الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوقف
الوقف في اللغة بمعنى الحبس، يقال: وقفت كذا. أي: حبسته. وأوقفته لغة رديئة، وهو في الشرع حجر مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ بقطع التصرف في رقبته على تصرف مباح. وجمعه وقوف وأوقاف، وهو قربة مندوب إليها.
754 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث؛ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم (1).
الحديث فيه دلالة على أنه لا ينقطع ثواب هذه الثلاثة الأشياء بالموت، وأنه يجري بعد الموت، قال العلماء رحمهم الله تعالى: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه [كان سببها](أ)؛ فإن الولد من كسبه، وكذلك الذي خلَّفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف.
وفيه دلالة على فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وسيأتي في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، اختلاف أحوال الناس فيه (2)، وعلى فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وعلى أن الدعاء
(أ) في الأصل: كاسبها.
_________
(1)
مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/ 1255 ح 1631.
(2)
سيأتي في شرح الحديث 793.
يصل ثوابه إلى الميت من الولد، وكذلك غيره؛ وهو الصدقة وقضاء الدين، وهو مجمع على ذلك، وأما الحج فيجزئ عن الميت وإن كان بغير وصية عند الشافعي. وذهب إليه المنصور بالله، وهو داخل في قضاء الدين إذا كان واجبًا، كما في خبر الخثعمية وقد تقدم (1)، وإن كان تطوعًا، فإن كان بوصية فهو كغيره من الوصايا، وإن كان بغير وصية فهو كذلك من الولد، وقد تقدم ذلك (2)، وأما الصيام فكذلك تقدم الكلام فيه (3)، وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت فقد تقدم ذلك في آخر الجنائز (4).
755 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه. قال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". قال: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعم صديقًا غير متموِّل مالًا. متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي رواية البخاري:"تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره"(5).
قوله: أصاب أرضًا. اسم الأرض ثَمَغُ، بالثاء المثلثة المفتوحة وفتح الميم.
(1) تقدم 5/ 185 ح 554.
(2)
ينظر ما تقدم في 5/ 194.
(3)
ينظر ما تقدم في 5/ 94 - 98.
(4)
ينظر ما تقدم في 4/ 275 - 278.
(5)
البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، وكتاب الوصايا، باب ما للموصي أن يعمل في مال اليتيم 5/ 354، 355، 392 ح 2737، 2764، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف 3/ 1255 ح 1632.
كذا في "الفائق"(1). وفي "شرح مسلم"(2) بسكون الميم والغين المعجمة، وقد صرح به البخاري (3) في رواية، ولأحمد (4) من رواية أيوب، أن عمر أصاب أرضا من يهود بني حارثة يقال لها: ثمغ. ونحوه (أ)، وفي رواية ابن [شبة] (ب) بإسناد صحيح أن عمر رأى في المنام ثلاث ليالٍ أن يتصدق بثمغَ. وفي رواية النسائي (5): جاء عمر فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالًا لم أصب مثله قط كان لي مائة رأس فاشتريت بها مائة سهم من خيبر من أهلها. فيحتمل أن يكون ثمغ من جملة أراضي خيبر، وأن مقدارها مائة سهم من السهام التي قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين من شهد خيبر، وهذه المائة سهم غير التي كانت لعمر بن الخطاب بخيبر التي حصلها من الغنيمة، والقصة هذه كانت في سنة سبع من الهجرة.
قوله: هو أنفس منه. أي أجود، والنفيس الجيد المغتبط به، يقال: نفُس -بفتح النون وضم الفاء- نفاسة. قال الداودي (6): يسمى نفيسًا لأنه يأخذ بالنفس. وفي رواية صخر بن جويرية (7): إني استفدت مالًا وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به. ووقع في رواية الدارقطني (8) بإسناد ضعيف،
(أ) كذا في النسخ، ونص كلامه في الفتح: ونحوه في رواية سعيد بن سالم المذكورة، وكذا للدارقطني من طريق الدراوردي عن عبد الله بن عمر، وللطحاوي من رواية يحيى بن سعيد
…
(ب) في النسخ: أبي شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 400.
