المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبواب السلم والقرض والرهن - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٦

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌أبواب السلم والقرض والرهن

‌أبواب السلم والقرض والرهن

688 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلِفون في الثمار السنة والسنتين، فقال:"من أسلف في تمر فلْيُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". متفق عليه (1)، وللبخاري:"من أسلف في شيء".

قوله: وهم يُسْلفون. السَّلَف بفتحتين هو السلَم وزنًا ومعنى، وذكر الماوردي (2) أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف. لتقديم رأس المال، و: السلم. لتسليمه في المجلس.

والسلم شرعًا: بيع موصوف في الذمة ببدل (أ) يعطى عاجلًا. واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب، والخلاف في بعض الشروط، والاتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس، إلا مالكًا فأجاز تأجيل الثمن مدة يسيرة يومًا أو يومين.

(أ) في جـ: يبذل.

_________

(1)

البخاري، كتاب السلم، باب السلم في كيل معلوم، وباب السلم في وزن معلوم، وباب السلم إلى أجل معلوم 4/ 428، 429، 434 ح 2239، 2241، 2253، ومسلم، كتاب المساقاة، باب السلم 3/ 1226، 1227 ح 1604/ 127، 128.

(2)

الفتح 4/ 428.

ص: 223

واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟

وقوله: السنة والسنتين. منصوبان (أ) بنزع الخافض أي: إلى السنة والسنتين، أو قائمان (ب) مقام المصدر العددي.

وقوله: "من أسلف في تمر". بالتاء المثناة، وقد روي بالمثلثة وهي أعم، ووقع بهذا اللفظ لابن علية. وفي رواية ابن عيينة:"من أسلم في شيء". وهي أعم.

وقوله: "في كيل معلوم". إذا كان مما يكال، "أو (جـ) وزن معلوم". إذا كان مما يُوزن، وإن كان من غير ذلك فلا بد من ذكر وزنه عند الهدوية، ولا يكفي العدد إلا حيث علم تساويه كالجوز، كذا ذكره الإمام المهدي في "البحر".

قال المصنف رحمه الله تعالى في "الفتح"(1): فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. رواه عن ابن بطال (2)، وادعى عليه الإجماع.

قال المصنف (3): أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن

(أ) في ب: منصوب.

(ب) في ب: قائم.

(جـ) كذا في النسخ. قال النووي: ووزن معلوم بالواو لا بـ "أو". ينظر شرح مسلم 11/ 42.

_________

(1)

الفتح 4/ 430.

(2)

شرح صحيح البخاري لابن بطال 6/ 365.

(3)

الفتح 4/ 434.

ص: 224

للجامع بينهما؛ وهو ارتفاع الجهالة بالقدار، وفي (أ) البخاري إشارة إلى أن ما يوزن لا يُسلَم فيه بالكيل، وبالعكس، وهو أحد وجهين عند الشافعية، والأصح الجواز. واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يُسلَم فيه بالكيل، كصاع الحجاز وقفيز العراق وإردب مصر، وهذه المكاييل مختلفة، فإذا أطلق انصرف إلى الأغلب في الجهة التي كان فيها عقد السَّلَم. وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسْلَم فيه صفة تميزه عن غيره، ولم يتعرض له في الحديث؛ لأنهم كانوا يعملون به، فتعرض لما كانوا يهملونه.

وقوله: "إلى أجل معلوم". ظاهره كون الأجل شرطا في صحة السَّلَم، فإن كان حالًّا لم يصح، أو كان الأجل مجهولا، وعند الشافعية يصح في الحال، وحملوا هذا بأن المراد أنه إذا أسلم إلى أجل فليكن الأجل معلومًا لا مجهولًا، وأما السَّلَم في الحالِّ فجوازه بطريق الأولى؛ لأنه إذا جازت مع الأجل وفيه غرر جاز في الحالِّ بالأَولى لبعده عن الغرر. ورُد عليهم بعقد الكتابة، وأجيب بالفرق؛ لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد على التأدية غالبا، وذهب ابن عباس إلى اختصاص السلم بالأجل، وأبو سعيد والأسود والحسن، هكذا علق الرواية البخاري (1)، وقد وصل الشافعي (2) حديث ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

(أ) في جـ: رواه.

