المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الربا الربا (1) مقصور، وهو من ربا يربو، فيكتب بالألف، - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٦

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌ ‌باب الربا الربا (1) مقصور، وهو من ربا يربو، فيكتب بالألف،

‌باب الربا

الربا (1) مقصور، وهو من ربا يربو، فيكتب بالألف، وتثنيته ربوان، وأجاز الكوفيون كتابته وتثنيته بالياء بسبب الكسر في أوله، وغلَّطهم البصريون، قال العلماء رحمهم الله: وقد كتبوه في المصحف بالواو. وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم الربو، فعلموهم الخط على صورة لغتهم. قال: وكذا قرأه أبو سمالٍ العدوي بالواو، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة بسبب كسرة الراء، وقرأ لباقون بالتفخيم لفتحة الباء (2)، قال: ويجوز كتبه بالألف والواو والياء. قال أهل اللغة: والرماء بالميم والمد هو الربا، وكذا الرُّبية بضم الراء والتخفيف لغة في الربا.

وأصل الربا الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو. إذا زاد في نفسه كقوله تعالي: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (3). أو زاد مقابله كدرهم بدرهمين، يقال: أربي الرجل وأرْمَى. إذا عامل بالزيادة، فقيل: هو حقيقة فيهما. وقيل: حقيقة في الأول مجاز في الثاني. زاد ابن سريج أنَّه في الثاني حقيقة شرعية. ويطلق الربا على كل صلى الله عليه وسلم حرام، وقد أجمع المسلمون على تحريم

(1) ينظر شرح مسلم 11/ 8، 9، والفتح 4/ 313.

(2)

ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 24، والنشر 2/ 29، 39، والبحر المحيط 2/ 333.

(3)

الآية 39 من سورة فصلت.

ص: 165

الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه، [قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الَرِّبَا} ] (أ)(1). والأحاديث فيه كثيرة مشهورة، وروى (ب) مالك (2) عن زيد بن أسلم في تفسير قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (3). أنه كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ، وإلا زاده في حقه وزاد الآخر في الأجل. ورواه [الطبري](جـ)(4) من طريق عطاء ومن طريق مجاهد نحوه، ومن طريق قتادة، أن ربا [أهل](د) الجاهلية؛ يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخّر عنه.

664 -

عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء". رواه مسلم (5).

(أ) في الأصل: في نفسه كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ اللهُ الْرِّبَا} . وفي ب: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعُ} كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الْرِّبَا} .

(ب) زاد في النسخ: النسائي عن.

(جـ) في الأصل، جـ: الطبراني.

(د) ساقط من: الأصل.

_________

(1)

الآية 275 من سورة البقرة.

(2)

الموطأ 2/ 672 ح 83.

(3)

الآية 130 من سورة آل عمران.

(4)

تفسير الطبرى 3/ 101، 4/ 90.

(5)

مسلم، كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله 3/ 1219 ح 1598.

ص: 166

وللبخاري (1) نحوه من حديث أبي جُحيفة.

الحديث فيه دلالة على شمول الإثم لمن ذكر، فأما آكل الربا فلأنه المقصود أولًا وبالذات، وهو قابض الربا المنتفع به، وخص الأكل بالذكر لأنه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله، وأما الموكل فهو الَّذي أعطى الربا، وكان داخلًا في الإثم، لأنه ما يحصل الربا إلا منه، وأما الكاتب والشاهد فلإعانتهما على المحظور، وهذا إنما يكون مع قصدهما ومعرفتهما للربا، "وشاهديه". بلفظ التثنية، وفي رواية الترمذي (2)(أ) بلفظ الإفراد، وفي رواية النسائي (3) من وجه عن ابن مسعود: آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

665 -

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". رواه ابن ماجة مختصرًا، والحاكم بتمامه وصححه (4).

ومثل هذا من حديث البراء أخرجه ابن جرر إلا أنَّه قال: "اثنان

(أ) زاد بعده في الأصل، جـ: وفي رواية مسلم. وينظر الفتح 4/ 314.

_________

(1)

البخاري، كتاب اللباس، باب من لعن المصور 10/ 393 ح 5962.

(2)

الترمذي 3/ 512 ح 1206 من حديث ابن مسعود.

(3)

النسائي 8/ 147.

(4)

ابن ماجة، كتاب التجارات، باب التغيظ في الربا 2/ 764 ح 2275، والحاكم، كتاب البيوع 2/ 37.

ص: 167

وستون". وقال: "أدناها مثل إتيان الرجل أمه". وأخرج البيهقي (1) من حديث أبي هريرة: "الربا سبعون بابًا، أدناها كالذي يقع على أمه".

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة: "الربا سبعون حوبا، أهونها مثل وقوع الرجل على أمه".

وأخرج ابن أبي الدنيا (2) عن أبي هريرة: "الربا سبعون حُوبًا (أ)، أيسرها كنكاح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وهذه الأحاديث فيها دلالة على تغليظ تحريم الربا.

وفي قوله: "ثلاثة وسبعون بابًا". الظاهر أن المراد بها (ب) أنواع الربا، وأنه قد يطلق الربا على تناول ما لا يحل وإن لم يكن من باب الربا، ولذلك قال:"إن أربى الربا الاستطالة". يعني في عرض المسلم، فسماها ربا، وكذلك ما سيأتي (3) في حديث أبي أمامة، في قوله:"فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا". فسمى الهدية ربا. وكذلك لفظ "حوبا" يحتمل أنَّه أراد بقوله: "سبعون حوبا". أي نوعا من أنواع المأثم، ويحتمل أنَّه أراد: سبعون إثما. أي جزءًا من الإثم. والله أعلم.

وفيه أيضًا تعظيم لغيبة المسلم وأذاه، وأن إثمها أعظم من إثم الربا الَّذي

(أ) زاد في الأصل، ب: و.

(ب) في ب، جـ: به.

_________

(1)

البيهقي في شعب الإيمان 4/ 395 ح 5522.

(2)

ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة ص 114 ح 34.

(3)

سيأتي ح 675.

ص: 168

قد عرف أن أدناه نكاح الأم.

666 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تبيعوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلًا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز". متفق عليه (1).

الحديث فيه دلالة على أنَّه يحرم بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، وكذا الوَرق بالورق، وسواء كان حاضرا أم غائبا، لقوله:"إلا مثلًا بمثل". فإنه استثناء من أعم الأحوال، وتقديره: لا تبيعوه في حال من الأحوال إلا حال كونه مثلًا. أي: مساويًا لمثل. والمساواة باعتبار القدر، وأكد ذلك بقوله:"ولا تُشِفُّوا". أي: لا تَفْضُلوا. وهو رباعي من أشَفَّ، والشَّفُّ بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص، وقد ذهب إلى هذا العترة جميعًا والفقهاء، وقال به ثلاثة عشر من الصحابة، والخلاف في ذلك لابن عمر وابن الزبير وابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، فقالوا: إنه يجوز التفاضل في الحاضر ولا يجوز في النسيئة. لا رواه أسامة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة"(2). وهو حديث صحيح اتفق العلماء على صحته، وأجاب عنه العلماء بأجوبة؛ فمنهم من قال: معنى "لا ربا إلا في النسيئة". المراد به لا ربا أعظم، شديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد. مع أن فيها علماء غيره، والمقصود نفي الكمال لا نفي الأصل، أو أن المعارضة لحديث

(1) البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة 4/ 379 ح 2177، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا 3/ 1208 ح 1584 - 75.

