرف في اللقطة، وحديث زيد بن خالد على القدر الواجب، ويدل عليه أنَّه جاء في بعض رواياته أنَّه أتى بعد أن عرَّف سنة، فقال له:"عرفها عامًا". ثم جاء بعد العام، فقال:"عرفها عامًا". فما أمره أولًا إلا بعام، ثم نبَّهَهُ على الأحوط والمسلك الَّذي ينبغي لمثله، فلو كان الثلاثة واجبة لبينها له أولًا؛ إذ هو وقت الحاجة. قال المنذري (3): لم يقل أحد من أئمة الفتوى: إن اللقطة تُعَرَّف ثلاثة أعوام. إلا شريحًا عن عمر. انتهى. وقد حكاه [الماوردي عن شواذ](ب) من الفقهاء، وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال؛ يجب ثلاثة أحوال، عام واحد، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. وزاد ابن حزم (4) عن عمر قولًا خامسًا وهو أربعة أشهر، وغلَّط ابن الجوزي الزيادة هذه، وقال ابن الجوزي (5):
(أ) في جـ: لبنها.
(ب) في الأصل، ب: المادري عن سواد. وفي جـ: المادري على سواد. والمثبت من الفتح 5/ 79، وقد ذكر الماوردي ذلك في كتابه الحاوي. ينظر حاشية ابن القيم 5/ 88.
_________
(1)
الطيالسي 1/ 447 ح 554.
(2)
مسلم 3/ 1350 ح 1723/ 9، 10.
(3)
الفتح 5/ 79.
(4)
المحلى 9/ 145.
(5)
التحقيق في أحاديث الخلاف 2/ 233.
لم ويتأول حديث أُبَيٍّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف منه أنَّه لم يُعَرفها التعريف الكامل، فأمر بالإعادة كما أمر المسيء صلاته وقال:"ارجع فصلِّ فإنك لم تصل"(1).
ولا يخفى بُعد هذا التأويل، وكيف يكون ذلك مع أبي وهو من فقهاء الصحابة وفضلائهم؟! وحمل بعضهم قول عمر على اختلاف حال اللقطة في عظمها وحقارتها، وقد ذهب إلى ذلك الحنفية؛ فقالوا: في العظيمة سَنَة والحقيرة ثلاثة أيام. وقد أخرج أحمد والطبراني والبيهقي واللفظ لأحمد (2) من حديث عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة -بضم الحاء المهملة- عن يعلى بن مبرة مرفوعًا: "من التقط لقطة يسيرةً؛ حبلًا أو درهمًا أو شبه ذلك، [فليعرفه] (أ) (1) ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه (ب) ستة أيام". زاد الطبراني: "فإن جاء صاحبها، وإلا فليتصدق بها، فإن جاء صاحبها فليخبره". وعمر ضعيف، قد صرح بضعفه جماعة (3)، وقد أخرج له ابن خزيمة متابعة (4)، وروى عنه [جماعة](جـ) وزعم ابن حزم (5) أنَّه مجهول، وزعم هو وابن القطان أن حكيمة ويعلى مجهولان، ويعلى صحابي معروف الصحبة. وقد ورد من حديث الشافعي (6) أخرجه عن علي رضي الله عنه أنَّه وجد
(أ) في النسخ: فليعرفها. والمثبت من مصادر التخريج.
(ب) في ب: فليعرفها.
(جـ) في الأصل، جـ: جماعات.
_________
(1)
البخاري 2/ 237 ح 757، ومسلم 1/ 298 ح 45 - 397.
(2)
أحمد 4/ 173، والطبراني في الكبير 22/ 273 ح 700، والبيهقي 6/ 195.
(3)
عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي، الكوفي، وقد ينسب إلى جده، ضعفه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبو حاتم وقال الحافظ: ضعيف. ينظر تهذيب الكمال 21/ 418، والتقريب ص 414.
(4)
ابن خزيمة 4/ 194 ح 2675 من حديث يعلى بن مرة في النهي عن الخلوق.
(5)
المحلى 9/ 145.
(6)
الأم 4/ 67.
دينارًا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"هو رزق، فاشتر به دقيقًا ولحمًا".