_________

(1)

الفتح 4/ 434.

(2)

الأم 3/ 94.

ص: 225

تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية (1). وقد أخرجه الحاكم (2) من هذا الوجه وصححه.

وروى ابن أبي شيبة (3) عن ابن عباس: لا سلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد، واضرب أجلًا.

وأما قول أبي سعيد الخدري، فوصله عبد الرزاق (4) قال: السلم بما (أ) يقوم به السعر ربا، ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

وأما قول الحسن، فوصله سعيد بن منصور (5) أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان إذا كان سِنًّا معلومًا إلى أجل معلوم.

ويفهم من قول ابن عباس: لا سلف إلى العطاء. أنه يشترط تعيين وقت الأجل بحد لا يختلف، فإن كان وقت العطاء لا يختلف صح التوقيت به، وقد صرح بذلك المهدي في "البحر"، وقال مالك وأبو ثور: يصح التوقيت بالحصاد ونحوه. واختار ابن خزيمة (6) من الشافعية التوقيت بالميسرة، واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي:"ابعث إليَّ ثوبين إلى الميسرة". وأخرجه النسائي (7)، وسيأتي قريبًا (8)، وطعن ابن

(أ) في ب: ما.

_________

(1)

الآية 282 من سورة البقرة.

(2)

الحاكم 2/ 286.

(3)

ابن أبي شيبة 6/ 69، 70.

(4)

عبد الرزاق 8/ 7 ح 14072.

(5)

البيهقي 6/ 22 من طريق سعيد بن منصور.

(6)

الفتح 4/ 435.

(7)

النسائي 7/ 294.

(8)

سيأتي ح 691.

ص: 226

المنذر (1) في صحته بما وهم فيه، وقد يجاب عنه بأنه لا يدل على مطلوبه؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء، فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشرطه، فلذلك لم يصف الثوبين. ويجاب عن هذا بأن هذا خلاف الظاهر، وأنه بين له صلى الله عليه وسلم الأجل الذي يسلم فيه الثمن ليختبر رضا البائع هل يرضى بذلك فيتم البيع عليه أو يأبى فلا بيع؟

وقال المؤيد: أقل الأجل ثلاثة أيام لاعتبارها في كثير من التأجيلات كتأجيل الشفيع ونحوه. وقال المنصور بالله: بل أربعون يومًا إذ هو أقل ما يحصل فيه ثمرة كالطَّهْف (2) والجُعْرة (3). وقال الناصر: بل أقله ساعة إذ يحصل بها (أ) أجل. قال الإمام يحيى: ولا نص للقاسمية، والمختار قول المؤيد. وأقول: الظاهر أنه يحمل التأجيل في الحديث على ما يعد أجلا عرفًا، فالساعة والساعتان لا يُعَدان، والعرف يختلف؛ فكما اعتبر في الكيل والوزن بما يعتاده أهل الجهة فكذلك هذا.

وقد زيد على ما ذكر في الحديث تعيين المكان الذي يسلم فيه؛ ذهب إلى ذلك زيد بن علي والهدوية والناصر والثوري وزفر قياسًا على الكيل والوزن والأجل. وذهب الحسن بن صالح وشريك والعنبري وأبو يوسف

(أ) في جـ: لها.

_________

(1)

الفتح 4/ 435.

(2)

الطهف: قيل: إنه عشب ضعيف دقاق لا ورق له. وقيل: إن له حبا يؤكل في المجهدة ضاو دقيق.

وقيل: إنه الذرة. ينظر التاج (ط هـ ف).

(3)

الجعرة: شعير غليظ القصب، عريض، عظيم، طويل الحب، أبيض، ضخم السنابل، طيب الخبز. ينظر التاج (جـ ع ر).