_________
(1)
الفائق 2/ 295، 296 بدون ذكر الضبط.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 86.
(3)
البخاري 5/ 392 ح 2764.
(4)
أحمد 2/ 125.
(5)
النسائي 6/ 232 ح 3606.
(6)
ينظر الفتح 5/ 400.
(7)
البخاري 5/ 392 ح 2764.
(8)
الدارقطني 4/ 187 ح 13.
أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إني نذرت [أن](أ) أتصدق بمالي. ولم يثبت هذا وإنما كانت صدقة تطوع.
وقوله: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". أي بمنفعتها، ويوضحه ما في رواية (1):"احبس أصلها وسبل ثمرتها". وفي رواية (2): "تصدق بثمره وحبِّس أصله".
قوله: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث. زاد الدارقطني (3): حبيس ما دامت السماوات والأرض. وظاهر هذه الرواية أن هذا إنما وقع من كلام عمر. قال السبكي (4): اغتبطت بما وقع في رواية يحيى بن سعيد عن نافع عند البيهقي (5): "تصدق بثمره، وحبس أصله؛ لا يباع ولا يورث". وهذا ظاهر أن الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضًا وقع في البخاري من طريق صخر بن جويرية عن نافع بلفظ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره". وهي أتم الروايات وأصرح في المقصود فعزوها إلى البخاري أولى، وقد علقه أيضًا البخاري في المزارعة (5) بلفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره". فتصدَّقَ به. فعلمت أن
(أ) في ب: إني.
_________
(1)
أحمد 2/ 156.
(2)
الدارقطني 4/ 186، 187 ح 8، 9، 10، والبيهقي 6/ 160.
(3)
الدارقطني 4/ 192 ح 16.
(4)
ينظر الفتح 5/ 401.
(5)
البخاري 5/ 17.
الشرط من قول النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ولو كان الشرط من قول عمر فما فعله إلا لما فهمه من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: "احبس أصلها، وسبل ثمرها".
وقوله: فتصدق بها. إلى آخر الستة المذكورين، قد تقدم ذكر هؤلاء في الزكاة (1) إلا الضيف.
وقوله: ولذي القربى. يحتمل أنه أراد من ذكر في الخمس، ويحتمل أن يكون المراد بهم قربى الواقف، وبهذا الثاني جزم القرطبي (2) وهو الظاهر. والضيف، المراد به من نزل بقوم يريد منهم القِرى.
أن يأكل منها بالمعروف. أفهم البخاري (3) أن المعروف هنا هو ما ذكر في والي اليتيم، ووجه الشبه بينهما أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء كالنظر لليتامى. وقد اختلف السلف في قدر المعروف الذي يحل لوالي اليتيم فذهبت عائشة (4) وعكرمة والحسن وغيرهم إلى أن ذلك قدر عُمالته، وقيل: لا يأكل إلا عند الحاجة. ثم اختلفوا فقال سعيد بن جبير ومجاهد (5): إذا أكل ثم أيسر قضى. وقيل: لا يجب عليه القضاء. وقيل: إن كان ذهبًا أو فضة لم يجز له أن يأخذ منه شيئًا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة. وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس (6)، وبه قال الشعبي وأبو العالية. وذهب الشافعي إلى أنه يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته،
(1) ينظر ما تقدم في 4/ 381 - 387.
(2)
ينظر الفتح 5/ 401.
(3)
البخاري 5/ 392.
(4)
البخاري 5/ 392 ح 765.
(5)
تفسير ابن جرير 4/ 256، 257.
(6)
ينظر تفسير ابن جرير 4/ 258.
ولا يجب الرد على الصحيح (1). وتعقب ابن المنير على البخاري بأن الواقف هو المالك لمنافع ما وقفه، فإذا شرط لمن يليه شيئًا ساغ له ذلك، والموصي ليس كذلك، لأن ورثته يملكون المال بعده بقسمة الله تعالى، فلم يكن في ذلك كالواقف. انتهى (2). ويلزم من هذا أن الموصي إذا عين للوصي أن يأكل من مال الموصى عليهم لا يصح ذلك، وليس كذلك بل هو سائغ، وإنما الخلاف حيث لم يعين. قال القرطبي (3): جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف ألّا يأكل منه العامل لاستقبح منه ذلك، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة. وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة. وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله. والأول أولى.