(2)

البخاري 4/ 381 ح 2178، 2179 واللفظ له، ومسلم 3/ 1217 ح 1596.

ص: 169

أبي سعيد إنما هي بالمفهوم، وحديث أبي سعيد يدل بالمنطوق، والمفهوم على القول به يطرح مع المنطوق، وأجاب الشافعي بأنه يحتمل أن سائلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنسين المختلفين مثل الورق بالذهب والتمر بالحنطة متفاضلا، فقال:"إنما الربا في النسيئة". ولعل السؤال سبق قبل حضور أسامة، وحضر أسامة على الجواب فروى الجواب، أو أنَّه لم يحفظ المسألة، أو شك فيها فروى ما حفظه، وليس في حديثه ما ينفي هذا.

قال الشافعي (1): ومن روى خلاف حديث أسامة وإن لم يكن أشهر بالحفظ للحديث من أسامة، فليس به تقصير عن حفظه، وعثمان بن عفان وعبادة أشد تقدما بالصحبة وأَسن من أسامة، وأبو هريرة أسن وأحفظ من روى الحديث في دهره، وحديث اثنين أولى في الظاهر بالحفظ والبعد عن الغلط من حديث الواحد، فكيف حديث [الأكبر](أ) الَّذي هو أشبه أن يكون أولى بالحفظ من حديث من هو أحدث منه، مع أنَّه قد رجع عنه ابن عباس - أخرجه عنه الحاكم (2) - واستغفر الله من ذلك، وأخرج الحازمي (3) نحوه في "الناسخ والمنسوخ"، وما وقع بين عكرمة وأبي سعيد الرؤاسي قال في آخر ذلك: ثم جلس ابن عباس وقال: أستغفر الله، والله ما كنت أرى إلا ما تبايع به المسلمون من شيء يدا بيد إلا حلالًا، حتَّى سمعت عبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب حفظا من رسول الله ما لم أحفظ، فأستغفر الله.

(أ) في النسخ: الأكثر. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر اختلاف الحديث ص 204.

_________

(1)

اختلاف الحديث ص 204.

(2)

الحاكم 2/ 43.

(3)

الناسخ والمنسوخ ص 129.

ص: 170

وأخرج (1) من حديث أبي الجوزاء سؤاله ذلك ابن عباس بعد أن أفتاه بالحل في العام الأول، ثم سأله في العام الثاني بمكة فقال: وزنا بوزن. فقلت له: سألتك عام أول فأفتيتني أن لا بأس به يدًا بيد، فأفتيت به حتَّى يومي هذا حتَّى قدمت عليك. فقال: إن كان ذلك برأي. وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركت رأي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "الذهب". هو يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، "والوَرق" الفضة، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما، وقيل: بكسر الواو المضروبةُ، وبفتحها المالُ. والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة نصا، ويحرم التفاضل إجماعًا، إلا ما روي عن معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصنوع لمكان زيادة الصنعة، وإلا ما روي عن مالك أنَّه سُئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ دنانير أو دراهم وزن ورقه، قال: إذا كان لضرورة خروج [الرفقة](أ) ونحو ذلك فأرجو ألا يكون به بأس. وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء، وأجاز مالك بدل الدينار الناقص الوزن أو الدينارين، على اختلاف بين أصحابه في العدد الَّذي يجوز فيه ذلك.

وقوله: "لا تبيعوا منها غائبًا بناجز". هو بنون وجيم وزاي؛ أي مؤجل بحالٍّ، أو المراد بالغائب أعم من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقًا

(أ) في الأصل: الرأفة. وفي ب، جـ: الزائفة. والمثبت من الهداية في تخريج أحاديث بداية 7/ 378.

_________

(1)

أي الحازمي في الناسخ والمنسوخ ص 130.

ص: 171

مؤجلًا كان أو حالًّا. والناجز الحاضر، وقد ذهب إلى هذا العلماء كافة في أنَّه يجب التقابض وإن اختلف الجنس، إلا ما روي عن إسماعيل ابن عُلية أنَّه جوز التفرق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بهذه الأحاديث الصحيحة ولعلها لم تبلغه.

667 -

وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". رواه مسلم (1).

قوله: "مثلًا بمثل سواء بسواء". يحتمل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدًا و (أ) مبالغة في الإيضاح.

الحديث فيه دلالة على تحريم التفاضل في الجنس المتفق، وقد وقع النص على هذه الستة؛ فقال أهل الظاهر: لا ربا فيما عداها. بناءً على أصلهم في نفي القياس، وقال جميع العلماء سواهم: لا يختص بالستة بل يتعدى الحكم إلى ما في معناها وما يشاركها في العلة.

واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة؛ فقال الشافعي (2): العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدي الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة. قال: والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة فيتعدي الربا منها إلى كل مطعوم. وقال مالك مثل قول

(أ) في ب: أو.

_________

(1)

مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 3/ 1211 ح 1587 - 81.

(2)

شرح مسلم 11/ 9، والمجموع 9/ 501، 502.

ص: 172

الشافعي في الذهب والفضة، وفي الأربعة الباقية كونها مدخرة للقوت وتصلح له، فَعَدَّاه إلى الزبيب لأنه كالتمر. وقال أبو حنيفة: العلة في الذهب والفضة الوزن، وفي الأربعة كونها مطعومة موزونة أو مكيلة. فشرط الأمرين، فعلى هذا لا ربا في البطخ والسفرجل؛ لأنهما لا يكالان ولا يوزنان، وقالت العترة جميعًا: بل العلة في الستة اتفاق الجنس والتقدير، إذ نبَّه على ذلك بقوله:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم". وقال ربيعة: اتفاق الجنس ووجوب الزكاة. إذ [قصره](أ) على ما تجب فيه، فيحرم شاة بشاتين ونحوه. وقال سعيد بن جبير: العلة تقارب النفعة؛ فيحرم التفاضل بين الزبيب والتمر، والبر والشعير، والذرة والدخن (1).

ويجاب بأنه لا دليل عليهما (ب). وقال ابن شبرمة: اتفاق الجنس فقط، فيحرم قريق بقرشين. وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلًا ومؤجلًا؛ كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير، وغيره من المكيل. وأجمعوا على أنَّه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنَّه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس، [إلا ابن جبير فيما تقاربت فيه النفعة](جـ). إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير، قال العلماء: وإذا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة سمي مُراطلة، وإذا بيع الذهب بالفضة سمي صرفًا، وإنما سُمِّي صرفًا؛ لصرفه عن

(أ) في الأصل، ب: نص.