فأكل منه هو وعلي وفاطمة، ثم جاء صاحب الدينار ينشد الدينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"علي، أد الدينار". وفيه أن أمره أن يعرّفه. ورواه عبد الرزاق (1) وزاد: فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام. ولكن الزيادة من طريق أبي بكر بن أبي سبرة وهو ضعيف جدًّا (2). ورواه أبو داود (3) من طريق بلال بن يحيى العبسي عن علي بمعناه، وإسناده حسن. وقال المنذري: في سماعه من علي نظر. ورواه أبو داود (4) أيضًا من حديث سهل بن سعد مطولًا، وفيه موسى بن يعقوب [الزَّمْعي] (أ) مختلف فيه. وأعلّ البيهقي (5) هذه الروايات؛ لاضطرابها ومعارضتها لأحاديث اشتراط السنة في التعريف بها؛ لأنها أصح. قال: ويحتمل أن يكون إنما أباح له الأكل قبل التعريف للاضطرار. والله أعلم. وأما حديث: "من وجد طعامًا فليأكله ولا يعرفه"(6). فهو حديث لا أصل له. وهذا في كتب الفقه أخذه الفقهاء من قوله في الشاة: "إنما هي لك [أو] (ب) لأخيك أو للذئب". أن الطعام الَّذي يفسد في مدة التعريف يتصرف به واجده. وحكى صاحب "الهداية"
(أ) في النسخ: الربعي. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 29/ 171.
(ب) في النسخ: و. وهو جزء من حديث الباب المتقدم 451.
_________
(1)
عبد الرزاق 10/ 142 ح 18637.
(2)
ينظر تهذيب الكمال 33/ 105.
(3)
أبو داود 2/ 141 ح 1715.
(4)
أبو داود 2/ 141 ح 1716.
(5)
البيهقي 6/ 194.
(6)
ينظر التلخيص الحبير 3/ 75.
[من](أ) الحنفية (1) أن الأمر في التعريف مفوض إلى الملتقط، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظَنِّه أن صاحبها لا يطلبها، ومثله ذكر المؤيد بالله.
قوله: "فإن جاء صاحبها". جواب الشرط محذوف، وتقديره: فأدها إليه. وقوله: "وإلا فشأنك". منصوب على المفعولية بفعل محذوف من باب الإغراء، ويجوز الرفع على الابتداء، والخبر قوله:"بها". والمعنى أن ذلك إلى اختيارك من بعد في الحفظ لها أو استنفاقها، وقد جاء لفظ الاستنفاق في كثير من روايات هذا الحديث في "الصحيحين". وقد استدل بهذا على أن الملتقط يتصرف لنفسه في اللقطة بعد التعريف سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه، ولهم أربعة أوجه ثم يتملكها، أصحها: لا يملكها حتَّى يتلفظ بالتملك بأن يقول: تملكتها. أو: اخترت تملكها. والثاني: لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه. والثالث: يكفيه نية التملك ولا يحتاج إلى لفظ. والرابع: يملك بمجرد مضي السنة. فإذا تملكها ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه؛ لأنها كسب من أكسابه لا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة، وإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط بدلها، والخلاف في ذلك للكرابيسي صاحب الشافعي، ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، وذهب "الهدوية" إلى أنَّه يجب التصدق بها أو يصرفها في مصلحة عامة، وله أن يصرفها في نفسه إذا كان فقيرًا أو فيه
(أ) في النسخ: عن. والمثبت من الفتح 5/ 80.
_________
(1)
الهداية شرح بداية المبتدي 6/ 122.
مصلحة، وذهب أبو حنيفة إلى أنَّه يتصدق بها إذا كان غنيًّا، فإن جاء صاحبها خيّر بين إمضاء الصدقة أو تغريمه. قال صاحب "الهداية" من الحنفية (1): إلا إذا كان بأمر الإمام، فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب. وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين.
واعلم أن الأحاديث تعارضت في ذلك، فقد جاء في مسلم (2):"ثم عرفها سنة، فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك". وفي الرواية الأخرى (3): "ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف استنفقتها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه". ويمكن الجمع بينها بأن المعنى من كونها وديعة بعد السنة هو إذا لم يتملكها وبقيت عينها، فإنها إذا تلفت بغير تفريطه لا ضمان فيها، وفي الرواية الثانية أن لها بعد الاستنفاق حكم الوديعة في وجوب ضمانها وأدائها إلى صاحبها، وأن حقه لا ينقطع منها وإن تلفت ولو تملكها، وصريح في ذلك رواية أبي داود (4) بلفظ:"فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه". فأمر بأدائها إليه بعد الإذن في أكلها. وفي رواية أيضًا لأبي داود (5) في حديث زيد بن خالد: "فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفِضْها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه". و"أَفِضْها"
(1) الهداية 6/ 131، 132.