قوله: أو يطعم. في رواية للبخاري: أو يؤكل، بإسكان الواو بمعنى يطعم.
قوله: غير متموِّل فيه. هكذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري: غير متمِّول مالًا. كما في "بلوغ المر 4 ام". والمعنى غير متخذ منها مالًا أي ملكًا، والمراد أنه لا يتملك (أ) شيئًا من رقابها. وقال ابن سيرين: غير متأثل مالًا. كذا رواه عنه ابن عون (4)، وقال ابن عون (5): أنبأني من قرأ هذا
(أ) في ب، جـ: يملك.
_________
(1)
ينظر الفتح 5/ 392.
(2)
الفتح 5/ 393.
(3)
الفتح 5/ 401.
(4)
البخاري 5/ 354، 355 ح 2737.
(5)
الدارقطني 4/ 188، 189 ح 2.
الكتاب أن فيه: غير متأثل مالًا. وأخرج أبو داود (1) صفة كتاب وقف عمر من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: نسخها لي (أ) عبد الحميد بن عبد الله بن عمر فذكره، وفيه: غير متأثل مالًا. والمتأثِّل (ب)، بمثناة ثم مثلثة مشددة بينهما همزة، هو [المتخذ](جـ)، والتأثل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم، وأثلة كل شيء أصله؛ قال امرؤ القيس (2):
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
واشتراط نفي التأثل يقوي ما ذهب إليه من فسَّر الأكل بالمعروف بالأكل نفسه، لا بأخذ أجرة العمالة، كذا قال القرطبي. وهو ظاهر وزاد أحمد (3)[من طريق حماد بن زيد عن أيوب، فذكر الحديث، قال حماد: وزعم عمرو بن دينار أن عبد الله بن عمر كان يهدي إلى عبد الله بن صفوان من صدقة عمر. وكذا رواه عمر بن شبة من طريق حماد بن زيد عن عمر، وزاد عمر بن شبة](د) بإسناده عن ابن عون في آخر هذا الحديث: وأوصى بها عمر إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر. ونحوه عند الدارقطني (4)
(أ) زاد في النسخ، والفتح: عبد الله بن. والمثبت من سنن أبي داود، وينظر تهذيب الكمال 16/ 446.
(ب) في الأصل: التأثل.
(جـ) في النسخ: صفه المجد. والمثبت من الفتح 5/ 401.
(د) ساقط من النسخ، والمثبت من الفتح 5/ 402.
_________
(1)
أبو داود 3/ 116 ح 2879.
(2)
ديوانه ص 39.
(3)
أحمد 2/ 125.
(4)
الدارقطني 4/ 192 ح 16.
عن عبيد الله بن عمر، وفي رواية أيوب عن نافع عند أحمد (1): يليه ذوو الرأي من آل عمر. فكأنه كان أولًا اشترط أن النظر لذوي الرأي من أهله، ثم عين عند الوصية حفصة، وفي رواية عمر بن [شبة] (أ) عن أبي غسان المدني قال: هذه نسخة صدقة عمر، أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا؛ هذا ما كتب عبد الله عمرُ أمير المؤمنين في ثمغ أنه إلى حفصة ما عاشت، تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى أولي الرأي من أهلها. فذكر الشرط كله نحو الذي تقدم، ثم قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء وليُّ ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل. وكتب مُعَيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم، وفي رواية أبي داود زيادة: وصرمة (2) ابن الأكوع، والعبد الذي فيه صدقة كذلك. وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن مُعَيْقيبا كان كاتبه في أيام الخلافة، ووصفه بأنه أمير المؤمنين، وهذا لا ينافي أن يكون وقفه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولى النظر عليه إلى أن حضرته الوفاة وكتب الكتاب المذكور، ويحتمل أن يكون أخَّر وقفيته ووقع منه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الاستشارة في كيفيته، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي وابن عبد البر (3) من طريق مالك عن ابن شهاب قال: قال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها. فهذا يشعر بالاحتمال الثاني، وأنه لم ينجز الوقف إلا عند الوصية، وإن كان الطحاوي استدل بقول عمر هذا لأبي
(أ) في النسخ: شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 402.