(ب) في جـ: عليها.

(جـ) ساقط من: الأصل.

_________

(1)

الدخن: حب معروف، واحده دخنة. الصباح (د خ ن).

ص: 173

مقتضي المبايعات من جواز التفاضل وتحريم التفرق قبل التقابض والتأجيل، وقيل: من صرفهما وهو تضويتهما في الميزان، وإذا بيع العزض بالنقد سمي النقد ثمنًا والعرض عوضًا، وبيع العَرْض بالعرض يسمي مقايضة.

ولفظ البُر بضم الباء الموحدة ومن أسمائه الحنطة والشعير بفتح الشين وهو معروف، وقد حكي جواز كسره، واستدل بقوله:"فإذا اختلفت الأصناف". على أن البُر والشعير صنفان، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا: هما صنف واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا. ويرد عليهم ما أخرجه أبو داود والنسائي (1) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس ببيع البر بالشعير - والشعير أكثرهما - يدًا بيد". والعمل بهذا أرجح مما أخرجه مسلم (2) عن معمر بن عبد الله أنَّه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيرًا. فذهب الغلام فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرًا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وكان طعامنا يومئدٍ الشعير، فقيل له: إنه ليس بمثله. قال: فإني أخاف أن يضارع. فظاهر هذا أنَّه اجتهاد من معمر، وأنه تورع عن ذلك احتياطًا لا لاتحاد الجنس حقيقة. والله أعلم.

668 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة لم بالفضة وزنًا بوزن مثلًا

(1) أبو داود 3/ 245، 246 ح 3349، والنسائي في الكبرى 4/ 28 ح 6156.

(2)

مسلم 4/ 1213 ح 1592.

ص: 174

بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا". رواه مسلم (1).

قوله: "وزنًا بوزن". منصوب على الحالية، والمراد منه معرفة المساواة بالوزن بأن يكون ذلك على جهة التيقن، ولا يكفي تقدر المساواة بالخرص والتخمين، بل لا بد من اختيار ذلك بالقياس الذي يفيد التيقن.

وقوله: "فمن زاد". أي أعطى الزيادة.

وقوله: "أو استزاد". أي أخذ الزيادة.

وقوله: "فهو ربًا". يعني فعل الربا المحرم، والمعنى أنهما جميعًا مشتركان في إثم الربا، الآخذ والمعطي.

669 -

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكل تمر خيبر هكذا؟ ". فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفعل، بعِ الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". وقال في الميزان مثل ذلك. متفق عليه (2). ولمسلم: "وكذلك الميزان".

قوله: استعمل رجلًا. اسمه سَوَاد، بفتح السين المهملة وتخفيف الواو وآخره دال مهملة، ابن غَزِية، بفتح الغين المعجمة وزاي مكسورة وياء تحتانية ثقيلة بوزن عطة، وهو من الأنصارِ من بني عدي، كذا صرح باسمه أبو عوانة والدارقطني (3).

(1) مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 3/ 1212 ح 84 - 1584.

(2)

البخاري، كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خيبر منه 4/ 399 ح 2201، 2202، ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل 3/ 1215 ح 1593.

(3)

أبو عوانة 3/ 392 ح 5441، والدارقطني 3/ 17 ح 54.

ص: 175

و"الجَنيب". بالجيم المفتوحة والنون بوزن عظيم، قال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: الصلب. وقيل: الَّذي أخرج منه حشَفه ورديئه. وقيل: هو الَّذي لا يختلط بغيره.

و"الجَمْع". بفتح الجيم وسكون الميم، هو تمر رديء، وقد فسر في رواية أخرى لمسلم بأنه الخلط من التمر، ومعناه: مجموع من أنواع مختلفة.

الحديث فيه دلالة على أن بيع الجنس بجنسه يجب فيه التساوي، سواء اتفقا في الجودة والرداءة أو اختلفا في ذلك.

وفي قوله: "بعِ الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" إلى آخره. قد يستدل به على جواز بيع العينة، وأنه يصح أن يشتري ذلك البائع له ويعود له عين ماله؛ لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دلّ على صحة البيع مطلقًا؛ سواء كان من البائع أو من غيره. وقد ذهب إلى جواز ذلك الشافعي وغيره، وهذا أصل للشافعي، أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم.

قال القرطبي (1): استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع؛ فإن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلًا ويكون الثمن لغوًا.

قال: ولا حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم ينص على جواز ما ذكر، وهو مطلق، والمطلق يحتمل التقييد، وقد دلَّ الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة. انتهى.

ولكنه يتأيد ما ذهب إليه الشافعي بما أخرجه سعيد بن منصور (2) من طريق ابن سيرين، أن عمر خطب فقال: إن الدراهم بالدراهم سواء بسواء،

(1) ينظر الفتح 4/ 400.

(2)

سعيد بن منصور -كما في الفتح 4/ 401.

ص: 176

يدًا بيد. فقال له ابن عوف: فنعطي الخبيث ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عرضًا، فإذا قبضته وكان لك فبعه، واهضم ما شئت وخذ ما شئت.

وأراد بقوله: فنعطي الخبيث. أنَّه إذا كان أحد الدرهمين غير جيد فكيف يؤخذ به درهم جيد سواء بسواء؟ فأجاب بتعليم الحيلة المسوغة، وبما قام عليه الإجماع بأنه يجوز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى عوده بالزيادة، وقد ذكرته الهدوية فقالوا: يجوز البيع من البائع إذا كان غير حيلة، فلا فرق بين التعجيل والتأجيل، وعلى أن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه؛ فإذا كان مشروطًا عند العقد أو قبله على عوده إلى البائع، فالبيع فاسد أو باطل على الخلاف، وإن كان مُضْمرًا غير مشروط فهو صحيح، فهو كمن أراد أن يزني بامرأة فعدل إلى أن عقد بها ليواقعها، فقد عدل عن الحرام إلى الحلال بالطريق التي شرعها الله تعالى. وذهب مالك وأحمد إلى منع ذلك؛ لما فيه من التوصل إلى تفويت مقصد الشارع من المنع من الربا.

وسد الذرائع مقصود مدلول عليه بالأدلة الشرعية، كتحريم ما قلَّ من الخمر وغيره، ولما سيأتي من الحديث في العِينة وإن كان فيه مقال.

وقوله: وقال في الميزان مثل ذلك. أي وقال فيما كان يوزن إذا بيع بجنسه مثل ما قال في المكيل؛ لأنه لا يباع متفاضلًا، وإذا أريد مثل ذلك بيع بالدراهم وشري ما يراد بها، والإجماع قائم بأنه لا فرق بين المكيل والموزون في ذلك الحكم.