(2)
مسلم 3/ 1349 ح 1722/ 4.
(3)
مسلم 3/ 1349 ح 1722/ 5.
(4)
أبو داود 2/ 139 ح 1706.
(5)
أبو داود 2/ 139 ح 1707.
بفتح الهمزة وكسر الفاء وسكون الضاد العجمة؛ أي: ألقها في مالك واخلطها. من قولهم: فاض الأمر وأفاض هو فيه. وفي بعض نسخ أبي داود (1): "ثم اقبضها". بالقاف وكسر الباء الموحدة، من الإقباض، أي: اقبضها واخلطها في مالك. قال ابن رشد المالكي (2): اختلفوا في حكمها بعد السنة، فاتفق فقهاء الأمصار، مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي أن له أن يتصرف فيها، ثم قال مالك والشافعي: له أن يتملكها. وقال أبو حنيفة: ليس له إلا أن يتصدق بها. وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم. وقال الأوزاعي: إن كان مالًا كثيرًا جعله في بيت المال. وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم، وكلهم متفقون على أنَّه إن أكلها ضمنها لصاحبها، إلا أهل الظاهر. استدل مالك والشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم:"فشأنك بها". وغيره من حديث أبي، فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنَّه:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"(3). فمن غلَّب الأصل على ظاهر الحديث قال: لا يجوز له فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن أيضًا. ومن غلَّب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنَّه مستثنى منه قال: تحلُّ له بعد العام، وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها. ومن توسط قال: لا يتصرف بعد العام وإن كان غنيًّا إلا على جهة الضمان.
(1) الفتح 5/ 81، 85، وعون المعبود 2/ 65.
(2)
بداية المجتهد 2/ 229.
(3)
تقدم تخريجه ص 255.
قوله: فضالة الغنم؟. أي ما حكمها؟ فحذف المبتدأ للعلم به، والضالة لا تقع إلا على الحيوان. وما سواه يقال له: لقطة. ويقال للضوال: الهوامي والهوافي -بالميم والفاء- والهوامل.
وقوله: "لك أو لأخيك أو للذئب". إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال، معرضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حث على أخذها، لأنه إذا علم أنَّه لا يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها. وقد جاء في رواية (1):"خذها، فإنما هي لك" إلخ. وفي هذا رد على إحدى الروايتين عن أحمد أنَّه يترك التقاط الشاة. وتمسك مالك بذلك أنَّه يملكها (أ) بالأخذ، ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها، واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يأكلها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنَّه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها.
قوله: "معها سقاؤها وحذاؤها". المراد بسقائها جوفها، وقيل: عنقها. وحذاؤها بكسر الحاء المهملة ثم الذال المعجمة مع المد، والمراد خفها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب؛ لطول عنقها، فلا تحتاج إلى ملتقط، خلاف الغنم فهي مترددة بين أن تأخذها أنت أو صاحبها، أو
(أ) زاد في جـ: لا.
_________
(1)
البخاري 5/ 83 ح 3428.
يهلكها الذئب أو [ما يشبهه](أ) ثم من السباع، وفي ذلك زيادة الحث على الالتقاط عند خشية هلاك اللقطة؛ إما بأن تهلك في نفسها، أو يلتقطها من لا يردها على (ب) صاحبها، وأنه ينبغي حفظ مال المؤمن إذا خشي هلاكه وإن لم يكن له غلبة يد؛ معاونة على الخير ورعاية لحق الأخوة في الدين. وقد ذهب الجمهور إلى العمل بظاهر الحديث في أن الإبل لا تلتقط. وقالت الحنفية وغيرهم: الأولى أن تلتقط. وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليأخذها، وأما من التقطها ليحفظها ويردها على صاحبها فيجوز له. وهو قول للشافعية. وكذا إذا وجدت في قرية، فيجوز التملك على الأصح عندهم، والخلاف عند المالكية أيضًا. قال العلماء: حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ظلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبها في رحال الناس. وقالوا (جـ): في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته من صغار السباع.