ص: 227

ومحمد إلى أنه لا يشترط اقتصارًا على الوارد. والجواب القياس دليل فيعتبر (أ). وقال أبو حنيفة: إن كان لحمله مؤنة اشترط وإلا فلا، إذ لا فائدة. وقال أصحاب الشافعي: إنْ عَقَدا حيث لا يصلح للتسليم كالطريق اشترط، وإلا فقولان، وعلى القول باعتباره فلا يلزم المسلم قبوله في غير المكان المشروط، ولو بذل المسلَم إليه الأجرة لم يحل أخذها؛ إذ لا يحل أخذ العوض عن المسلَم فيه، فكذا عن موضع تسليمه، فإن عين السوق وبما إليه، وإن قال: إلى البلد. وجب إلى خلف السور إن كان، وإلا فأطرف دارٍ منها.

689 -

وعن عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهما قالا: كنا نصيب الغنائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب -وفي رواية: [والزيت](ب) إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. رواه البخاري (1).

عبد الرحمن بن أبزى، بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح الزاي، الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث الخزاعي، سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب على خراسان، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه، وأكثر روايته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب، روى عنه ابناه سعيد وعبد الله، ومحمد

(أ) في ب: فتعين.

(ب) في ب: والزبيب.

_________

(1)

البخاري، كتاب السلم، باب السلم إلى أجل معلوم 4/ 434 ح 2254، 2255.

ص: 228

ابن أبي المجالد، ومات بالكوفة، ولأبزى أيضًا صحبة على المختار (1).

قوله: أنباط من أنباط الشام. وفي رواية: نَبِيط أهل الشام. وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون [البطائح](أ) بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون بوادي الشام، ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم. ويقال لهم: النَّبَط. بفتحتين، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، قيل: سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء، أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة.

والحديث فيه دلالة على صحة السلف وإن كان المسْلَف فيه معدومًا حال العقد، فإن قولهما: ما كنا نسألهم عن ذلك. يدل على صحته مطلقا؛ لأنه لو كان من شرطه وجوده لاستفصلوهم، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم، وقد جرى على ذلك الشافعي في كثير من المواضع، وقد ذهب إلى هذا العترة والشافعي ومالك، واشترطوا إمكان وجوده عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل حلول الأجل. وقال الناصر وأبو حنيفة: بل يشترط وجوده قبل حلول الأجل، ولا يصح فيما ينقطع قبله؛ إذ ما بعد العقد محل للتسليم، إذ يجب قبول المعجل، [ونقده فيه كنقده](ب) عند حلول الأجل. والجواب ما عرفت من ترك الاستفصال،

(أ) في النسخ: البطاح. والمثبت من الفتح 4/ 431. والبطاح جمع البطحاء وهو مسيل فيه دقاق الحصى. وقيل: بطحاء الوادي: تراب لين مما جرته السيول. والبطائح جمع البَطيحة، وهو ما بين واسط والبصرة، وهو ماء مستنقع لا يرى طرفاه من سعته. ينظر معجم البلدان 1/ 668، اللسان (ب ط ح).

(ب) في الأصل: ففقده فيه كفقده، وفي ب: يعذره فقده فيه كعقده.

_________

(1)

ينظر تهذيب الكمال 16/ 501، والإصابة 4/ 282.

ص: 229

وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل المدينة على إسلام السنة والسنتين، والرطب ينقطع في ذلك، وكون عقيب العقد محلا للتسليم لا يوجبه؛ إذ لا يتضيق بخلاف وقت الحلول، كذا ذكر الإمام في "البحر"، فإن تعذر عند حلول الأجل لم ينفسخ عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ، ومثله في "البحر"، قال: كما لو قارن، وكتلف المبيع قبل التسليم، فإن انقطع الجنس قبل حلول الأجل وغلب في الظن استمرار انقطاعه ففي انفساخه قبل الحلول تردد. قال الإمام يحيى: الأصح أنه لا ينفسخ إلا بعده.

وفي الحديث. دلالة على جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم، ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة، والاحتجاج بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلًا برأسه، والله أعلم.

690 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". رواه البخاري (1).

قوله: "من أخذ أموال الناس". ظاهره العموم لوجوه الأخذ، فيشمل من أخذها بطريق المعاملة أو بطريق الحفظ لها.

وقوله: "يريد أداءها". جملة حالية. "أدى الله عنه". هذا جواب الشرط، والمراد بالتأدية هو تيسير قضائها في الدنيا، أو في الآخرة إذا تعذر

(1) البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها 5/ 53، 54 ح 2387.