وقال ابن عبد البر (1): إنهم أجمعوا أن ما كان أصله الوزن لا يصح أن

(1) التمهيد 20/ 57.

ص: 177

يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل، فإن بعضهم يجيز فيه الوزن ويقول: إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء. واحتجت الحنفية بهذا الحديث أن ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مكيلًا لا يصح أن يباع ذلك بالوزن متساويًا، بل لا بد من اعتبار كيله وتساويه كيلًا، وكذلك الوزن، وغيرهم يعتبرون الكيل والوزن بعادة البلد ولو خالف ما كان عليه في ذلك الوقت، فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب، فإن استوى الأمران كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل، وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون.

واعلم أنَّه لم يذكر في هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برد المبيع، بل ظاهره أنَّه قرر البيع، وإنما أعلمه بالحكم وعذره هنا لأجل الجهل.

وقد خرج المؤيد بالله على أصل الهادي أنَّه يملك الربا بالقبض، ولكنه قال ابن عبد البر (1)؛ إن سكوت الراوي عن رواية فسخ العقد ورده لا يدل على عدم وقوعه، وقد أُخرج من طريق أخرى. وكأنه أشار إلى ما أخرجه [مسلم](أ)(2) من طريق أبي نضرة عن سعيد نحو هذه القصة، فقال:"هذا الربا فردوه". قال: ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت متقدمة.

وفي الحديث دلالة على الترفيه على النفس باختيار الأفضل. والله أعلم.

(أ) ساقط من النسخ، والمثبت من فتح الباري 4/ 400.

_________

(1)

التمهيد 20/ 58.

(2)

مسلم 3/ 1216 ح 97 - 1594.

ص: 178

670 -

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصُّبْرة من التمر لا يُعلَم مكيلها بالكيل المسمى من التمر. رواه مسلم (1).

الصبرة، بضم الصاد المهملة: الطعام المجتمع كالكومة. ووجه النهي عدم علم التساوي، وقد تقدم اشتراطه.

671 -

وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وكان طعامنا يومئذ الشعير. رواه مسلم (2).

ظاهر لفظ الطعام أنَّه يشمل كل مطعوم، ويدل على أنَّه لا يباع متفاضلًا وإن اختلف الجنس، والظاهر أنَّه لا يقول أحدٌ بالعموم، وإنما الخلاف في البر والشعير كما تقدم عن مالك، ولكن معمرًا خصص الطعام بالشعير، وهذا من التخصيص بالعادة الفعلية حيث لم يغلب الاسم.

وقد ذهب إلى التخصيص بها الحنفية، والجمهور لا يخصصون بها إلا إذا اقتضت غلبة الاسم، وإلا حمل اللفظ على العموم، ولكنه مخصوص بما تقدم من قوله:"فإذا اختلفت الأصناف". وغيره وبقي مقصودًا من الطعام ما اتفق منه جنسًا، وقد تقدم سياق حديث معمر وما كان يذهب إليه احتياطًا من عدم جواز التفاضل في البر بالشعير. والله أعلم.

672 -

وعن فَضَالة بن عبيد رضي الله عنه قال: اشتريت يوم خيبر

(1) مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم صلى الله عليه وسلم صبرة التمر المجهولة القدر بتمر 3/ 1162 ح 42 - 1530.

(2)

مسلم، كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلًا بمثل 3/ 1214 ح 93 - 1592.

ص: 179

قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز، ففصَّلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تباع حتَّى تفصَّل". رواه مسلم (1).

وأخرج الحديث الطبراني في "الكبير"(2) بطرق كثيرة، وفي بعضها: قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها: [خرز وذهب، (5). وفي بعضها: خرز مغلفة بذهب. وفي بعضها: اثنا عشر دينارا. وفي أخرى: ابتاعها بتسعة دنانير. بتقديم التاء على السين، وفي أخرى: سبعة دنانير. بتقديم السين على الباء الموحدة، وهو شك من الراوي، وفي كثير من نسخ مسلم: قلادة فيها اثنا عشر دينارًا. وأجاب البيهقي (3) عن هذا الاختلاف، بأنها كانت بيوعًا شهدها (جـ) فضالة.

قال المصنف رحمه الله تعالى (4): والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفًا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه؛ وهو النهي عن بيع ما لم يفصَّل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي (د)

(أ) التفصيل: التبيين. يريد تبين الذهب من الخرز. وينظر اللسان (ف ص ل).

(ب) كذا في النسخ، والتلخيص 3/ 9، وفي معجم الطبراني 18/ 302: ذهب وخرز.

(جـ) في جـ: يشهدها.

(د) في جـ: ينتفي.

_________

(1)

مسلم، كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب 3/ 1213 ح 1591 - 90.

(2)

الطبراني 18/ 302، 314، 315 ح 774، 775، 813، 814.

(3)

سنن البيهقي 5/ 293.

(4)

التلخيص الحبير 3/ 9.

ص: 180

الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة.

وهذا جواب حسن يجاب به فيما شابه هذا، مثل حديث جابر وقصة جَمَله ومقدار ثمنه (1).

والحديث فيه دلالة على أنَّه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتَّى يفصَّل، فيباع الذهب بوزنه ذهبًا، ويباع الآخر بما زاد، وكذا غيره من الربويات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يباع حتَّى يفصَّل". وصرح ببطلان العقد، وأنه (أ) يجب التدارك له، وهذه المسألة المذكورة في كتب الشافعية (2) المعروفة بمسألة مُدّ عَجْوة؛ وصورتها: باع مد عجوة ودرهما بمدي (ب) عجوة أو بدرهمين.

وقد ذهب إلى العمل بظاهر الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحكم المالكي، وهو منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه وجماعة من السلف. والخلاف في ذلك للعترة جميعًا، وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح، فقالوا: يجوز ذلك بأكثر مما فيه من الذهب، ولا يجوز بمثله ولا بدونه. وقال مالك وأصحابه وآخرون: يجوز بيع السيف المحلى بذهب، وكذا غيره مما فيه ذهب، بذهب، إذا كان الذهب في المبيع تابعًا لغيره، وقدروه بأن يكون الثلث فما دونه. وقال حماد بن أبي سليمان: يجوز

(أ) في جـ: فإنه.

(ب) في جـ: بمد.

_________

(1)

تقدم ح 621.

(2)

المهذب 1/ 273، والروضة 3/ 384.

ص: 181

بيعه بالذهب مطلقًا، سواء باعه بمثله من الذهب أو أقل أو أكثر. وهو منابذ للحديث.