وقوله: "من آوى ضالة" إلخ. فيه دلالة على وجوب التعريف، وأنه لا يجوز له أن يلتقط ضالة ليحفظها لنفسه. وقال النووي (1): يجوز أن يكون المراد بالضالة هنا ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز له التقاطه للتملك، بل إنما يلتقطها للحفظ على صاحبها فيكون معناه: من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها أبدًا، ولا يتملكها. وهذا مخصوص بالإبل، والتأويل الأول أولى، يدل عليه ما أخرجه النسائي مرفوعًا (2):"ضالة المسلم حرق النار". وإسناده
(أ) في الأصل: شبهه.
(ب) في جـ: إلى.
(جـ) في ب: قوله.
_________
(1)
شرح صحيح مسلم 12/ 28.
(2)
النسائي في الكبرى 3/ 414، 415 ح 5794، 5796.
صحيح، وهو محمول على من لا يُعرِّفها.
771 -
وعن عِياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لُقَطة فليُشهِد ذَوَي عدل، وليحفظ عِفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يُغَيِّبْ، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان (1).
الحديث فيه دلالة على وجوب الإشهاد على اللُّقَطة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي أنَّه يجب الإشهاد على اللقطة والأوصاف، وذهب الهادي والقاسم والإمام يحيى ومالك والشافعي في أحد قوليه وأبو يوسف ومحمد إلى أنَّه لا يجب الإشهاد، قالوا: لورود الأحاديث الصحيحة في اللُّقَطة ولم يذكر فيها الإشهاد، وهذا الحديث الأمر فيه محمول على الندب، جمعًا بينه وبين ما أطلق. وقد يجاب بأن هذه الزيادة لا تخالف ما لم تذكر فيه من الأحاديث، وهي معمول بها إذا كمل فيها شروط جواز العمل بالرواية، فكان الظاهر قول من أوجب، ويتفرع على الخلاف ما إذا تلفت ولم يشهد عليها، فعند أبي حنيفة يضمن؛ لأنه يصير في حكم خيانة الوديعة، والوديع مع الخيانة تكون يده يد غصب فيضمن وإن لم يجن (أ) ولم يفرط. والله أعلم.
(أ) في ب: يخن.
_________
(1)
أحمد 4/ 161، 162، وأبو داود، كتاب اللقطة 2/ 140 ح 1709، والنسائي في الكبرى، كتاب اللقطة، باب الإشهاد على اللقطة 3/ 418 ح 5808، وابن ماجة، كتاب اللقطة، باب اللقطة 2/ 847 ح 2505، وابن الجارود باب اللقطة والضوال ص 257 ح 671، وابن حبان، كتاب اللقطة، ذكر الخبر الدال على أن اللقطة وإن أتى عليها أعوام هي لصاحبها
…
11/ 256 ح 4894.
وقوله: "وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". فيه دلالة على أنَّه يملك الملتقط من دون أن يتملك بعد مضي المدة.
772 -
وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لُقَطة الحاج. رواه مسلم (1).
هو عبد الرحمن بن عثمان التيمي القرشي، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، صحابي، وقيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رواية. وأسلم يوم الحديبية، وقيل: يوم الفتح. وقتل مع ابن الزبير في يوم واحد. روى عنه ابناه معاذ وعثمان، ومحمد بن المنكدر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب (2).
الحديث فيه دلالة على أنَّه لا تلتقط ضالة الحاج، وظاهره ولو كان في الجبل أو في غيره، وقد حكى الماوردي في "الحاوي" وجهًا للشافعية في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة؛ لأنها تجمع الحاج بمكة، ولم يرجح شيئًا. وليس ذلك الوجه مذكورًا في "الروضة" ولا في أصلها، والظاهر أن المراد به اللقطة في مكة؛ لتطابق الحديث الصحيح الوارد في ذلك كما تقدم في الحج من حديث أبي هريرة (3)، والحديث هذا تأوله الجمهور بأن المراد النهي عن التقاط ذلك للتملك، وأما للإنشاد بها فيحل كما في رواية:"ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد". وكما تقدم في حديث أبي هريرة. قالوا: وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك؛ لإمكان إيصالها إلى أربابها، لأنها إن كانت لمكيٍّ
(1) مسلم، كتاب اللقطة، باب في لقطة الحاج 3/ 1351 ح 1724.