ص: 230

عليه القضاء بالإفلاس أو نحوه، ويدخل فيه مَن فجَأه الموتُ ومعه مال مخبوء وكان نيته وفاء دينه ولم يمكنه الوصية بذلك، خلافًا لابن عبد السلام (1) في هذا، ويدل عليه حديث ميمونة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم (2):"ما من مسلم يَدَّان دَينًا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة".

وقوله: "ومن أخذها". أي أموالهم. "يريد إتلافها" على أهلها بإنفاقه لها في أي نفقة. "أتلفه الله". ظاهره أن الله تعالى يتلفه في الدنيا، وهو يشمل إتلاف معاشه بالمحن والمصائب ومحق البركة، وإتلافه في نفسه بالقتل وتسليط الآفات التي يكون بها حتفه، ويحتمل أن يراد الإتلاف في الآخرة بالعذاب.

قال ابن بطال (3): فيه [الحض](أ) على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل.

وقال الداودي (3): فيه أن من عليه دين لا يُعتق ولا يتصدق، وإن فعل رُد. وفي المأخذ بُعْدٌ.

وقال ابن المنير (4): إن من اشترى شيئًا بدين وتصرف فيه وأظهر أنه قادر

(أ) في النسخ: الحط. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

الفتح 5/ 54.

(2)

ابن ماجه 2/ 805 ح 2408، وابن حبان 11/ 420 ح 5041، والحاكم 2/ 23.

(3)

شرح صحيح البخاري 6/ 513.

(4)

الفتح 5/ 54.

ص: 231

على الوفاء ثم تبين الأمر بخلافه، أن البيع لا يرد بل يُنتظر به حلول الأجل؛ لاقتصاره صلى الله عليه وسلم على الدعاء عليه، ولم يلزمه رد البيع.

وفي الحديث الترغيب في حسن النية والترهيب من ضد ذلك، وأن مدار العمل عليها، وأن المستدين مع نية الوفاء مرغوب في عمله، وقد أخذ بذلك عبد الله بن جعفر فيما رواه ابن ماجه والحاكم (1) من رواية محمد بن على عنه أنه كان يستدين، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه". إسناده حسن، لكن اختلف فيه على محمد بن علي، [ورواه] (أ) الحاكم (2) من طريق القاسم بن المفضل عنه (5) عن عائشة بلفظ:"ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون". قالت: فأنا ألتمس ذلك العون. وساق له شاهدًا من وجه آخر عن القاسم عن عائشة.

691 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن فلانًا قدم له بَزٌّ من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين بنسيئة إلى ميسرة. فأرسل إليه فامتنع. أخرجه الحاكم والبيهقي (3) ورجاله ثقات.

الحديث فيه دلالة على صحة التأجيل بالميسرة، وقد تقدم الكلام فيه

(أ) في الأصل: وروى، وفي ب: وزاد.

(ب) سقط من: جـ.

_________

(1)

ابن ماجه 2/ 805 ح 2409، والحاكم 2/ 23.

(2)

الحاكم 2/ 22.

(3)

الحاكم، كتاب البيوع 2/ 23، 24، والبيهقي، كتاب البيوع، باب لا يجوز السلف حتى يكون بثمن معلوم 6/ 25.

ص: 232

قريبًا فراجعه (1).

692 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يَركب ويشرب النفقة". رواه البخاري (2).

قوله: "الظهر يُركب". بضم أوله على البناء للمفعول، وكذلك "يشرب". وهو محتمل أن يكون الفاعل الراهن أو المرتهن؛ فقد قيل: إنه مجمل غير متعَيَّن المراد. وأجيب عن ذلك بأنه لا إجمال، وأنه متعين أن يكون هو المرتهن؛ لقرينة العوض، وهو الركوب واللبن، والراهن النفقةُ واجبة عليه لأجل ملكه الرقبة. وقد دل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة المؤنة، وقد ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث، وخصوا ذلك بالركوب والدَّرِّ، فقالوا: ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما. وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء، وتأولوا الحديث لكونه ورد علي خلاف القياس من وجهين؛ أحدهما التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه. والثاني تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة. قال ابن عبد البر (3): هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجتمعة وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر:"لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه". أخرجه البخاري في أبواب المظالم (4).