ووجه قول العترة والحنفية أنَّه لما حصل مقابلة الذهب بالذهب، وكان الزائد من الذهب في مقابلة المصاحِب، صحَّ العقد، لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حُمل على الصحة. وحديث القلادة الذهب فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، وهي الرواية التي صححها أبو علي الغساني، وكذلك رواية: اثنا عشر. ومثل هذا، لا يجيزه أهل القول المذكور، وهم يشترطون أن يكون المنفرد أكثر من المصاحب؛ ليكون ما زاد من المنفرد في مقابلة المصاحب. وأجاب [الطحاوي](أ) بأنه إنما نهي عنها لأنه كان في بيع الغنائم؛ لئلا يقع المسلمون في بيعها.

وأجاب الشافعية عن الجوابين بأن الحديث فيه دلالة على علة النهي، وهو عدم الفصل، حيث قال:"لا يباع حتَّى يفصَّل". وظاهره الإطلاق في المُساوي وغيرها، والغنائم وغيرها، مع أن في الروايات الأخرى ما يدل على أن الذهب المصحوب أقل من المنفرد، ففيها تأييد للتعليل المذكور، فظهر صحة ما ذهب إليه الشافعي، ولعل الحكمة في اعتبار الفصل هو سد الذريعة إلى وقوع التفاضل في الجنس الربوي، ولا يكون إلا بتمييزه بعقد، واختبار المساواة بالوزن أو الكيل، وعدم الكفاية بالظن في التغليب كما أجازه أهل القول الثاني، فإنهم صرحوا بجواز بيع الحنطة في سنبلها بحنطة خالصة، وكذلك الزُّبد الخالص بالزيت، والتغليب إنما هو بالظن، مع أن الهدوية خالفوا في هذا الحكم أصلهم، وهم يصرحون (ب) بأن هذا الضرب -وهو بيع

(أ) في النسخ: الخطابي، والمثبت من شرح مسلم 11/ 18، وينظر شرح مشكل الآثار 15/ 378.

(ب) في جـ: مصرحون.

ص: 182

الجنس بجنسه- لا يُكتفى في المساواة بالظن، وأنه من الضروب التي لا يعمل فيها إلا بالعلم.

وأما وجه قول مالك فلعله إذا كان الجنس المقابل لجنسه الثلث فما دون، فهو مغلوب ومكثور بالجنس الخالف، والأكثر ينزل في غالب الأحكام منزلة الكل، فكأنه لم يبع (أ) ذلك الجنس بجنسه. والله أعلم.

673 -

وعن سمُرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. رواه الحمسة وصححه الترمذي وابن الجارود (1).

الحديث قال الترمذي: حسن صحيح. وقال غيره: رجاله ثقات. إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله؛ لما في سماع الحسن من سمُرة من النزاع، لكن رواه ابن حبان والدارقطي عن ابن عباس رضي الله عنه (2).

وأخرج الحديث أحمد وأبو يعلى والضياء في "المختارة"(ب)، كلهم من حديث الحسن عن سمرة، ورجاله ثقات أيضًا، إلا أنَّه اختلف في وصله وإرساله؛ فرجح البخاري وغير واحد إرساله.

(أ) في جـ: يقع.

(ب) زاد في النسخ: و. وينظر سبل السلام 3/ 21.

_________

(1)

أحمد 5/ 12، 19، 21، وأبو داود، كتاب البيوع، باب الحيوان بالحيوان نسيئة 3/ 247، 248 ح 3356، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة 3/ 538 ح 1237، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة 7/ 337 ح 4634، وابن ماجة، كتاب التجارات، باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة 2/ 763 ح 2270، وابن الجارود ح 611.

(2)

ابن حبان ح 5028، وسنن الدارقطني 3/ 71 ح 267.

ص: 183

وعن جابر عند الترمذي وغيره (1) وإسناده لين، وعن جابر بن سمرة عند عبد الله في زيادات "المسند"(2)، وعن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني (3).

الحديث فيه دلالة على عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، واللفظ محتمل بأن يراد بنسيئة من الطرفين جميعًا، فيكون من بيع الكالئ بالكالئ (4)، وهو لا يصح، وبهذا فسر الشافعي الحديث، توفيقًا (أ) بين هذا وبين حديث أبي رافع في استسلاف النبي صلى الله عليه وسلم بَكرًا وقضي رَباعيًّا (5).

وسيأتي (6) -وأن يراد أنَّه لا يصح أن يكون أحد الطرفين معدومًا والآخر موجودًا، وقد تعلق (ب) بهذا الحنفية والهدوية والحنابلة، [حيث منعوا قرض الحيوان بحيوان] (جـ)؛ قالوا: لعموم حديث سمرة. وجعلوه ناسخًا لحديث أبي رافع. ويجاب عنه بأن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، والجمع بين الدليلين ما أمكن هو الواجب، وقد أمكن الجمع بما تقدم، ويؤيد ذلك آثار عن الصحابة

(أ) في جـ: توقيفًا.

(ب) في ب: فعلوا.

(جـ) ساقط من: الأصل، جـ. والعبارة بهامش ب.

_________

(1)

الترمذي 3/ 539 ح 1238، وأحمد 3/ 310، 380، 382، وابن ماجة 2/ 763 ح 2271.

(2)

زوائد مسند أحمد 34/ 478 ح 20942.

(3)

الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 60، والطبراني -كما في الفتح 4/ 419.

(4)

الكالئ بالكالئ: أي النسيئة بالنسيئة. النهاية 4/ 194.

(5)

البكر: الفَتِيُّ من الإبل، ويقال للذكر من الإبل إذا طلعت رباعيته: رباع. والأنثى: رباعية.

بالتخفيف، وذلك إذا دخلا في السنة السابعة. النهاية 1/ 149، 2/ 188.

(6)

سيأتي ح 694.

ص: 184

أخرجها البخاري، قال (1): واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالرَّبَذة. وقد وصله مالك والشافعي عنه عن نافع عن ابن عمر بهذا (2). وأخرجه ابن أبي شيبة (3) من طريق أبي [بشر](أ) عن نافع.

والراحلة: ما أمكن ركوبه من ذكر أو أنثى. وقوله: مضمونة. صفة راحلة، أي تكون في ضمان البائع حتَّى يوفيها، أي يسلمها للمشتري. بالربذة. بفتح الراء، موضع معروف بين مكة والمدينة.

قال (1): وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيرا من البعيرين. وهذا وصله الشافعي (4) من طريق طاوس، [أن](ب) ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين، فقاله.

قال (5): واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخَر غدًا رَهْوًا إن شاء الله تعالى. وصله عبد الرزاق (6) من طريق مطرف بن عبد الله.

وقوله: رَهوًا. بفتح الراء وسكون الهاء، أي سهلًا، والرهو: السير اليسير،

(أ) في الأصل، ب: نسر.

(ب) في الأصل، ب: أو.

_________

(1)

ذكره البخاري معلقا 3/ 108، باب بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة، قبل ح 2228.

(2)

مالك في الموطأ 2/ 652 ح 60، والشافعي في الأم 3/ 36.

(3)

ابن أبي شيبة 7/ 218 ح 20683.