(2)
ينظر أسد الغابة 3/ 472، والإصابة 4/ 332.
(3)
تقدم في 5/ 273 ح 574.
فظاهرٌ، وإن كانت لآفاقيٍّ فلا يخلو أفق غالبًا من وارد منه إليها، فإذا عرفها
واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها. قاله ابن بطال (1).
وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف، لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف. و [قد] (أ) قيل: إن لقطة مكة تختص بأن واجدها لا يتملكها أبدًا وإن لم يجد مالكها، ويجب عليه التصدق بها. ويكون الغرض من هذا التشديد قطع طمع الملتقط في تملكها؛ لأنه ربما يدخله طمع في تملكها من أول الأمر لبعد معرفة صاحبها، فنهي عن الالتقاط ثم أبيح للمنشد.
773 -
وعن المقدام بن مَعْدِ يكَرِب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغنى عنها". رواه أبو داود (2).
الحديث سيأتي الكلام في تحريم ذي الناب وما عطف عليه في باب الأطعمة (3).
وقوله: "ولا اللقطة من مال المعاهد". فيه دلالة على أن اللقطة من مال المعاهد كاللقطة من مال السلم، إلا أنَّه يقال: اللقطة مجهولة المالك، فهي عند الالتقاط لا يعلم من مال من هي. ولعله يستقيم لو التقطت في محل
(أ) في النسخ: لو. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
شرح ابن بطال على صحيح البخاري 6/ 557، 558.
(2)
أبو داود، كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع 3/ 355 ح 3804.
(3)
سيأتي ح 1103، 1104، 1107، 1109، 1110، 1114.
غالب أهله أو جميعهم معاهدون.
وقوله: "إلا أن يستغنى عنها". متأول بلُقَطة الحقير الَّذي لا يطلبه صاحبه كما تقدم الكلام في التمرة وما شابهها، أو محمول الاستغناء على عدم معرفة مالكها بعد التعريف بها، وسبب عدم المعرفة بحسب الأغلب هو استغناء صاحبها عنها فلم يطلبها، وإن كان عدم الطلب قد يكون مع الحاجة إليها وعدم التمكن من الطلب، والمحوج إلى التأويل ما تقرر من عمومات الأدلة لتحريم مال المعاهد كمال المسلم. والله أعلم.
فائدة: قال النووي في "شرح المهذب"(1): اختلف العلماء فيمن يمر ببستان أو زرع أو ماشية؛ فقال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا إلا في حال الضرورة فيأخذ، ويغرم عند الشافعي (ح) والجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء. وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك. وفي الأخرى: إذا احتاج. ولا ضمان عليه في الحالين. وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث. قال البيهقي (2): فعلى حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا مرّ أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ [خُبنَة] "(ب). أخرجه الترمذي (3) واستغربه. قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية.
(أ) في ب، جـ: الشافعية.
(ب) في النسخ: خبيئة. والمثبت من مصدر التخريج. يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله، والخبنة معطف الإزار وطرف الثوب. النهاية 2/ 9.
_________
(1)
المجموع شرح المهذب 9/ 59، 60.
(2)
البيهقي 9/ 358.
(3)
الترمذي 3/ 583 ح 1287.
قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي "المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة". انتهى.
وروى الإمام المهدي في "البحر" عن الإمام يحيى أن سواقط الثمار إن جرت عادة أهلها بإباحتها جاز أخذها، إذ للعرف تأثير في مثل ذلك. انتهى. وأخرج مسلم (2) عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحلُبَنَّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مَشرُبتُه فتكسر خزانته فينقل (أ) طعامه؟ فإنما تخزُن عليهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه". وقد أخرج نحوه البخاري (3). قال ابن عبد البر (4): في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا إلا بإذنه. وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه، فنبه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كان بإذن خاص أو إذن عام، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم طيب نفس صاحبه وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقًا في الأكل والشرب سواء علم طيب نفسه أم لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي (5) وصححه من
(أ) في مصدري التخريج: فيُنْتَقَل، وفي بعض الروايات: فيُنْتَثَل.