(1) تقدم ص 225 - 227.

(2)

البخاري، كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب 5/ 143 ح 2512.

(3)

التمهيد 14/ 215.

(4)

البخاري 5/ 88 ح 2435.

ص: 233

انتهى.

وقال الشافعي: يشبه أن يكون المراد: من رهن رهنا ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن من درها وظهرها، فهي محلوبة ومركوبة له كما كانت قبل الرهن. بجعل الفاعل المحذوف هو الراهن، وهو بعيد. واعترضه الطحاوي (1) بأنه قد صرح بالمراد في رواية هشيم عن زكريا في هذا الحديث ولفظه:"إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها" الحديث. قال: فعين أن المراد المرتهن لا الراهن، ثم أجاب عن الحديث بأنه محمول على أنه كان قبل تحريم الربا، فلما حرم الربا حرم أشكاله؛ من بيع اللبن في الضرع وقرض يجر نفعًا. قال: فارتفع بتحريم الربا ما أبيح في هذا للمرتهن. وتُعقب بأن هذا احتمال للنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، والتاريخ غير معروف، والجمع بين الأحاديث ممكن، وبأن طريق هشيم المذكورة زعم ابن حزم (2) أن إسماعيل بن سالم الصائغ تفرد عن هشيم بالزيادة وأنها من تخليطه. وتعقب بأن أحمد رواها في "مسنده"(3) عن هشيم كذلك، وكذلك أخرجه الدارقطني (4) من طريق زياد بن أيوب عن هشيم. وذهب الأوزاعي والليث وأبو ثور (5) إلى حمل الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون، فيباح حينئذ للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظا

(1) شرح معاني الآثار 4/ 99، 100.

(2)

المحلى 8/ 488.

(3)

أحمد 2/ 228.

(4)

الدارقطني 3/ 34 ح 135.

(5)

ينظر الفتح 5/ 144.

ص: 234

لحياته ولإبقاء المالية فيه، وجعل له في مقابلة نفقته الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن، بشرط ألا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه. وهذا تأويل حسن، وبه يتم الجمع بين الأحاديث.

وقد أجرى العلماء هذا الحكم في العين الشتركة إذا غاب الشريك واحتاجت إلى المؤن، وكذلك الوديعة والعارية والمؤجرة، وكان الضابط لذلك: كل عين لغيره في يده بإذن الشرع فإنه ينفق عليها بنية الرجوع على المالك، وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف، إلا أنه إذا كان في البلد حاكم ولم يفعل بإذن الحاكم، فلا رجوع له بما أنفق وتلزمه غرامة المنفعة واللبن، وإن لم يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر (أ) الحيوان بمدة الرجوع إلى الحاكم فله ولاية في ذلك ويرجع بما أنفق. وعلى ما حكى الإمام المهدي عن أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع الشريك إلا إذا كان ما فعله (ب) بإذن الحاكم وكذلك غيره. وقال الموفق (جـ) في "المغني" (1): إن نفقة الحيوان واجبة، وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة (د) عن المالك فيما غرمه عليه واستفاد ذلك من منافعه، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة في الإنفاق عليها. انتهى. وهذا راجع إلى تأويل الأوزاعي المار، والله أعلم.

(أ) في جـ: يتصرف.

(ب) في ب: نقله.

(جـ) في ب: المؤلف.

(د) في ب: أو النيابة.

_________

(1)

المغني 6/ 512.

ص: 235

693 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْلَق الرهنُ من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". رواه الدارقطني والحاكم (1) ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله (2).

والبيهقي (3) أيضًا من طريق زياد بن سعد عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه ابن ماجه (4) من طريق إسحاق بن راشد مرفوعًا. وأخرجه الحاكم (5) من [طرق](أ) موصولة أيضًا. ورواه الأوزاعي وابن أبي ذئب ويونس عن الزهري عن سعيد مرسلًا. ورواه الشافعي (6) عن ابن أبي فديك، وابن أبي شيبة (7) عن وكيع، وعبد الرزاق (8) عن الثوري، كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك. قال الشافعي: غنمه زيادته (ب)، وغرمه هلاكه. وصحح أبو داود والدارقطني إرساله، وأخرجه ابن حزم (9) من طريق قاسم بن أصبغ موصولًا إلى سعيد بن المسيب و [أبي](جـ) سلمة بن

(أ) في الأصل، جـ: طريق.