(4)

الشافعي في مسنده 2/ 332 (555).

(5)

البخاري 3/ 108، باب بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة، قبل ح 2228.

(6)

مصنف عبد الرزاق 8/ 22 ح 14141.

ص: 185

والمراد هنا أنَّه يأتيه به سريعًا بغير مطل.

قال: وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان؛ البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل.

هذا وصله مالك (1) عن ابن شهاب عنه: لا ربا في الحيوان. ووصله ابن أبي شيبة (2) من طريق أخرى عن الزهري عنه: لا بأس البعير بالبعيرين نسيئة.

فهذه الآثار تقوي أن العمل بحديث أبي رافع باق غير منسوخ.

واعلم أن الهدوية إنما يعللون منع ذلك في البيع (3)؛ لأن المبيع القيمي يجب أن يكون موجودًا عند العقد في ملك البائع له، والحيوان قيمي مبيع مطلقًا، فيجب كونه موجودًا وإن لم يكن حاضرًا مجلس العقد، ولابد أن يكون متميزًا عند البائع، إما بإشارة أو لقب أو رصف، ويمنعون قرض الحيوان لعدم إمكان ضبطه.

وقال مالك: يجوز بيع الحيوان بالحيوان إن اختلف الجنس لا إن اتَّحد.

وجمع بين الحديثين بهذا.

674 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، ليأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتَّى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود (4) من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال، ولأحمد (5) نحوه من رواية

(1) مالك في الموطأ 2/ 654 ح 63.

(2)

ابن أبي شيبة 7/ 219 ح 20689.

(3)

يعني منع بيع الحيوان الموجود بالحيوان المفقود. ينظر سبل السلام 3/ 23.

(4)

أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة 3/ 272 ح 3462.

(5)

أحمد في الزهد -كما في نصب الراية 4/ 17.

ص: 186

عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان.

في إسناد أبي داود أبو عبد الرحمن الخراساني، واسمه إسحاق، عن عطاء الخراساني، قال الذهبي في "الميزان" (1): هذا من مناكيره.

وأصل الحديث: قال ابن عمر: أتى علينا زمان وما يرى أحدنا أنَّه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، ثم أصبح الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث.

والحديث له طرق كثيرة، عقد لها البيهقي بابًا وبيّن عللها (2). وقال المصنف رحمه الله تعالى (3): وعندي أن إسناد الحديث الَّذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا، لأن الأعمش مُدَلسٌ، ولم يُذكَر (أ) سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية؛ بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فيرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور. انتهى.

وقوله: "بالعِينة". بكسر العين وسكون الياء المثناة من تحت؛ هي أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بأقل، ليبقي الكثير في ذمته، فسميت عِينة لحصول العين - أي النقد - فيها، أو لأنه (ب) يعود إلى

(أ) في التلخيص الحبير: ينكر.

(ب) في جـ: لأنها.

_________

(1)

ميزان الاعتدال 4/ 547.

(2)

سنن البيهقي 5/ 316، 317.

(3)

التلخيص الحبير 3/ 19.

ص: 187

البائع عين ماله.

والأخذ بأذناب البقر كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. والرضا بالزرع كناية عن كونه قد صار [همهم](أ) ونُهمتهم. وترك الجهاد يعم جهاد العدو من الكفار والغزو في سبيل الله، وجهاد النفس ومخالفة الشيطان والهوى. وتسليط الله مجاز عن جعلهم أذلاء، عبر بالتسليط لما في ذلك من الغلبة والقهر، والذُّل بضم الذال المعجمة وكسرها: الاستهانة والضعف. وقوله: "لا ينزعه". أي لا يزيله ويكشفه عنكم. والرجوع إلى الدين: أي (ب) الاشتغال بأعمال الدين.

وفي هذا دلالة على الزجر البالغ والتقريع الهائل، حيث جعل ذلك بمنزلة الردة والخروج عن الدين. وفيه دلالة على تحريم العِينة، ولظهور هذا المآخذ قال بذلك بعض الشافعية، وقال: أوصانا الشافعي باتباع الحديث إذا صحَّ بخلاف مذهبه. وقد تقدم الكلام في ذلك في حديث شراء عامل خيبر الجَمْع بالجنيب (1). والله أعلم.

675 -

وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا". رواه أحمد وأبو داود (2)، وفي إسناده مقال.

(أ) في الأصل، ب: همتهم.

(ب) في جـ: و.

_________

(1)

تقدم ح 669.

(2)

أحمد 36/ 588 ح 22251، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الهدية لقضاء الحاجة 3/ 290 ح 3541.

ص: 188

الحديث فيه دلالة على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة للأخ، وظاهر الحديث، سواء كان قاصدًا لذلك عند الشفاعة أو لم يكن كذلك، فإن القبول محرم، وجعله من باب الربا، ووصفه بأنه باب عظيم، مما يؤكد التحريم، ولعل تسميته بالربا من باب الاستعارة؛ للشبه بينهما؛ وذلك لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض مال، وهذا مثله، وتقدم نظيره. والله أعلم.

676 -

وعن عبد الله بن [عمرو](أ) رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. رواه أبو داود والترمذي وصححه (1).

وأخرجه أيضًا أحمد، [وابن حبان](ب) في [القضاء](جـ)، وابن ماجة في الأحكام، والطبراني في "الصغير"(2)، قال الهيثمي (3): ورجاله ثقات.

قوله: لعن. اللعن هو البعد من مظان الرحمة ومواطنها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا كبيرة تزيد على عشرين. وفيه دلالة على جواز لعن أهل

(أ) في الأصل، جـ: عمر.

(ب) ساقط من النسخ ومن سبل السلام 3/ 26. والمثبت من التلخيص الحبير 4/ 189 ويقتضيه السياق، فإن الإمام أحمد ليس له مصنف في القضاء، وابن حبان أخرجه في صحيحه في كتاب القضاء.

(جـ) في الأصل، جـ: القضاة. والمثبت من صحيح ابن حبان، وسبل السلام.

_________

(1)

أبو داود، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة 3/ 299 ح 3580، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم 3/ 623 ح 1337.

(2)

أحمد 2/ 164، 190، وابن حبان 11/ 468 ح 5077، وابن ماجة 2/ 775 ح 2313، والطبراني 1/ 28.

(3)

مجمع الزوائد 4/ 199.

ص: 189

المعاصي من أهل القبلة. قال بعض المحققين ما محصوله أن اللعن إما أن يتعلق بمعيَّن أو بالجنس، فإن كان الثاني فهو جائز، لتعليق الحكم بالوصف، وإن كان الأول فهو غير جائز، وإنما يوقف على الإذن من الشارع ولا يقاس على ما ورد.