_________
(1)
أحمد 2/ 125.
(2)
الصرمة: القطعة الخفيفة من النخل، وقيل: من الإبل. النهاية 3/ 26.
(3)
الطحاوي في شرح المعاني 4/ 96، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 214 وفيهما من طريق مالك عن زياد بن سعد عن ابن شهاب.
حنيفة وزفر أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، ويجاب عنه بأن هذا منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر، وبأنه يحتمل أنه لم يكن قد نجز الوقف كما تقدم، وأنه كره أن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمر به، ثم يخالفه إلى غيره، ويحتمل أن يكون عمر يذهب إلى أن الواقف إذا شرط الرجوع فله أن يرجع، ولعله قد وقع ذلك منه، وقد روى الطحاوي (1) عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، فلا تتم حجة أبي حنيفة مع الاحتمال، وأما تعليق الوقف؛ فقد قال بصحته المالكية. وبه قال ابن سُريج، وقال: تعود منافعه بعد المدة المعينة إلى الواقف ثم إلى ورثته. وظاهر مذهب الهدوية أنه يصح تقييده بالشرط، وإذا عدم الشرط رجع ملكًا لمالكه، وإن كان صاحب "الهداية" جعل ذلك مخصوصًا بعلي والحسين عليهم السلام، فإنه جعل الوقف مشروطًا بعدم الاحتياج إليه، ويجاب عنه بأنه لا وجه لما ادعاه من الاختصاص، ولا يقوم ذلك إلا بدليل.
واعلم أن حديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف. قال أحمد (2) بإسناده عن ابن عمر: أول صدقة، أي موقوفة، كانت في الإسلام صدقة عمر. وروى عمر بن [شبة] (أ) عن [عمرو] (ب) بن سعد بن معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر. وقال الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي إسناده الواقدي (3). وفي "مغازي الواقدي": أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أرض مخيريق -بالمعجمة مصغر-
(أ) في النسخ: أبي شيبة. والمثبت من الفتح 5/ 402.
(ب) في النسخ: عمر. والمثبت من الفتح 5/ 402، وينظر تهذيب الكمال 2/ 246.
_________
(1)
الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 96.
(2)
أحمد 2/ 156.
(3)
تقدمت ترجمته في 1/ 66.
التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي (1): لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، وقد تُؤول. وقال أبو حنيفة: لا يلزم. وخالفه جميع أصحابه إلا زفر بن الهذيل. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن علية، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به. فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. انتهى، مع أن الطحاوي انتصر لمذهب أبي حنيفة، وتأول قوله:"حبس الأصل، وسبل الثمرة". بأن ذلك لا يستلزم التأبيد، بك يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك. وهذا بعيد، إذ لا يفهم من التحبيس إلا التأبيد، مع أنه قد ورد في رواية:"حُبُس ما دامت السماوات والأرض". قال القرطبي: رفى الوقف مخالف الإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قاله أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره.
وأشار الشافعي إلى أن وقف الأراضي والعقار من خصائص أهل الإسلام، ولا يعلم مثل ذلك في الجاهلية.
وفي قوله: "حبس الأصل". دلالة على أن التحبيس من [صرائح](أ) الوقف، وقال بعضهم: صريح الوقف هو لفظ (وقفت). وقد ذكر أصحاب
(أ) في الأصل: صريح.
_________
(1)
الترمذي 3/ 659.