(ب) في جـ: زيادة.

(جـ) ساقط من: النسخ. والمثبت من المحلى، وينظر تهذيب الكمال 33/ 370.

_________

(1)

الدارقطني، كتاب البيوع 3/ 32، 33 ح 126، 127، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 51.

(2)

أبو داود في المراسيل، البيوع، باب ما جاء في الرهن ص 134، وعبد الرزاق 8/ 237 ح 15033.

(3)

البيهقي 6/ 39.

(4)

ابن ماجه 2/ 816 ح 2441.

(5)

الحاكم 2/ 51، 52.

(6)

الأم 3/ 186.

(7)

ابن أبي شيبة 7/ 187.

(8)

عبد الرزاق 8/ 237، 238 ح 15034.

(9)

المحلى 8/ 500.

ص: 236

عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، الرهن (أ) لمن رهنه، له غُنْمُه (ب) وعليه غُرْمُه". قال ابن حزم: هذا إسناد حسن.

قال المصنف رحمه الله (1): وأخرجه (جـ) الدارقطني (2) من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة بالإسناد المذكور، وصححها عبد الحق (3)، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي (4)، وقد وقع في إسناد ابن حزم تصحيفه إلى نصر بن عاصم؛ حذف عبد الله وصحف الأصم بعاصم. انتهى.

وقوله: "له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". اختلف العلماء في رفعها ووقفها على سعيد بن المسيب؛ فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب، ووقفها (د) غيرهم، وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده، وبين أن هذه اللفظة من قول سعيد بن المسيب، وقال أبو داود في "المراسيل": قوله: "له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". من كلام سعيد، نقله عنه الزهري.

(أ) ساقط من: جـ.

(ب) في النسخ: غرمه. وأثبت الصواب فوقها في الأصل.

(جـ) في ب: أخرج.

(د) في جـ: ودفعها.

_________

(1)

التلخيص الحبير 3/ 36، 37.

(2)

الدارقطني 3/ 33 ح 133.

(3)

الأحكام الوسطى 3/ 279.

(4)

الكامل 4/ 1545، 1546.

ص: 237

وقال عبد الرزاق (1): أنبأنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغلق الرهن ممن رهنه". قلت: أرأيت [قول النبي صلى الله عليه وسلم](أ): "لا يغلق الرهن". أهو الرجل يقول: إن لم آتك بمالك فالرهن لك؟ قال: نعم. قال معمر: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا؛ إنما هلك من رب الرهن، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه.

قوله: "لا يغلق". لا نافيه أو ناهية، يقال: غلِق الرهن [غَلَقا](ب). إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يَسْتَفكّه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام. قال الأزهري (2): يقال: غَلِق البابُ وانْغلق واستغلق. إذا عسر فتحه، والغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وَثاقه عند مرتهنه. وقد أغلقتُ الرهنَ فغَلِق أي أوجبته فوجب للمرتهن.

و"الرَّهْن" بفتح أوله وسكون الهاء معناه في اللغة الاحتباس، من قولهم: رهن الشيءُ. إذا دام وثبت، ومنه قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (3). وفي الشرع: جعل مال وثيقة على دين، ويطلق أيضًا على العين

(أ) في النسخ: قول الرجل، وفي المصنف: قوله. والمثبت من التلخيص الحبير 3/ 36.

(ب) في الأصل، ب: غلوقا. وينظر التاج (غ ل ق).

_________

(1)

عبد الرزاق 8/ 237 ح 15033.

(2)

تهذيب اللغة 16/ 139.

(3)

الآية 38 من سورة المدثر.