والراشي: هو الَّذي يبذل المال للتوصل إلى الباطل، مأخوذ من الرَّشاء الَّذي هو الحبل يتوصل به إلى الماء في البئر. سمي منحة الحاكم رشوة بضم الراء وكسرها، لما كان يتوصل بها إلى أن يحكم له على خصمه، وعلى هذا فبذل المال للتوصل إلى الحق لا يكون رشوة. والمرتشي: آخذ الرشوة وهو الحاكم، فكانت اللعنة عليهما (أ) جميعًا، فالراشي لتوصله إلى الباطل، والمرتشي للحكم بغير الحق.

وفي الباب أحاديث كثيرة عن أبي هريرة وعن ثوبان (1)، وفي حديث ثوبان بزيادة: والرائش. بالشين المعجمة، وهو الَّذي يمشي بينهما، والرشوة على تبديل أحكام الله نشأت عن اليهود المستحقين اللعنة، وقد جاء في التوراة في السفر الثاني منها (2): لا تقبلن الرشوة؛ فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء.

(أ) في جـ: بينهما.

_________

(1)

حديث أبي هريرة أخرجه أحمد 2/ 387، والترمذي 3/ 622 ح 1336، وابن حبان 11/ 467 ح 5076، والحاكم 4/ 103. وحديث ثوبان أخرجه أحمد 37/ 85 ح 22399، وابن أبي شيبة 7/ 510، 536 ح 22275، 22405، والطبراني في الكبير 2/ 89 ح 1415، والحاكم 4/ 103.

(2)

سفر الخروج 23/ 9.

ص: 190

وجه ذكر المصنف لهذا الحديث في هذا الباب، هو أنَّه لما كان متعاطي ما ذكر ملعونا (أ) لأجل أخذ المال الَّذي يشبه الربا، فكذلك آخذ الربا وموكله.

677 -

وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن (5) يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة. رواه الحاكم والبيهقي (1) ورجاله ثقات.

الحديث فيه دلالة على جواز اقتراض الحيوان، وفيه ثلاثة مذاهب، الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف، ورواه في "شرح الإبانة" عن الصادق والباقر، أنَّه يجوز قرض جميع الحيوانات، إلا جارية لمن (جـ) يملك وطءها، فإنه لا يجوز، ويجوز لمن لا يملك وطءها، كمحارمها والمرأة والخنثى. والثاني، مذهب المزني وابن جرير وداود، أنَّه يجوز قرض الجارية وسائر الحيوانات لكل أحد. والثالث، مذهب الهدوية وأبي حنيفة والكوفيين، أنَّه لا يجوز قرض شيء من الحيوان (د). وهذا الحديث يرد عليهم، وقد تقدم الكلام في دعواهم النسخ.

وحكم السلَم حكم القرض في الجواز، وهذا الحديث محله باب القرض، وذكره المصنف هنا للتنبيه أنَّه لا ربا في الحيوان.

(أ) في النسخ: ملعون. والمثبت هو الصواب.

(ب) ساقط من: ب، جـ.

(جـ) في جـ: لم.

(د) في الأصل، جـ: الحيوانات.

_________

(1)

الحاكم، كتاب البيوع، 2/ 56، 57، والبيهقي، كتاب البيوع، باب بيع الحيوان وغيره مما لا ربا فيه بعضه ببعض نسيئة 5/ 287.

ص: 191

678 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. متفق عليه (1).

المزابنة؛ بالزاي والباء الموحدة والنون: مفاعلة من الزَّبْن بفتح الزاي وسكون الباء، وهو الدفع الشديد، ومنه سميت الحربُ الزَّبون؛ لشدة الدفع فيها، وسمي البيع الخصوص بالمزابنة؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، وقد تقدم.

قوله: ثمر حائطه. بالثاء المثلثة وفتح الميم، يشمل الرطب وغيره، والمراد ما كان في أصله رطبا من هذه الأمور المذكورة، وأراد بالكرم العنب.

والحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول بمجهول أو بمعلوم من جنسه إذا كان يجري فيه الربا. قال: فأما من قال: أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعًا مثلًا فما زاد فلي وما نقص فعلي. فهو من القمار وليس من المزابنة، إلا أنَّه قد أخرج البخاري (2) عن ابن عمر في تفسير المزابنة أن يبيع الثمر (أ) بكيل؛ إن زاد فلي، وإن نقص فعلي. ولا منع من أن يسمي مزابنة وإن كانت قمارا.

(أ) في جـ: التمر.

_________

(1)

البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الزرع بالطعام كيلا 4/ 403 ح 2205، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا 3/ 172 ح 76 - 1542.

(2)

البخاري 4/ 377 ح 2172.

ص: 192

وقال مالك (1): المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدد؛ إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان يجري الربا في نقده (أ) أو لا، وسبب النهي ما يدخله من القمار والغرر. قال ابن عبد البر (2): نظر مالك إلى معنى المزابنة لغةً وهي المدافعة، فيدخل فيها القمار والمخاطرة.

وفسر بعضهم المزابنة بأنها بيع الثمر (ب) قبل بدو صلاحه. وهو خطأ، وقيل: هي المزارعة على الجزء. وقيل غير ذلك. والتفسير الوارد في الحديث هو الأولى، لأن ظاهر الروايات أنها من المرفوع، وعلى تقدير أن يكون من كلام الصحابي فهم أعرف بتفسيره من غيرهم. وقال ابن عبد البر (3): لا مخالف لهم في أن مثل هذا مزابنة. وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز إلا مثلًا بمثل؟ فالجمهور على الإلحاق، للمشاركة في العلة، وقيل: يخصص ذلك بالنخل والكرم. وفي كلام الهدوية في تفسير المزابنة: هي بيع الرطب على النخل بتمر مكيل أو غير مكيل. والعلة في ذلك هو عدم العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس والتقدير، ولكنه يصح الإلحاق، لمشاركة ذلك في العلة في الحكم لا في الاسم، لأن الأسماء لا تثبت بالقياس.

679 -

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا

(أ) كتب فوقه في جـ: أي حاضره.

(ب) في جـ: التمر.

_________

(1)

الموطأ 2/ 625.

(2)

التمهيد 2/ 317.

(3)

التمهيد 2/ 314.

ص: 193

ييس؟ ". قالوا: نعم. فنهى عن ذلك. رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم (1).

و (أ) في روايةٍ: "فلا إذنْ".

وأخرج الحديث مالك والشافعي وأحمد وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي والبزار (2)، كلهم من حديث أبي عياش واسمه زيد، أنَّه سأل سعد ابن أبي وقاص عن البيضاء بالسُّلت، فقال: أيتهما أفضل؟ فقال: البيضاء. فنهى عن ذلك. وذكر الحديث.

والبيضاء ضربٌ من الشعير ليس فيه قشر. كذا في "الصحاح"(3)، وفي "الغريبين": البيضاء حب بين الحنطة والشعير (4). انتهى (ب). والسُّلت: ضرب من الشعير قشرته رقيقة وحبه صغار. كذا في "الضياء"، وفي

(أ) ساقط من: ب، جـ.