الشافعي في الألفاظ تفصيلًا فقالوا: وقفت، وحبست، وسبلت، وأبَّدت صريح في الوقف قولًا واحدًا، وكناية قولًا واحدًا وهي (تصدقت)، ومختلف فيه؛ وهو (حرَّمت)، ففيه قولان؛ أحدهما أنه صريح، والآخر أنه ليس بصريح. قال أبو طالب: يجب أن يكون قول الهدوية مثل ذلك. وقال المصنف رحمه الله تعالى قريبًا من ذلك، قال (1): لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة سواء قال: تصدقت بكذا أو جعلته صدقة، حتى يضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليها ما يميز المحتملين صح، بخلاف ما لو قال: وقفت. أو: حبست. فإنه صريح في ذلك على الراجح، وتمسك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدقت بكذا. بقوله: فتصدق بها عمر. ولا حجة في ذلك لما أتبعه من قوله: لا تُباعُ إلخ. مع احتمال أن يكون ذلك راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف، أي: فتصدق بثمرتها. وبهذا الاحتمال جزم القرطبي.
انتهى. فهذا كلامه مثل ما ذكر.
وفي الحديث فوائد؛ جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد من غير كنية ولا لقب، وفي رواية إسناد الوصية إلى حفصة جواز جعل النظر في الوقف للمرأة، وتقديمها على أقرانها من الرجال، وصحة إسناد النظر إلى غير معين إذا وصفه بصفة معتبرة تميزه، وأن الواقف يلي وقفه إذا لم يسنده إلى غيره، قال الشافعي: لم يزل العدد الكبير من الصحابة فمن بعدهم يلون أوقافهم؛ نقل ذلك الكواف عن الكواف لا يختلفون فيه. وقال مالك: ليس للواقف أن يلي وقفه سدًّا للذريعة؛ إذ قد يطول الوقت فينسى الوقف، أو يفلس
(1) الفتح 5/ 403.
الواقف فيتصرف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته. واستشارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير سواء كانت دينية أو دنيوية، وأن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور. وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1). وفيه فضل الصدقة الجارية، وصحة شرط الواقف واتباعه فيه، وأنه لا يشترط تعيين [المصرف](أ) لفظًا. وجواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة، وهو الأصح عند الشافعية وغيرهم. وأن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من غلة الوقف؛ لأن عمر شرط أن لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن أن الناظر هو أو غيره، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة كان فيما يعينه الواقف أولى. ويستنبط منه صحة الوقف على النفس. وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في [الأرجح](5) والهادي. وقال به من المالكية ابن شعبان، وذهب الشافعي والناصر والجمهور إلى منع ذلك، إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا، بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته، واستدل محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري لذلك بقصة عمر هذه، وبقصة راكب البدنة (2)، وبحديث أنس (3) في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل
(أ) في النسخ: الصرف. والمثبت من الفتح 5/ 403.
(ب) في الأصل: الأصح.
_________
(1)
الآيه 92 من سورة آل عمران.
(2)
البخاري 5/ 383 ح 2755، ومسلم 2/ 960 ح 1322 من حديث أبي هريرة.
(3)
أحمد 3/ 181؛ والبخاري 9/ 129، 232 ح 5086، 5169، ومسلم 2/ 1045 ح 1365/ 85.
عتقها صداقها، وذللث لأنه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط، وبما فعل عثمان من استثناء دلوه في بئر رومة (1). وحجة المنع من ذلك هو ما يفهم من قوله:"سبل الثمرة" أن تسبيل الثمرة هو جعلها للغير ولا يصح من الإنسان أن يجعل لنفسه شيئًا يتملكه من ملكه، لأن فيه تحصيل الحاصل، ويجاب عن ذلك بأن وجه المنع هو عدم الفائدة، وفي الوقف فائدة؛ وهو أن استحقاقه ملكًا غير استحقاقه وقفًا، وقد يقال: لا يؤخذ منه ما ذكر؛ لأن عمر اشترط لناظر الوقف أن جمل منه بقدر عمالته، فإذا عمل أخذ منه بقدر عمالته، وليس ذلك من باب الاشتراط حتى إذا لم يشترط كان للعامل أن يأخذ بقدر أجرته على أرجح قولي العلماء. ويستنبط منه جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد على الثلث رد، وإن خرج من الثلث لزم؛ لأن عمر جعل النظر بعده لحفصة وهي ممن يرثه، وجعل للناظر أن يأكل منه، وتعقب بأن الوقف صدر منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أوصى به إنما هو تعيين الناظر.