ص: 238

المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر، ويجمع على رُهُن بضمتين، وعلى رِهان بكسر الراء، وقرئ بهما (1)، وهو مشروع في الحضر والسفر، وتقييده بالسفر في الآية الكريمة خرج مخرج الغالب. وذهب إلى هذا الجمهور، ويدل على الرهن في الحضر رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه من يهودي، واشترى منه شعيرًا إلى أجل -أخرجه البخاري (2) - وهو في المدينة. قالوا: ولأن الرهن شرع للاستيثاق، ولما كان السفر مظنةَ فقْدِ الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، والخلاف في ذلك لمجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما (3)، فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب. وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال ابن حزم (4): إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز. و (أ) حمل حديث الباب عليه (5).

وأحكام الرهن وتفصيل ضمانه والخلاف في ذلك مستوفى في كتب الفروع من الفقه.

(أ) ساقط من: ب.

_________

(1)

يعني في قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} الآية 283 من سورة البقرة. وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر ويعقوب وخلف. وقرأ:(فرُهُن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وابن كثير وأبو عمرو. ينظر النشر 2/ 178.

(2)

البخاري 5/ 140 ح 2069، 2508.

(3)

تفسير الطبري 3/ 139.

(4)

المحلى 8/ 480، 481.

(5)

يعني حديث أنس المتقدم في رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه من يهودي.

ص: 239

694 -

وعن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بَكْرًا، فقَدِمَتْ عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه، فقال: لا أجد إلا خِيَارًا رَبَاعِيًّا. فقال: "أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء". رواه مسلم (1).

قوله: استسلف. أي اقترض، والبكر بفتح الباء وسكون الكاف: الصغير من الإبل كالغلام من الآدميين، والأنثى بكرة وقلوص وهي الصغيرة كالجارية، وإذا استكمل ست سنين ودخل في السابعة وألقى رَباعيَته -بتخفيف الياء التحتانية- فهو رَبَاع، والأنثى رَبَاعيَة، وقد تقدم الخلاف في اقتراض الحيوان قريبًا (2).

وفي الحديث دلالة على أنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه، وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة في العرف وفي الشرع، وليس هذا من القرض الذي يجر نفعا؛ لأنه لم يكن بشرط من المقرِض، وإنما ذلك تبرع من المستقرِض، وظاهره العموم للزيادة في الصفة وفي العدد، وهو مذهب الجمهور، والخلاف لمالك أن الزيادة في العدد لا تحل وأنها منهي عنها، والله أعلم.

695 -

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قرض جر منفعة فهو ربا". رواه الحارث بن أبي أسامة (3)، وإسناده ساقط، وله شاهد ضعيف عن فَضالة بن عبيد عند البيهقي (4)، [وآخر

(1) مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئًا فقضى خيرا منه 3/ 1224 ح 1600.

(2)

ينظر ما تقدم ص 191.

(3)

الحارث بن أبي أسامة، كتاب البيوع، باب في القرض يجر المنفعة، ح 436 - بغية الباحث.

(4)

البيهقي، كتاب البيوع، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا 5/ 350.

ص: 240

موقوف عن] (أ) عبد الله بن سلَام عند البخاري (1).

الحديث في إسناده سَوَّار بن مصعب وهو متروك (2)، وحديث فَضالة أخرجه البيهقي في "المعرفة" (3) موقوفًا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا. ورواه في "السنن الكبير"(4) عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم.

والحديث محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرِض أو في حكم المشروطة، وأما لو كانت تبرعًا من المقترض فلا منع من ذلك؛ جمعًا بينه وبين الحديث الذي مرَّ، والله أعلم.

هذان الحديثان محلهما قبل الكلام على الرهن.

(أ) في النسخ: وآخره موقوف وعن. والمثبت من بلوغ المرام ص 183.

_________

(1)

البخاري، مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام 7/ 129 ح 3814.

(2)

سوار بن مصعب الهمداني، أبو عبد الله الكوفي الأعمى، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي وغيره: متروك. ينظر الضعفاء الصغير للبخارى ص 56، والكامل لابن عدي 3/ 1292، ولسان الميزان 3/ 128.

(3)

المعرفة 4/ 391.

(4)

البيهقي في السنن الكبرى 5/ 349، 350.

ص: 241