(ب) ساقط من: الأصل.

_________

(1)

أحمد 3/ 100 ح 1515، وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر 3/ 248 ح 3359، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة 3/ 528 ح 1225، والنسائي، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب 7/ 268، 269 ح 4559، 4560، وابن ماجة، كتاب التجارات، باب الرطب بالتمر 2/ 761 ح 2264، وابن حبان، كتاب البيوع، ذكر العلة التي من أجلها نهي عن بيع المزابنة 11/ 372 ح 4997، والحا كم 2/ 38.

(2)

مالك في الموطأ 2/ 624 ح 22، والشافعي في الأم 3/ 19، وأحمد 3/ 126، 127 ح 1552، والدارقطني 3/ 49، والبيهقي 5/ 294، والبزار في مسنده ح 1233.

(3)

الصحاح (س ل ت) 1/ 253.

(4)

كذا قال المصنف نقلا عن ابن حجر في التلخيص 3/ 10، ونصَّ الغريبين 1/ 231: البيضاء الحنطة، وهي السمراء.

ص: 194

"القاموس"(1): السُّلت بالضم: الشعير أو ضرب منه.

وفي رواية لأبي داود والحاكم (2) مختصرة: نهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. وصححه ابن المديني، وإن كان مالك علقه عن داود بن الحصين، إلا أن مالكا لقي شيخه بعد ذلك فحدث به مرة عن داود، ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه، قال ابن المديني (3): إن والده حدث به عن مالك بتعليقه عن داود، إلا أن سماع والده من مالك قديم، ثم حدث به مالك عن شيخه، فصح من طريق مالك. ورواه البيهقي (4) مرسلًا عن عبد الله بن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّه مرسل قوي، وأعله الطحاوي (5) والطبري (أ) وأبو محمد بن حزم (6) بجهالة حال زيد أبي عياش، ولا علة، فإن الدارقطني قال (7): إنه ثبت ثقة. وقال المنذري (8): قد روى عنه ثقات، وقد اعتمده مالك مع شدة نقده. قال الحاكم (8): ولا أعلم أحدا طعن فيه. وجزم الطحاوي (9) بوهم من زعم بأنه أبو عياش الزرقي زيد بن الصامت، أو زيد بن

(أ) في ب: الطبراني. وينظر التلخيص الحبير 3/ 10.

_________

(1)

القاموس المحيط (س ل ت) 1/ 156.

(2)

أبو داود 3/ 248، 249 ح 3360، والحاكم 2/ 38، 39.

(3)

ذكره المزي في تهذيب الكمال 10/ 102، 103 عن ابن المديني بإسناده.

(4)

السنن الكبرى 5/ 295.

(5)

شرح مشكل الآثار 15/ 474.

(6)

المحلى 9/ 499.

(7)

ينظر التلخيص الحبير 3/ 10، وتهذيب التهذيب 3/ 424.

(8)

ينظر التلخيص الحبير 3/ 10.

(9)

شرح مشكل الآثار 10/ 473.

ص: 195

زيد بن النعمان الصحابي المشهور، وصحح أنَّه غيره، وهو كما قال.

والحديث فيه دلالة على عدم جواز ما ذكر لعدم العلم بالتساوي، وقد تكرر الكلام في نظائره.

680 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. يعني الدين بالدين. رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف (1).

ورواه الحاكم والدارقطني (2) من دون تفسيره، ولكن في إسناده موسى بن عُبيدة الرَّبَذِي وهو ضعيف (3)، وقد وقع الوهم من الحاكم بتصحيفه موسى بن عقبة، فصححه على شرط مسلم، وقد تعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم. وقد أخرجه البيهقي (4) عن علي بن محمد المصري شيخ الدارقطني فقال: عن موسي غير منسوب. ورواه أيضًا المصري وصرح بموسى بن عبيدة الربذي، ورواه ابن عدي (5) من طريق الدراوردي عن موسة بن عبيدة، وقال: تفرد به موسى بن عبيدة. وقال أحمد بن حنبل (6): لا تحل عندي الرواية عنه، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وقال أيضًا: ليس في هذا حديث يصح، لكن [إجماع](أ) الناس على أنَّه لا يجوز بيع دين

(أ) في الأصل: أجمع.

_________

(1)

البزار، كتاب البيوع، باب ما نهي عنه من البيوع 2/ 91 ح 1280.

(2)

الحاكم 2/ 57، والدارقطني 3/ 71.

(3)

ينظر تهذيب الكمال 29/ 104.

(4)

البيهقي في السنن الكبرى 5/ 290.

(5)

ابن عدي في الكامل 6/ 2335.

(6)

ينظر تهذيب الكمال 29/ 107.

ص: 196

بدين. وقال الشافعي (1): أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وقد جزم الدارقطني في "العلل"(2) بأن موسى بن عبيدة تفرد به.

وأخرج الطبراني (3) من طريق عيسى بن سهل بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، ونهى أن يقول الرجل: أبيع هذا بنقد وأشتريه بنسيئة. حتَّى يبتاعه ويحرزه، ونهى عن كالئ بكالئ، دين بدين. ولكنه من طريق موسى بن عبيدة أيضًا عن عيسى بن سهل.

والكالئ من: كلأ الدّين كلئًا فهو كالئ، إذا تأخر، ومنه قولهم: بلغ الله بك أكلأ العمر. أي: أطولَه وأكثره تأخرا. وكلاله إذا أنسأته، وبعض الرواة لا يهمز "الكالئَ" تخفيفا.

قال في "النهاية"(4): وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء. فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. وقال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة. كذا نقله أبو عبيد في "الغريب"(5)، وكذا نقله الدارقطني (6) عن أهل اللغة. وروى البيهقي (7) عن نافع: هو بيع الدين بالدين. وقد رواه الشافعي (8) في باب الخلاف فيما يجب به البيع، بلفظ: نهى عن بيع الدين بالدين. والحديث المذكور في الأصل ظاهره أن التفسير

(1) الشافعي في الأم 3/ 8.

(2)

الدارقطني في العلل الجزء الرابع (ق 74 - مخطوط).

(3)

الطبراني في الكبير 4/ 317 ح 4376.

(4)

النهاية 4/ 194.

(5)

غريب الحديث 1/ 20.

(6)

الدارقطني 3/ 71.

(7)

البيهقي 5/ 290.

(8)

الشافعي في الأم 3/ 8.

ص: 197

مرفوع.

والحديث فيه دلالة على أنَّه منهي عن بيع النسيئة بالنسيئة، والبيع إذا وقع على هذا فهو فاسد، والظاهر أن ذلك إجماع، وإن اختلف العلماء هل الفاسد غير الباطل أو هما في معنى واحد؟ والله أعلم.

عدة أحاديث الباب ثمانية عشر حديثًا.

ص: 198