ويستنبط من قوله: "حبس الأصل". أن تعليق الوقف لا يصح لأن التحبيس يناقضه التعليق، وعن مالك وابن سُريج (أ) يصح، وقد تقدم. ويستنبط منه صحة وقف المشاع؛ لأن المائة سهم التي لعمر لم تكن منقسمة. ويستنبط منه أن الوقف لا يسري إذ لم ينقل أنه سرى من حصة عمر إلى غيرها من باقي الأرض بخلاف العتق، وحكي عن بعض الشافعية أنه حكم فيه بالسراية، وهو منكر. إلا أن هذا المستنبط من وقف المشاع هو كما ذكر الرافعي أن المائة سهم كانت
(أ) في ب: شريح.
_________
(1)
تقدم تخريجه ص 60.
مشاعة. قال المصنف (1) رحمه الله: لم أجده صريحًا، بل في مسلم ما يشعر بغير ذلك، فإنه قال: إن المال المذكور يقال له: ثمغ. وكان نخلًا. وأقول: في "سنن أبي داود"(2) أن ثمغًا وصرمة ابن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة السهم الذي بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة الوسق الذي أطعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالوادي تليه حفصة. ثم ساق نسخة الوصية من عمر، فدل على أن ثمغًا غير المائة السهم، فيصح أن تكون المائة السهم غير مقسومة.
ويستنبط منه أن خيبر فتحت عنوة.
756 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة. الحديث وفيه: "وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله". متفق عليه (3).
قوله: "احتبس". أي: حبس، "أدراعه": جمع درع. و "أعتاده": هذا لفظ مسلم، وفي البخاري: و "أعتُده". بضم التاء المثناة من فوق، وهما جمع "عَتَد" بفتحتين و (أهو ما يُعده أ) الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة. يقال: فرس [عتيد](ب) أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب، وحكى عياض (4) رواية:"أعبده". بالباء الموحدة جمع عبد والأول هو الشهور.
(أ- أ) في جـ: وهما ما يعد.
(ب) في النسخ: عتد. والمثبت من الفتح 3/ 333.
_________
(1)
التلخيص الحبير 3/ 67.
(2)
تقدم تخريجه ص 405.
(3)
البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3/ 331 ح 1468، ومسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها 2/ 676 ح 9830.
(4)
الفتح 3/ 333.
والحديث فيه دلالة على أنه يصح وقف العين عن الزكاة أوأنه يأخذ بزكاته آلات الحرب للجهاد في سبيل الله كما أشار إليه البخاري، ذكر ذلك في باب قول الله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وعلى أنه يصح وقف العروض، وفيه خلاف أبي حنيفة؛ قال: لأن العروض تتبدل وتتغير والوقف موضوع للتأبيد، وأجاب الجمهور المانعون من إجزاء الوقف عن الزكاة بأجوبة؛
أحدها: أن المعنى الرد على من نسب إلى خالد منع الزكاة فقال: إنكم تظلمون خالدًا بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه.
والثاني: أنهم ظنوها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج إلى نقل خاص فيكون حجة لمن أوجبها في عروض التجارة.
ثالثها: أنه كان نوى بإخراجها عن الزكاة تمليكًا للمجاهدين، وهذا يقوله من يجيز إخراج القيمة في الزكاة كالحنفية، ومن يجيز التعجيل.
وفي الحديث أيضًا دلالة على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محبسه، وعلى صرف الزكاة (أإلى صنف أ) واحد من الثمانية، وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة محتملة لما ذكر ولغيره فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادًا وعدم تصرف ولا يكون وقفًا.
وفي الحديث دلالة على بعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وقد تقدم تمام الكلام في باب الشركة والوكالة (2).
(أ- أ) ساقط من: جـ، وفي ب: إلى جنس.
_________
(1)
الآيه 60 من سورة التوبة.
(2)
ينظر ما تقدم ص 298 - 303.