_________
(1)
الفتح 5/ 90.
(2)
مسلم 3/ 1352 ح 1726.
(3)
البخاري 5/ 88 ح 2435.
(4)
التمهيد 14/ 206.
(5)
أبو داود 3/ 39 ح 2619، والترمذي 3/ 590 ح 1396.
رواية الحسن عن سمرة مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوِّت ثلاثًا، فإن أجاب فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل". إسناده صحيح إلى الحسن، ومن صحيح سماعه من سمرة صححه، ومن لا أعلّه بالانقطاع. وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، لكن له شواهد، من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعًا:"إذا أتيت على راعٍ فناده ثلاثًا، فإن أجابك، وإلا فاشرب من غير أن تفسد، وإذا أتيت على حائط بستان" وذكر مثله. أخرجه ابن ماجة والطحاوي، وصححه ابن حبان والحاكم (1). وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يعمل به، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه، فلا يلتفت إليه. ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه، منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي على ما إذا لم يعلم، ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل دون غيره، أو بالمضطر، أو بحالة المجاعة مطلقًا، وهي متقاربة. وحكى ابن بطال (2) عن بعض شيوخه أن حديث الإذن كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وحديث النهي أشار به إلى ما يكون بعده من التشاح وترك المواساة. ومنهم من حمل حديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلًا مصرورة (3) فثبنا إلها، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قُوتُهم، أيسركم لو رجعتم إلى
(1) ابن ماجة 2/ 771 ح 2300، والطحاوي في شرح المعاني 4/ 240، وابن حبان 12/ 87 ح 5281، والحاكم 4/ 132.
(2)
شرح ابن بطال على صحيح البخاري 6/ 559.
(3)
قال ابن الأثير: من عادة العرب أن تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلوها إلى المرعى سارحة، ويسمون ذلك الرباط صرارا
…
فهي مصرورة ومصرَّرة. النهاية 3/ 22.
مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ ". قلنا: لا. قال: "فإن ذلك كذلك".
أخرجه أحمد وابن ماجة (1) واللفظ له. وحديث أحمد: فابتدرها القوم ليحلبوها. قالوا: فيحمل حديث الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة، والنهي على ما إذا كانت مصرورة، لهذا الحديث. لكن وقع عند أحمد في آخره:"فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا ولا تحملوا". فدل على عموم الإذن في [المصرور](أ) وغيره ولكن بشرط عدم الحمل، ولابد منه. واختار ابن العربي (2) الحمل على العادة، قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا. قال (3): و [رأى](ب) بعضهم أن مهما كان على [طريق](جـ) لا يعدل [إليه](د) ولا يقصد، جاز للمار الأخذ منه. وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المحتاج، وأشار أبو داود في "السنن" إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو، وآخرون إلى قصر الإذن على ما إذا كان لأهل الذمة، والنهي على ما كان للمسلمين، واستأنس بما شرط الصحابة لأهل الذمة من الضيافة للمسلمين، وصح ذلك عن عمر (4)، وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال: لا يأخذ منه إلا بإذنه. قيل له: فالضيافة التي
(أ) في الأصل، ب: الحصر. وفىج: الحضر. والمثبت من الفتح 5/ 90.
(ب) في النسخ: روى. والمثبت من عارضة الأحوذي 5/ 90.
(جـ) في النسخ: الطريق.
(د) في النسخ: يعدل عليه.
_________
(1)
أحمد 2/ 405، وابن ماجة 2/ 772 ح 2303.
(2)
عارضة الأحوذي 6/ 31.
(3)
عارضة الأحوذي 6/ 30.
(4)
ينظر مصنف عبد الرزاق 6/ 88، 89 ح 10096، والبيهقي 9/ 196، 197.
جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذٍ يخفف عنهم بسببها وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن، وحملوه على أنَّه كان قبل إيجاب الزكاة. قالوا: وكانت الضيافة حينئذٍ واجبة ثم [نسخ ذلك بفرض الزكاة. قال الطحاوي (1): وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة، ثم](أ) نسخت فنسخ ذلك الحكم. وأورد الأحاديث في ذلك. والله أعلم.
(أ) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 5/ 90.
_________
(1)
شرح معاني الآثار 4/ 242.